بوابة:تاريخ الشرق الأوسط

بوابة:ثقافة
بوابة:أعلام
بوابة:تصفح بوابات جغرافيا
بوابة:تصفح بوابات تاريخ
بوابة:رياضيات
بوابة:علوم
بوابة:المجتمع
بوابة:التقنية
بوابة:فلسفة
بوابة:تصفح بوابات الأديان
ويكيبيديا:فهرس البوابات
الثقافة الأعلام والتراجم الجغرافيا التاريخ الرياضيات العلوم المجتمع التقنيات الفلسفة الأديان فهرس البوابات


تحرير  بوابة تاريخ الشرق الأوسط
تحرير فروع تاريخ الشرق الأوسط
لموقع HPG

تنفذ من قبل قوات الدفاع الشعبي الكردستاني HPG عبد الله أوجلان / الدفاع عن شعب الدفاع عن شعب عبد الله أوجلان

الفصل الأول 




  الهروب من الحقيقة الاجتماعية أصعب مما يُظَن، وخاصة فيما يتعلق بمجتمع النَّسَب الذي ينتمي إليه الفرد. إن الولوج في مرحلة السباق الاجتماعي مع الأم منذ حوالي السن السابعة، إنما يستمر على هذا المنوال حتى سن السبعين، على حد التعبير الشعبي. فقد أُثبِت علمياً أن الأم هي القوة الأساسية للمجتمعية. ويكمن جرمي الأول بالنسبة لشخصيتي في تشكيكي بحق الأم هذا، واتخاذي قراري بمجتمعيتي بمفردي في سن مبكرة. وتُعَد جرأتي على العيش لوحدي بلا أم أو سيد موضوعَ بحث وتدقيق بحد ذاته ضمن المجتمع الإنساني، الذي ما هو سوى إبداع خاص للغاية على كوكبنا الذي عَمَّر عشرين مليار سنة – على أقل تقدير – حسب الحقائق العلمية المثبتة مؤخراً. ولو أنني أخذت تنبيهات أمي الكبرى لي ومحاولاتها في خنقي على محمل الجد، لربما ما انفتحَت طريق التراجيديات التي عشتُها. لكن أمي لم تكن سوى رمزاً للبقايا الأخيرة الخائرة القوى لهيبة الربة المعمِّرة آلافاً من السنين، والموشكة على الانقراض. ورغم صغر سني، إلا إنني لم أتردد في الشعور بأني حر حينما لا أهاب هذا الرمز، بقدر عدم شعوري بالحاجة إلى حبها. ولكني لم أنسَ، ولو للحظة واحدة، أن الشرط الوحيد لحياتي يمر من شرفها وكرامتها وصوني إياها. كان عليّ أن أصون كرامتها، ولكن على النحو الذي أرتأيه. وبعد هذا الدرس الذي استخلصتُه لذاتي، كانت أمي معدومة بالنسبة لي. وبينما مُحِيَتْ حيثيات الربة تلك من محور اهتماماتي، لم أرَ داعياً قط لمحاسبة أحاسيسها تجاهي. لقد كان فراقاً مجحفاً، ولكن تلك هي الحقيقة. وأضحيتُ أستذكر أقوالها – بل هل أقول تنبؤاتها أم لعناتها عليَّ – دوماً في أحلك اللحظات المأساوية. إنها الحقائق التي يعجز حتى أمهر الحكماء عن تحديدها. لقد كان مفاد إحدى أعظم حقائقها هو: "إنك شديد الثقة بأصدقائك، ولكنك ستبقى وحيداً". أما قناعتي أنا، فكانت تتجسد في أنني سأقيم المجتمعية وأكوِّنها مع أصدقائي. هكذا تبدأ سيرة حياتي. لم تكن أمي تملك مجتمعاً تمنحني إياه – حتى وإن رغبتْ في ذلك – لأن مجتمعها كان قد تشتت منذ زمن غابر. وما شاءت فعله، كان منحي حفنة من حياة، لم تقدر – حتى هي – على امتلاكها. وحكاية الأب مشابهة، وإن كانت بشكل مختلف. منذ أن فتحتُ عيني على النور نظرتُ إلى عائلتي على أنها تفرض ذاتها على أساس حيثيات قوة الكلان، وأنها خائرة القوى، مفككة، وليست سوى ميراثاً سقيماً وبسيطاً متبقياً من الأجداد. أما مجتمع القرية ومجتمع الدولة المبتدئ رسمياً بالدراسة الابتدائية، فلم أستسغْهما، ولم أفهم منهما شيئاً يُذكر. فظاهرياً كنتُ قد صعدت إلى السنة الأخيرة في دراستي في كلية العلوم السياسية – الأقدم والأشهر في تركيا – بتفوق بارز، لكن النتيجة كانت إلحاق الضربة القاضية بمهارات التعلم. أما المدرسة الثورية التي اخترتُها فيما بعد، فكانت مسنناً في طاحونة أكثر سحقاً للحياة. ولو أنني كنتُ اتَّبعتُ هوسي للذهاب إلى الجبال منذ البداية، لربما مزَّقتُ هذه التراجيديا. إلا أن مخاوفي من أجل إنقاذ رفاقي وتنشئتهم وإعدادهم لم تترك مجالاً لسلوكٍ كهذا. وعندما ارتميتُ أمام باب أوروبا الشرقية والغربية، باعتبارها الممثل الأخير لحضارتنا، كان مقدراً عليّ أن أرى نفسي مجرداً من كل شيء في أوساط رأس المال وحسابات الربح الجليدية. لم يعد ثمة أية قوة تسيِّرني في هذه النقطة، ولا حتى عاصفة أنجر وراءها. بل ولم يعد يهمني ذلك أصلاً. وفي هذه الأثناء أضرَمَ بعض رفاقي النار بأبدانهم لتأكلهم ألسنتها. وكان الكثير من الشباب والشابات اليافعين الأباسل مستعدين للتضحية بكل ما يملكون. لا يمكن إنكار ذلك أبداً، فقد أبدوا أسمى آيات المقاومة, وأعظم أشكال الارتباط الذي لا يصدَّق. إلا إن كل ذلك لم يسفر سوى عن تعزيز وحدتي وتجذيرها. عندما أمسكتْ بي القوى السيدة على كافة القارات بوحدة متراصة كقبضة اليد، وأرسلتني معتقلاً إلى إمرالي بالمؤامرة المحاكة وفق حساباتها ومزاعمها؛ كان أول ما خطر ببالي حينها هو الملحمة اليونانية التي تتحدث عن إله اليونان زيوس، الذي ربط نصف الإله بروماتوس إلى الصخر في جبال القفقاس، وصار يُطعِم كبده للنسور ويجدده كل يوم. إنه بروماتوس الذي سرق النار والحرية من الآلهة لأجل الإنسانية! وكأن هذه الملحمة تتحول إلى حقيقة تتجسد في شخصيتي. قد يخطر بالبال تساؤل عن العلاقة الموجودة بين سيرة الحياة الموجزة هذه، وبين المرافعة المقدمة إلى الهيئة العامة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية. وأنا أود تسليط الضوء على هذه العلاقة عبر مرافعتي هذه. وبهذه الوسيلة، سيكون من أهم أهدافي هو إثبات أن العلاقة بين رأس المال والربح أشد ظُلماً من أظلم الحكام الأرباب، وأفتك سحراً من أفتك الساحرين المشعوذين. إذ لم تُسفَك الدماء، ولم يَسُدْ الظلم والإجحاف في قرن ما، بقدر ما كان عليه في القرن العشرين. وأنا كنت وليد هذا القرن، وكان لا بد لي من فك رموزه. إلا إن صياغة التحليلات الواضحة والمفهومة بحق هذه الحقيقة هو أمر عصيب، ضمن هذه الضبابية التي خلقتها الحضارة الغربية بثقل أيديولوجيتها الساحق. كما أن التخلص من قيود الساحر وشباكه ليس بالأمر السهل. ستُلحَق الخسائر الفادحة بالظاهرة المسماة بالأتراك في اللعبة الأخيرة، ولربما تتبقى رواسب إنسانية لا يطاق العيش فيها. إذن، والحال هذه، من المهم بمكان أخذ الهيئة العامة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية على محمل الجد، وتقديم مرافعة كهذه إليها؛ ما دامت هي سلطة قضائية بحق. يتخبط الشرق الأوسط في القرنين الأخيرين ضمن عجلة مراقبة الحضارة الأوروبية له. وما يشهده يومنا ليس سوى الفوضى والتراجيديات المأساوية اليومية، بكل ما للكلمة من معنى. فالأسياد كانوا هم القضاة على الدوام، وقراراتهم كانت أحادية الجانب باستمرار. ويبدو القانون في أيديهم وكأنه آلية تقيس الحقوق في ميزان العدالة وتُوَزِّعُها. بيد أن ما يوزَّع حقاً، ليس سوى القيم المسلوبة، والعقاب مقابل الربح. شكلت الحضارةُ الأوروبيةُ الاتحادَ الأوروبيَّ، وأسست سلطته القضائية المتمثلة في معاهدة حقوق الإنسان الأوروبية ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية، تجاه الإجحاف والحروب السائدة في القرن العشرين الظالم، الذي ليس سوى أثراً من آثار تلك الحضارة. وإذا كانت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية لا تود البقاء شكلية، فمن الضروري أن تحدد على نحو سليم ما يراد محاكمته حقاً في شخصيتي. ويجب المعرفة منذ البداية أن اللطف المرسوم بحدود الحقوق الفردية الضيقة، لا يمكن أن يكون مقابلاً لعزلة ثقيلة الوطأة، وصلتْ عامها السابع منذ الآن. فتَوَجُّهٌٌ كهذا سيكون عقاباً حقيقياً لذاتي وللشعب الذي أمثله على السواء. سأحاكم هذا العقاب في مرافعتي هذه. من الساطع أنني أبدي سلوكاً بعيداً كل البعد عن القوانين الرسمية السارية، وعن منطق الدفاع التقليدي. وهذا أمر لا بد منه لتسليط الضوء – بأقل تقدير – على مآسي الشعوب المسحوقة تحت وطأة أوروبا، وليكون ذلك جواباً لكل ما يعاش، ومساهمة في إيجاد ولو نبذة من الحلول لها. وسيكون سد الطريق أمام مآسي جديدة محتملة، أمراً مرتبطاً بشكل خاص بقوة المرافعة وكيفية الرد عليها. لهذا الغرض، شعرتُ بالحاجة لتناول ظواهر التاريخ الاجتماعي والشرق الأوسط والكرد. إذ تتبدى مدى عظمة وأهمية الإتيان بتفسير وشرح جديد معتمد على تقديم النقد الذاتي ومستنبط العبر اللازمة من التاريخ القريب لحركة PKK، باعتبارها عاملاً حديثاً يتوجب النظر فيه بجدية؛ ولحل القضية الكردية الذي – إن حصل – سيمهد الطريق لتأثيرات متعاقبة في منطقة الشرق الأوسط. لقد وُضِعت لَبَنات تراجيديا الصراع العربي – الإسرائيلي بمظهرها الحديث مع اتفاقية سايكس بيكو في عام 1916، والتي يمكن اعتبارها "مشروع الشرق الأوسط" الخاص بذاك الوقت. حيث تبدو وكأنها لا تستهدف أياً من المستجدات المريعة الحاصلة بالتوجه نحو حاضرنا. وكذلك اعتُبِرت الكيانات السياسية المؤسَّسة حينها بأنها أدوات حل. أما ما حصل حقاً، فكان إضفاء صبغة "حديثة" على تقاليد المجتمع الدولتي السلطوي في الشرق الأوسط؛ بحيث باتت تلك الصبغة تزول في يومنا الراهن وتتساقط إرباً إرباً، لتكشف النقاب عن قوة التقاليد العشائرية والإثنية المعمِّرة منذ خمس آلاف سنة على الأقل، وعن حيثيات تقاليد الدولة السلطوية الجوفاء الخائرة القوى. وبزوال هذه الصبغة (القناع) لم يبقَ ثمة فرق أو جانب مختلف يميز اليمينيين أو اليساريين، القوميين المتطرفين أو الإسلاميين، والمدَّعين بأنهم مثقفين أو متنورين أو ساسة، عن هذه الحقيقة الاجتماعية والسياسية القائمة. أما الشرق الأوسط، فكان نصيبه من الأزمة العامة التي عاناها نظام المجتمع الرأسمالي الذي مر بأقوى حملات العولمة، هو – وبكلمة واحدة فقط – "الفوضى". لمراحل الفوضى سماتها الخاصة بها، إذ تمثل المرحلة "البينية" الحساسة والحرجة التي تنحل فيها القوانين المعنية بالبنى القديمة، في حين تبدأ الجديدة منها بالظهور للتو. وما سيتمخض عن هذه المساحة البينية الخلاقة، ستحدده مساعي قوى الحياة الجديدة في البناء وقوة المعنى لديها. وعادة ما تسمى تلك المساعي في مجال الأدب بالنضال الأيديولوجي والسياسي والأخلاقي. يدخل الكرد مرحلة الفوضى على الدوام وهم مثقلين بوطأة تقاليد ثقافة المجازر السلبية الساحقة، يحسونها تطأ رقابهم في الأزمات المتفاقمة. وإذا لم يوجَّهوا بسلوك بَنَّاء ونبيهٍ للغاية ومفعم بالمعاني السامية، فقد يتحولون – وبكل سهولة – إلى عنصرِ صراعٍ واشتباك يفوق في حدته ما هي عليه مأساة الصراع العربي – الإسرائيلي. فخصائصهم الاجتماعية المشوهة والمشلولة والمتمزقة إرباً إرباً تحت وطأة الدول السلطوية الاستبدادية، تجعلهم قابلين للتأثر بأي عامل خارجي. وقد باتوا يفهمون توجيههم على هذا المنوال بأنه قدَر تقليدي محتوم، أو براديغما ثابتة لا تتغير. إلا أن المرحلة تزداد حساسية وحرجاً مع بدء إدراج الولايات المتحدة الأمريكية – كقوة حاكمة تترأس وترود حملة العولمة الجديدة – الكردَ في جدول أعمالها كعنصر أساسي في مشروعها الجديد المتعلق بالشرق الأوسط. وكأن الولايات المتحدة الأمريكية بسياساتها الانعطافية والملتوية الفظة تلك، تفرض حدثاً مجهول النهاية – سواء بوعي أو بدونه – مثلما فتحت الطريق لمآسي متعاقبة في كل خطوة خطتها في المجتمع الشرق أوسطي. ولا يتبقى أمام الاتحاد الأوروبي خيار سوى اقتفاء هذه المرحلة ببطء شديد وبعقلانية أكبر، حسب متطلبات الربح والمنفعة. ذلك أن مفهوم الدولة التسلطية الاستبدادية لا يحتوي تقاليد النظر إلى الكرد بعين الصداقة أو كظاهرة منفردة بذاتها. فالسياسة الوحيدة الراسخة في الأذهان هي: "اسحقه إذا رفع رأسه". هذا إلى جانب وجود تقاليد الكرد الغائرين حتى حلوقهم في الخيانة والتواطؤ وتأجيجهم النزعة "العائلية" على الدوام. ومن ضرورات سماتهم تلك أن يؤازروا مفاهيم الدولة السلطوية المحلية، بقدر ما يتواطئون مع الأسياد الإمبرياليين الجدد بشكل غير مبدئي، ودون أي تردد. لم يتبقَّ في الواقع سوى ظاهرة كردية مشتتة إلى أشلاء ومحدودة إلى أبعد الحدود. ظاهرة ليست سوى عبارة عن عناصر عائلية تعرضت لمجازر في الذهن والبنية، جعلتها تتجاوز حدود الجهالة المألوفة. لم يَعُدْ هذا العنصر الكردي يميز "كيف يصبح ذاته"، بحيث يمكن الاستفادة منه لأجل أي هدف كان، في خضم الفوضى السائدة في الشرق الأوسط. فبقدر ما يمكن استغلاله بأسلوب وحشي، يُعَدُّ في نفس الوقت وسيلة مساعدة ومساندة قصوى في بناء الشرق الأوسط بما يستحق العيش فيه. وإذا ما فلح الكرد في إعطاء الجواب على سؤال "كيف أكون ذاتي؟" بمضمون ديمقراطي، فسيكونون – بلا شك – أحد أهم القوى الريادية في النفاذ من الفوضى العارمة بتفوق ونجاح. وحينها لن يتغلبوا على سوء طالعهم فحسب، بل وعلى كل تهاويات شعوب المنطقة ومساراتها المقلوبة. وسيتمكنون عندئذ من وضع حد للإحصائيات الدموية الناجمة عن تقاليد الحضارة الظالمة القائمة منذ خمس آلاف سنة. وسيجتثون جذور أسياد الحضارة، الذين طالما مهدوا الطريق لظهورهم، وخدموهم بكل عمى سابقاً؛ ليقدموا أهم المساهمات في نمو وازدهار عصر حرية الشعوب. وفي حال العكس، أي إذا فشلوا في ذلك، وطال عمر حملات الأسياد الإمبرياليين وتجذرت في المنطقة؛ فلن ينجوا حينئذ من لعب دورهم كقوة ملحوظة في سياسة "القتل والاقتتال" في عموم المنطقة، بما يفوق حدة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. ولن تعني الأحداث المعاشة حينئذ سوى شرارات تضرم نيران الاشتباكات الأشد والأفتك ذرعاً. وإذا ما ألقينا نظرة على الألاعيب الممارسة في الدولتين الإسرائيلية والفلسطينية، فإن التنبؤ بمستقبل ألاعيب "الدولة الكردية" لن يتطلب من المرء أن يكون كاهناً. من الضروري التمييز جيداً للفرق المبدئي الموجود بين كل من الدفاع المشروع المسلح من جانب، والعنف الهادف إلى الدولة كأداة حل من جانب آخر. لذا يعد اعتماد طراز الحل الواقعي "بأساليب ديمقراطية وسلمية" أمراً مصيرياً، بحيث لا يتمركز حول الدولة، ولا يقبل إطلاقاً البقاء في الفوضى العمياء كطراز حياة طويلة الأمد. ويبدو أن أسمى المحاولات تتجسد في التفكير العميق والسامي حول بُناه الخلاقة ومعانيه العميقة، والكفاح لأجلها بحماس وشغف. سأجهد في هذه المرافعة للتخفيف من حدة الآلام الكبرى المنبثقة عن مسؤولية PKK من جهة، وللإسهاب قدر المستطاع في شرح خيار الحل المرتقب، بعد استنباطي الدروس اللازمة في موضوع تقديم نقد ذاتي حقيقي من جهة أخرى. إنني أنظر بعين الصواب إلى تقييمي لمرحلة محاكمة إمرالي كفترة بحث عن السلام الديمقراطي ودعوة إليه، وإن كنتُ أعيش ضمن ظروف عصيبة للغاية. حيث تميزت تلك الفترة بقيمة تحولية نوعية بارزة، تكاثفت خلالها ضرورة التخلي مبدئياً عن التطلع إلى المجتمع الهرمي والدولتي، سواء على مستوى الوعي أو الجهد. وأنا على قناعة باستنباطي درساً تعليمياً من هذه الأوقات الحرجة والصعبة. فقد قاومتُ بذاتي طراز المقاومة الفظة وطراز الخنوع والاستسلام السافل على حد سواء. إن دفاعي هنا سيساهم بدرجة مهمة في تحول تركيا، إلى جانب استثمار الكيان السياسي المسمى بـ"حزب العدالة والتنمية AKP" إياه بوعي تام. ورغم كل محاولاتي، إلا إن العجز عن دفع القوى اليسارية – التي يجب أن تكون ديمقراطية – للاستفادة منه بمنوال مشابه، يعتبر خسارة هامة. فاليمين – لا اليسار – هو الذي كان يناضل في سبيل الديمقراطية. وبالطبع كان اليمينيون سيكونون الطرف الرابح. كان الهدف الأساسي من مرافعتي المقدمة إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية هو المقايسة بين الحضارتين الأوروبية والشرق أوسطية، ووضع الخيار الديمقراطي إزاء المستجدات المحتملة، وخاصة المتعلقة بالكرد منها. وما انسحاب PKK إلى الجنوب (أي إلى كردستان العراق) سوى ضرورة من ضرورات هذا التقرب. وقد بينَتْ التطورات والاحتلال الأمريكي صحة هذا الموقف. وقد أسهبتُ في هذه المرافعة في التطرق الشامل إلى النقاشات الدائرة على المستوى العالمي بشأن منطقة الشرق الأوسط، مما تبرز أهميتها وتزداد مع مرور كل يوم. إذ لم أتَّبعْ في موقفي العداوة الفظة تجاه الحضارة الغربية، ولا الاستسلام والخنوع المعتاد عليه. بل توخيتُ الحساسية التامة في سلوك موقف خاص وخلاق وتركيبي قيِّم. لقد تناولتُ في مرافعتي المقدمة إلى محكمة أثينا كيفية معالجة مسألة أكثر ملموسية، وأشرتُ بمهارة إلى الحال التي أَقحَم فيها الأوليغارشيون الشعوب. كما وبذلتُ قصارى جهدي لإبراز حياتية النظر إلى القضايا التاريخية مرة أخرى من وجهة نظر الشعوب. أما مرافعتي الأخيرة هذه، فتتسم بكونها متممة لسابقاتها، وهي تأخذ بعين الاعتبار ولوج تركيا وآسيا الصغرى في مرحلة مذكرة الالتحاق بالاتحاد الأوروبي حقوقاً وسياسةً. وستلعب القضية الكردية دوراً رئيسياً في تطور هذه المرحلة بنجاح. بالإمكان اعتبار المعايير السياسية والديمقراطية ومعايير حقوق الإنسان مقياساً أساسياً في حل هذه القضية. إلا إن تركيا، بدولتها وحكومتها، تنظر إلى هذا القرار على أنه ضرورة مفروضة، بدلاً من تداولها إياه برغبة داخلية. وموقفي هذا يشير إلى قلق تركيا التقليدي بشأن الغرب، بالإضافة إلى إشادته بأن سلوك موقف صادق وتحرري إزاء القضية، دعك من إلحاقه الخسائر، سيضفي المعاني القيِّمة على المكاسب العظمى. من المهم بمكان وضع حد فاصل لألعوبة استثمار الورقة الكردية تجاه أوروبا، والتي ابتدأت بمسألة الموصل وكركوك منذ تأسيس الجمهورية التركية. ذلك أن ثورات الجمهورية لم تسفر عن نتائج سوى بقائها تابعة، وتعرضها للانحلال والتشتت الأوليغارشي، وللتحولات النوعية أيضاً في حاضرنا. إن التوجه نحو الحل عبر تناول تركيبة "الجمهورية الديمقراطية – المواطَنة الكردية الحرة" الجديدة بأهمية كبرى، سيؤمِّن الالتحام والتكامل والدمقرطة الحقيقية. هذا ولا يتيح الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان للحضارة الأوروبية المجال أمام أية فرصة للتقرب بشكل مغاير. عندما أضع مقاييس القانون الإيجابي نصب عيني، لا أعطي احتمالاً كبيراً لحصول البحث الجدي في حقوقي. هذا علاوة على أن متانة الأرضية السياسية والاقتصادية التي ترتكز إليها دعواي، وكذلك قوة حقيقة المؤامرة؛ إنما تفوق كثيراً قوة القانون. بيد أن القانون بذاته ليس سوى سياسة مرتبطة بقواعد ومؤسسات على المدى الطويل. وهذا الأمر صحيح بالنسبة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية أيضاً. ومع ذلك، فاستخدام حق الدفاع عن الذات يعد مهمة أخلاقية وسياسية وحقوقية. وأنا على قناعة تامة بأن كفاحي الدفاعي المتواصل منذ ست سنين، أسمى معنىً ويفوق في بَنَّائيته وخلاقيته دفاعي الأيديولوجي والعملي السابق. على من يرغبون محاكمة الغير والحكم عليهم بالموت أن يتمكنوا من محاكمة ذاتهم أيضاً. ومن يود الدفاع عن غيره، عليه معرفة كيفية الدفاع عن ذاته. ومن يسعى لتحرير غيره، عليه أولاً معرفة كيف يحرر ذاته. بهذا فقط قد نستطيع تحويل حق الولادة الحرة لأطفالنا الذين لا يلدون أحراراً، إلى حقيقة واقعية ملموسة.               الفـصـل الأول           بينما أمرُّ، كفرد، بمحاكمة ضمن شروط عزلة ثقيلة الوطأة، وبمفردي من جهة، أواصل الدفاع عن ذاتي قانونياً من الجهة الثانية. وهاأنذا في السنة السادسة منها. من العصيب جداً رؤية مثال مشابه في التاريخ، لقضية سياسية ثقيلة الوطأة، طالت كل هذه المدة. ولا يزال غامضاً كم ستدوم بعد. إلا إنه ثمة حُكم عنيد في النظر إلى القضية من زاوية شخصية، وغض النظر عن مؤثراتها الاجتماعية والسياسية. ومن الساطع تماماً أن تَوَجُّهَ محكمة حقوق الإنسان الأوروبية بهذا الشكل، يتضمن نواقص جدية، ويمهد السبيل لمحاكمة غير عادلة. فعندما أُدرِجَت القضية – بحساسية واضحة – في جدول أعمال محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، هُمِّشَت جميع جوانبها السياسية والاجتماعية. ومن الجلي أن هذا السلوك كان يرى ضرورة إخفاء جانب هام من الحقيقة. إن الموضوع الهام، الذي يتوجب تسليط الضوء عليه، هو ذاك الموقف الذي يفصل الفرد عن المجتمع تحت شعار "إنني أزوده بحقوقه"؛ ليُدَّعى فيما بعد بمحاكمته وفقاً لذلك. إنه يشكل جوهر الحضارة الأوروبية. وقد أعددتُ مرافعتي الأولى بكليتها، على وجه التقريب، في سبيل الكشف عن هذه الحقيقة. لن أدخل في التكرار، إلا إنني أرى حاجة للإيجاز مرة ثانية. تعد المجتمعية الشرط الأولي لوجود الجنس البشري. ومن أحدث الحقائق المتجلية في علم الاجتماع، المتطور بذهول تماشياً مع تطور المجتمعية، هي أن أنسنة الإنسان تحققت بانفصاله عن فصيلة الثدييات البدائية السابقة له (وهي الفصيلة الأقرب إلى الإنسان). لكن، ومهما كثرت محاولات الفصل والعزل بين الفرد والمجتمع، اللذين يشكلان حالة الحياة، لا يمكن برهنة ذلك على الصعيد النظري. إذ ما من فرد يعيش بمفرده. قد يكون ثمة فرد تحطم مجتمعه، إلا أن هذا الفرد يواصل وجوده – على الأقل – بذكريات مجتمعه المتحطم ذاك. وبتلك الذكريات تصبح مجتمعيته مسألة آنية. يرتبط اكتساب الجنس البشري للقوة بمستوى علاقاته الاجتماعية. ومن أفظع أساليب إضعاف الفرد واستعباده، هو فرض العزلة عليه. حتى العبيد والأقنان القرويون والعمال المدينيون المتواجدون على شكل جماعات، يكوِّنون مجتمعاً بحد ذاته، بحيث يتذكرون أنفسهم عبر تمرداتهم بين الفينة والأخرى. ومن جانب آخر، فالوحدة أفضل معلِّم على الإطلاق. وفترة الانزواء التي مر بها كل عالِم وحكيم ونبي بارز في التاريخ، إنما تعكس هذه الحقيقة بكل جلاء. الفردانية مصطلح مشحون بالتناقضات إلى أبعد الحدود. وهي بوجهها الآخر، طليقة حرة؛ وكأنها تحررت من قيودها للتو، على حساب مصلحة المجتمع. إننا نسمي الحياة المضبوطة – دون رادع أو عنف – في المجتمع، بالأخلاق. ولكن الفردانية تضيق الخناق على هذه الأخلاق. أو بالأحرى، فالفردية في الحضارة الغربية تتطور ضمن سياق إضعاف الأخلاق وتهشيشها. وبينما يعد الفرد أساساً في الحضارة الغربية، يكون المجتمع هو الأساس في الحضارة الشرقية. نستخلص من هذا التعريف نتيجتين متباينتين: بينما يسمو الفرد الاستعماري الحاكم إلى الطبقة الإمبراطورية، يحيا الفرد المستعمَر والمظلوم أشد درجات العبودية والذل. وليس مصادفة أن يظهر الوجه الوحشي الفظيع للقرن العشرين من بين أحضان العبودية المتفشية والمتجذرة في عموم المجتمع، على يد النظام الرأسمالي. إذ ما من طيش أو تهور يستعصي على هذا النظام السيادي المنتشر لهذا الحد، بغرض الربح والمنفعة، بعد أن فقد قيمه المعنوية الأساسية. وما الوحدة والعزلة والحكم الصادر بحقي، سوى ظواهر تمتُّ بِصِلة كثيبة بالبنية العامة لهذا النظام. فإذا ما أُخرِج مجتمعك أو شعبك من كونه "ذاته"، فمعناه الحكم عليك بالوحدة الهزيلة منذ لحظة الولادة. وبمقدار ما تخرج من كونك "ذاتك" وتغترب عنها، بمقدار ما تلتحم بمجتمع آخر. لكنك ستغدو حينها لست "ذاتك". فإما أن تعاني من وحدة موحشة، أو أن تستسلم لواقع آخر. وهذا ما كانت عليه المفارقة المذهلة التي أسميتُها بـ"الشِّرك الكردي". وكأنه عليك اختيار نوع الموت الذي يعجبك. يكثر الجدل في راهننا حول التعددية والمشاطرة مع "الآخر". والموقف الذي مفاده أن خلْق الغنى المجتمعي التعددي الشامل الأبعاد، والطوعي، يمر من مشاطرة "الآخر"؛ إنما هو موقف صائب. لكن سياسة النظام القائم التخطيطية في التطابق (خلق نمط واحد من الأشخاص)، تختلف عن ذلك. فهي تفضي إلى مسح الإثنيات، والمجازر، والصهر والذوبان، والخروج من "الذات". والسياسة المتفشية بكثرة في الظاهرة الكردية، هي من هذا النوع؛ والتي تنبع من البيوسلطوية والعرقية والفاشية، ومن كافة مفاهيم السلطة التوتاليتارية التي كانت سائدة في القرنين التاسع عشر والعشرين. فبينما يُستَهدَف خلق عِرق وقوموية وطيدين، تكون المحصلة عبارة عن حروب وهجومات مستعرة. لا شك في أن جذور ذلك تمتد لتصل إلى المرحلة الأولى لتأسيس المجتمع الهرمي، في حين أن تَحَوُّلها إلى سياسة منظمة ومخططة متفشية في الدولة، خاص بالقرن العشرين. لم تتلمس الحضارة الغربية ضرورة الوحدة والاتحاد كشرط لا يستغنى عنه، حسب المبادئ المسماة بمعايير الاتحاد الأوروبي، إلا بعد مرورها بالحربين العالميتين والحروب الأهلية. وما تحياه أوروبا في حاضرنا، ليس إلا نقداً ذاتياً لها إزاء البشرية جمعاء. إذ ما من سيئة إلا ويرتكبها الفرد المتحرر من قيوده، وكذلك سلطة الدولة المتصاعدة كنقيض للقيم المعنوية، وبالذات بعد ما تستند في ذلك إلى جشع الربح والمنفعة بتراكم رأس المال. لقد استلزمَت محاكمتي في ظل هذه الظروف أشد أنواع العقاب، بسبب محاولاتي تحفيزَ مجتمع فقدَ أمله وخارت عزيمته، على المناشدة بمطاليبه؛ وبسبب كونها عملية جذرية تجاه النظام المنجر وراء القوة وجشع الربح المنفعي. هذا لو تركنا المؤامرة المستترة تحتها جانباً! وهذا ما يتم فرضه. فأينما يندلع تمرد يشرع بالمساءلة: "أين مجتمعي؟ أين ثقافتي؟ أين لغتي الأم؟ أين حريتي؟"؛ يغدو ممهوراً بالانفصالية وخيانة الوطن. لم يكن ثمة جرم من هذا القبيل في الإمبراطورية العثمانية. بل وليس موجوداً في عموم نظام الأمة التركية. إنه من مبتكرات الأنظمة البيوسلطوية والعرقية والفاشية ونظم السلطات التوتاليتارية الأخرى للحضارة الأوروبية، حيث صدَّرته إلى نظام الدولة التركية في القرن العشرين. وقد أخذ العالم برمته نصيبه منه. إن كنتُ ارتكتبُ جرماً ما، فهو إصابتي – أنا أيضاً – بهذا الجرثوم نوعاً ما، والمتأتي من ثقافة السلطة والحرب. إذ كنتُ انزلقتُ في هذه اللعبة، لدى اعتقادي بأن مبدأ "الحرية تستلزم سلطة الدولة، وهذا ما يستلزم بدوره الحرب" هو بالنسبة لنا كما الأمر القرآني بالنسبة للمؤمن. إنه المرض الذي يكاد كل المناضلين الناطقين باسم المسحوقين – على وجه التقريب – أصيبوا به ولم ينجوا منه. بناء عليه، فأنا مذنب، ليس تجاه النظام المهيمن فحسب، بل وتجاه النضال التحرري، الذي بذلتُ كل ما في وسعي في سبيله أيضاً. وسأستمر في تقديم النقد الذاتي بشأن ذلك حتى الرمق الأخير، ليس على الصعيد النظري وحسب، بل وفي الممارسة العملية السامية لوحدتي أيضاً. لكن، كيف سيدفع النظام القائم فاتورة ذنوبه في تغريب مجتمع (أو شعب) عن ذاته جبراً ومكراً؟! لذا، إذا كانت المحاكمة ستكون عادلة، فمن الضروري وقتئذ الإصغاء لادعاءات الأطراف المعنية على السواء، واتخاذ القرار وفقاً لذلك. ولكن، لا يمكن لقضاءٍ بَتَر روابطه بالعلم أن يكون عادلاً بتاتاً. جلي أن علم الاجتماع سيكون السلاح الأساسي الذي سأتسلح به. فالسير في الدرب الصحيحة، بقدر تنوُّري وإلمامي به، هو من ضرورات أن أكون إنساناً مكرَّماً. لا يمكن البتة غض النظر عن التخريبات التي ألحقها بالطبيعة ذاك النظام السائد المهيمن على المجتمع لهذه الدرجة. إن الموقف الأيكولوجي والفاميني لديه من القدرة ما يخوِّله لتعريفنا على الحياة الاجتماعية الطبيعية المفقودة. ومن أشد المواضيع أهمية هي التعريف الصحيح للديمقراطية، كخيار سياسي للشعوب، وإبداء قدرتها على الحل. فبينما تزركش موجةُ العولمة الجديدة مزايدات السوق الحرة للبضائع، وتزخرفها بعد أن تحولها إلى فَتَشيّة* بكل معنى الكلمة، وتَعرِضها على أنها الخيار الوحيد؛ سنقوم نحن بالإسهاب في شرح خياراتنا الأيكولوجية والديمقراطية، وسنرفعها كراية علياء ترفرف فوق سماء حياتنا الجديدة، متسلحين بالإدراك التام بأن تلك الموجة، إنما تَعرِض للعيان حقيقة المختلِس والمغتصِب القديم. وهكذا سنبرهن، بعَصرَنَتِنا للآمال والطموحات المتطلعة إلى الحرية والمساواة على مر التاريخ، وإحيائنا إياها؛ أن أي خطوة خطوناها في هذا السبيل لم تذهب سدى. فمثلما أنه ما من شيء في الطبيعة يفنى، فأي قيمة موجودة في المجتمع، لا يمكن أن تفنى أو تزول. تتعلق إعادة معالجتي للواقع الاجتماعي في مرافعتي، بمدى العمق الفلسفي المحرَز. إذ على الفلسفة، كعلم اجتماع، أن تلعب دوراً في راهننا يطابق ما كانت عليه في ميلادها. وتُعَد العودة إلى الفلسفة، مقابل العلم المتسلط، المبدأ الأولي لظهور المجتمع الحر. وقد تبين من خلال أعداد لا حصر لها من الأمثلة، عبر التاريخ وفي حاضرنا؛ أن الديمقراطية غير المرتكزة إلى الفلسفة، ستعاني الانحطاط والتردي بكل سهولة، وستغدو الآلة الدنيئة على الإطلاق في يد الديماغوجيين، لكي يُديروا الشعوب بها. والسبيل الوحيد لعرقلة ذلك، هو تسيير الكفاح الذي تتوحد فيه السياسة والتقاليد والأعراف، لتشكل كلاً متكاملاً لا ينفصم، بحيث يشكِّل العلم جانباً منه، لتكون الإثنية جانبه الآخر. وبروح المسؤولية العليا هذه، سنبدأ مسيرة الحياة الأكثر حرية، والمعتمدة على المساواة، وسنخلق عالمها من أحشاء أزمة النظام القائم.       آ – المجـتمـع الطبـيعـي     تعد العلاقة القائمة بين المجتمع والطبيعة، الساحة التي يتكاثف تركيز علم الاجتماع عليها. ورغم جلاء مدى تأثير البيئة على المجتمع، إلا إن البحث العلمي في ذلك، وتشكيلها موضوعاً بحد ذاته في الفلسفة، يُعتبَر أمراً حديث العهد. حيث ازداد هذا الاهتمام مع بروز مدى تأثير النظام الاجتماعي على البيئة بأبعاد كارثية. وإذا ما تغلغلنا وتمحَّصنا منبع هذه المشكلة، يتبدى أمامنا النظام الاجتماعي المهيمن والمناقض للطبيعة لدرجة خطيرة. يتجلى مع مرور الأيام، وبماهية علمية متصاعدة، أن الاغتراب عن البيئة الطبيعية هو مصدر التناقضات الداخلية للمجتمع، والممتدة على طول آلاف السنين. وأنه بقدر تزايد الحروب والتناقضات الداخلية في المجتمع، ازداد الاغتراب عن الطبيعة والتضاد معها. لقد أضحت كلمة السر في حاضرنا تتمثل في الهيمنة على الطبيعة، والاستيلاء على مواردها، واستغلالها بلا هوادة أو رحمة. كما يكثر الجدل عن وحشية الطبيعة. لكن هذا الاعتقاد خاطئ بكل تأكيد. إذ يتبين من خلال مشاكل البيئة المعاشة، أن الإنسان المستوحش تجاه أبناء جنسه، يغدو في حالة وحشية جد خطيرة إزاء الطبيعة أيضاً. وما من موجود (أو فصيلة) قضى على فصائل النباتات والحيوانات، مثلما فعل الإنسان بها. هانحن أمام مشكلة إنسان لن يفلح في النجاة من التحول إلى نوع ديناصوري منقرض، فيما إذا واظب على عمله في عملية الإبادة تلك بوتيرته الحالية. إنْ لم يوضع حد للتضخم السكاني المتزايد بسرعة، وللتخريبات التي يُحدِثها الإنسان بتقنياته المتطورة بشكل مذهل، والمستخدَمة بكل سوء؛ فستبلغ حياة الإنسان مرحلة لا يطاق العيش فيها، خلال فترة ليست ببعيدة أبداً. وستتضخم هذه الحقيقة وتصبح عملاقة كالديناصور في بنى المجتمع الداخلية، لتتبدى على شكل حروب متزايدة، وضروب من الإدارات السياسية تعد الأخطر على الإطلاق، وتَفَشٍّ البطالة، وافتقار المجتمع للمعنويات، وظهور بشرية مسيَّرة كالروبوت الآلي. وبدون تحديد بواعث تقدم المجتمع في هذا الاتجاه بشكل صحيح، فمن المحال صياغة شروح نظرية سليمة، أو إيجاد دروب الحل الصائبة بشأن المدنية التقليدية والصراعات الطبقية والقومية. إن عجز السوسيولوجيا عن إيجاد الحلول لمشاكلنا الراهنة، ولو بقدر الدين، يحتِّم ضرورة محاكمة علم الاجتماع، وبالتالي محاكمة كافة البنى العلمية القائمة. فما دام العلم قطع كل هذه الأشواط من التقدم، لماذا إذاً كل هذا الطيش والتهور؟ ذلك أنه معلوم أن الإحصائيات الدموية للقرن العشرين بمفرده، تضاهي ما شهده التاريخ البشري برمته منها أضعافاً مضاعفة. وهذا ما مؤداه أن البنية العلمية أيضاً تتضمن نواقص وأخطاء في غاية من الأهمية. قد لا تكون تلك الأخطاء كامنة في التثبيتات العلمية، بل ربما تتواجد في طراز إدارتها وشكل تطبيقها. لكن ذلك لا يزيل عبء المسؤولية عن كاهل العلم برجاله ومؤسساته. إن الغوص في النقاش على هذه النقاط ليس من شأننا هنا. ولكني على يقين بأن حالة رجال العلم ومؤسساته الحالية أكثر رجعية ولامبالاة من حالة التبعية التي كان عليها الرهبان في المماليك المصرية والميزوبوتامية سابقاً؛ سواء على الصعيد الأخلاقي أو العقائدي. فالأديان المنبثقة من التقاليد الإبراهيمية، ورُسُلها، لعبت دوراً عظيماً في تطور البشرية من الناحيتين الأخلاقية والعقائدية، لدى تمردها على أنساب الفرعون والمَلك نمرود. يشكل هذا الدور الوجه الإيجابي لتقاليد الرهبان. في حين أن ما فعله رجال العلم المؤتمِرين بإمرة السلطة، لم يكن سوى تزويد المتهورين المتسلطين بوسائل الإبادة، ووضعها بين أياديهم على الدوام، لينتهي بهم الأمر بتفجير القنبلة الذرّية على رأس البشرية. وهذا ما مؤداه أنه ثمة خطأ فادح في العلاقة القائمة بين العلم والسلطة. بمقدورنا تقييم العلم واستثماره كثمرة من ثمار المجتمع، وكمكسب ثمين وقيِّم. في حين لا يمكن التذرع بأية حجة لبواعث هذا الكم من الكوارث الناجمة عنه. لذا، لا يمكننا تَقَبُّل رجال العلم ومؤسساتهم بجانبهم هذا، بل ولا حتى الصفح عنهم. وسيكون أمراً مفهوماً تماماً مدى الحاجة الماسة لقيامنا بمحاكمة السوسيولوجيا وكافة العلوم الأخرى، في حال لم تُفَسَّر دوافع وماهية هذا التناقض الأولي. أين حَبَك النظام القائم لعبته الكبرى؟ أين حث على ارتكاب الأخطاء الرئيسية؟ متى، وكيف أقحم مستقبل البشرية في مرحلة مشحونة بالضبابية الكثيفة؟ من دون القيام بمساءلة ومحاسبة كهذه، لن ننجو من "سحب الماء إلى رحى النظام الاجتماعي المهيمن" مرة أخرى في نهاية المطاف؛ مهما حاولنا صياغة نظريات التحرر والحرية والمساواة، أو تطبيقها عملياً. ستَنْصَبُّ معظم جهودي في الكشف عن الدور الذي لعبه هذا التناقض الرئيسي الكامن في أساس الحضارة الأوروبية، لتأخذ بذلك حيزاً مهماً من عزمي في مرافعتي هذه. إذ، وبدون تسليط الضوء على هذه الخاصية، ستبقى دراسة ومعالجة الأخطاء الفادحة الأخرى لذاك النظام تعاني من النقصان. والنظام الغربي يستر نفسه ويتخفى في أكثر النقاط حساسية وحرجاً، وبدرجة تزيد على كافة الأنظمة الاجتماعية الأخرى. ذلك أنه النظام الأكثر تطويراً للتحريفات الذهنية والمعنوية بدعاياته المتواصلة. ودعك من كونه يمثل أكثر العصور حرية، بل لن يكون من الصعب علينا البرهان على أنه العصر الشاهد لأشد أشكال العبودية تقدمية. لهذا السبب ارتأيتُ ضرورة صياغة فرضيات جديدة للأشكال الاجتماعية، حسب معتقداتي. وأظن أنني بذلك سلكتُ درباً إيضاحياً أسمى معنى. أقصد بمصطلح "المجتمع الطبيعي" نظام الجماعات البشرية، الذي دام مرحلة اجتماعية طويلة تبدأ بانفصال الموجود الإنساني عن فصيلة الثدييات الرئيسية البدائية، وتنتهي بظهور المجتمع الهرمي. وعادةً ما تطلق تسمية المرحلة الباليوليتية (العصر الحجري القديم) والنيوليتية (العصر الحجري الجديد) على هذه الحقبة من التاريخ البشري، والتي شهدت ظهور تلك الجماعات الإنسانية المسماة بـ"الكلان" التي يتراوح عدد أفرادها بين العشرين والثلاثين شخصاً. تعود هذه التسمية إلى استخدام تلك الجماعات الأدوات الحجرية. كانت تلك الجماعات تتغذى على الصيد وجمع الثمار المتوافرة في الطبيعة. أي أنها تعيش على النتاجات والثمار الجاهزة في الطبيعة. إنها طريقة تغذية شبيهة بما تسلكه الفصائل الحيوانية القريبة منها في قُوتِها. لذا، لا يمكن الحديث هنا عن وجود مشكلة اجتماعية ما. فـ"الكلان" تكون في بحث متواصل عن القُوت. وعندما تجده، إما أن تجمعه أو تصطاده. وباكتشاف النار وازدياد صنع الآلات والأدوات، تزداد نتاجات الكلان، ليتسارع بالتالي تقدمها كجنس بشري، وتزداد الهوّة الفاصلة بينها وبين أسلافها من الثدييات البدائية. والقوانين الطبيعية للتطور الطبيعي هي التي تحدد سياق التطور ووجهته. يمكننا التطرق إلى مشكلة العقلية والتعبير، فيما يتعلق بالمجتمع الطبيعي، وشرحها. إذ لا تزال مسألة تحديد المستوى العقلي الذي تكوّن فيه الإنسان وتأهّل، تحافظ على حيويتها. ارتباطاً بذلك، هل يجب إيلاء الأولوية للعقل، أم للبنية والأدوات؟ الرد على هذا السؤال هام للغاية. وتكمن هذه المفارقة في أسس كافة التيارات الفلسفية، المثالية منها والمادية، البارزة عبر التاريخ. أما الحدود الأخيرة التي توصل إليها العلم مؤخراً بشأن الكوانتوم والكوسموس، فتزودنا بمواقف بالغة الغرابة والعجب. فالكوانتوم، الذي هو عبارة عن الجزيء الأصغر من الذرّة، وفيزياء الموجة، يفسح لنا مساحات مختلفة كل الاختلاف. حيث تم الوصول فيه إلى حقائق وإثباتات عديدة، بدءاً من النُّظُم الحدسية والتفضيلية (الانتقائية) الحرة، والتعبير عن شيئين مختلفين في نفس اللحظة، وحتى قاعدة عدم تخطي الغموض والهلامية أبداً بسبب بنية الإنسان الموجودة. ويُترَك مفهوم المادة الفظة والجامدة على الرف كلياً. بل، وعلى النقيض من ذلك، فنحن هنا وجهاً لوجه أمام كَوْنٍ لا نهاية لحيويته وحريته. يكمن اللغز الأصل هنا في الإنسان، وفي حالته العقلية على وجه التخصيص. إننا لا نتكلم عن السقوط في المثالية أو الذاتية. ولا نَلِج في الجدالات الفلسفية المثيلة، والمُعمَل بها كثيراً. بل نفهم من ذلك بكل جلاء، أن كل هذا الكم من التنوع والتعدد السائد في الكون، إنما ينبثق من حدود الكوانتوم. إذن، أصبحنا نشاهد ما هو أبعد من جزيئات الذرّة. إنها المجريات التي تحدث في فضاء الجزيء والموجة، والتي تشكل كل أنواع الموجودات، وفي مقدمتها خاصيتها "الحيوية". وهذا بالذات ما نعنيه بحدسية الكوانتوم. حقاً إن تنوعاً طبيعياً بهذا الكم الهائل غير ممكن، إلا بالذكاء الخارق والانتقاء الحر. فكيف يمكن للمادة الفظة والجامدة أن تنتج هذا الكم من النباتات والأعشاب والزهور والكائنات الحية، بالإضافة إلى ذكاء الإنسان؟ مهما يقال بأن الجزيئات ذات الأَيْض* الحيوي هي التي تتكون في الأساس، إلا أنه من غير الممكن تقديم تعليل قدير وكفؤ للتنوع الطبيعي، ما لم نعلل أولاً نظام الذرّات في الجزيئات، والجزيئيات الصغرى في الذرّات، والجزيئيات والموجات في الجزيئيات الصغرى؛ ونشرح ما يحصل فيما وراءه. بإمكاننا اتباع نفس السلوك من التحليل والتعليل بشأن الكوسموس أيضاً. ذلك أن ما يجري في الحدود القصوى للكون المترامي الأطراف – هذا إن وُجدت حقاً حدود قصوى له – شبيهة بما يجري في مساحة الكوانتوم أيضاً. ويتبدى أمامنا هنا، مفهوم كَونٍ حيوي ونشيط. أفلا يُعقَل أن يكون الكون بذاته كياناً حيوياً بعقليته ومادته؟ إنه سؤال سيدور الجدل حوله تصاعدياً في علم الكوسموجيا (علم نشأة الكون). نسمي الإنسان الواقف في المنطقة الوسط بين الكوانتوم والكوسموس بـ"الكوسموس المِجهَريّ". النتيجة المفضى إليها هي: إذا كنتَ ترغب فهم كَونَي (فضاءَي) الكوانتوم والكوسموس، حلِّلْ الإنسان! فالإنسان – حقاً – فاعلُ كل المعارف ومبتكِرها. ذلك أن كل معلوماتنا هي من نتاج الإنسان. وكل المعلومات المتوفرة عن كافة الساحات، بدءاً من الكوانتوم وحتى الكوسموس، قد طُوِّرَت بشرياً. إذن، فالذي يستدعي التمحيص والتدقيق أساساً هو مرحلة الفهم لدى الإنسان، والتي تعني فيما تعنيه تاريخ سياق التطور الطبيعي المقدَّر حتى الآن بعشرين مليار سنة على وجه التقريب. إذن، فالإنسان – حقيقةً – كوسموس مجهري. فنظام الكوانتوم يسري فيه. إننا نشهد فيه تاريخ تطور المادة، بدءاً من الجزيئيات الصغرى في الذرّة، والموجات، وحتى جزيئات الدانا (DNA) الأرقى على الإطلاق. علاوة على أننا نلاحظ فيه أيضاً تاريخ مراحل التطور بأجمعها، بدءاً من الدورة السفلى لتطور النباتات والحيوانات، وحتى تطور الإنسان. ويُرى بعين اليقين علمياً أن الجنين البشري يكبر وينمو مكرِّراً كافة أطوار التطور البيولوجي. ويأتي المجتمع ومراحل التطور الطبيعي بعدها، لتُكمِل نضوجه. وقد تمكن العلم من قطع هذه الأشواط الملحوظة، عبر التطور الاجتماعي الطبيعي. لذا، يُعَد اعتبار الإنسان مختزَل الكون واختصاراً له، حُكماً علمياً مجمَعاً عليه. إذا ما أسهبنا في تفسيرنا للإنسان، يمكننا سرد الفرضيات الآتية: لولا خاصيات الحيوية والحدسية والحرية التي تتسم بها كافة المواد المكوِّنة للإنسان، لما تطورت حيوية وحدسية وحرية الإنسان، باعتباره يمثل مجموع تلك الخصائص. ذلك أنه ما من شيء يولد من العدم. هذه الحقيقة المثبتة تدحض مفهومنا في المادة الجامدة وتُبطِله. ما من شك في أنه لولا وجود مجتمع ونظام من قبيل الإنسان، لما تطور الكيان المعلوماتي. ومن جانب آخر، لولا الخصائص المعرفية والحدسية والفهمية والطلاقة الحرة للمواد التي تلعب دورها وتنشط في ذاك المجتمع وذاك النظام (الإنسان)؛ لكان من الجلي واليقين أن المعلومة، أو المعرفة، لن تجد لذاتها مكاناً أو تتكون بتاتاً. فلِمَ تُخلَق أو تُبتَكَر، إن كانت لا تتضمن شيئاً؟ من غير الواقعي النظر إلى هذه الدراسة (أو التعليل) على أنها مجرد انعكاس بسيط للطبيعة الخارجية، أو رؤيتها كمعلومة استحوذ عليها الإنسان بنمط تفكير ديكارتي. أما الرأي الأدنى إلى الصحة، فيتمثل في أن الخاصيات التكوينية في فضاء الكوسموس والكوانتوم تحيا وتسري في الإنسان أيضاً. وبالطبع، فهذه القوانين تسري وفاقاً لخاصيتها هي. إذاً، فالأكوان تعبِّر عن ذاتها في الإنسان. الخلاصة المستنبطة هنا هي أن الفهم القدير للكون يمر من الفهم القدير للإنسان. والحُكم الشهير جداً في الفلسفة، والذي مفاده: "اعرفْ نفسك!"، إنما يشيد بهذه الحقيقة. ذلك أن معرفة الذات هي لَبَنة وركيزة كل المعارف. وكل المعارف المكتسبة من دون معرفة الذات، لن تذهب أبعد من الانحراف والضلالة. لهذا السبب بالذات، لا مناص من أن تتقمص كل المؤسسات والسلوكيات البارزة في المجتمع الإنساني دوراً انحرافياً ومشوهاً، في حال افتقارها إلى معرفة الذات. وكل الأنظمة الاجتماعية، بخاصياتها غير الطبيعية، المتناقضة، الدموية، الاستعمارية، والمنبثقة من المعارف غير المرتكزة إلى معرفة الإنسان ذاته؛ إنما هي متمخضة من تلك المعارف الضلالية. إذن، والحال هذه، عندما نقول بحتمية انبعاث مرحلة التطور الطبيعي المعقول والمقبول للمجتمع الإنساني من المعرفة الخاصة بالإنسان؛ فإننا بذلك نضع البنان على القاعدة الكونية، وبالتالي الاجتماعية، الأولية على الإطلاق. بناء على هذه الفرضية، ما الذي يمكن قوله بشأن جوهر بنية معرفة الإنسان في المجتمع الطبيعي؟ فعلى الأقل، يمتثل الإنسان المنتمي إلى المجتمع الطبيعي لقاعدة إحياء ذاته مع بقية أعضاء الكلان التي يعيش ضمنها، ككل متكامل لا يتجزأ، وكقانون أولي لا مناص منه. ولا يمكن لعضو في الكلان أن يفكر في حياة امتيازية تميزه عن غيره، كالحياة خارج نطاق الكلان. بمقدوره ممارسة الصيد، بل وحتى القيام بالياميامية (أكل لحوم البشر)، ولكن بشرط أن تكون بهدف إعالة الكلان. القاعدة السائدة في حياة الكلان هي: "إما الكل أو اللاشيء". وكل المعطيات الاجتماعية تشيد بخاصية الكلان هذه. إنها كتلة واحدة، وشخصية واحدة. ولا يمكن التفكير بوجود شخصية أو حكم مغاير لذلك بالنسبة للأفراد. تتوارى أهمية الكلان في كونها الطراز الأول والأساسي لوجود الإنسان. إنها شكل المجتمع الخالي من الامتيازات والطبقات، واللاهرمي، والجاهل للاستعمار والاستغلال. وقد امتدت طيلة ملايين من السنين. ما نستنبطه من ذلك، هو أن تطور الموجود الإنساني كمجتمع، يعتمد لفترة طويلة على مبدأ التعاضد والتكافل، لا على علاقات الهيمنة والحاكمية. وينقش الطبيعةَ في ذاكرته كـ"أم" نشأ وترعرع في أحضانها. التكامل بين أفراد المجتمع من جهة، وبينهم وبين الطبيعة من جهة ثانية، شرط أساسي. الطوطم هو رمز وعي الكلان. ولربما يُعتَبَر الطوطم أول نظام اصطلاحي تجريدي. يشكل هذا النظام، الذي يعتبر دين الطوطمية، التقديس الأول ونظام المحرمات (المسلَّمات) الأول. أي أن الكلان تقدس ذاتها بقدر تقديسها لرمز ذاك الطوطم. من هنا تم الوصول إلى أول اصطلاح للأخلاق. حيث يعي الجميع أنه يستحيل مواصلة الحياة من دون جماعة الكلان. إذن، والحال هذه, فوجودها المجتمعي مقدس، ويُرمَز إليه بأسمى المعاني والقيم لتُعبَد. من هنا تتأتى رصانة ومتانة العقيدة الدينية. فالدين هو الصياغة الأولى للوعي المجتمعي. وهو متكامل مع الأخلاق. ومع مرور الزمن يتحول من كونه رمز الوعي إلى عقيدة متصلبة، ليتبدى الوعي المجتمعي على شكل تطوير لصياغة الدين. الدين بخاصيته هذه، يُعتَبَر المنبع العين لأول أشكال الذاكرة والتقاليد والأعراف الجذرية والأخلاق الأساسية في المجتمع. ومهما سما مجتمع الكلان بوعيه عبر ممارساته العملية، فإنه يُرجِع ذلك – على الدوام – إلى الطوطم، وبالتالي إلى مهاراته وقدراته. أما ما يتجلى في حقيقة الطوطم من الناحية الرمزية، فهو أنَّ تَواصُل انتصارات ونجاحات الجماعات البشرية أسفر بالتوازي عن تصاعد التقديس أيضاً. ويغدو التقديس بذلك قوة للرمز المقدس، لتمثِّل القدسيةُ بدورها قوةَ المجتمع. تعبِّر قدسية القوة المتشكلة مع المجتمع عن ذاتها بجلاء أكبر، في الشعوذة والسحر. فالشعوذة هي تجربة تعزيز المجتمع لذاته. فمستوى الوعي الموجود لا يمكن إدراجه حيز التنفيذ إلا على شكل شعوذة وسحر. الشعوذة هي أم العلوم أيضاً. أما المرأة التي تراقب الطبيعة عن كثب، وترى فيها الحياة، وتعرف الخصب والإنجاب؛ فهي الحكيمة العالِمة بطراز هذا المجتمع. وما كون أغلب السحَرة من الإناث سوى تعبير عن هذه الحقيقة. فالمرأة هي أفضل الواعين لما يجري حولها في المجتمع الطبيعي، بحُكم ممارستها العملية في الحياة. تُشاهَد آثار المرأة على كافة المنحوتات واللُّقى الأثرية المتبقية من تلك الحقبة. فالكلان هي اتحاد متألف ومتكوِّن حول المرأة الأم. في حين أن إنجابها الأطفال وتنشئتها إياهم، قد دفعها لتكون أفضل جامع للثمار، وخير معيل للأطفال. وبالمقابل، فالطفل لا يعرف أحداً غير أمه. أما الرجل، فلم يكن ذا تأثير واضح بعد في النظر إلى المرأة كمُلك له. وبينما لا يُعرَف الرجل الذي حمِلت منه المرأة، تكون الأم المنجبة للوليد معروفة. هذه الضرورة الطبيعية تشيد بمدى قوة المجتمعية المرتكزة إلى المرأة. وكون الكلمات الاصطلاحية البارزة في تلك الحقبة ذات خاصية أنثوية، يُعَد برهاناً آخر على صحة هذه الحقيقة. في حين أن سمات الرجل القتالية والتحكمية، التي كانت تطورت فيما بعد، تعود في أصولها إلى خاصيته في صيد الحيوانات الوحشية في تلك الحقبة. فمزاياه الجسدية وقواه العضلية دفعته بالأغلب إلى البحث عن الصيد في الأقاصي البعيدة، أو إنقاذ الكلان من المخاطر المحدقة بها، والدفاع عنها. هذه الأدوار غير التعيينية توضح أسباب بقاء الرجل هامشياً وقتذاك. لم تكن قد تطورت بعد العلاقات الخاصة داخل الكلان. فالمكاسب المستحوذ عليها من جمع الثمار وصيد الحيوانات هي مُلك الجميع. والأطفال مُلك للكلان برمتها. ولم تبرز الحياة الخاصة بعد لدى كلا الجنسين. هذه السمات الرئيسية هي الباعث وراء إطلاق تسمية "المجتمع المشاعي البدائي" على هذا الطراز من المجتمع. خلاصة، تُشكِّل الكلان – شكلاً وصياغة – الأرضية الخصبة لولادة المجتمع وذاكرته الأولى، ولتطور مصطلحات الوعي والعقيدة الأولية. وما يتبقى من الأمر ليس سوى حقيقة ارتكاز المجتمع السليم إلى البيئة الطبيعية وقوة المرأة، وكَون تَواجُد البشرية قد تحقق في داخله بشكل خالٍ من الاستعمار والاستغلال والقمع، بل ومفعم بالتعاضد والتكافل الوطيدين. والإنسانية، بإحدى معانيها، هي مجمع هذه القيم الأساسية. لكن الاعتقاد بزوال وفناء هذه التجربة المجتمعية الممتدة على طول ملايين السنين، ليس سوى ضرباً من الهذيان والهراء. فمثلما لا يفنى شيء في الطبيعة، فإن هذه القاعدة تواصل قوتها في طراز التكوين المجتمعي بشكل أقوى. من أهم النقاط التي توصَّل إليها العلم هي أن كل تطور لاحق يتضمن سابقه بالتأكيد. ذلك أن الاعتقاد بأن الأضداد تتطور بإفناء بعضها، ليس بصحيح. ما يجري في هذه القاعدة الدياليكتيكية هو أن الأطروحة والأطروحة المضادة تواصلان وجودهما ضمن كيان (تركيبة) جديد أكثر غنى. وسياق التطور الطبيعي برمته يؤكد صحة هذه القاعدة. يتواصل تطور قيم الكلان داخل التركيبات الجديدة أيضاً. وكون مصطلحات المساواة والحرية ما تفتأ تشكِّل أسمى القيم في راهننا، فهي مَدينة في ذلك إلى واقع حياة الكلان. ذلك أن المساواة والحرية مخفيتان في نموذج حياة الكلان بحالتيهما الطبيعية، قبل أن تتحولا إلى مصطلح. وكلما غابت الحرية والمساواة، نجد هذين المصطلحين المستترين في الذاكرة الاجتماعية الحية يعبِّران عن ذاتهما، وبوتيرة متصاعدة، ليفرضا وجودهما مرة أخرى كمبدأين أوليين في مجتمع أكثر تطوراً ورقياً. وكلما توجه المجتمع في سياقه الطبيعي نحو الهرمية ومؤسسة الدولة، نجد هذين المصطلحين يقتفيان أثر هذه المؤسسات بلا هوادة أو رحمة. ولكن ما يقتفي الأثر هنا أساساً (مضموناً)، إنما هو مجتمع الكلان بذاته.                             ب – المجتمع الهرمي الدولتي – ولادة المجتمع العبودي     بالإمكان تقسيم تاريخ المجتمع الإنساني بأشكال مختلفة، وفقاً للمعايير التي تتخذ تقسيم الزمن أساساً. أما إذا اتُّخِذَت أشكال العقلية أساساً، فسيحتلُّ عصر الميثولوجيا، والعلم الميتافيزيقي والإيجابي بخطوطه العريضة حيزاً هاماً من التقسيم. في حين إذا اتُّخِذَت المعايير الطبقية أساساً، نجد أنها طالما تبدت على الشكل التالي: المجتمع المشاعي البدائي، العبودي، الإقطاعي، الرأسمالي، الاشتراكي وما بعده. هذا وقد عُمِل كثيراً بالتقسيم حسب المدنيات الثقافية الأساسية عبر التاريخ. أما المعيار الأساسي للتقسيم المرحلي الذي ارتأيتُ اعتماده، فيتميز بماهية تغلب عليها القيم الفلسفية والعلمية، ويتخذ من مبدأ آلية الكون العامة أساساً له. بمعنى آخر، إنّ جعْلَ ثلاثية "الأطروحة – الأطروحة المضادة – التركيبة الجديدة" قابلة للتطبيق كأساس للنظام القائم – مثلما عَمِل به هيغل بكثرة وحوَّله إلى فلسفة أولية لديه – سيسلط الضوء بجلاء أكبر على المراحل المعاشة. فكل الكيانات الموجودة في الكون تجعل الحركة ممكنة بامتلاكها بنى ثنائية متناقضة. وبالطبع، فهذه الحركة ليست حركة ميكانيكية فظة، بل هي حالة حركية خلاقة تشكل التغيير والتنوع في مضمونها. فعلى سبيل المثال، يمكننا البدء بالكون من ثنائية الوجود – العدم. حيث تُشكِّل مواجهة الوجود والعدم لبعضهما البعض كياناً جديداً، ألا وهو الحركية بعينها. وبدون وجودهما لا يمكن لذاك الكيان أن ينفتح أو يتحرك. والتكوين بمضمونه ليس سوى مقاومة الوجود تجاه العدم. فبينما يحاول الوجود إفناء العدم، والعدم إفناء الوجود؛ ينتج في المحصلة تيار ثالث، ويظهر الكون على شكل كيان أشبه بالتركيبة الجديدة. شبيه بذلك أيضاً ثنائية الجزيء الأصغري – الموجة. حيث لا يمكن أن يوجد أحدهما دون الآخر، وإنما يشكلان مع بعضهما الحركة، وبالتالي يقومان بتكوين كيان ما كتركيبة جديدة. ثنائية التطابق – التنوع أيضاً تفضي إلى نتائج مشابهة. إذ لا يمكن للتطابق أن يبرهن وجوده إلا عبر التنوع، الذي بدونه يكون التطابق ضرباً من العدم والفناء. وسنرى الوضع ذاته إذا ما تداولنا أية ظاهرة أخرى. الاختلاف الأكثر وضوحاً يكمن في ثنائية الحيوية – الجمود. ففي كوكبنا الأرضي، وبشكل مغاير لما يجري في الكون الحيوي العام، يتولَّد وسط حيوي بالتزامن مع التطور الوافر للحركة، من داخل وسط مادي مختلف من حيث الماهية، وفي نقطة محددة ينطلق منها، ليُكوِّن ذاته ويطورها عبرالتغييرات الكيميائية المسماة بالأَيْض. وهنا تمثِّل حقيقة التطور الذي لا يعرف الحدود في الكون قفزة خارقة (فوق عادية) لا يزال العلم عاجزاً عن تحليلها تماماً. لذا ستشكل ظاهرة الحيوية وتعليلها الكامل الموضوعَ الرئيسي الهام للعلم تصاعدياً بعد الآن. أما خارطة الدانا (DNA) وعملية الاستنساخ، فلا تعني أن هذه الظاهرة قد حُلِّلت كلياً. هذا ولا يمكن لعملية تصنيف الجزيء المتسبب في الحيوية أن تعلِّل هذه الظاهرة بمفردها. إذ ما من جدل في لزوم وجود وسط خارجي مناسب (غلاف جوي، محيط مائي)، ونظام جزيئات ملائم لحصول الحيوية. لكن كل هذا ليس سوى اللَبَنات الرُّكْن للحيوية ونظامها المادي. الأهم من ذلك هو ارتباط هذا النظام المادي بواقعة لا مادية من حيث المعنى، كالحيوية. ويكمن الخطأ الأولي للفلسفة المادية في اعتبارها أن الفاعلية، أي الحيوية وظاهرة المعنى، هي عينها الترتيب المادي. فحتى في فيزياء الكوانتوم تنهار هذه العينية (التطابق) وتتحطم. لذا، ثمة ضرورة حتمية لطراز تعليلي أشبه بالحدسية. تتميز حالة الذكاء (العقل) لدى الإنسان من بين الكائنات الحية الأخرى، بوضعية أكثر غرابة. إذ يمكن تعريف الإنسان بأنه الطبيعة التي تفكر في ذاتها على نحو أكفأ. لكن الأهم من ذلك، لماذا تشعر الطبيعة بالحاجة إلى التفكير في ذاتها؟ وإلى أين يمتد المنبع الأصلي لمهارة وكفاءة المادة في التفكير؟ بالطبع، نحن لا نهدف بطرح مثل هذه الأسئلة إلى ابتكار مشكلة البحث عن إله جديد. بل إنها تشير إلى الحاجة الماسة لتحليل الظواهر المسماة بالكون والوجود والطبيعة، كمصطلحات أوسع نطاقاً وأبعد بكثير من تعليلنا إياها بالعين المجردة. ذلك أننا وجهاً لوجه أمام مفهوم (براديغما) للكون كثير الغنى، مثمر ومعطاء، متنوع ولا يعرف حدوداً في التطور. فالمفاهيم المتعلقة بالكون، والبارزة في مختلف مراحل تطور البشرية، كالبراديغمائيات الميثولوجية والميتافيزيقية والعلمية الإيجابية؛ إنما تضع بين أيدينا اصطلاحات وسلوكيات معيشية شديدة الاختلاف مع ما ذكرناه آنفاً. فبينما يتواجد إله لكل شيء في الميثولوجيا، يغلب على الميتافيزيقيا الرأي القائل بإلهِ أو سببِ أول حركة. في حين يُعمَل على تعليل كل شيء بالمادية الفظة في العلم الإيجابي، ليطوِّر بذلك فلسفة السببية الكثيفة والتطور ضمن مسار مستقيم. بالطبع، إذا ما أُدرِكَت ماهية السلوكيات في عالم الحيوانات من المراتب الأدنى، فستكون أكثر غرابة. تُرى كيف، وبأي حس تنظر الزواحف والطيور والثدييات إلى الوسط الخارجي؟ كم هو غريبٌ التشبيه المتداوَل بين الشعب، والقائل: "كما ينظر الثور إلى القطار". فكيف هي – إذاً – نظرة الحجارة والذرّات الرملية؟ ذلك أن لها أيضاً سلوكياتها الخاصة. فالكون والطبيعة بشكل متكامل، يعبِّران عن سلوك معين. بل إنه سلوك في حالة حركية لا نهاية لها. إنني أقوم بهذا الإيضاح الاصطلاحي للإشادة بأن حالة الدنيا ووجودها أيضاً، هي ظاهرة بحد ذاتها. وإذا ما قمنا بتقييم تجريدي عام، نرى أنها ستواصل وجودها كظاهرة، من بداياتها وحتى الأخير. السؤال الهام الذي يطرح نفسه أمامنا بهذا الصدد هو، كيف يمكننا تأليف أطروحة هذه الظاهرة، وأطروحتها المضادة وتركيبتها الجديدة؟ فإذا ما عرَّفنا الإنسان (ومجتمعه) بأنه الوجود (الكيان) الأرقى في قدرته الفهمية والمعرفية، فإن تثبيت الثنائية الأساسية في هذه الظاهرة، بالإضافةالى تركيبتها الجديدة الأخيرة، إنما يعني بلوغ الاصطلاح الأكثر علمية. إذن – والحال هذه – كيف يسير سياق الجدلية ما دمنا أناساً، ونهتم بالإنسان لهذه الدرجة؟ ونحو أية تركيبة جديدة يتجه؟ أو إلى أي منها يتحول؟ على العلوم الاجتماعية القيام أولاً، وكنقطة بداية، بتحليل هذا الاصطلاح. إذا لم يقم سلوك الإنسان – الذي يتسم بحالة وجودية هي الأغرب أطواراً على الإطلاق في الكيان الكوني العام – بهذا التحليل الاصطلاحي الأساسي، فلن يتمكن من بلوغ علم اجتماعٍ صائب وسليم. وفي هذه الحالة، لن يبقى خيار أمامه سوى الغرق في عالم الظواهر اللامتناهية. وهذا هو أحد الأسباب البارزة للتشوش والخلط بين الأمور في علم الاجتماع. إن الاصطلاحات والفرضيات والنظريات المتعلقة بالظاهرة الاجتماعية، والتي ابتدأت منذ العصور الميثولوجية، لتأخذ حالة أكثر تعقيداً وتشابكاً مع الأديان التوحيدية والفلسفة الميتافيزيقية، وتغدو عقدة كأداء مع العلم الإيجابي؛ لا تكتفي بتضمنها النقصان في تعليل المجريات والتطورات، بل وأُدخِلت فيها أخطاء فادحة جداً. ولهذه التعاليل بشأن الظاهرة الاجتماعية دور بارز في بلوغ البشرية إلى حالة تسودها وتهيمن عليها المرحلة الرأسمالية الأكثر دموية واستغلالاً على الإطلاق. وإذا لم تحلِّل البشرية ظاهرة المجتمعية بشكل صحيح (كشكل للوجود الجوهري)، فمن الجلي أن مآلها سيكون الديناصورية. ورغم البحوثات البارزة بهدف التحديث من قِبَل علماء الاجتماع بعد الحربين العالميتين، إلا إنها ليست سوى محاولات سقيمة وواهنة، لا تتعدى إطار تثبيت بعض الحقائق المحدودة جداً. فحتى المدارس الأكثر عزماً وطموحاً كالماركسية، وإلى جانب مساهماتها المحدودة في صياغة الحلول؛ قامت بإتْباع عالم المسحوقين والمستعمَرين الذين مثَّلَتهم وتحركت ناطقة باسمهم على وجه الخصوص، ببراديغمائيات ومفاهيم سياسية جديدة، بحيث لم يتعدَّ دورها جعْلَهم قوة احتياطية للنظام الاجتماعي المهيمن. والأصح أنها لم تتمكن من تحقيق مآربها وطموحاتها. بمقدورنا الاستيعاب أن العديد من المدارس والفروع الأخرى في ميدان علم الاجتماع، لم تستطع إحراز نجاحات أكثر مما أحرزته المجموعات الفلسفية والدينية التي سادت العصور القديمة والوسطى. ويتجلى ذلك بكل سطوع من خلال التدقيق في أدوارها تجاه المتغيرات الحاصلة. ذلك أن نصيب علم الاجتماع ومؤسساته ذو أولوية هامة في أبعاد الحروب التخريبية والمبيدة، وجشع الربح والمنفعة الذي لا يمكن كبح جماحه، والأيكولوجيا المدمَّرة. علم الاجتماع ومؤسساته هم المسؤولون الأساسيون عن ذلك، لأنهم غدوا في خدمة الحروب والسلطة السياسية بدرجة لا مثيل لها في أي مرحلة من مراحل التاريخ الأخرى. وما العجز عن إيقاف تنامي السلطة السياسية والحروب، وعن نصب السدود في وجه جشع الربح والمنفعة اللامحدودة؛ سوى برهان قاطع، ليس على إفلاس علم الاجتماع ومؤسساته فحسب، بل وعلى خيانتهم المرتكبة بحق الإنسانية جمعاء. من هنا، يتحتم تناول ودراسة مفهوم جديد وكامل لعلم الاجتماع، ومعالجته ببنية جديدة وطيدة، وطرح ذلك في جدول الأعمال الأولية كنشاط رئيسي وثمين للغاية؛ إزاء المعضلات الأساسية التي تعانيها البشرية. وبناء على ذلك فقط، بإمكان العملية والتنظيم أن يجدا لذاتهما مكاناً ومساحة وافية. يجب النظر إلى مفهوم علم الاجتماع – الذي نريد تطويره – ضمن هذا الإطار. واعتبار الاصطلاحات والفرضيات ضرباً من التجارب والاختبارات وفق هذا السياق. بإمكان هذه المساعي التي ستتزايد تصاعدياً، أن تتمأسس لتزيد من فرص الحل. ويجب النظر إلى اختبارنا الاصطلاحي الأعم من هذه الزاوية. سعينا في البند السابق لرسم وشرح إطار التعريف الذي استندنا إليه في تسمية أول حالة جماعية للبشرية باسم "المجتمع الطبيعي". وطرحنا فيه براديغمائيتنا في كيفية تناول الكون. فانتشار التنظيم الاجتماعي من نمط الكلان، وتوسعه زماناً ومكاناً، واكتسابه بُعداً تنوعياً وحجمياً متزايداً مع الوقت؛ هو من بواعث طبيعته. ومن خلال المعطيات المتوفرة في حوزتنا، يمكننا الوصول إلى أن الضيق والسخط قد تطورا مع الزمن على صعيد الرجل، في الجماعة المتمحورة حول المرأة الأم، والمتزايدة حجماً، والقديرة هويةً. فالكَمّ المتراكم من الأطفال الملتفين حول المرأة الأم، والرجال المتعاملون معها بغرض مساعدتها بالأرجح، أسفرا عن حسد الرجال الآخرين وتأجج نقمتهم عليهم. الأهم من ذلك أن المرأة الأم تطوِّر النظام الأهلي المستقر وتوطده، بحيث تؤمِّن فيه طعامها ورداءها وبقية الوسائل والأدوات اللازمة. وبتميزها بمراقبة ما حولها، بلغت مرتبة المرأة الساحرة، لتكتسب مزية الحكمة مع الزمن. وبمقدار إلحاقها كماً أكبر من الأطفال والرجال الأصدقاء (المقربين) بهذا النظام الأهلي المستقر، بقدر ما تغدو المرأةَ الأم القوية المهابة. نشاهد هنا تطور هيبة المرأة، بحيث لا يمكن كبح جماحها. والبراهين التي بحوزتنا هي أمارات واضحة تشير إلى رجحان انتشار النظام الديني للإلهة الأنثى، والعناصر المؤنثة في اللغة، وبروز قوة المرأة الأم المتصاعدة في المنحوتات الأثرية. إن النسبة الكبرى من الرجال على مسافة بعيدة من هذا النظام بطبيعة الحال. وقد يبقى من لا تجد فيه المرأة الأم نفعاً – يتكونون بالأغلب من المسنين العجائز – فتطرده خارج نطاق هذا النظام. ومع الزمن، يتأجج هذا التناقض، الذي كان باهتاً في البداية. فعندما كشف تطور الصيد عن قوة الرجل القتالية، صعَّد بالمقابل من وعيه ومعرفته. وبناء عليه يشرع العجائز المطرودون من ذاك النظام في التوجه صوب أيديولوجية يهيمن عليها الرجل. نخص بالذكر هنا الديانة الشامانية* التي تضع هذه الظاهرة أمام أعيننا بشكل ملفت للنظر. والشامانيون (الكهنة) يمثلون بالأرجح نموذجاً مصغراً للرهبان الذكور. وهم يسعون إلى تطوير حركة ونظام أهلي مناهض للنساء، وبشكل منظَّم بدقة. وهكذا يشكلون عبر الشامانية الذكورية نظاماً أهلياً مستقراً تجاه النظام الأهلي المتطور سابقاً حول المرأة الأم النواة؛ بحيث اتسم نظامهم ذاك بشبه الوحشية، يسكنون فيه الأكواخ البسيطة. ويحدث الاتفاق والتحالف بين الشامانيين وبين العجائز وذوي الخبرات والتجارب، كتطور ذي أهمية كبيرة. وتتجذر مكانتهم وتتعزز تدريجياً داخل جماعتهم، عبر القوة الأيديولوجية التي مارسوها وطبقوها على بعض الشبان الذين احتووهم فيما بينهم. يتميز اكتساب الرجل للقوة هنا بماهية ذات أهمية أكبر، حيث تتميز ممارسة الصيد وحماية الكلان تجاه الأخطار الخارجية بماهية عسكرية معتمدة على القتل والجرح (الذبح). إنها بداية ثقافة الحرب. وعندما يغدو الأمر مسألة حياة أو موت، يستلزم حينها ربط الشؤون بالسلطة والهرمية. هكذا يرتقي الشخص الأكفأ والأمهر إلى المنزلة العليا بحديثه ونفوذه. إنها بداية لثقافة مختلفة يتزايد تفوقها تجاه قوة المرأة الأم. تُشَكِّل هذه المستجدات في بروز السلطة والهرمية قُبَيل ظهور المجتمع الطبقي، إحدى أهم المنعطفات التاريخية. فهي مغايرة في مضمونها لثقافة المرأة الأم، التي ترجح فيها عملية جمع الثمار، ومن ثم اكتشاف النباتات وإنتاجها. أي أنها أنشطة لا تستلزم الحرب، في حين أن ممارسة الصيد الراجحة لدى الرجل تعد نشاطاً مرتكزاً إلى ثقافة الحرب والسلطة القاسية. والمحصلة كانت أن تجذرت السلطة الأبوية (البطرياركية) وتوطدت. إن البنية الهرمية والسلطوية هي الأساس في المجتمع الأبوي (البطرياركي). ومصطلح الهرمية يدل في معناه على أول مثال بارز لمفهوم الإدارة السلطوية المتحدة مع السلطة المقدسة للشامان. ولدى ازدياد تكاثُف تقدُّم هذه المؤسسة السلطوية المتعالية على المجتمع، وتَوَجُّهِها مع الوقت نحو التمايز الطبقي؛ تحولت إلى سلطة الدولة. لكن السلطة الهرمية هنا فردية بالأرجح، حيث أنها لم تتمأسس بعد. لذا فهي لم تكن ذات نفوذ على المجتمع، بقدر ما هي عليه مؤسسة الدولة. والتوافق والانسجام هنا شبه طوعي. ويتحدد مستوى الارتباط وفقاً لمنافع المجتمع. لكن هذه المرحلة المبتدئة قابلة لتوليد الدولة من بين أحشائها. يقاوم المجتمع المشاعي البدائي تجاه هذه المرحلة حقبة طويلة من الزمن. فمَن يتراكم لديه الإنتاج الفائض في ذاك المجتمع المشاعي، لم يكن بمقدوره فرض الاحترام تجاه سلطته والامتثال لها، إلا عندما يشاطر ما يدّخره مع أفراد جماعته. حيث يُنظَر إلى الادخار والتكديس بعين الجُرم الأكبر. والشخص الأفضل هو ذاك الذي يوزع ما يدخره من إنتاج. ويرجع مفهوم "الكرم والسخاء"، الذي ما يزال سائداً في المجتمعات القبائلية، في أصله إلى هذه التقاليد التاريخية الراسخة. وحتى الأعياد ابتدأت بالظهور كمراسيم لتوزيع الفائض. فالجماعة في بداياتها ترى في الادخار والتكديس أفدح خطر يهدد وجودها، فتجعل من المقاومة تجاهه أساساً للمفاهيم الأخلاقية والدينية لديها. وليس من الصعوبة ملاحظة آثار هذه التقاليد في كافة التعاليم الدينية والأخلاقية، وبشكل قوي للغاية. لم يصادِق المجتمع على الهرمية، إلا عندما رأى فيها الفائدة والسخاء والمكاسب. تلعب الهرمية بجانبها هذا دوراً إيجابياً نافعاً. هذه الماهية للهرمية المعتمدة على المرأة الأم، تشكل الأساس التاريخي لمصطلح "الأم" الذي مافتئ يُعتَرَف به بإخلال، ويُنظَر إليه كسلطة قديرة في كافة المجتمعات. ذلك أن الأم هي العضو الرئيس، المنجب الخصيب، والمنشئ المعيل في أحلك الظروف وأقساها. ما من شائبة في أن ثقافةً وهرميةً وسلطةً متشكلة بناء على ذلك، ستلقى الامتثال الأعظم لها. وتشكيلها لأساس الوجود المجتمعي هو إشارة حقيقية لقوة مصطلح "الأم"، الذي لا يزال يحافظ على منزلته في راهننا أيضاً. وهو لا يتأتى من خاصية الإنجاب البيولوجية المجردة، مثلما يُظَن. بل يجب رؤية "الأم، الأم الإلهة" على أنها الظاهرة والمصطلح الاجتماعي الأهم على الإطلاق. حيث تكون منغلقة كلياً تجاه ظاهرة الدولة، ومتسمة بكل المزايا التي لا تولّد تلك الظاهرة. من الواقعي النظر إلى المجتمع الطبيعي كأطروحة لبداية الوجود، ضمن إطار هذا التعريف. فالإنسانية باشرت بوجودها اعتماداً على هذه الأطروحة. ما قبلها كانت الحياة الحيوانية سائدة. وما بعدها يأتي سياق التطور على شكل المجتمع الهرمي والدولتي المتطور بموجب مناهضتها. وبالأصل، تنبع سمات هذه المرحلة كأطروحة مضادة من قمعها الدائم للمجتمع الطبيعي، وحسرها إياه. ومثلما انتشر وساد المجتمع الطبيعي كأطروحة في كافة أماكن استيطان الإنسان واستقراره، فهو من حيث المدة أيضاً يعتبر نظاماً اجتماعياً مؤثراً يشمل المرحلة النيوليتية بشكل رئيسي، والممتدة قرابة أربع آلاف سنة قبل الميلاد. ولا يزال يواصل وجوده حتى حاضرنا في كافة المسامات الاجتماعية، ولكن بشكل مكبوت. يبدو هذا التواصل صريحاً في المصطلحات الاجتماعية أيضاً. فالعائلة، القبيلة، الأم، الأخوّة، الحرية، المساواة، الرفاقية، السخاء، التعاضد، الأعياد، البسالة، القدسية، وغيرها من العديد من الظواهر والمصطلحات؛ هي من بقايا هذا النظام الاجتماعي. مقابل ذلك، يتسم المجتمع الهرمي والدولتي برجحان كفة خاصيته في قمع هذا النظام وقهقرته، ومواصلته إياها بالأغلب. من هنا تنبع خاصيته في كونه أطروحة مضادة. أما تداخل هذين النظامين الاجتماعيين، فيتوافق لأبعد الحدود مع دواعي القوانين الدياليكتيكية الأساسية. النقطة الهامة الأخرى التي يجب الانتباه إليها هنا، هي تطوُّر الأطروحة والأطروحة المضادة في اصطلاحنا الجدلي وفق خاصية "القمع والحَسْر"، لا إفناء إحداهما للأخرى. فالنظم الاجتماعية تحتوي بعضها البعض عندما تصبح في حالة أطروحة وأطروحة مضادة، طبقاً لما هي الحال في الطبيعة برمتها. لا شك في أن المقاومات والنضالات الجارية فيما بينها تنمُّ عن مستجدات مهمة. لا يمكن للأطروحة أن تبقى على حالتها القديمة بتاتاً، ولكن الأطروحة المضادة أيضاً لا تهضم سابقتها كقادر مقتدر مطلق. بل إنها تتطور بالتغذي عليها. ثمة فائدة في شرح الدياليكتيك قليلاً بشأن هذه النقطة. حيث فُسِّرَت الأطروحة والأطروحة المضادة على أنها ظاهرة إفناء إحداهما للأخرى في المجتمع، في عهد الماركسية الدوغمائية. يعد هذا النمط من التعليل أصلاً أحد أهم الأخطاء النظرية فيها. ذلك أن السمة المتَّبَعة في كافة العلوم، وعلى رأسها البيولوجيا، هي الأهمية البارزة لجانب التغذية المتبادلة للظواهر في تطوراتها وتحولاتها. أما حالات الإفناء وما شابهها، فهي استثناء. أما الغالب فهو تغذية الأطروحات والأطروحات المضادة بعضها البعض. والتعبير الأكثر شفافية لذلك هو ثنائية الطفل – الأم. إذ ينمو الوليد في حالة من التناقض مع الأم. ولكننا لا يمكننا أن نستخلص من ذلك أن الطفل يفني أمه. ولا يمكن تقييمه إلا بكونه تغذية متبادلة لتأمين سيرورة النسل ودوامه. وثنائية الأفعى – الفأر تعد نقطة الذروة. فما يجري هنا هو تحقق التوازن بين التكاثر المفرط للفأر، والتكاثر النادر للأفعى. فلو لم تكن الأفعى، لربما كانت الفئران ستلعب دوراً تخريبياً يضاهي دور الديناصورات. ومع مرور كل يوم يتجلى بسطوع أكبر أن الموجودات في الطبيعة ليست خالية من المعنى أو بلا فائدة، بل لكلٍّ منها معنى أيكولوجي محدد. لكن، ورغم ذلك، قد يسري مفعول مصطلح "النقطة الذروة" أو "الحدود المطلقة"، كمصطلح على الأقل، في مساحة محدودة للغاية. لقد غدت مسألة تطوُّر قانون الطبيعة الأساسي على شكل الارتباط والترابط المتبادل، السمة التي تنبهت إليها كافة العلوم. يتعلق التغيير الذي رغبتُ إحداثه لدى دراسة أنظمة المجتمع، بالتقربات المتبعة فيما يخص الضرورة والمصادفة. إن مفهوم النسبية الكثيفة والتطور وفق خط مستقيم بلا تقاطع، والذي تمتد جذوره إلى مفهوم القانون الإلهي، وينتشر في نظام التفكير الغربي؛ قد بطُل مفعوله، بعدما أوضحنا في بداية كلامنا المستجدات الجارية في فيزياء الكوانتوم والكوسموس. ذلك أن "مساحة الفوضى البينية" تُبرِز وجودها في كل ظاهرة في دياليكتيك التطور. فالتغيرات النوعية تحتِّم وجود هذه المساحة البينية. وهذا ما يشير بوضوح إلى أن التطور اللامنقطع، والتقدم الدائم على خط مستقيم في كل زمان، ليس سوى تجريداً ذهنياً وتقرباً ميتافيزيقياً. إذ من غير الممكن حصول التقدم على خط مستقيم، انطلاقاً من هذه المساحة البينية. فالعديد من المؤثرات بعلاقاتها القائمة في تلك المساحة البينية، قد تمهد السبيل لإحداث تطورات كثيرة كمياً، وفي اتجاهات متعددة. تسمى هذه المساحات البينية في المجتمع الإنساني بـ"منطقة الأزمات". ولكن، ما هي ماهية التطورات الاجتماعية التي ستخرج من الأزمة؟ هذا ما سيحدده مستوى النضال الذي تخوضه القوى المتأثرة بتلك الأزمة. قد تتمخض عنها أنظمة عديدة. ومثلما قد تكون أكثر تقدمية، فربما تكون أكثر رجعية أيضاً. بيد أن اصطلاح "تقدمي – رجعي" أمر نِسْبي. فالتقدم المستمر لا يتواءم والنظرية الكونية. ولو أن هذا المبدأ كان صحيحاً، لكانت المزاعم الميتافيزيقية سارية المفعول. لا ينسجم الحديث عن الحقائق المطلقة مع مبدأ التكوُّن الكوني. فالطبيعة لا تتطور مع المطلقيات. ذلك أن المطلقية تعني اللاتغيير، التطابق. وطراز وجودنا برهان قاطع على عدم وجود أمر كهذا. يمكن الاستخلاص من خصائص القانون في العلوم الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية أن تطور القانونية في الطبيعة صوب الإنسان، واعتماداً على مساحات الفوضى البينية؛ إنما يحصل بحالة في غاية من المرونة. في حين أن القانونية في المجتمع الإنساني تتسم بالمرونة لأبعد الحدود. معنى ذلك إمكانية إحراز عدد كبير من القوانين تطوراً ملحوظاً وكثيفاً في مساحات القانون البينية. ارتباطاً بذلك، فكون مستوى الحرية رفيعاً، إنما يسفر عن تعددية عظمى في المجتمع الإنساني. فالمرونة تولِّد الحرية، والحرية تولِّد التعددية. بهذا المعنى، يُعَد الإنسان كائناً خارقاً في الطبيعة بصياغته الكثيفة والعديدة على الإطلاق للقانونية. وبالتالي فالمجتمع الإنساني أيضاً يصوغ قوانين نظامه بنفس الغنى والكثافة. أود عبر هذه الفرضيات الأساسية البرهنة على أنه لا أصل من الصحة للزعم القائل بتطور المجتمع الهرمي والدولتي كضرورة لا بد منها، من أحشاء المجتمع الطبيعي. قد تكون ثمة ميول في هذا الاتجاه، ولكن الافتراض بأنها ضرورة لا انقطاع فيها، ومستمرة إلى نهاية المآل، خاطئ تماماً. ومثلما سأوضح في الفصل اللاحق بين الفينة والفينة، يُعَد التحديد الذي وصلَت إليه الماركسية (باسم المسحوقين والمستعمَرين)، والذي يفيد بضرورة ظهور المجتمع الطبقي لأجل التقدم؛ أحد أفدح الأخطاء المرتكبة التي تَرَكَت الاشتراكية – مسبقاً – عُرضةً للهيمنة الطبقية. هذا الخطأ هو الباعث الأولي لبلوغ الماركسية حالة قوة احتياطية للرأسمالية، خلال تاريخها الممتد على طول قرن ونصف تقريباً. فالنظر إلى الدولة والطبقات والعنف كأطوار لا مفر من حدوثها على مسار التقدم، يعني الاستهزاء بالمقاومة العظمى التي أبداها المجتمع الطبيعي حتى راهننا، واستصغارها، بل وحتى إنكار وجودها، وإهداء تاريخها تلقائياً إلى القوى المهيمنة التسلطية. أما رؤية وجود الطبقات كقدر محتوم لا مناص منه، فيعني التحول إلى آلة بيد أيديولوجيي الطبقات المهيمنة، وربما دون الانتباه إلى ذلك. أي أنه يعني لعب أخطر الأدوار باسم المسحوقين والمستعمَرين من هذه الزاوية. وكأن التاريخ تُرِك عُرضة لاستيلاء مثل هذه التيارات الأيديولوجية والسياسية. لقد أبدت الهرمية والطبقية تطوراً. لكن هذا التطور ليس بضرورة. ذلك أن الهرمية، والدولتية المرتكزة إليها، قد رسختهما القوى المطبِّقة للظلم والاستبداد والكذب والرياء بأقصى الدرجات. وقد أبدت قوى المجتمع الطبيعي الرئيسية مقاومة لا تعرف السكون والنضب تجاه ذلك. ولكنها حوصِرت وحُدِّدت بأضيق المناطق والمساحات البينية، بل ولم تُقحَم بتاتاً في بعض المناطق والمساحات البينية الأخرى. لقد ترسخت الرؤية التي تَعتَبر المجتمع برمته عبارة عن طبقات وهرميات للدولة، عبر السياسات والدعايات الأساسية للنظام المهيمن. أما اللعبة المسماة بـ"القدر"، فهي عنوان لهذه الممارسة الميتافيزيقية. ويكاد لم ينجُ من عدوى هذه اللعبة أي دين أو مذهب أو مدرسة فلسفية أو علمية. وهي – أي اللعبة – حصيلة القمع الجسدي والفكري الفظيع، والسياسات والدعايات المريعة التي طبقتها أيديولوجية الرهبان ودولة الإله المَلك قبل آلاف السنين. ومن شاء سمَّى هذه اللعبة "ميثولوجيا" أو "فلسفة"، وإلا، فسمَّاها "مدرسة علمية". النقطة المبلوغة هي حالة حاضرة من تدوُّل الأيديولوجيات والعلوم بشكل كلي. ومهما تم التركيز على نصيب الماركسية في هذا الاتجاه، سيكون أمراً في محله. سأعمل على إنارة هذه الألاعيب ونصيب كل واحدة منها، خطوة خطوة. كان النظام الأهلي للمرأة الأم أولَ ضحية للمجتمع الهرمي. ربما تصدرت المرأة قائمة الشرائح المسحوقة في نظام المجتمع. وعدم تواجد تلك الحقبة المعاشة بشكل واسع النطاق فيما قبل التاريخ في العلوم الاجتماعية؛ إنما يتأتى من القيم المترسخة للمجتمع الذكوري المهيمن والمتجذر في الأغوار. يُعَد جَرُّ المرأة إلى المجتمع الهرمي خطوة خطوة، وافتقاده لكافة سماتها المجتمعية الراسخة، الثورةَ المضادة الأهم على الإطلاق، والمطبقة على المجتمع. حتى إذا تمعّنّا في حالة المرأة في عائلة كادحة فقيرة في راهننا، فلن نتمالك أنفسنا من الذهول إزاء أبعاد القمع والخداع المطبَّقين عليها. وما كون جنايات الشرف والعشق حِكْراً على الرجل، وبدوافع تافهة للغاية، سوى مؤشرات وميضة لما يجري حولنا. إن ربط تلك الحقبة بالفوارق البيولوجية سيكون من أهم الأخطاء المقترَفة. إذ لا يمكن أن تكون الأدوار (أو القوانين) البيولوجية سارية المفعول في العلاقات الاجتماعية. ولا يمكن دراسة تلك العلاقات، إلا بموجب العلاقات المتبادلة بين الخصائص الذكورية والأنثوية. وهذا ما ينطبق على كافة الأجناس والأنواع. لقد أُقحِمَت قوة المرأة الأم تحت الهيمنة والتسلط، بدوافع اجتماعية في أساسها. والقمع والأيديولوجيات المطب‍ّقة، إنما هي لهذا الغرض تماماً. أما تعليل ذلك بالغرائز الجنسية والبسيكولوجيا (علم النفس)، فهو تحريف وخيم. إن الرجل المعزِّز لقواه بممارسة الصيد، والمنظِّم مجموعته في أطرافه، أَدرَج نظام المرأة الأم الأهلي تحت مراقبته رويداً رويداً، بعد أن تنبه لقواه جيداً، وفرضها على من حوله. استمرت هذه المرحلة حتى تأسيس مراكز الدول الأولى. ونرى أروع توضيح لها في مدن الدول السومرية. تشرح اللُّقى واللوحات المدوَّنة هذه الحقيقة بلغة شعرية رائعة وملفتة للأنظار. فملحمة إينانا، إلهة مدينة أوروك، والبادئة في تأسيس مدينة الدولة السومرية؛ ملفتة للأنظار جداً. تتطرق هذه الملحمة، التي تصوِّر تلك الحقبة التي لا تزال فيها قوة المرأة والقوة الأبوية البطرياركية متكافئتين، إلى ذكريات تلك المرحلة المشحونة بالاحتدامات الضارية للغاية. حيث أن ذهاب إينانا، كإلهة لمدينة أوروك، إلى قصر "أنكي"، إله مدينة أريدو، واستحواذها هناك على الـ"ما"ءات التي يبلغ عددها (104)، والتي كانت تمتلكها فيما قبل، وحظْيُها بها بشتى الأساليب والوسائل، لتُهَرِّبها معها إلى أوروك ثانية؛ إنما يلعب دور المفتاح الأساس في تنوير هذه المرحلة وإيضاحها. المقصود هنا بالـ"ما"ءات هو الاكتشافات الحضارية الأساسية. تُصِرُّ إينانا على التذكير بأن هذه الاكتشافات تعود إلى المرأة "الإلهة الأم"، وأنه لا دور لأنكي، الإله الرجل، فيها بتاتاً. وأنه سرقها منها عنوة ومكراً. إن كل محاولات ومساعي إينانا تلك، تمثلت في استعادة قوة الإلهة الأم مجدداً. يمكننا التخمين بأن هذه الملاحم ذُكِرَت في أعوام 3000ق.م. وهي حقبة لا تزال قوة المرأة الأم في حالة توازن أثناءها. هذه الثقافة والقوة المنحسرة تدريجياً بعد هذا التاريخ، تتعرض لإجحاف كبير، لدرجةٍ وَجَدَت فيها المرأة ذاتها لاحقاً في بيوت الدعارة المسماة بـ"مصاقدين" في مدينة نيبور، مركز الحضارة في تلك الأوقات (مثل نيويورك اليوم). فبينما يؤسس الرهبان السومريون حَرَماً نسائياً لذاتهم في الزقورات من جهة، يقومون بتأسيس بيوت الدعارة لأجل الشعب أيضاً من الجهة الثانية. بذلك غدت الإلهة تيامات في ملحمة "أنوما أليش"، المدوَّنة في أعوام الألفين قبل الميلاد، مومساً فاجرة وقبيحة، وتمثِّل المرأة الواجب تمزيقها إرباً إرباً. إنه لفظ مريع، ولكنه يصوِّر الحكم الصادر بحقها والمطبق عليها. وفيما بعد، تُكمِل الصورةَ المرأةُ ذات الصوت البديع والشكل المزركش الجميل، والمحبوسة في القفص على يد نظام المجتمع البورجوازي والديانات التوحيدية. وقد أَحرَز إلحاق المرأة المقحَمة في حالة ثابتة عبر دعايات أيديولوجية متكاثفة، تقدماً هائلاً في النظم التاريخية والاجتماعية، لدرجة غدت عقلية المرأة بالذات تقول فيها بأن هذا قدرها، وتَعتَبِر تأدية مستلزماتها المطلوبة منها من دواعي ذاك القدر المحتوم. وأضحت تنظر إلى الديانات التوحيدية على أنها أمر الإله، في حين نرى أن الفلسفة اليونانية تشير إلى المرأة كمؤثر باعث على الضعف والوهن، وأنها مجرد كومة مادية محضة، وحقل يحرثه الرجل، وغيرها من المواقف المُحِطّة من شأنها. لا يمكن شرح أو إيضاح الدولة، ولا بنى المجتمع الطبقي الذي تستند إليه، بدون تحليل الحالة التي أُقحِمَت فيها المرأة مع بدء النظام الهرمي. ولنفس السبب لن نتخلص حينئذ من أهم المغالطات. فالمرأة ليست مجرد "جنسية"، بل هي "إنسان" مبتور من المجتمع الطبيعي، ليُحكَم عليه بأشد أنواع العبودية. تتطور كافة ضروب العبودية الأخرى ارتباطاً بعبودية المرأة. من هنا، فبدون تحليل عبودية المرأة، من المحال الفلاح في تحليل العبوديات الأخرى. وبدون تخطي عبودية المرأة، يستحيل تخطي العبوديات الأخرى. فحتى المجتمع الطبيعي قد شهد قوة المرأة كإلهة أم على مر آلاف من السنين. والقيمة المتسامية على الدوام، كانت الإلهة الأم. إذن، كيف قُمِعَت ثقافة مجتمعٍ، هو الأطول والأشمل؟ وكيف حُوِّلَت في راهننا إلى بلبل جميل وديع محبوس؟ قد يَهيم الرجال بهذا البلبل، ولكنه مجرد أسير. وبدون تخطي هذا الأسر الطويل العمر والغائر العمق، لا يمكن لأي نظام اجتماعي التكلم عن المساواة والحرية بتاتاً. فالحُكم القائل بأن مستوى حرية المرأة ومساواتها يُحدِّد مستوى المجتمع بهذا الصدد، إنما هو صائب. لم يُكتَب تاريخُ المرأة بشكل يُذكَر حتى الآن. ولم تُحدَّد مكانة المرأة الحقيقية في أي علم اجتماعي. فحتى الأكثر زعماً باحترامه للمرأة، يُحدِّد سلامة حُكمه هذا وسريان مفعوله ارتباطاً بمدى تحول المرأة إلى آلة لنزواته وأطماعه. وفي حاضرنا، لا يَعتَرف أي رجل بالمرأة كإنسان صديق له، اللهم فيما عدا بُعدها الجنسي. فالصداقة صحيحة فيما بين الرجال ذاتهم. أما ادعاء صداقة المرأة، فلا يعني سوى الفضيحة الجنسية المخزية في اليوم الثاني. لذا، يجب النظر إلى مسألة إيجاد أو خلق رجل متجاوز لمثل هذه المواقف، كإحدى أهم خطوات الحرية الأساسية. وسأعمل على تجذير تحليلي لهذا الموضوع تماشياً مع تقدمي فيه. يجب التحدث، وبأهمية بالغة، عن القمع والتبعية التي طبقها العجائز الخبيرون في المجتمع الهرمي على الشبان اليافعين. فهذا الموضوع المدرَج في العلوم الأدبية المسماة بـ"الجيرونتوقراطيا Jerontokrasi"*، إنما هو حقيقة واقعة. لكن، وكيفما تعزِّز الخبرةُ صاحبَها العجوز من جهة، فإنَّ كِبَر سنه يُضعِفه تدريجياً من الجهة الثانية. فرضت هذه الخاصيات على العجائز المسنين أن يُسخِّروا الشبان في خدمتهم. فقاموا بغسل أدمغتهم ليطوروا هذه الآلية، ويربطوا كل حركات الشبان بأنفسهم. تستمد البطرياركية قوة عظمى من هذه الظاهرة. فهم يستثمرون القوى الجسدية الغضة، ليحققوا من خلالها آمالهم وطموحاتهم. استمرت هذه التبعية المحيقة بالشبان حتى راهننا، مع تجذرها المتواصل. ليس من السهل هدم عُلوية وتفوق الأيديولوجيا والخبرة. يتأتى مصدر تطلع الشبيبة إلى الحرية من هذه الظاهرة التاريخية. إذ لا تُزَوَّد الشبيبة بالأقسام الحساسة والحرجة من المعلومات الاستراتيجية. والحال هكذا منذ عهد الحكماء المسنين القدامى، وحتى رجال العلم ومؤسساتهم في راهننا. بل ما يُمنَح إياها ليس سوى معلومات مخدِّرة ومؤمِّنة لسيرورة تبعيتها. وحتى إذا مُنِحَت المعلومات، فلا تُمنَح أدوات تطبيقها. فالتسويف والإمهال الدائم هو تكتيك إداري ثابت لا يتغير. هذا علاوة على أن الاستراتيجيات والتكتيكات وأنظمة القمع والاضطهاد والدعاية السياسية المطبقة على المرأة، سارية المفعول على الشبيبة أيضاً. تنبع رغبة الشبيبة وطموحها الدائم إلى الحرية من حالة القمع الاجتماعي الخاصة تلك، وليس من حدود عمرها الجسدي. أما مصطلحات "الثمِل، السكران، المراهق الغِرّ القليل التجربة"، فهي ألفاظ دعائية أساسية مبتَكَرة للحط من قدر الشبيبة. كما أن ربطها بالغرائز الجنسية على الفور، وجذبها إلى التمرد والعصيان، وإتْباعها بالدوغمائيات الحفظية والمتصلبة؛ يرتبط بعملية إعاقة تَوَجُّه طاقاتها الكامنة نحو النظام القائم، بغرض توطيده وتجذيره. من الصعب ضبط الشبيبة المتوجهة نحو الحرية. فهي تتصدر الشرائح التي تُبلى بها الأنظمة السائدة. ولأن هذا معروف يقيناً على مر التاريخ، فقد أُلحِقَت الشبيبة بممارسات وتطبيقات لا تخطر على البال أو الخاطر، لتكون الضحية فيها تحت قناع التدريب والتعليم. وقد لعب إسقاطها في هذه الحالة – بعد إسقاط المرأة – دور المفتاح في تفوق المجتمع الهرمي. لم يكن هباء أن يَعتَبِر النظام المسيطر على الشبيبة والمراقِب إياها، نفسَه بأنه الأقوى على الإطلاق. واستمرت نظم المجتمع الدولتي فيما بعد بتطبيق ممارسات مشابهة عليها. إذ أن شبيبةً غُسِلَ دماغها على هذه الشاكلة، يمكن تحفيزها للهرع إلى أي عمل كان، وجعلها تمتهن أي مهنة شاقة – بما فيها الحرب – وتَنجَرُّ وراء كافة الأعمال العصيبة، بل وتكون في المقدمة أيضاً. باختصار، إن علاقة المسنين مع الشبيبة بإتباع الأخيرة وربطها بهم حصيلة نقاط ضعف المسنين وقوتهم في آن معاً؛ لم تفقد من وتيرتها وكثافتها شيئاً – ولو بمثقال ذرّة – بمواصلة النظم المهيمنة إياها بأقوى الأشكال. عليّ التذكير ثانية بأن الشبيبة ليست حدثاً جسدياً، بل اجتماعي. طبقاً لما هي عليه المرأة التي تشكل ظاهرة اجتماعية، لا جسدية. وتتمثل المهمة الأولية لعلماء الاجتماع في الغوص في منابع هذه التحريفات المحيطة بهاتين الظاهرتين، وكشف النقاب عنها وفضحها. هذا ويجب تناول الأطفال أيضاً ضمن هذا الإطار. فمن يأسِر المرأة والشبيبة، يُعتَبَر مُدرِجاً الأطفالَ أيضاً في نطاق نظامه كما يشاء، وإن بشكل ملتوٍ. يحظى تسليط الضوء على الجوانب الانحرافية المفرطة لتقربات المجتمع الهرمي والدولتي إزاء الأطفال بأهمية قصوى. فالعجز عن تدريب الأطفال وتنشئتهم على نحو صحيح وسليم، بسبب تربية الأم، يجعل سياقهم الاجتماعي اللاحق برمته منحرفاً، وضرباً من الكذب والخداع. ويتأسس نظام تعليمي معني بالأطفال، مرتكز إلى القمع والمخادعات الأعظمية. وتُبذَل المحاولات من قِبَل النظام السائد لتطبيق التبعية عليهم بشتى الأساليب المتنوعة، منذ المهد. المقولة التي مفادها "ما تكون عليه في السابعة، هو أنت في سن السبعين"، إنما تشيد بهذه الحقيقة. إذ يُترَك التقرب الحر للمجتمع الطبيعي كمجرد خيال ووهم لدى الأطفال، بحيث لا يُؤذَن لهم إطلاقاً بإحياء خيالاتهم تلك. إن تنشئة الأطفال وفقاً للخيالات الطبيعية من أسمى المهام وأنبلها. ننوه مرة أخرى للضرورة: لا يمكن رؤية اكتساب العلاقة البطرياركية للقوة بعين الضرورة الحتمية. علاوة على أنها ليست انطلاقة شفافة، وكأنها من دواعي القانون. بل تستلزم هذه العلاقة التركيز عليها بدقة وعناية، باعتبارها تشكل المرحلة الأساسية على الدرب المؤدية إلى التمايز الطبقي والتدوُّل. إن كون العلاقات الملتفة حول المرأة الأم على شكل تعاضد منسق ومنظم، أكثر مما تكون علاقة قوة وسلطة؛ إنما يتطابق مع جوهر المجتمع الطبقي، ويتواءم وإياه. وهي لا تشكل انحرافاً، كما أنها منغلقة إزاء سلطة الدولة. وانطلاقاً من تكوينتها التنسيقية التنظيمية، فهي لا ترى حاجة للجوء إلى العنف أو الرياء. توضح هذه النقطة أيضاً أسباب كون الشامانية ديناً ذكورياً. وإذا ما تفحصنا الشامانية عن كثب، سندرك أنها مهنة يغلب عليها إظهار القوة والتضليل. حيث تُجهَّز القوة والميثولوجيا بدقة حاذقة، بغرض السلطة التي سيتم بسطها بمكر ودهاء على شفافية المجتمع الطبيعي. ويغدو الشامان امرؤً يتجه ليكون راهباً ورجل دين. وتتجه العلاقات مع الأسلاف المسنين إلى تكوين التحالف معهم. ذلك أنها بحاجة ماسة لرجال الصيد الأشداء في سبيل بسط الهيمنة التامة. وتكون المجموعة الأكثر ثقة واعتداداً بقوتها وكفاءاتها هي القابلة للتحول إلى النواة العسكرية الأولى. وتتراكم القيم والمهارات تدريجياً في يد هذا الثلاثي. وتُفرَّغ أطرافُ المرأة الأم رويداً رويداً، بكل مكر ودهاء. ويدخل النظام الأهلي دائرة الرقابة بالتدريج. فبينما كانت المرأة تمثل القوة المؤثرة على الرجل، وصاحبة القول الفصل؛ تندرج بعدئذ – وبالتدريج – تحت نفوذ السلطة الجديدة. ليس مصادفة أن تُبسَط أول سلطة قوية على المرأة بالذات. فالمرأة قوة المجتمع التنسيقي، والناطقة باسمه. وبدون تجاوزها، سيكون محالاً على البطرياركية إحراز النصر. بل وأبعد من ذلك، لن تنتقل إلى مؤسسة الدولة. لذا، فتخطي قوة المرأة الأم يحظى بأهمية استراتيجية. وبموجب المعطيات والمعلومات التي بين أيدينا، ندرك أن تلك المرحلة شهدت مشقات عصيبة للغاية، تماماً مثلما شوهد في الدلالات والبيِّنات السومرية. ما ينعكس على الديانات التوحيدية هو أن عامل المرأة الممثَّلة في "ليليت – حواء" يصوِّر سمات تلك المرحلة بأكثر الأشكال لفتاً للنظر. فبينما تكون "ليليت" المرأة الأبية التي لا تخنع، تصوِّر "حواء" المرأة المستسلمة. ووصل الأمر مرتبة غدت فيها مزاعم خلق المرأة من ضلع الرجل معياراً تقاس به تبعيتها. ومن جانب آخر، فإغداق المرأة بالكثير من اللعنات والافتراءات (ممثَّلة في ليليت)، ونعتها بالجنّيّة الشريرة والمومس، وبرفيقة الشيطان وغيرها مما شابه من الشتائم والمسبات الكبرى الموجودة؛ كل ذلك برهان قاطع على وجود احتدامات ومنازعات ضارية آنذاك، ومؤشر على تلك الثقافة والأفكار والعقائد التي سادت آلافاً من السنين. لا يمكننا استيعاب السمات الأولية لثقافة المجتمع الذكوري المهيمن اللاحق لتلك المرحلة، أو تفهمها على نحو صحيح، ما لم نحلل الانقلاب الاجتماعي الحاصل إزاء المرأة. وحينها يستحيل حتى التفكير بكيفية حصول التكون الذكوري الاجتماعي أيضاً. وبدون إدراك التكون الاجتماعي للرجل، من المحال تحليل مؤسسة الدولة، أو صياغة تعريف سليم لثقافة "الحرب" و"السلطة" ارتباطاً بالدولة. إن الدافع وراء تركيزنا المكثف على هذا الموضوع هو تسليط الضوء على حقيقة الشخصيات الربانية (الإلهية) الفظيعة، وعلى كل حدودها واستعماراتها ومذابحها المرتكبة؛ والتي لم تكن سوى حصيلة لكافة التمايزات الطبقية الظاهرة بعد تلك المرحلة. فإذا ما نظرنا إلى لعنة الإنسانية (السلطة السياسية، الدولة) بعين براديغمائيتها المقدسة، ستتحقق حينها أقذر ثورة مضادة للعقلية الإنسانية. وهذا ما حصل فعلاً. أما تسمية ذلك بالمؤثر الضروري لأجل التقدم، فتُعَد أخطر الثورات المضادة، بما فيها الماركسية أيضاً. لذا، إنْ لم نمرِّر التاريخ من مصفاة النقد بشكل أكيد، ولم نصحح مساره من هذه الزاوية؛ فإن أية ثورة ستقوم، لن تنجو من التحول إلى ثورة مضادة، وخلال فترة وجيزة. مع انهيار عالم المجتمع الطبيعي للمرأة أولاً، ومن ثم الشبيبة والأطفال، وتأسيس الهرمية المعتمدة على القوة والخداع (الميثولوجيا)، وتسليطها عليهم؛ يتحول ذلك إلى شكل مهيمن للمجتمع الجديد. في حين يتزامن ذلك مع تصاعد ثورة مضادة جذرية أخرى، حيث تبدأ مرحلة التضاد مع الطبيعة، والتوجه نحو تدميرها وتخريبها. إن الاعتقاد باستحالة العيش والتطور من دون وجود أنموذج القتال وممارسة الصيد، ليس بفرضية ذات أصل. فالحيوانات غير المتغذية على اللحوم أكثر عدداً بآلاف الأضعاف من تلك التي تقتات على اللحوم. أي أن عدد الحيوانات آكلة اللحوم قليل جداً. وإذا ما تمعنا في أغوار الطبيعة، سنجد أن غطاء وفيراً من الأعشاب والنباتات تَكَوَّن أولاً لتلبية احتياجات الحياة الحيوانية. والتطور الحيواني هو محصلة للتطور النباتي. هكذا هي العلاقة الجدلية. ذلك أنه ما من وجود لحيوان يأكله الحيوان الأول الظاهر. فهو يقتات على الأعشاب. إذن، يتوجب النظر إلى التغذية على اللحم بعين الانحراف. فلو أكلت كل الحيوانات بعضها بعضاً، لما تكوَّن نوع حي منها. إنه تطور مناقض ومنافٍ لقوانين التطور الطبيعي. تظهر الانحرافات من الميول الأساسية المتواجدة في الطبيعة في كل الأزمان، ولكن إذا ما عملنا على اعتبارها أساساً، وأسقطناها على نوع ما في الطبيعة، فسينقرض ذاك النوع وينضب. والتعبير الأكثر إشادة بهذه الظاهرة – بشرط ألا يكون اجتماعياً – هو الحالة المعاشة في الذين يتميزون بجنسية ثنائية (أخنث). فإن أضحى جميع الناس أخناثاً، أي ذوي جنسية ثنائية (وهذا ما يعني ممارستهم علاقة اللواط)؛ فسينضب نسل الإنسان تلقائياً. إن هذا التعليل المقتضب كفيل بما فيه الكفاية للإشارة إلى التشوه والضلال الناجم عن التطور الاجتماعي المرتكز إلى ممارسة الصيد والقتال. لثقافة القتل نتائج معنوية أشد وطأة مما هي عليه من الناحية المادية. فالجماعة التي تحوِّل قتل الحيوانات وأبناء جنسها إلى طراز في حياتها – عدا الدفاع الاضطراري عن الذات – ستقوم بتأسيس كل أنواع الأنظمة الآلاتية أو المؤسساتية في سبيل تطوير آليات الحرب. ولدى إعداد الدولة كقوة أساسية، ستُختَرَع سهام الحرب، ورماحها وفؤوسها، وستُطوَّر على أنها أثمن الأدوات والوسائل. إن تطور المجتمع الأبوي من أحشاء المجتمع الأمومي الطبيعي، وتناميه كأخطر انحراف في التاريخ، إنما يعبر عن مضمون أشكال القتل والاستعمار الفظيعة الممارسة على مر التاريخ وحتى راهننا. هذا التطور، دعك من أن يكون قدراً محتوماً أو شرطاً ضرورياً لأجل التقدم، بل هو انحراف وضلال، بكل ما للكلمة من معنى. إنه أشبه بمَلَكية الأُسُود. كما يشبه الجدلية القائمة بين الأفعى والفأر. إنَّ نعت نظريات الدولة – منذ هذه اللحظة – بنظرية "الأفعى – الفأر" سيكون تفسيراً أدنى إلى الصواب. فأغلب الرجال تكون كنيتهم "الأسد"، حيث ثمة تَحَسُّر وتَوق كبير لأن يكونوا كذلك. ولكني أتساءل: "كي يفترسوا من؟". إلى جانب ندرة المعلومات لدي، إلا إنني علمتُ في الآونة الأخيرة أن الفيلم الأخير لمسلسل "سيد الخواتم – عودة المَلِك" قد حاز على إحدى عشرة جائزة أوسكار. يتلخص مضمون الفيلم في إضاعة الخاتم، رمز السلطة. إنه تَصَوُّر (افتراض) منتَظَر من أمريكا. ولربما يمثل ذلك فترة تمهيدية لاتخاذ التدابير اللازمة وغسل الأدمغة، لتطبيق الكثير الكثير من الممارسات العالمية عليها، بعد أن سقط القناع عن السلطة. إنها مرحلة تكوين البراديغمائيات الجديدة، ويبدو أنها – أمريكا – تستعد لذلك. إنهم أناس متعقلون، إذ يدركون يقيناً أنه ما من قوة ستبقى على حالها، في حال ظهور الوجه الحقيقي والخفي للسلطة الكلاسيكية. فالقوى المهيمنة والمشرفة على كافة العالم، تَعتَبِر تأدية مستلزمات ألوهيتها وتطويرها بكل دقة ودون أي قصور؛ من أهم وظائفها الأولية. فكل شيء يحدث بعلم منها. ألا يقولون في القرآن بقُرب الإله من مخلوقاته بقدر قُرب شَعرهم منهم! يمثل التنظيم العسكري الذروة التي تبلغها ثقافة الصيد والحرب. ويتطور هذا التنظيم كلما تبعثر المجتمع الطبيعي والإثني. وبينما يُطوِّر التنظيم الملتف حول المرأة الأم علاقات النَّسَب والجِينات والقرابة، يتخذ التنظيم العسكري من الرجال الأشداء المنقطعين عن هذه العلاقات أساساً له. وغدا يقيناً أنه ما من شكل للمجتمع الطبيعي يمكنه الوقوف في وجه هذه القوة، حيث تدخَّل العنف الاجتماعي – يمكن تسميته أيضاً بالعلاقة المدنية – في العلاقات الاجتماعية. والقوة المعيِّنة هي أصحاب العنف. هكذا تُفتَح الطريق أمام المُلكية الخاصة أيضاً. يمكن الاستيعاب أن العنف يتخفى في أساس المُلكية. والاستيلاء بالعنف وسفك الدماء، يعزِّز عاطفة الـ"أنا" بشكل مفرط. إذ لا يمكن تطوير وسائل العنف وتطبيقها، دون وجود التحكم والهيمنة على العلاقات. أما الهيمنة والتحكم، فمنوطان بدورهما بالتملُّك. وهي علاقة جدلية. والتملك هو لُبُّ كل الأنظمة المُلكية. شُرِعَت الأبواب أمام مرحلة يُنظَر فيها بعين المُلك للجماعات والمرأة والأطفال والشبيبة، ولمناطق الزراعة والصيد المعطاءة أيضاً. ويقوم الرجل القوي بانطلاقته الأولى بكل هيبته وجبروته. بقي القليل على تحوله إلى الإله المَلك. وما برح الشامانيون الرهبان يشرفون على الشؤون لتكوين ميثولوجيا العهد الجديد. وما يلزم عمله هو، ترسيخ هذا التكوين الجديد في عقل الإنسان المستحكَم على أنه تطور عظيم ومهيب. فحرب إضفاء المشروعية عليه، تستلزم تفنُّناً ومهارة في الجهود، بقدر تطلبها العنف الفظ بأقل تقدير. يجب توطيد عقيدة في عقل الإنسان، وكأنها القانون المطلق. كل المعطيات السوسيولوجية تشير إلى أنه تم بلوغ مصطلح "الإله الحاكم" في هذه المرحلة. لم يكن ثمة علاقة تحكم في العقيدة "الطوطمية" المرافقة للمجتمع الطبيعي. فهي علاقة مقدسة ومسَلَّم بها كرمز للكلان. وكيفما تكون حياة الكلان، هكذا يُصوَّر اصطلاحها الرمزي. لا يمكن التفكير بإمكانية العيش دون الامتثال الصارم لحياة وضوابط التنظيم الكلاني. وبالتالي سيُعتَبَر الطوطم مقدساً ومحصَّناً، باعتباره التصوير الأسمى والأرقى لوجود الكلان، ويجب احترامه وتبجيله. أما المادة التي يتكون منها، فيتم اختيارها من أكثر أنواع الحيوانات أو النباتات أو الأشياء نفعاً. فأي مادة في الطبيعة تزوِّد الكلان بالحياة وتؤمِّنها له، سيُعتَقَد بها، وستُعتبَر رمزاً (طوطماً) لذاك الكلان. وهكذا فديانة المجتمع الطبيعي في تكامل واتحاد مع الطبيعة. وهي ليست مصدر خوف أو ورع، بل عامل تعزيز وتوطيد، تُكسِب المرءَ الشخصية وتمده بالقوة. في حين أن الإله المُعلى من شأنه في المجتمع القديم تخَطَّى الطوطم وموَّهه. فقد بُحِث له عن مكان يقطنه في ذرى الجبال، وقيعان البحار، وفي كبد السماء. وبدأ الحديث عن القوة الحاكمة. كم يشبه ذلك طبقة الأسياد المتولدة حديثاً! فأحد أسماء الإله في كتاب "العهد القديم" – وبالتالي في الإنجيل والقرآن – هو "الرب"، أي السيد. أي أن الطبقة الجديدة تنشأ وهي تؤلِّه ذاتها. ومن الأسماء الشهيرة الأخرى "أل، ألوهيم"، ويعني "العلو". وهو يُبَشِّر بالسَّلَف (أو بالشيخ) المتسامي على قبائل الصحراء. تتسم ولادة البطرياركية (نظام السلطة الأبوية) وولادة الإله الجديد بتداخل مثير للغاية، في كافة الكتب المقدسة. هكذا هي الحال في "إلياذة" هوميروس، وفي "رامايانا" الهند، وفي "كالاوالا" الفينليين. وبدون تأمين مشروعية المجتمع الجديد وتوطيدها في العقول، من الصعب له أن يجد فرصته في الحياة. ذلك أنه من المحال إدارة أية وحدة في المجتمع الموجَّه، ما لم يتم إقناعها بالمطلوب. فتأثير العنف في شؤون الإدارة لحظي، ولا يؤمِّن القناعة الراسخة. ومثال السومريين في التاريخ مثير حقاً، ويستحق التمحيص والتدقيق، لتضمنه ذلك كأول أصل مدوَّن في حوزتنا. فخلْق الإله لدى السومريين خارق للغاية. نخص بالذكر هنا انهيار الإلهة الأم، ونفوذ الإله الأب محلها، حيث يشكل صُلْب كافة الملاحم السومرية. فالصراعات المضطرمة بين إينانا وأنكي، بين ماردوخ وتيامات، تحتل مكانها في ملاحمهم، من البداية وحتى النهاية. والإمعان السوسيولوجي في هذه الملاحم، التي انعكست على جميع الملاحم والكتب المقدسة اللاحقة؛ يزودنا بمعلومات عظمى. ليس هباء أن يتم البدء بالتاريخ من السومريين. فتحليل الأديان، الملاحم الأدبية، القانون، الديمقراطية، والدولة اعتماداً على لوحات ولُقى السومريين المدوَّنة؛ قد يكون أحد الدروب الأقرب إلى الصواب، والمحفِّزة على إحداث الانطلاقة اللازمة لعلم الاجتماع. ربما تُعَد هذه الثورة المضادة، التي أقامتها العقلية الأبوية السلطوية، أكبر تحريف وتضليل شهده التاريخ. فقد أوغل الإنسانُ جذوره في عقلية المجتمع لدرجة لا نفتأ اليوم عاجزين حتى عن التفكير بتخطي تأثيراتها. الرهبان السومريون لا يزالون يحكموننا. فمؤسسات الدولة التي أوجدوها، والآلهة التي صوَّروها وكوَّنوها كتعابير مشروعة، لا تنفك تحكمنا اليوم بهيبة لا يسعنا فتح عيوننا أمامها. وتتحكم بوجهات نظرنا وبراديغمائياتنا الأساسية كلها. وكأن مقولة "آلبرت آينشتاين": "إن قوة التقاليد والعادات تضاهي ما يلزم لتفكيك الذرّة" قيلت بشأن هذه العلاقات على الأرجح. أفلا تستمر أضرس أشكال الحروب والاستعمار، بما لا تعرف السكون ولا الهوادة، وبما لا يتطابق وأي معيار إنساني، منذ ذاك الوقت وحتى الآن، في العراق، بلاد ما بين الرافدين دجلة والفرات، مهد الدولة وموطن الزقورات، وقصور الرهبان السومريين المقدسين! أَوَليست تلك المقولة تشيد بذلك؟ إذن، دعك من أن يكون المجتمع الأبوي السلطوي وتدوُّله لخير البشرية وصالحها، إنه أكبر بلاء مسلَّط عليها. فهذه الوسيلة الجديدة ستدمر ما حولها كي تكبر وتتضخم، كالكرة الثلجية حيناً، وكالكرة النارية أحايين أخر؛ لتحوِّل كوكبنا الأقدس على الإطلاق إلى حالة لا يطاق المكوث فيه. يشبِّه كتاب "العهد القديم" ظهور الدولة بظهور "اللوياثان"* من أعماق البحر. وهذا ما مؤداه أن الكتاب المقدس قد ثبَّت أعظم حقيقة، في جانب من جوانبه. ويتم التطرق فيه على الدوام إلى المخاوف الكبرى للتغلب على "اللوياثان"، فيقول: إذا لم نتحكم به ونكبح جماحه، فسوف "يفترس الجميع!". يمكننا رؤية الدعائم والمقومات الجغرافية والتاريخية لهذه الثقافة الاجتماعية – التي حاولتُ إبرازها بشكل شمائي – بأفضل صورها، على حواف سلسلة جبال زاغروس وطوروس، وفي السهول الممتدة منها. حيث نصادف فيها، وبكثافة، الآثار والبقايا القوية للمجتمع المتمحور حول المرأة الأم، والذي بدأ بالنمو والتطور اعتباراً من أعوام 20000ق.م، وهو تاريخ نهاية العصر الجليدي الأخير. ونجد في كل الهياكل والمنحوتات، والنظام الأهلي، وآلات الحياكة والنسيج، والرحى اليدوية البارزة أمامنا، آثارَ المرأة واضحة المعالم تماماً. فالبنية اللغوية فيها أنثوية. والأرباب الأوائل كانوا إلهات إناث تتحلى بآثار قوية للمجتمع الطبيعي المعتمد على الأم. يلاحَظ أن السلطة البطرياركية (السلطة الأبوية الحاكمة) قد سارعت من تقدمها في الألف الرابع قبل الميلاد (4000ق.م). حيث اكتسبت الحاشية العسكرية قوتها في المجتمع، ورافقها ظهور الصراعات القبلية المتعاقبة والمحتدمة. كما نلاحظ آثار ممارسات الإبادة والإخناع والتذليل أيضاً. ومواصلة العشائر في وجودها حتى الآن، إنما يشهد لنا بمدى الضراوة التي شهدتها تلك الحقبة. وقد انتشرت السلطة الأبوية هناك لتتمخض عن ظهور التمايز الطبقي والتدوُّل. شهدت أعوام الألف الثالث قبل الميلاد (3000ق.م) ولادة أول مدينة للدولة، حيث أن أشهر أمثلتها هي مدينة أوروك. وما ملحمة كلكامش في مضمونها سوى ملحمة تأسيس مدينة أوروك. يمكن القول بأن أعظم ثورة شهدها التاريخ حصلت ضمن نطاق ثقافة هذه المدينة. فالتصورات المشيرة إلى صراع إينانا وأنكي، إنما تعكس لنا الصراع القائم بين مجتمع المرأة الأم والمجتمع الأبوي الذكوري، بلغة شعرية بارعة حقاً. وملحمة كلكامش تتطرق إلى أول وأروع نموذج أصلي لوحظ في كل مجتمع آنذاك، في عصر البطولة والأبطال. كما نلاحظ فيها أيضاً الصراعات الأولى القائمة بين المدنيين والبرابرة الوحشيين. والمرأة لا تزال فيها بعيدة عن الهزيمة والفشل. لكن الرجل القوي ما برح يُعَوِّد المجتمع ويُمَرِّنُه على سلطته خطوة خطوة، عبر حاشيته العسكرية. إنه يتجه نحو إشراقة المجتمع الحضاري وبزوغ فجره، عبر تصوراته الأيديولوجية ومؤسساته الدينية وقصوره الفخمة وسلالاته الأولى.       ج – المجتمع الدولتي وتكوُّن المجتمع العبودي     يشكل المجتمع الهرمي الحلقة الوسطى بين المجتمع الطبيعي والمجتمع الدولتي المرتكز إلى الطبقات. وتُعتَبَر الماهية الشخصية للسلطة، وانحصار الحاشية العسكرية بالأشخاص، السمة المثلى لهذه المرحلة. في حين يعبِّر تمأسس السلطة عن التحول النوعي. فالدولة في أساسها سلطة متميزة بالسيرورة عبر تمأسسها. وبينما تُعتبر مؤسسة الدولة الأداة الأخطر – ربما – في التاريخ، فهي لا تزال تصون خاصيتها كظاهرة لم تُستَوعَب إلا قليلاً. وتلعب الثقافة التي تتضمنها، وتنوع المنافع التي تفيها، الدورَ الرئيسي في ذلك. فكل شيء مكتوب أو مُقال عنها، إنما يزيد من لغزها غموضاً، ويساهم في استعصاء فهمها أكثر. وبقدر ما تُعتَبر رؤية الدولة بأنها مجرد أداة عنف رؤية خاطئة، وتتضمن المغالطة؛ فإن النظر إليها كسلطة مقدسة، واصطلاحها على هذا النحو، يفيد بنفس القدر في مواراة ما يجري فيها حقاً. تشكِّل التحليلات المرتبطة بالدولة الموضوع الأولي الذي لم يفلح علم الاجتماع في النوء عن عبئه حتى اللحظة. ولكن، لا يمكن القيام بأي تحليل لأي ظاهرة أو معضلة اجتماعية، ما لم نبلغ التحليل الشمولي للدولة. في هذا التحليل الذي سأعرضه، سأبيِّن فيه قناعتي المتمثلة في أنه، حتى ثوري بارز مثل لينين، يكمن خطأه الأولي في كيفية تحليله الدولة. إن ما سأطرحه هنا محدود جداً للقيام بتعريف كافٍ ووافٍ لظاهرة الدولة. يجب إغناؤه أكثر. نحن مضطرون لأخذ المثال السومري نصب العين دائماً، باعتباره المثال الأصل الذي وصلت وثائقه المدوَّنة إلينا. ولدى تعريفنا لمؤسسة الدولة وفكرها، علينا تجنب المفاهيم التي تشير إلى تأسيس دولة ما وانهيار أخرى، وحلول دولة محل أخرى. بالإضافة إلى أن الحديث عن الأشكال المختلفة للغاية منها، أو عن العديد العديد من الدول بالنظر إلى المسافات الكائنة بين الجماعات التي ظهرت فيها، إنما يحمل مهالك خطيرة بين طياته. بالمقابل، قد يكون من الأنجع اصطلاح الدولة على أنها مجتمع ضمن المجتمع، أو مجتمع ثانٍ داخل المجتمع الأول. وبتعبير آخر، هي مجتمع فوقي للمجتمع السفلي. قد يكون السلوك الناجع الثاني متجسداً في تناول الدولة – اصطلاحاً ومؤسسة – كظاهرة متميزة بالسيرورة، ومعانية للتشتت والتفكك بينما هي على رأس المجتمع السفلي. السلوك المتمم الآخر، والأكثر واقعية، هو اعتبار الدولة أساساً سلطة عسكرية وسياسية بالذات، وليست أية سلطة أخرى. إن تعاريف رجال الدين والفلاسفة والعلماء – على اختلافهم – للدولة، بعيدة كل البعد عن الموضوعية، لارتباطها بطراز منافعهم ووجهات نظرهم المصلحية. علاوة على أنهم ينشغلون دائماً بجانب منها دون الآخر. ولدى تضررهم منها، يقعون في ذاتية ثقيلة – كإغداق الشتائم واللعنات عليها – تاركين الواقعية الظاهراتية جانباً. أما سلوك الثوريين، فمنفتح حتى الأخير أمام مفهوم منفعي – أخلاقياً – كإظهارها بأسوأ الأشكال لدى هدمها، وبأمثل الأشكال وأفضلها لدى تأسيسهم إياها. إن ظاهرة الدولة أداة اجتماعية، لا مؤسِّس مسؤول عنها بالتحديد، ولا فيلسوف لها. هذا من جهة، ومن الجهة الثانية فهي تُبدي خصائصها الأولية في كونها تصيب كل من يحاول امتلاكها وينجرّ وراء جاذبية سلطتها التي لا تقاوَم، بالدوار والثمالة، لتحمله بعدها، إما إلى مرتبة الألوهية، أو إلى الإبادة والزوال. التسميات المطلقة على الدولة بشكل شائع لدى تعريفها، من قبيل الدولة المَلَكية، الجمهورية، الديمقراطية، المونارشية، الأوليغارشية، الديكتاتورية، الاستبدادية، العبودية، الإقطاعية، الرأسمالية، القومية، المركزية الأحادية، الفيدرالية وغيرها؛ إنما تعقد المسألة أكثر، وتصعِّب مهمة فهم مضمونها. ما قام به الرهبان السومريون لدى توجههم نحو بناء تمأسس أشبه بالدولة، يزوِّدنا بمعلومات، ربما تكون الأكثر واقعية من أجل فهم الدولة. حيث قاموا أولاً بتشييد معابدهم المسماة بالزقورات، وسمَوا بشأنها إلى السماء، وقاموا بإعداد العبيد في الطبقة السفلى لتسخيرهم في خدمة الإله في الطبقة العليا. وتركوا المساحات الوسطى مفتوحة أمام ممثلي الطبقة الوسطى. والبيوت والأراضي المحيطة بالمعبد، لم تكن سوى ملحقاً به. كانوا يُودِعون تكنولوجيا الإنتاج في قسم من المعبد، ويقومون بحسابات الإنتاج المثمر بكل دقة وعناية. جلي أن هذا التكوين هو مجتمع جديد. بل وحتى إنه كاختصار لعناصر المجتمعين الهرمي والطبيعي السابقَين له. حيث يأخذون من هذين المجتمعين ومن المجتمع الجديد ما يمكن أن يفيدهم في تأسيسه، ويهمِّشون ما هو ضارٌّ أو معيق لهم من الأجزاء. إنهم ناشطون وكأنهم يبنون مجتمعاً مقدساً. وبعد تكوين الوسيلة والأداة، يكون الجميع سعداء وممنونين في البداية، وكأنهم في عيد. لقد صُنِعَت عجلة ضخمة، وكأنهم بتدويرها في مياه دجلة والفرات يخلقون، ولأول مرة، أوفر النتاجات والمحاصيل في التاريخ. وهل ثمة عيد أفخم من هذا لأجل الإنسانية؟ وإذا لم يكن هذا الإجراء هو القدسية العظمى، فما هو إذن؟ ما من شك في أن هذا الكيان يقتات أساساً على المجتمع الطبيعي النيوليتي، الكيان الرائع على حواف سلسلة جبال طوروس وزاغروس. فأدوات الإنتاج، الأعشاب، النباتات، وأنواع الحيوانات المختلفة، قد تحولت إلى ثقافة بحد ذاتها امتدت آلافاً من السنين على يد مجتمع المرأة الأم. وتكمن مهارة الراهب في إعادة ترتيبه لتلك العناصر على نحو يخوِّله لبناء مجتمع علوي، وذلك بنجاحه في إيجاد نمط إنتاجي جديد في الحوض السفلي لما بين نهري دجلة والفرات، عبر تقنيات الري. هكذا هو مضمون الاكتشاف المذهل في التاريخ. أما المراحل اللاحقة، فلم تقم سوى بإضافة طوابق جديدة إلى البناء الموجود، أو تكرار هذا البناء، ولكن بأسس جديدة. مكان هذا المجتمع العلوي هو المدينة. ومثلما هي الحال بالنسبة للعقلية الإنسانية، فقد أحدث هذا المكان – المسمى أيضاً بالمجتمع المديني أو المدني أو الحضاري – تغييرات ثورية عظمى مماثلة في البنية المادية للإنتاج. أو بالأحرى، إنه شكَّل ركيزة ثورة مضادة كبرى تجاه المجتمع الطبيعي. ما برحَت عقلية المدينة والدولة بعيدة عن التحليل. لقد طوَّرت نظام العقل، الكتابة، والعديد من الحِرَف والصناعات، ولكن بأي ثمن؟ لا تزال ضرورة التفكير الشمولي الجاد على الحُكم: "هل هي ثورة المدينة أم ثورة مضادة؟" تحافظ على أهميتها. يجب ألا نتناسى أن العديد من الانطلاقات البارزة في التاريخ، وفي مقدمتها الأديان التوحيدية الكبرى، صُعِّدت لمناهضة هذه التكوينة. إن المِكبَس الذي أَقحَمَت فيه الإنسان أشبه بجهنم، لا الجنة. بل والأصح أنها جلبت له حياة تندر فيها الجنة، وتكسحها جهنم. والأمثلة المستمرة حتى راهننا ذات ماهية إيضاحية كافية. يتكون مجتمع المدينة الدولة بمضمون يدعو إلى الحاكمية والمُلكية والقمع، من جميع النواحي. لذا، لم يكن سهلاً تعويد إنسان المجتمع الطبيعي على هذا النظام وأقلمته به. ويتمثل الشرطان الأوليان اللذان لا غنى لهذا النظام عنهما في: التحكم بعقلية أناس المدينة برمتهم بوساطة الآلهة المرعبة من جانب، وعرض المرأة كأداة مثيرة ومغرية (أو فحوش) من جانب آخر. فالإقناع بالعبودية وهضمها غير ممكن، سوى بهاتين المؤسستين الجذريتين، إلى جانب المراقبة اليومية بالطبع. وكلا المؤسستين تتسمان بالمزايا المخدِّرة كلياً، كالأفيون. تم تجذير البنية العقلية والبنية الإنتاجية، المتكونتين في أطراف هذا النموذج الأصلي لمجتمع المدينة الدولة، وتوطيدهما لاحقاً في كافة المناطق. أي أنهما لم تتولّدا وتزولا في سومر. إنهما البنية والعقلية البالغتان راهننا على شكل حلقات متسلسلة. فالأمثلة المشهودة في المدن المصرية والحثية واليونانية ليست سوى نُسَخاً معدَّلة قليلاً عن الأصل. تبرهن الوثائق التاريخية مع الأيام أن هذه البنى الثلاثية اتخذت من الأصل السومري أساساً لها، كحلقة أولى. أما الحلقات المضافة إليها، ألا وهي الصين والهند وروما، فبلغت بها إلى المرتبة العالمية. وكون أن غرضنا هنا ليس تدوين التاريخ، فلن ندخل في تفاصيل هذه المراحل. لكن ما أردنا برهنته هو وحدوية الدولة وسيرورتها. فالوحدوية، بمعنى الوجود، والسيرورة من الناحية الزمنية، بارزتان جداً في الدولة. أما القول بأن النماذج المتكررة والمستَنسَخة هي دول مختلفة عن بعضها، فلن يفيد في التحليل والحل كثيراً. فتحليل ذات المضمون مراراً وتكراراً لا يطوِّر في المعنى شيئاً، بل يكرره فقط. إذا ما أمعنا النظر في المثال السومري عن كثب، فسنرى وجود آليتَين متداخلتين في مجتمع الدولة، منذ بداياته. الأولى هي الدولة كأداة قمع وسلطة، والثانية هي الدولة كنظام إنتاج عام (عمومي) يغذي كل المدينة. وستَشْغِل هذه الماهية الثنائية الناسَ دائماً كتناقض أساسي للدولة. لا بدونها يكون الوجود ممكناً، ولا معها. فهي المؤسسة التي يستعصي تحملها كأداة قمع وتسلط، ولكنها الوسيلة التي لا غنى عنها كأداة إنتاج وأمن عام. وهنا تكمن المشكلة الأولية منذ البدايات: هل يتطلب الإنتاجُ والأمن العام (من أجل مصلحة المجتمع المشتركة) وجودَ القمع والسلطة، أم لا؟ ألا يمكن تأمين الإنتاج والأمن المشترك للمجتمع بدون الدولة؟ إذا كان ذلك ممكناً، فلا داعي إذن للدولة كجهاز عنف. وهنا يكمن مربض الفرس. لقد جُعِلت الدولة كمؤسسة تحولت إلى وسيلة المنفعة الكبرى بِذَرِّها مقداراً من المنوِّمات داخل الطعام الشهي. والراهب يسعى لتمهيد السبيل لبروز شريحة استعمارية طفيلية، بمواراته تفاصيل نظام الدولة تلك. حتى رجل مثل "باكونين"، المنظِّر الفوضوي الذي يرى في الدولة "السوء" المطلق؛ قال: "إنه سوء ضروري واضطراري". وقيَّمتها الماركسية أيضاً بأنها مرحلة ضرورية. بيد أنني سأبدي في التحليل التالي أن الدولة ليست بأداة تقدم اضطرارية (لا بد منها) ولا سوء اضطراري. بل هي منذ بداياتها أداة بلاء، لا ضرورة لها، وليست اضطرارية إطلاقاً. لكنها تحولت مع الزمن إلى عصابة من قطاع الطرق النهابين، بكل معنى الكلمة. سيكون التعريف الأصح للدولة بجانبها هذا، بأنها ورم اجتماعي خبيث يجب استئصاله منذ اليوم الأول لظهوره، وعزله وفضحه. أما بجانبها الآخر كأداة إنتاج وأمن مشترك لأجل المجتمع، فسيكون من الأنسب والأكثر واقعية تسمية هذا النمط من الكيان الاجتماعي بـ"الديمقراطية". من الممكن النظر إلى الهرمية المفيدة في المجتمع الطبيعي كنموذج مصغَّر عن الديمقراطية. فسواء كانت المرأة الأم، أو كان الرجل المسن الخبير، إنهما يُعتَبران العناصر الرئيسية الضرورية لأبعد الحدود والنافعة جداً في تأمين الأمن العام للجماعة وإدارة شؤونها، دون الارتكاز إلى الادخار والمُلكية. وتقدير الجماعة لتلك العناصر طوعي ومرتفع النسبة. لكن، لدى استثمار هذا الوضع، وتحوُّل الالتزام الطوعي إلى سلطة، والنفع إلى منفعة؛ يظهر جهاز عنف لا ضرورة له، مسلَّط دائماً على رأس المجتمع. ومواراة جهاز العنف نفسه تحت غطاء الأمن المشترك وأدوات الإنتاج المشتركة، إنما تشكل مضمون كافة النظم الاستعمارية والقمعية. هذا هو الكيان المشؤوم على الإطلاق من بين الابتكارات الحاصلة. إنه ابتكار سيجلب معه فيما بعد كل أشكال العبودية، الصياغات الميثولوجية والدينية المخيفة، الإبادات المنظمة، النهب والسلب المنظم، وعمليات الدمار والهدم. لدى قيام الماركسية بتحليل وإيضاح ولادة هذه المرحلة، فإنها تُنيط "العنف" بدور الحاملة لولادة المجتمع الأرقى من رحم المجتمع القديم المتخلف. لكن هذا السلوك الذي نتشاطره جميعاً، يُفسِد كافة مفاهيمنا بشأن الدولة والثورة والديمقراطية، وكافة ممارساتنا التنظيمية والعملياتية، ويُعطبها من جذورها. أعتقد أن تجاوز هذا السلوك كجملة انتقادية للذات، لم يصبح بهذه الشمولية من نصيب أي تيار ينادي بالحرية والمساواة حتى الآن. فكل التيارات والطرائق المصوَّرة والمصوغة باسم الشعوب والمسحوقين، وكل الدول والحركات السياسية المؤسسة؛ لم تنجُ من تمهيد السبيل لظهور نتائج مناقضة كلياً لطموحاتها ومآربها، بسبب هذا المفهوم الفاسد والمعطوب. إن تقاليد الدولة كأداة تسلط، ومثلما يُفهَم من تشبيهها بحيوان ، هي – حقيقةً – وحش لا يشبع من الدماء والاستعمار والنهب. إنها كيان تتغذى كل خلية فيه على الدم. ومثلما سنرى في العديد من الأمثلة، فحتى الأشخاص المتظاهرون بتبنّيهم إياها، لن يتوانوا أو يتورعوا أبداً عن إبادة أعز من لديهم والتضحية به، وسحق كافة تقاليد المجتمع الأخلاقية وكسحها، دون أن يرف لهم جفن. فأحد السلاطين العثمانيين عندما خنق سبعة عشر أخ له في ليلة واحدة باسم "سلامة الدولة"، كان يعي يقيناً أن ما فعله كان من دواعي قاعدة الالتزام بالأداة التي يمتلكها. فكل التواريخ الرومانية والإيرانية، وتواريخ الدول كأداة عنف مزاجي، كانت ستُبدي وحشية لا عد لها ولا حصر، كوظيفة أولية لها، بفضل أيديولوجيات التمويه. يحظى البحث والتدقيق في أغوار العقلية والتمأسسات الاجتماعية التي شكلتها ظاهرة الدولة، بأهمية قصوى. فاغتراب العقلية عن الطبيعة، التمايزات الطبقية التي لا يحتملها العقل، العديد من التنظيمات الخاصة، والتمأسسات العسكرية؛ ما هي سوى بُدَع ابتكرها جهاز العنف ذاك على الدوام. وبدءاً من الثقافة التي تزدري العمل وتحتقره كلياً، وتُعلي من قدْر الغنيمة والنهب والسلب، وحتى عالم الطفيليين المبتدئ بمفهوم الإله الآمر بالقيام بما تشاء نفوسهم وتهوى، والممتد حتى يوتوبياتهم الزائفة بشأن الجنة والنار؛ كل ذلك تم الإعلاء من شأنه إلى مرتبة الإله الأعلى، ممثَّلاً في صورة السلطان، القيصر، الشاه، الرَّاجا (الأمير الهندي)، والإمبراطور. وسيول الدماء المسفوكة على مر آلاف السنين، كانت تُراق دائماً باسم هذه المقدسات الجوفاء. لا فرق إطلاقاً بين تضمين الجهاز التسلطي بمضمون ثوري، وبين إناطة الأسد بدور ثوري. وبينما تَطَوَّر تعريف الدولة بجانبها هذا، فإنكار تأثيراتها على التشكيلات الاجتماعية يفضي بنا إلى الفوضوية. فالدولة ظاهرة بكلا هذين الوجهين، وكانت الكلمة الحسم دائماً هي المحدِّدة لديها. فإذا لم نسرد جوانبها هذه أمام العيان، سنفتح المجال لتعريف بالغ النقصان. ما علينا القيام به هو الفصل بين جوانبها اللازمة والأخرى غير اللازمة. إذ لا يمكننا تناول هذه الظاهرة كسوء اضطراري و ضروري، ولا ككيان مقدس. ويرتبط اقتراف الأخطاء الفادحة في لحظات الإنسان بهذه السلوكيات الأحادية الجانب، بروابط كثيبة. ساطع سطوع النهار أننا بقولنا ببقاء الخاصية الأولية للدولة على حالها، لا نقصد عدم إطراء التغييرات الشكلية عليها. بل على النقيض، فبقاء المضمون عينه يستدعي بالضرورة تغييرات الشكل. وهذا المبدأ الجدلي صحيح بالنسبة لكل ظاهرة على السواء. ومراقبة الدولة المتجذرة في المجتمع العبودي الأطول مدة، سيُغْني معلوماتنا أكثر. إننا نلاحظ أكثر حالات الدول العبودية شفافية في المجتمعين الأوليين السومري والمصري. فصياغة الدولة العبودية السومرية والمصرية قد وطدت تغييرات جذرية على التطور الاجتماعي بنماذج تمأسساته العقلية والاجتماعية والاقتصادية. عالم العقل للمجتمع الطبيعي كان يعتمد على مفهوم الطبيعة الحيوية، حيث لكل ظاهرة في الطبيعة روحها. ويُعتَقد بأن هذه الأرواح هي الخاصية التي تؤمِّن الحيوية. لم يكن قد تطور في مفاهيم ديانتهم الطوطمية حينذاك، مفهوم الإله الخارجي المختلف عنهم، والحاكم عليهم. بالإضافة إلى توخي الدقة والحساسية في التفاهم مع أرواح الطبيعة، أي قواها. وأي تضاد معها يعني الموت بعينه. ولما كانت هذه هي وجهة النظر الرئيسية إلى الطبيعة، يبرز بالتالي ضرورة التلاؤم والتأقلم الخارق معها. إننا هنا وجهاً لوجه أمام حياة تسير بموجب المبدأ الأيكولوجي الأولي. فمناقضة الحياة الاجتماعية لقوى الطبيعة هي أُولى المواضيع المحذَّر والمحتَرَس منها. ولدى تطوير دينهم وأخلاقهم، يكون المبدأ الأكثر امتثالاً له والتزاماً به، هو مبدأ التواؤم والانسجام مع البيئة وقوى الطبيعة. وقد نُقش في العقول لدرجة احتل فيها الزاوية الركن كتقليد ديني وأخلاقي أولي. إنه في الحقيقة ترسيخ لمبدأ التدفق العام للحياة العامة في المجتمع الإنساني. ما من كيان لا يتخذ البيئة المحيطة به أساساً. والانحرافات القصيرة المدى البارزة، تلتحم مع المرحلة المتدفقة في ظل الشروط الداخلية والخارجية الجديدة. وفي حال العكس، تبقى خارج دائرة النظام تماماً، لتفقد وجودها إلى الأبد. وتنبع أهمية المبدأ الأيكولوجي في المجتمع الإنساني من هذا المضمون (الفاعلية) الأساسي للطبيعة. يفسح تكوُّن المجتمع العبودي الدولتي المجال لظهور انحراف حقيقي عن هذا المبدأ المصيري. إذ ثمة أواصر وطيدة بين تَكَوُّن المشكلة البيئية والأيكولوجية، وبين بدايات الحضارة والمجتمع المتكون في هذا الاتجاه. فحضارة المجتمع الطبقي هي مجتمع مناقض للطبيعة. والسبب الرئيسي وراء هذه المشكلة الظاهراتية متعلق بعالم وبراديغما العقلية العبودية لهذا المجتمع الجديد، والمتكونة بالثورة المضادة الجذرية. في حين أن كافة أعضاء الجماعات في المجتمع الطبيعي يحتلون أماكنهم المنظمة والمنسقة ضمن تكامل مع الحياة. فكل فرد منهم جزء صادق ومخلص للمجتمع، وهو منه. معتقداتهم وانطباعاتهم الذهنية مشتركة. لم تتطور قط مصطلحات الكذب والمخادعة فيما بينهم. وكأنهم ينطقون بنفس اللغة الطفولية مع الطبيعة. أما التحكم بالطبيعة أو استثمارها بشكل سيء، فهو أفظع خطيئة (محرَّمة، طابو) وسيئة تُقتَرَف إزاء أخلاقهم ودياناتهم التي تُعتَبر قوانين في المجتمع المطوِّرين إياه حديثاً. أما في مجتمع الدولة العبودية الجديد، فما تم قلبه رأساً على عقب، هو هذا المفهوم الديني والأخلاقي الأساسي. ولإضفاء المشروعية الاجتماعية على ذلك، تتبدى الحاجة إلى الكذب والرياء، بقدر ما تتطلب ممارسة العنف أيضاً. إذ من المستحيل إدارة شؤون النظام العبودي بالعنف المحض. ولا يمكن تأمين سيرورة النظام، دون ربط المجتمع بمعتقدات جذرية وطيدة. إنها محصلة طموحات الذهنية وبحوثاتها. إنها مرحلة جذرية من الذكاء التحليلي. والموضوع الذي عُني به هذا النموذج من الذكاء بالأغلب، هو إيجاد القواعد المساعدة على إدارة العبيد، وإبرازها لهم كتعاليم الإله الخالد. تتأتى عظمة الرهبان السومريين والمصريين من الأهمية القصوى التي يتسم بها هذا الموضوع في تاريخ البشرية. فذكاءاتهم المنقطعة عن المجتمع الطبيعي وحياته، ابتدعت نظاماً تصورياً ميثولوجياً مدهشاً وكاملاً. ولكي يُقنِعوا العبيد بكل ذلك، أسسوا الأنظمة المدرسية (الأكاديميات) والمعابد والهياكل على نحو أكثر إثارة للدهشة وأكثر سلباً للعقول. وبإحلالهم الديانات التي يغلب عليها الإله الحاكم المقتدر، محل الديانات الروحانية غير الخطيرة، والتي كانت سائدة في المجتمع الطبيعي؛ طوروا الخنوع والإذعان على الدوام. وأَفهَموا العبيد بدقة لا متناهية دوافع ضرورة خوفهم من الآلهة الجديدة – بتحريفهم لماهية مشاعر الخوف – وماذا ستكون مكافآتهم في حال امتثلوا لأوامرها حرفياً. ولأول مرة في التاريخ، أوجدوا اليوتوبيات المتضمنة مصطلَحَ الجنة والنار. إنهم بذلك يطورون أصلاً النظام الأيديولوجي اللازم للامتثال التام لطبقة الأسياد الجدد، وإطاعتها. أما كون طراز تفكيرهم ميثولوجياً، فهو يتناسب وروح عصرهم. في الحقيقة، إن الديانة الأرواحية (Aminism)* تنادي بالحرية والمساواة. في حين أن الدين الجديد ذا الميثولوجيا الغالبة، هو دين الطبقة، دين العبودية واللامساواة. ويأمر بالاعتماد أساساً على الإذعان المطلق للآلهة (الأسياد). هذه الثورة الذهنية المضادة المتحققة في تاريخ البشرية، هي بحق إحدى أعظم انطلاقات الذكاء التحليلي. إنها تَطوُّر العقل الطبقي. وغدا واجباً إعادة صياغة التاريخ والآداب والفن والقانون والسياسة، وفقاً لهذه الذهنية الطبقية. نرى أكثر حالات هذه المرحلة أصالة وقوة، في الميثولوجيا السومرية والمصرية. لقد شرعت الأيديولوجية الطبقية المهيمنة الاستعمارية فيها بولوج الدرب اللازمة لتغدو مجتمعاً فوقياً ودولتياً. وكل خطوة ستُخطى على هذه الدرب، ستكون باسم المجتمع برمته، وستكون مُلكاً له. أما أيديولوجية المرأة الإلهة، المتبقية من المجتمع الطبيعي، فستُستعمَر وتُستغَل تدريجياً، وستُفرَغ من محتواها وتذاب، لتُحفَّز بالتالي على خدمة نظام الرجل الإله. تماماً مثلما تحفَّز المرأة على خدمة الرجل (أي على الفحوش والدعارة العامة والخاصة). وسيتحول كافة أعضاء المجتمع الطبيعي، الأحرار والمتساوين، إلى طبقة عبيد جديدة. ثمة ملحمة سومرية تذكر أن الناس خُلقوا من "بُراز" الآلهة وقاذوراتهم. ومسألة خلق المرأة من ضلع الرجل، يمر ذكرها – أول مرة – في ملحمة سومرية. حقاً، لقد أنجزت الميثولوجيا السومرية نجاحاً باهراً وخارقاً، بحيث أثرت على كل الميثولوجيات اللاحقة لها، وشكلت عيناً أصيلة للأديان التوحيدية والآداب والقانون. وقد انعكست خاصية كلكامش المذكورة في الملحمة، بتأثيرات مشابهة، على كافة الملاحم الأخرى في العالم. باعتبار أن صياغة الحل الشمولي للبنية العقلية السومرية ليست موضوع عرضنا هنا، لذا، وباختصار نقول أنه ما من جدل في أنها تشكل المنبع الرئيس للبدء بالتاريخ (وبالتالي الحضارة)، ليس بقمعها فحسب، بل وبذكائها التحليلي أيضاً. علينا البحث عن جذور الفكر الميتافيزيقي الظاهر لاحقاً، في هذا الذكاء بالذات. فما يجري في الأعلى ليس مجرد عيش حفنة من الأسياد أيامهم العابرة في حياة القصور الأشبه بجنات النعيم. بل إنهم يضعون فيها اللبنات الأولية لعالَم الملاحم واليوتوبيات التي ستُلهي البشرية بها. أي أن ما يجري هو تجذر "كذبة المجتمع العظيم" في ذهنية البشرية جمعاء، والوصول بها إلى مستوى المؤسسات، عبر كافة أنواع الميثولوجيات والملاحم والمعابد والمدارس. إن الثورة المضادة المتحققة في المجتمع السومري على شكل تحول عقلي، هو الأوطد والأكثر جذرية في التاريخ؛ إنما غيَّرَت براديغما الإنسانية – وجهة نظرها الأولية تجاه الطبيعة والكون – من جذورها، وفي مقدمتها المجتمع الشرق أوسطي. فمفهوم "الطبيعة والبيئة" الحيوي في المجتمع الطبيعي متنوع ومثمر. لا يرى الطبيعة كظالم أو غول شبح، بل يراها كالأم. فلفظ "أماركي Amargi" الذي يرمز إلى الحرية في اللغة السومرية، إنما يعني في الوقت نفسه العودة إلى الأم. وحتى هذا اللفظ لوحده يسلط الضوء بكل جلاء على الذهنية الثورية المضادة المتحققة. في حين أن وجهة النظر الميثولوجية الجديدة مليئة بالآلهة الذكور المتحكمين في الطبيعة والبيئة، والمعاقِبين إياهما. وكأن الآلهة – الذين هم في الحقيقة الاستبداديون القمعيون والاستعماريون – المرفوعين إلى ما فوق وخارج المجتمع، مع مواراة أنفسهم تدريجياً؛ قد جففوا الطبيعة وأصابوها بالقحط. ثمة تصعيد لمفهوم الطبيعة الميتة، الطبيعة المادة. ومثلما هي حال العبيد المخلوقين من بُراز وقاذورات الآلهة، فسيُحَط من شأن كافة الكائنات الحية مع مرور الزمن. يجب النظر إلى هذه البراديغما المتجذرة تصاعدياً، على أنها المسبب الرئيسي في حالة الإغماءة التي يعاني منها مجتمع الشرق الأوسط اليوم، وعجزه عن الصحو، بعد أن شُلَّت ذهنيته بالكاد. في حين أن المجتمع الأوروبي لم يتمكن من دك دعائم هذه البراديغما وتحطيمها، إلا بقيامه بثورته الكوبرنيكية*، بعد إطرائه الإصلاحات على ديانته المسيحية. وداهية تنويرية مثل جيوردانو برونو**، أُحرِق حياً، بسبب دفاعه الصارم عن مفهوم الطبيعة الحية. ولأن هذه البراديغما لم تجد انعكاساتها في مجتمعات بعض الدول، مثل الصين واليابان، فقد تميزت تلك المجتمعات بتأقلمها الأسرع مع المستجدات الإيجابية. ولمفاهيم البيئة الحية النصيب الأوفر في حدوث ذلك. يلعب تخطي الميثولوجيات ذات الأصول السومرية والمصرية في طراز التفكير الفلسفي، وكذلك الاعتماد أساساً على التطورات الميتافيزيقية والجدلية الدياليكتيكية بدلاً منها، دوراً مشابهاً في تطور الحضارتين الإغريقية والرومانية. بينما تشكلت الدولة، مصطلحاً وإطاراً، في أحشاء رحم معابد الرهبان؛ كان البالغ بها إلى مستوى المؤسسة والقوة السلطوية بالأصل، هو مجلس الشيوخ وحاشية الرئيس العسكري في المجتمع الهرمي. تُحدَّد سلطة الدولة بين زوايا هذا المثلث ضمن علاقات وتناقضات كثيفة وطويلة المدى. فبينما كان الراهب المَلك هو المهيمن في البداية، أخلى مكانه بالتدريج لمجلس الشيوخ (المسنين) – الديمقراطية البدائية – أولاً، لتتطور فيما بعد حاكمية الرئيس العسكري وهيمنته كقوة حسم نهائية. تنعكس هذه المرحلة على ملحمة كلكامش بلغة شعرية ميثولوجية. فكلكامش بذاته يمثل الرئيس، البطل العسكري. أما الرهبان والراهبات الأقوياء القدامى، فلا أثر لهم. ينتصب أنكيدو أمامنا كأول مثال عن الجنود الانكشاريين – المعروفين- المجموعين من القبائل البربرية، خارج نطاق الإثنيات. أي أن تنظيماً خارج نطاق القرابة يتطور هنا. يؤدي التأثير السحري للقوة، ولأول مرة، إلى فرض الخنوع والإذعان من جهة، وإلى إبراز الذات في صورة المَلك الإله، صاحب الإنتاج الفائض من جهة ثانية. ويبدأ عصر، تُعلِن فيه "أنا" الإنسان بأنها الأعظم والأقدر. وينعكس المجتمع والطبيعة بعد ذلك كأثر من آثار المَلك الإله. تُولي كل الميثولوجيات الأولوية الأولى لهذا السرد. يعود مفهوم "الإله، صاحب كل شيء" في أصوله إلى الميثولوجيات السومرية والمصرية. ومن هذا المنبع سينعكس ذاك المفهوم على الكتب المقدسة. هكذا ستغدو سلطة الدولة خالدة أبدية. من هنا يتأتى المفهوم القائل بـ"الدولة الأبدية"، الذي لا يزال يُهتَف به. فلو أن الدولة لم تتطور، وبالأخص لو أنها لم تُزيَّن أو تجهَّز بالميثولوجيا، لما تعدت إطار كونها مؤسسة بسيطة أو تنظيم هزيل لقطاع الطرق الأشقياء. ولكنّ كون سلطة الدولة شديدة النفع والنجوع في تلك الحقبة، أدى إلى تصويرها كمؤسسة مقدسة خارقة، وإلى ترسيخها بهذا الشكل في كافة الأذهان. إذن، ومن هنا يمكننا الإدراك أنها تنظيم النهب والسلب الأكثر دقة ومكراً. في هذه النقطة بالذات، تبرز أمامنا قوة الأيديولوجيا. إنها تؤمِّن تعريف تنظيم النهب والسلب الأكبر، بأنه مؤسسة مقدسة بأمر إلهي. علينا أن نفهم جيداً أنه بمقدار ما يُعلى من شأن سلطة الدولة، وتُزركَش بالزخارف في مكان ما، فهذا معناه أن السلب الأكبر والمصالح الكبرى موجودان في ذاك المكان. وعندما يعكس الملوك الآلهة ذواتهم على هذه الشاكلة، يتمأسسون بوعي تام منهم لهذه الحقيقة. القصور الفخمة، الحاشيات العسكرية المؤلفة من أشجع الجنود وأقواهم، الاستخبارات الجيدة، قصر الحريم المؤثر والمثير، السلالة الذائعة الصيت والشهرة، الأشجار المتأتية من أصول إلهية، أصول النَّسَب وسجلاتها، الوزراء المتملقون والعبيد العابدون؛ كل أولئك هم أعضاء لا غنى عنهم في هذا التمأسس. أما قبور الأهرامات، فهي في الحقيقة قصرٌ في عالَم أكثر ديمومة. فالثياب، الصَّولجان، والمُهر؛ هي إكسسوارات لا تنقص الموتى المدثورين فيها. وما يتبقى أمام كافة أعضاء المجتمع وعبيده، ليس سوى التعبد الدائم والشكران المتواصل لهذا الكيان المقدس. وما المصطلحات الكثيرة الكثيرة بشأن صفات الإله في الكتب المقدسة، سوى صُوَر مكرَّرة نسبياً، ومعدَّلة بنسبة أخرى، لصفات الآلهة الملوك الأوائل في سومر ومصر. فإذا ما مات أولئك الآلهة الملوك – أو بالأحرى رحلوا إلى العالم الآخر – تُدفَن وإياهم حاشياتهم برمتها، وهي حية ترزق. ذلك أنه لا يمكن التفكير في حاشية منفصلة عن جسد المَلك. الغرض الأساسي من دفنهم مع الجثة، هو قيامهم على خدمة ملوكهم في العالم الآخر. أما ذُرِّيَّتهم الباقية على قيد الحياة في الدنيا، فهي مكلفة بمواصلة سيرورة وجودهم. بهذه الشاكلة – نوعاً ما – نشأ مصطلح "الخلود". إننا نرى في هذا المثال، وبما يثير الأنظار، كيف قام الذكاء التحليلي بتحويل المجتمع، بعد انقطاعه عن الحقائق الواقعية. فبناء هرم واحد من تلك الأهرامات يتطلب العملَ المميت من مئات الآلاف من العبيد. إن سلطة الدولة المؤسسة، هي زلزال دائمي مدمِّر، يتفجر على رأس الجنس البشري. وتبدأ اصطلاحات الظلم، المحشر، المنقذ بالتكون في لغة البشرية. وفي ظل هذه الظروف تتشكل الشخصية النبوية، كمقاتلة في سبيل الحرية. ويبرز الأنبياء كمنقذين من هذه الكوارث الكبرى. المنبع مرة أخرى، هو المجتمع السومري. المرأة هي الشريحة المتضررة كثيراً جراء ذلك، إلى جانب المجتمع الطبيعي. والميثولوجيات السومرية أشبه بالأناشيد الشجينة الباكية على المرأة المهزومة. فقوة إينانا تتضمن الآثار المتأتية من المجتمع المتمحور حول المرأة، والكامن في العهود الغابرة من ناحية، وتعكس صراعاتها الضروس تجاه المجتمع الرجولي المهيمن من ناحية ثانية. وبينما كان أرباب أول مدينةٍ إلهات إناث بنسبة بارزة، راحت بعد ذلك تُخْلي مكانها كلياً للأرباب ذوي الهوية الذكورية بالتدريج. مرة أخرى تبرز المعابد في صدارة المؤسسات المسَرِّعة من سقوط المرأة. ففي البداية يتم الاستيلاء خطوة خطوة على المعابد المنتشرة في كافة الأرجاء، والمُدارة من قِبَل الراهبات باسم الإلهة الأم إينانا، لتُحوَّل بعد ذلك إلى بيوت للدعارة. إن النظام الأهلي الملتف حول المرأة الأم في المجتمع الطبيعي، هو مؤسسة مختلفة عن ذلك. فمثلما لا يوجد وصي على المرأة، فالمرأة بذاتها هي مديرة شؤون أطفالها والرجل الذي تشاء. لم تكن مؤسسة الزواج قد تطورت بعد بمعناها الكلاسيكي. لكن، ومع تشكل المجتمع الذكوري المهيمن، في ظل مؤسسة الدولة، تتفشى العائلة الأبوية (البطرياركية) تحت إدارة وإشراف الرجل. وتتغير ماهية مؤسسة العائلة، لتكتسب تكوينتها الأولى التي ستدوم حتى راهننا. ومثلما غدا الرجل وصياً عليها، فالأطفال أيضاً مُلكه هو. وبالتدريج، تُجرَّد المرأة من قوتها لتصبح مُلكاً. إن العائلة المتكونة هي في حقيقة الأمر "قفص". لقد أجمع علماء النفس البارزون على أنه ما من نوع من أنواع العبودية تجذر واكتسب صفة الديمومة، مثلما هي الحال في العائلة التي يديرها الرجل. لا يمكن تحليل مستوى العبودية في المجتمع، إلا بتحليل مستوى عبودية المرأة – بالتأكيد – بجوانبها المتعددة. فما هو متحقق في المرأة، ليس مجرد تبعية ذهنية وفعلية فحسب، بل إن كل عواطفها ومشاعرها، حركاتها الجسدية، نبرة صوتها، وثيابها مرتبطة عن كثب بنمط العبودية. ووُضِعَت الحلقات المدورة في أنفها، في أذنيها، في معصم يدها ورِسْغ قدمها، كرموز تشير إلى نير العبودية. ويترسخ مفهوم شرف وأخلاق أحادي الجانب. وتُهمَّش المرأة أيديولوجياً. وتُسلَب منها كل قيمها، لتغدو بذاتها مُلكاً. ويُقدَّر "ثمنها" بمقدار مهرها. إن عبودية المرأة النابعة أصلاً من المجتمع السومري، موضوع لم تمسه الأيادي بعد. فالتبعية المبتدئة في المجتمع الهرمي، تُمرَّر من معبد الراهب، ثم تُحبَس في كوخ الرجل، وتُقحَم في أشد أنواع الحالات وأكثرها وطأة، لتكتمل بذلك وتنتهي. ومن حينها تطورت هذه الحالة الثابتة إلى يومنا. وغدا الموضوع الأساسي، والشغل الشاغل للآداب ومدارس التعليم والأخلاق، مُنصَبَّاً في توجيه المرأة وتحديد كيفية خدمتها لرَجُلها بكل عواطفها وأحاسيسها وتصرفاتها، مع إسقاط قوتها الفكرية إلى الحد الأصغري بالطبع. من جانب آخر، اكتسب الرجل العبد مكانة معينة بتأمينه الإنتاج الفائض، واستخدامه قوته العضلية. أي أن عبودية ذات مضمون اقتصادي هي الراجحة هنا. أما المرأة، فتُستعبَد كلياً، ببدنها وروحها وفكرها. إذا ما أطلقتم سراح العبد الرجل، فقد يصبح إنساناً حراً. أما إذا أطلقتم سراح امرأة، فهي تصبح موضوع عبودية أشد سوءً. حتى هذه الحقيقة تعكس مدى عُمق العبودية المطبقة. وإذا ما نظر مراقب حَذِق إلى المرأة، فلن يرى صعوبة في التنبه إلى أنه تم تكوينها، بكل ما فيها، حسب مشيئة الرجل، وبشكل عديم الرحمة، بدءاً من نبرات صوتها وحتى مشيتها، من نظرتها وحتى جلوسها. وكأن كل شيء فيها يقول "لقد قُضي علي". يكمن الدافع الأهم في عدم تطوير التحليلات المعنية بعبودية المرأة، في شهوات الرجل الشبقية، وروحه الديكتاتورية في نزواتها. فالنموذج المصغر للمَلك الإله في المجتمع، هو الرجل، سيد المرأة في البيت. إنه ليس زوجاً وحسب، بل هو "الزوج الإله". تُواصِل هذه الحقيقة تأثيرها حتى راهننا، دون أن تفقد من مضمونها شيئاً. يتبدى مجتمع الدولة العبودية ظاهرياً كمعمل ضخم، من الناحية الاقتصادية. ولكنه مختلف عن المعامل الحديثة بتقنياته وكيفية تبنيه. فالعبيد يُدفَعون فيه إلى العمل كسرب القطيع. يمكن استيعاب مدى استثمار كدح العبيد المروِّع والفظيع في الأرض ومناجم الفحم الحجري والعَمار، من خلال الآثار التي لا تزال باقية من هذه الحقبة الأثرية. فإدارة العبيد أعتى حتى من إدارة الحيوان. وما العبد سوى حيوان عامل. إنه مُلك، ومجرد أداة إنتاج. العبيد هم خارج دائرة القانون. وكأنهم "أشياء" لا عواطف لها. إن الشكل الذي بلغه الذكاء التحليلي في الرجل ضارب للنظر ومثير أكثر في حقيقة العبيد. تحقق مؤسسة المُلكية أيضاً بداية سليمة في مجتمع الدولة العبودية. إذ يعتمد جوهر النظام على امتلاك المجتمع الفوقي للمجتمع التحتي، بكل ما فيه. فالملوك الآلهة ومساعدوهم هم أصحاب كل شيء. وتبني الأشياء هو الثمرة الطبيعية للحاكمية والهيمنة. و"أنا" الإنسان إذا ما وجدت الفرصة لبروزها، فهي تتسم بخصائص لا تعرف الحدود. أسفر انعدام المؤثرات المحدِّدة في عهد تأسيس النظام، عن بروز القوة المَلكية الإلهية. يتسلل نظام المُلكية، التي لم يشهدها المجتمع الطبيعي، إلى كل مؤسسة، بدءاً من مُلكية الدولة وحتى العائلة. وتُخلَق لدى الجميع عاطفة التملك. تُعد المُلكية دعامة الدولة، وتقدَّس وتبجَّل. لم يبقَ سوى استملاك كل العالم بعد ذلك. وتُنقَش حدود المُلكية في جينات البشرية بأشكال وأغطية متنوعة، من قبيل: حدود الدولة، أراضي السلالة، تخوم الوطن؛ لتمتد إلى يومنا الراهن وكأنها ضريبة إلهية. في الحقيقة، إن المُلكية تعني السلب الحقيقي، باعتبارها مصدر السمسرة. فهي المؤسسة الأكثر إفساداً وتعطيباً لتعاضد المجتمع الجماعي. لكنها من جانب آخر المؤسسة الأهم على الإطلاق، ولا غنى عنها لتغذية المجتمع الفوقي. لقد سعينا لتعريف المجتمع الطبيعي بأنه الحالة التلقائية للمجتمع الأيكولوجي. كما أن تقهقر المجتمع الأيكولوجي خطوة خطوة، عمقاً واتساعاً مع تطور مجتمع الدولة، يُعد أحد التناقضات الاجتماعية الأولية المستمرة حتى يومنا الراهن. بقدر ما تصاعدت التناقضات الداخلية للمجتمع، تزايدت تناقضاته مع المحيط الخارجي. والتحكم بالإنسان يفضي إلى التحكم بالطبيعة. إذ جلي تماماً أن النظام الذي لا يرأف بالإنسان، لن يتورع عن ارتكاب أسوأ السيئات إزاء الطبيعة. وبالأصل، تحتل "الحاكمية" و"الفتح" مكانة مرموقة كظواهر مثلى في أخلاق الطبقة الحاكمة. إذ يُنظَر إلى التحكم بالطبيعة على أنه أخلاق نبيلة وسلوك راقٍ، بقدر التحكم بالإنسان. وتُدحَض حيوية وقدسية الطبيعة، التي تعود للمجتمع الطبيعي. بل و"تُفتَح" الطبيعة وتُغزى، وكأنها العدو اللدود. ولدى هيمنة هذه المصطلحات على ذهنية وسلوكيات المجتمع الدولتي، فهذا ما معناه فتح الأبواب على مصاريعها أمام الكوارث البيئية، التي وصلت أبعاداً ضخمة في أيامنا هذه. تُعتبر هذه التقييمات كافية بصدد تعريف المجتمع الدولتي في مرحلة نشوئه. قد يكون الموضوع الملفت للنظر هو التساؤل الذي قد يُطرح: لماذا استعملنا مصطلح "مجتمع الدولة العبودية" وليس المجتمع العبودي؟ إنني على قناعة بأنه إذا ما تناونا الدولة كمجتمع فوقي، فإن هذا الاصطلاح سيكون أكثر تشخيصاً، وسيخدم أغراضنا على نحو أفضل. إذ لا يمكن التفكير في العبودية دون وجود الدولة. أي أن الشرط الأولي هو وظيفة الدولة. فالدولة ليست مؤسسة مجرَّدة، بل هي التنظيم المشترك للمستولين على أدوات الهيمنة من قمع واستعمار. ويجب النظر إلى الخدمات العامة، من قبيل الأمن العام اللازم للجميع، وغيرها على أنها الخدمات المساعدة على مواراة ماهية التنظيم الحقيقي، لإفساح المجال لإضفاء المشروعية عليه أمام أنظار المجتمع. الباعث الثاني الهام لقولنا بالمجتمع الدولتي، هو اكتساب صياغات المجتمعين الإقطاعي والرأسمالي أيضاً وجودها بالاعتماد على الدولة، لتأمين سيرورتهما. وما المؤسسات المشتركة التي لا غنى عنها بالنسبة لمجموعات القمع والاستعمار، سوى تنظيمات على شكل دولة. إذ ما من مؤسسة تميزت بتأثيرها وإثمارها في القمع والاستعمار، مثلما هي الدولة. بينما يُعد المثالان السومري والمصري الصياغة الأصل لمجتمع الدولة العبودية، فإن الأمثلة الحثية والصينية والهندية، المتكررة كحلقة ثانية من السلسلة، تتميز بماهيتها التكرارية. فالمؤسسات ذاتها مضموناً قد كونت نفسها مجدداً مع إطراء التغييرات على شكلها. أما المثالان الإغريقي الروماني والإيراني، الأكثر خاصية، فقد حققا تحولاً ملحوظاً في المجال العقلي، بإحرازهما تطورات بارزة على درب أخلاق الحرية، ضمن إطار الفكر الفلسفي. هذا وشوهدت مرونات محددة في مؤسساتهما العبودية. اتخذ النظام أشكاله الكلاسيكية في الفترة المتراوحة بين 1000ق.م و300ق.م. في حين شهد عهد نضوجه في الفترة ما بين 2000ق.م و1000ق.م. أما الفترة من 3000 ق.م إلى 2000ق.م فكانت مرحلة التأسيس البدائي له. لا جدال في أن البشرية استمرت في تطورها في العهد العبودي، النظام الأساسي لمجتمع الحضارة الطبقية. فمحدِّد الأمور كلها ليس النظام العبودي، إذ لا يمكننا رؤية ثورة المدينة كأثر من آثار العبودية. فقد تتطور المدينة دون وجود العبودية والدولة. ولطالما نصادف مدناً لم تتدول. إن اعتبار ظواهر الكتابة، الرياضيات، العلوم الأخرى، مختلف الحِرَف، العَمار، والفن بكافة فروعه، والتي تطورت بالترافق مع التمدن؛ بإنها ضرورة من ضرورات النظام العبودي، إنما هو خطأ فادح. يكمن الخطأ الحقيقي المتجذر في آراء وأفكار العديد من التيارات، بما فيها الماركسية أيضاً، في اعتبارها تلك الظواهر كرافعات على طريق تقدم العبودية؛ بل إنها – أي تلك التيارات – تبرهن بذلك على أن العلم والفن لا ينفصلان عن السلطة. ذلك أن أولى القيم التي تتحكم بها سلطة الدولة وتمسك بزمامها في يدها، هي العلم والفن. فهي بحاجة ماسة وملحّة لذلك لغرضين: إعاقة تقدمهما الحر أولاً، وتسخيرهما في ضوء مصالحها ثانياً. إذن، دعك من أن يكون تطور العلم والفن من ثمار النظام العبودي، بل إنه يشير إلى كونه يشكل عائقاً حقيقياً على دربه. فالاكتشافات والاختراعات الحاصلة في الأعوام التي لم تنشأ فيها الدولة العبودية، أي ما بين 6000ق.م – 4000ق.م، لا يمكن مقايستها إلا بتلك الحاصلة فيما بين أعوام 1600م و1900م. أي أن الاختراعات كانت محدودة للغاية في الفترة الوسطى ما بينهما، طيلة 5000 عاماً. ومثلما هو معلوم، فالعلوم البارزة فيما بين القرنين السابع عشر والعشرين (1600م – 1900م)، هي بالأرجح من أثر الأفراد. أما ما قامت به الدولة، فهو إدراجها في دائرة احتكارها، مثلما يحصل في كل مرة. إذا كان التفكير التحليلي أيضاً مرتبطاً بقوة بتكون المدينة، فإن الذي حرَّفه في ضوء مصالحه ومنافعه هو مجتمع الدولة العبودية، مرة أخرى. وإلا، فالعبودية لم تطوِّر الفكر التحليلي. إن ما قام به النظام العبودي هو، خلق عالم عملاق من الكذب والرياء عبر هذا النمط من التفكير، وتسليطه على ذهن الإنسان كالكابوس المرعب. وإذا ما أردنا ربط تطور العلوم والفنون والثقافة المشتركة للبشرية جمعاء، بالعبودية وبأشكال المجتمع الطبقي الأخرى؛ فلا يمكننا حينئذ سوى ربطها بظاهرة "السلطة والتعلم"، أو تعليلها بهيمنة الدولة على العلم والفن. وإذا كان القيام بمثل هذه التقييمات والدراسات باسم أيديولوجية الحرية والمساواة وحركاتها، يتحقق عن غير وعي وإدراك؛ فإن هذا حصيلة الارتباط بحلف السلطة. وقتئذ، لن يتغير هذا الحكم، حتى بظهور النظرية الماركسية اللينينية. سأعمل على الإسهاب بشمولية في الأقسام الآتية بشأن كون الماركسية اللينينية لم تتمكن من إنقاذ نفسها كلياً من حلف "السلطة – التعلم"، مما كان ذلك باعثاً أولياً لانهيار الاشتراكية المشيدة. نرى بشكل عام أن شكل المجتمع العبودي للدولة دخل مرحلة الأزمة في الأعوام ما بين 250م – 500ق.م، لتنتهي تلك الأزمة بهيمنة المجتمع الإقطاعي كشكل أرقى. وقد لعبت الهجمات الخارجية لـ"البرابرة" المتسمين بمزايا المجتمع الطبيعي من جانب، وبالتردي والانحطاط الداخلي، وبتأثير النضال الذي ابتدأته الديانة المسيحية من جانب آخر؛ الدور المصيري في ذلك. لكن ما انهار هنا ليس الدولة، بل شكلها العبودي. أما الدولة، فستعزز نفسها أكثر، لتبلغ شكل الدولة الإقطاعية.   د – المجتمع الدولتي الإقطاعي ومجتمع العبودية الناضجة     إن النظر إلى الدولة كتدفق ذهني ومؤسساتي عبر التاريخ، يحظى بأهمية عظمى. أما تعريفات الدولة كظاهرة تنشأ وتضمحل، تتأسس بسرعة وتنهار، لتتأسس مجدداً على يد طبقة أو مجموعات معينة، بالاعتماد على اصطلاحات دينية أو قومية؛ إنما تُقحِمنا في مفهوم ذي مظهر مبهم وعَكِر ومتقطع، أكثر من أن تُقرِّبنا من حقيقتها الظاهراتية. بل قد يكون تشبيه الدولة بـ"الكرة الثلجية والكرة النارية" المتعاظمة تصاعدياً، والمجمِّدة حيناً، والمدمِّرة الحارقة لأطرافها أحياناً أخرى، أكثر تعليماً؛ باعتبار أن الدولة تشكل النظام الاصطلاحي الأساسي للمجتمع، وتمثل الحقيقة المؤسساتية المتواصلة دون انقطاع. فهي منذ نشوئها وتكوّنها، وحتى يومنا الراهن، تكاثرت وتعددت دون أن يطرأ على مضمونها أي تغيير، ودون أي انقطاع في سياقها. إنها لَحقيقةٌ أكيدة بحيث لا يمكننا الحديث عن حصول انقطاع فيها، ولو لمدة ثانيتين فقط. ذلك أنها تلج مرحلة الزوال بمجرد حصول الانقطاع. إنه أشبه بحالة انفصال الروح عن الجسد. فإذا ما هجرت الروحُ البدن خلال ثانية واحدة، يستحيل على الأخير مواصلة وجوده بعدها. كما أننا، وبعد ثانية فقط، لا يمكننا مناجاة الروح وإعادتها مجدداً إلى البدن. الدولة أيضاً كيان حي من هذا القبيل. أما تنوعها وتضخمها، فيمكننا تشبيهه بأنواع الفصيليات الوراثية. فقد يتشكل من نفس فصيلة نبات أو حيوان ما، أنواع عديدة ومجموعة أحجام مختلفة، ولكن الخاصيات الأساسية تبقى ذاتها. والحديث عن الأنواع الأفضل أو الأسوأ لا يدحض هذا النمط التعليلي. عندما قال لينين بـ"الدولة البروليتارية تجاه الدولة البورجوازية" كان يظن أنه صاغ تعريفاً صحيحاً وأميناً. بيد أنه لا وجود لـ"بروليتارية" الدولة كشكل اجتماعي. وقد جرَّب الكثيرون ذلك، منذ أيام سبارتاكوس، ولكن جهودهم جميعاً ذهبت سدى. حتى التجربة السوفييتية، التي كسحت ثلث العالم وغطّته، لم تنجُ – مع ذلك – من الانهيار من تلقاء ذاتها. ومثلما سنسرد تفاصيل أسباب ذلك في القسم المعني به، فإن الدافع كان شكل حياة المجموعات والطبقات القمعية والاستعمارية، والذي يُعد الشكل الأساسي للدولة. هكذا أُسِّست. لا يمكن لمجموعات وتمايزات طبقية معرضة للقمع والاستعمار، أن يكون لها شكلها الحر والمتساوي. فمثلما أن جوهرها لا ينسجم مع ذلك، فإن شكلها أيضاً مناقض للحرية والمساواة. تعاظمت تدريجياً كرتنا النارية الثلجية المنطلقة من عند السومريين. والكثير من المعطيات، بما فيها مثالا الصين وأفريقيا الجنوبية، تبرهن على أنها اقتاتت من هذا النموذج، ولكن مع التغذي على لوازم المناطق ذاتها، بلا شك. لكن المثال المستوحى منه بنسبة كبرى، فكراً ومؤسسة، هو دولة الرهبان السومريين. يُجمَع علمياً على العموم على أن هذا الأنموذج لعب دور الملهم الإلهي، بشكل مباشر وملتوٍ. إن البحث والتدقيق في هذه الحقبة اعتماداً على المعطيات العلمية، هو من شأن المؤرخين. وما علينا القيام به هو، القراءة الصحيحة والإيضاح السليم لصُلب الموضوع وروحه. يبدأ الأنموذج العبودي البدائي للدولة من سومر ومصر، لينتشر بين الحثيين، الميديين، إيران، الهند، الصين، الإغريق، الرومان، والآزتكيين، حسب الزمان والمكان، وبمستويات أدنى؛ ويبلغ مرحلة نضوجه – بعد تعاظمه وتكاثره مثل الفصيليات – باتخاذه الشكل الإقطاعي. وحتى بلغ هذه المرحلة، سعى للتسلل إلى كافة خلايا المجتمع الطبيعي، وشكّل العديد من المساحات الجديدة، واستطاع تحويل الإذعان والخنوع والاستعمار إلى فن مبهر يدل على عظمته. في الحقيقة، ما جرى فعله باسم "فن السياسة والعسكرية"، لم يكن سوى فن القتل المنتظم للإنسان، وقمعه، وتسخيره في كافة الأعمال الاستعمارية، على اختلافها. أما الفنون التي احتُمِي بها أثناء إعداد الأرضية المشروعة لذاك الفن، فكانت أساساً: الميثولوجيا، الملاحم، مضمون الكتب المقدسة نسبياً، التماثيل، الرسوم، الموسيقا، وغيرها من العديد من النشاطات. لا شك في أن ولادة هذه الفنون ليست من ابتكار طبقة الأسياد. لكن الحقيقة الأخرى المعروفة يقيناً، هي المهارة والكفاءة العظمى التي أبدتها تلك الطبقة في أقلمة تلك الفنون وفق مصالحها هي. إنه فن تغيير ذهنية الإنسان من جذورها، بالانتفاع من وسائل الحياة المادية والمعنوية الأولية، التي كوَّنتها الإنسانية بجهودها العظيمة وكدحها المرير، طيلة آلاف من السنين. من هذه الزاوية بالذات، فإن لفت الأنظار – ولو بتكرار – إلى الشروحات والتفسيرات الخاطئة الجارية، بل وباسم الحرية والمساواة؛ إنما يُعتَبر واجباً إنسانياً يهدف إلى الحرية والمساواة، ويتوجب تأديته في كل زمان. فلنلفت الأنظار، وبإيجاز، إلى ما أُدخِل على مؤسسة الدولة، لدى بلوغنا مرحلة الدولة الإقطاعية. ففي عهود الملوك الآلهة السومريين والمصريين، دفنوا الآلاف من النساء والرجال الخدَم – وهم على قيد الحياة – مع أولئك الملوك الآلهة لدى وفاتهم، كي يخدموهم في حياتهم الآخرة أيضاً. وشغَّلوا مئات الآلاف من العبيد لبناء قبر واحد من تلك القبور، حتى قضوا نحبهم عليها. وبينما تُبنى زاوية من جنات النعيم لأجل حفنة من أصحاب السلطة، عومِل الآخرون معاملة أسوأ من القطيع. وعَرفوا إبادة الكيانات الاجتماعية المتمردة على العبودية، كالكلانات والقبائل، سياسةً أولية لديهم. واعتَبروا نسج القلاع والأسوار من جثث الناس عملاً مجيداً. ولأول مرة أوجدوا فن القتل المنظم للإنسان، والذي يخلو من أي جانب طبيعي، داخل المجتمع الإنساني. واتخذوا من الألاعيب والمراسيم المعتمدة على قتل الناس أساساً لهم، حتى في أوقات لهوهم ولعبهم. هذا وتفوقوا بمهارة في حبس النساء داخل الأقفاص. وقاموا بطلاء كل أحلام الأطفال الطبيعية بالنشاء. وأكرهوا الناس على اللجوء إلى أعماق البراري وذرى الجبال وقلب الغابات الموحشة، باسم الحرية. أما العبيد، فقد حُوِّلوا إلى أداة إنتاج اقتصادية، ليس بكدحهم فحسب، بل وبأبدانهم بكل ما فيها. وألَّفوا من الذكاء التحليلي ميثولوجيا مهيبة تعتمد على الكذب والزيف. وكأن العنف المحض الذي يمارسه الأسياد لا يكفي، فجعلَ الرهبان – إضافة إلى ذلك – من القمع والاستعمار المعنوي لعالَم الآلهة، عنصر عقيدة وعبادة أساسي؛ ونقشوه في ذهن البشرية. واتخذوا من إعلاء الأخلاق والفن من شأنهم وقدرهم هم، وإضفائهما صفة الجمال عليهم باستمرار؛ عملاً أولياً. وعوضاً عن مفهوم الكون الحي المؤلف من البيئة الطبيعية والمجتمع البشري، وطدوا مفهوم آلهة السماء وآلهة الأرض، التي لا روح لها، والتي تحاسِب وتعاقِب. وبينما يستحيل التفكير بالعَوَز والفاقة لأجل زمرة الأسياد، عانت المجموعات الأخرى من التصدع والتخدش باستمرار، بسبب المجاعة وتفشي الأمراض. يمكن توسيع هذه اللوحة أكثر. لكنه واضح أمام أعيننا وفي وعينا أن الدولة العبودية مُلِئت على هذا النحو بكل ذكرياتها وبقاياها. لم تتوانَ جميع الدول التي ظهرت في كل الفترات الزمنية، على اختلافها، ومن أصغرها إلى أكبرها، عن القيام بمتطلبات هذه اللوحة العامة، وإضافة بعض الأشياء الأخرى التي ارتأتها هي، واعتبار ذلك من دواعي الفن السياسي والعسكري. وإذا ما وضعنا نصب أعيننا ما فعله الأباطرة الروم والبيزنطيون فقط، وإذا ما استذكرنا ما لا يطيقه ضمير الإنسان ولا يحتمله عقله إزاء متوسط ما يبدو في اللوحة المذهلة البارزة إلى الوسط جراء ذلك؛ سنكون بذلك سلَّطنا الضوء، ولو قليلاً، على الحقيقة المستترة. وحين نعت الكتاب المقدس ظاهرة الدولة العبودية بـ"اللوياثان"، فإنه بذلك صاغ تعريفاً صائباً لها. إن التدقيق في انهيار هذا الشكل الاجتماعي للدولة، ليس محط دراستنا. لكننا على علم بأن قواها خارت وتفككت حصيلة مقاومات وهجومات القبائل الخارجية المسماة بـ"البربرية"، والتي لا تزال تتحلى بخصائص المجتمع الطبيعي. أدت مقاومات وهجومات مختلف الأقوام والقبائل، وفي مقدمتها الجرمانيون والخونيون والإسكيتيون في الشمال، والبرابرة والعرب في الجنوب؛ إلى إقحام الإمبراطوريات الصينية والهندية والإيرانية في الشرق، والرومانية في الغرب – والتي تُعرَف بأنها مراكز الحضارة العبودية – في حالة عجزت فيها عن مواصلة وجودها بأشكالها القديمة. أما تسمية تلك المجموعات بـ"البرابرة"، فهي من دواعي الآداب العبودية. ومن الأكثر واقعية تسميتها بالقوى الثورية الأساسية المؤدية إلى حدوث تطورات أقرب في مضمونها إلى الحرية والمساواة. يتسم تقييم تقليد زعماء القبائل ورؤساء الأقوام لأسيادهم العبوديين، وتشبههم بهم، على نحو منفصل من الجماهير الساحقة؛ بأهمية قصوى حقيقية. وفي الداخل، عملت التيارات الدينية الغنوسطية* (أي الروحية) المعتمدة بالغالب على الفقراء والمتطلعين إلى الحرية والمتوجهين إليها، وفي مقدمتها الديانات المسيحية والمانوية والإسلامية؛ عملت على حفر قعر نظام المجتمع العبودي، وشلَّته عن مواصلة وجوده. ورغم صعوبة الزعم بأن هذه الحركات اعتمدت على تيارات متطلعة بوعي إلى الحرية والمساواة، فمن المؤكد بما لا شائبة فيه، أنها سعت في مضمونها للخلاص من العبودية. "الخلاص" و"المنقذ" مصطلحان بارزان للعيان هنا. فالاسم الآخر لسيدنا عيسى هو "المسيح" أي "المنقذ". و"ماني" بذاته هو كالحواري الذي ينادي بالسلام والتعددية، بكل معنى الكلمة. والإسلام، بمعنى الكلمة، يعني "التسليم بالسلام". والمطاليب الأولية التي لعبت دورها في انهيار النظام هي السلام والتحرر، أي الخلاص. أما طراز صياغتها على نحو ديني، فلا بد منه، لأنه من دواعي البنية الذهنية السائدة الذي تلك الحقبة. من هنا، يمكن استيعاب تمهيدها السبيل لاستتباب السلام والتحرر (الخلاص) بشكل محدود. واضح أن هذه المدارس الدينية والمذهبية والفلسفية الغنوسطية المتعاظمة في ظل الإمبراطوريات، ستتأثر بالنظام من النواحي العقلية والسياسية والعسكرية على السواء. إنها لا تسعى لبناء عبودية كلاسيكية أخرى مجدداً، بل وهي تلعنها بكل حدة، لأنها تعرفها جيداً. لكنها من ناحية أخرى عاجزة عن حسم ما تريد بناؤه، وكيف. بيد أن العديد من الشخصيات المتقبلة للنظام العبودي على الصعيد الفني، قبلت بهذه الديانات سياسياً، بحيث لم ترَ صعوبة في تحويلها إلى أرضية مشروعة لها من هذه الناحية. فـ"قسطنطين" الأكبر مثلاً اعتنق الديانة المسيحية في 312م، ودخل روما على إثرها، ليعلن نفسه إمبراطورها الجديد، وينقل عاصمتها إلى المدينة المسماة اليوم بـ"إسطنبول"، ويعلن المسيحية ديناً رسمياً في عام 325م. أي أن الدين الذي حارب ضد العبودية طيلة ثلاثة قرون، قد دخل في وفاق مع النظام العبودي. و"ماني" بذاته دخل في حماية "شابور"، الإمبراطور الكبير الثاني للسلالة الساسانية. في حين أن سيدنا محمد الأكثر راديكالية، رسخ أسس نظامه على ميراث كل من النظرية اللاهوتية (الثيولوجية) اليهودية والمسيحية بنسبة عظمى من جهة، وميراث الإمبراطوريتين البيزنطية والبرسية من جهة أخرى. جميعهم تحدوا النظام الكلاسيكي للعبودية عن وعي وإدراك، وأبدوا قدرتهم على تخطيه. لكن القوالب التي دخلوها كانت من إيجاد دولة الرهبان السومريين. فقاموا بتمرينها قليلاً، ليحولوها إلى أداةٍ تَقْدِر الإنسانية على تحملها. وإلا، فتحديث المجتمع الطبيعي ضمن الظروف الجديدة، لا يخطر ببالهم بتاتاً. بل إنهم يدحضون هذا النظام، بذريعة أنه "وثني" أكثر من النظام العبودي ذاته! هذه الجوانب المذكورة كافية لوحدها لتبين لنا أن ظاهرة الدولة الجديدة التي ستظهر أمامنا ليست سوى حالة معدَّلة لشكلها القديم. أما إذا أتينا على ذكر الجماعات البربرية الأقرب إلى المجتمع الطبيعي؛ فهي أيضاً لم تنجُ من الرضا بشكل الدولة الجديد الممكن احتماله، وذلك بوساطة رؤسائها الفخورين بالنظام العبودي، والمكرَّمين من قِبَله منذ أمد بعيد. تحصل هذه المرحلة، التي شهد التاريخ الإنساني خلالها انقلاباً جذرياً رأساً على عقب، في الفترة ما بين القرنين الخامس والسادس الميلاديين. وقد شهد التاريخ مرحلة مشابهة لها في الانطلاقات الأخلاقية والفلسفية، التي قام بها كل من بوذا وكونفوشيوس وزرادشت وسقراط، تجاه العقلية العبودية الكلاسيكية، في القرنين السادس والخامس ما قبل الميلاد. المحصلة كانت أن برزت صياغات وأشكال أكثر تقدمية، في الأنظمة الاجتماعية لدى الإغريق وروما وإيران والهند والصين. تُولي الماركسية الدور البارز إلى أدوات وعلاقات الإنتاج في حصول هذه التطورات التاريخية، في حين تنيط الصراع الذهني بدور ثانوي. هذا إلى جانب عدم إيلائها الوزن الكافي لكفاحات المجموعات الإثنية والدينية. يبرز هنا الاستيعاب البعيد عن التكامل بشأن التاريخ، عبر هذه المواقف، التي ليست سوى تعاليل دوغمائية للأسلوب الجدلي. ذلك أنه لا مناص من الفهم المحدود للحقائق عبر التعليل الاقتصادي، دون رؤية التحركات العظمى للمجتمع، والتي تفيد في ماهيتها بالعقلية والسياسة. إن التركيز على البنية التقنية والإنتاجية كقوة دافعة للتطور، دون إيلاء المعنى اللازم لتحركات الجماعات العظمى؛ إنما يفضي إلى البقاء ضمن إطار الدولة دون الإحساس بذلك. من جانب آخر، فتفسير التاريخ دون تحليل الحركات الكبرى للأديان والإثنيات (واقع القبائل، العشائر، والأمم)، يمهد السبيل لأخطاء وخيمة والتغاضي عن الكثير من الأمور؛ سواء من ناحية الأسلوب، أو المضمون. ولهذه الحقيقة النصيب الأوفر في بقاء التفسيرات التاريخية الجارية بالأسلوب الماركسي، سقيمة وعقيمة، وإفساحها المجال لنتائج خاطئة. ذلك أنها، وبينما ناشدت بتخطي المثالية المعتمدة على السمو بالمجتمع الفوقي التقليدي، وقعت – على النقيض من ذلك – في المادية الفظة، بحلولها المعتمدة على البنية الطبقية والاقتصادية المحدودة جداً. المعضلة التاريخية والاجتماعية الأخرى، التي تستلزم إنارتها، هي ما يجب فهمه من المناداة بتخطي الماضي. يتمثل قانون التغيير في الطبيعة، والتحول الذي برهن عليه سياق التطور الطبيعي في البيولوجيا، في استمرارية الظاهرة السابقة ضمن أحشاء اللاحقة لها. على سبيل المثال: إذا ما التحمت ذرّتان من الهيدروجين تتحولان إلى الهيليوم. إن الهيدروجين مستمر في الهيليوم. فإذا ما تفككت ذرّة الهيليوم يظهر الهيدروجين ثانية. لكن هذه الحقيقة تُعتَبر ظاهرة مختلفة في التغير النوعي الحاصل على شكل ذرة الهيليوم. وتراكم الحلقات فوق بعضها في البيولوجيا، إنما هو مرحلة مشابهة. فالحلقة السابقة مندمجة مع اللاحقة لها. ثمة تغير مشابه في المجتمع أيضاً. فالمجتمع الفوقي يحمل السفلي في أحضانه. لكن العكس غير صحيح. أي أن المجتمع السفلي لا يتضمن العلوي. ذلك أنه ما من ظاهرة جديدة هنا. بالتالي، يتشكل المجتمع الإقطاعي بتطور النظام العبودي وتَضَمُّنِه تحميلات جديدة، حصيلة الهجمات الآتية عليه من الداخل والخارج. ويتضمن في أحشائه العديد من قيم النظام العبودي، ولكن ليس بأشكالها القديمة. بل يحملها بأشكال جديدة تتشكل حصيلة التركيبة الجديدة المؤلَّفة مع القيم الجديدة. أي أن القيم القديمة لا تزول، بل تستمر في وجودها بتعديل شكلها. بيد أن النظام الروماني العبودي وجد في نفسه القدرة على تجديد ذاته بدماء البرابرة والمسيحيين الطازجة المسفوكة. لا يمكننا تطبيق الديالكيتيك على المرحلة التاريخية، والخروج منه بفهم صحيح، إلا بهذا الشكل، بشرط عدم خنق الدياليكتيك في الدوغمائية. يتجذر التحول العقلي تجاه المجتمع الطبيعي، ليستمر في نظام المجتمع الإقطاعي أيضاً. لقد تحققت انفتاحات عظمى عن طريق الذكاء التحليلي. وألَّف شكل التفكير الديني والفلسفي على السواء، الذهنيةَ المهيمنة للمجتمع الجديد. ويهيمن هذان الشكلان من التفكير مجدداً في العناصر المتحولة للمجتمع القديم. وكيفما قام المجتمع السومري بتشكيل تركيبة جديدة مع قيم المجتمع النيوليتي داخل نظامه الجديد؛ كذلك قام المجتمع الإقطاعي بتشكيل تركيبة جديدة مؤلفة من القيم المعنوية الموجودة في البنى الداخلية للنظام القديم من جهة، ومن القيم المعنوية للطبقات المسحوقة والإثنيات المقاوِمة، الموجودة في الجوار الخارجي من جهة ثانية. إنَّ تدفق السياق العملي هو المحدِّد في هذه المرحلة. فالسياق العملي، بمعنى من معانيه، هو الوجود المشكِّل للزمان كقوة بحد ذاتها. والزمان هو السياق العملي المتكون. تقوم العقلية بتحديث الخصائص الميثولوجية عبر الاصطلاحات الدينية والفلسفية. فعوضاً عن وجود آلهة متعددة، هزيلة وخائرة القوى؛ تنعكس قوة الإمبراطورية المتسامية على صورة تطور طبيعي يتجه نحو الاعتقاد بإله واحد عظيم، يمثل القوة العالمية. إن أحداث الحياة اليومية ومجرياتها تجد مرادفاتها في الذهنية أيضاً. ثمة تغذية وتعزيز متبادل بينهما. يتعلق إحلال الإله الواحد محل تعدد الآلهة في الأديان، بهذه المرحلة. ذلك أن الممارسة العملية للدولة على مر آلاف السنين، قد أبطلت مفعول مصطلح المَلك الإله، وأصابته بالعطب. نخص بالذكر هنا ظهور تركيبة "الشرق – الغرب" الجديدة كفترة هامة ابتدأت مع عصر الإسكندر. فهذا الأخير، الذي تلقى تعليمه وترعرع بعقلية أرسطو، منتبه تماماً لفكرة المَلك الإله، ومدرك إياها. ويقوم بذاته بإشعار الكاتبين الملتفين حوله بزيف هذه الفكرة. بالمقابل، يستمر في الانتفاع من ذلك لصون سلطته، فيعلن إلهيته هو. ويفرض ذلك عنوة على أثينا المتحدية إياه. وغدت قوة المَلك الإله تعيش أيامها الأخيرة في عهد الأباطرة الروم. نلاحظ اتساع الهوة في الفروقات، مع القول: "سما الإمبراطور إلى طابق الإله" لدى موت أحد منهم. أسفرت الخاصية الثلاثية للألوهية لدى سيدنا عيسى، عن ارتجاجات عنيفة في التاريخ. إن هذه الثورة الذهنية المبتدئة مع سيدنا عيسى، تعتبر تطوراً عظيماً. إنها تشكل فترة انتقالية كبرى بين المَلك الإله والمَلك الإنسان. فبينما كان الملوك يعلنون أنفسهم آلهة حتى ذاك اليوم، يتحرك سيدنا عيسى بتأثير من ذاك المفهوم، وهو يتطلع إلى مَلَكية القدس، بناء على أنه ابن الرب، وإن لم يكن الرب ذاته. في الحقيقة، يتسم مصطلح "ابن الرب" الوارد في الكتاب المقدس، بمعناه السوسيولوجي العميق. فعوضاً عن أن يكون الربَّ ذاته، يكون ابنه. إنه تطور جديد. والروح القدس، إنما تعني نسل الرب. حاول سيدنا عيسى إطراء الإصلاحات على البنية العقلية التي نشأ فيها. بالتالي فقد مهَّد السبيل لظهور الفروقات في القوة الدينية لدى كل من الروم واليهود على السواء. وما تواطؤ مَلَكية يهوذا ووالي روما على صَلب سيدنا عيسى، سوى بدافع من الخصائص الثورية للانطلاقة الحديثة العهد. تميل الكتلة الإنسانية الفقيرة والعاطلة عن العمل، المتعاظمة في ذاك الزمان، وكذلك رجال الدين وموظفو الدولة من المستويات الدنيا؛ إلى سيدنا عيسى. وبالأصل، لم يظهر سيدنا عيسى بين ليلة وضحاها. إن ظهوره مرتبط بطريقة "الأسنيين" الدينية ذات الأهمية الملحوظة في تلك الأثناء. هذا وقد استلم الخلافة من سيدنا يحيى، الذي طالما كانت ذكراه حية كنبي. قُطعت رأس سيدنا يحيى قبل صلب سيدنا عيسى. وكانت جماهيره العاطلة عن العمل والفقيرة، تتعاظم بوتيرة عليا ودائمية. باقتضاب، كان النظام العبودي يشهد أزمة حقيقية. والثورة الذهنية البارزة في صورة الديانة المسيحية، ما هي سوى ثمرة سياق التطور الطبيعي على مر قرون عدة. إنها، بمعنى من معانيها، أشبه بالحركات الماركسية المسيحية والديمقراطية الاجتماعية والاشتراكية البارزة في الماضي القريب. أبدت الديانة المسيحية انتشاراً يقتفي أثر روما ويطاردها، وكأنه ظلها. ويمكن رؤيتها كأول حزب شامل معني بالفقراء في التاريخ. وقد اتخذ الفلسفة الإنسانية المثالية* أساساً، لا الإثنية. أي أنه حذا حذو كوسموبوليتية روما بجانبه هذا. تمثلت أهم مزاعمه في تحديده لأباطرة روما، في قوله باستحالة أن يكون أولئك الأباطرة آلهة. حيث أنه ثمة الرب الأب، وسيدنا عيسى هو ابنه. يكمن تفكيك وتشتيت الذهنية الإمبراطورية الرومانية في هذه الجملة أساساً. والحرب الدينية ظاهرياً، ليست في مضمونها سوى حرباً سياسية. يتحقق "فتح" الذهنية المعنوية لروما، عبر التضحيات الجسام التي أبداها الحواريون أولاً، وأعقبهم في ذلك العديد من القدّيسين والقدّيسات والرهبان والراهبات. ومع قسطنطين الأكبر يكتمل هذا "الفتح" السياسي. وغدت المسيحية الأيديولوجية الرسمية للدولة الجديدة بيزنطة. لقد شهدت هذه المرحلة صراعاً مذهبياً ضارياً من بداياتها وحتى نهايتها. إنها رقابة ومنافسة، لا تزال مستمرة في يومنا الراهن. لكنها – مضموناً – عبارة عن حرب المصالح لمختلف الطبقات والبنى الإثنية. كثيراً ما نشاهد في الميثولوجيا مواضيع تقول بأن المسيحية تطورت كمذهب من مذاهب المُوسَوية، وأن الموسوية تنبع في أصلها من النبي إبراهيم، الذي يعد من أقوى التقاليد النبوية المتمردة على الملوك الآلهة السومريين والمصريين؛ وأنها – أي الموسوية – أصبحت انطلاقة مع سيدنا موسى، لتستمر في وجودها مع سيدنا عيسى، بعد مرورها بحلقات كبرى أخرى، كسيدنا داوود، وسيدنا أشعيا. وآخر مذهب لها هو الإسلام. إلى جانب طغيان الجانب الذهني في تقاليد النبوة، فهي أيضاً حركات تتسم بقوة ورصانة جانبها المجتمعي السياسي. وهي تتطلع إلى نظام مناهض للعبودية بشكلها الأولي (الملوك الآلهة)، بحيث يكون أكثر مرونة، وأكثر تحملاً. كما أنها تأثرت حتى النخاع بالميثولوجيات السومرية والمصرية. لكنها تَعتَبر أن الكثير من التصورات ومفاهيم الألوهية التي تتضمنها الميثولوجيات لم تعد ناجعة؛ وذلك بتأثير من الفارق الزمني. إنها ترى استحالة تحمل العبودية مثلما هي عليه في شكلها البدئي الأصلي. هذا علاوة على مآربها في إفساح المجال أمام تشكل التجار والحِرَفيين ليلتقطوا أنفاسهم، وتأمين مساحات خاصة (ذاتية) لتطورهم الطبقي. لهذا الغرض فهي تجد اللوازم الأيديولوجية اللازمة لها في الميثولوجيات القديمة. وبما أن العاملين عليها يتأتون من الشرائح السفلية للمدينة، فإن لهم مكانتهم في المجتمع الطبيعي في المنطقة الجبلية. إنهم يشبهون بذلك الشرائح البورجوازية الصغيرة الراهنة. إذ من غير الممكن أن يكون لهم أيديولوجيات مستقلة بهم، انطلاقاً من طبيعة بناهم. ومن المنتَظَر امتلاكهم أيديولوجيات متمفصلة. إن الذهنية التي صوَّروها أشبه – بمعنى من معانيها – بأيديولوجية الطبقة الوسطى. إنها أيديولوجية "انكشارية" مجمَّعة من الشريحتين العُلوية والسفلية معاً. أي أنهم حوَّلوا أنظمة ذهنيتهم إلى تقاليد بحد ذاتها بإضافتهم مصطلحات الحرية والمساواة للمجموعات الإثنية من الطبقة السفلى، إلى المصطلحات الإدارية للطبقة الإدارية العليا؛ ونجحوا بذلك في تحويلها إلى ثقافة مغايرة. يولي الشكل الإسلامي للتقاليد حيزاً واسعاً للذكاء التحليلي. أي، ثمة انقطاع كامل عن مزاعم "الملوك الآلهة". ويُعرَّف فيه سيدنا عيسى بأنه رسول الإله، لا ابنه. ويتطرق بشكل قوي وقدير إلى الفارق بين الإنسان والإله. إن ما يدَّعيه الكتاب المقدس هنا – أي القرآن – ويعتقد به أساساً، هو مفهوم الإله الكوني. ثمة تصوير تجريدي للغاية للإله هنا. وينظر إليه نظرة أشبه بطاقة الكون. لكن الجانب الكاسح في هذا المصلطح هو عنايته بالواقع الاجتماعي القائم. نجد هنا أواصر كثيبة بين وحدوية مصطلح الدولة المجرَّدة والمتمركزة، وبين مفهوم الإله المجرَّد. يبلغ تَطَوُّر اصطلاح "أل" ذروته ومنزلته المرموقة مع مصطلح "الله". لقد بلغت النظرية اللاهوتية (الثيولوجيا) السومرية مرحلتها الأخيرة هنا. فمغامرة الآلهة الناشئة كموجودات ميثولوجية في بداياتها، وصلت نهايتها مع وجود "الله" الذي يُعد كل حُكم رسمي منه قانوناً مطلقاً. إذن، والحال هذه، يمكننا استيعاب دوافع ادعاء سيدنا محمد بأنه آخر الأنبياء والرسل، لدى إمعاننا فيها. ذلك أن الميثولوجيا السومرية أُفرِغت من محتواها بنسبة لا يمكن الإفادة منها بعد ذلك لأجل أديان جديدة. وستتطور بعد ذلك ميتافيريقية المرحلة. فالسياق العملي المتزايد أصبح يدرك الطبيعة أكثر فأكثر، وشرع بتعريف المراحل الطبيعية بعين علمية. بالتالي، بلغت البنية الذهنية للنظام الإقطاعي نقطة، تتخذ فيها من مقولة "عمل الدنيا شيء، وعمل الدين شيء آخر" أساساً لها. واصطلاحات "رُسُل الإله على وجه الأرض، ظل الإله" غدت الأنسب من أجل ذهنية البشرية. فإقناع الإنسان بكون بني جنسه آلهة، هو أمر شاق. النتيجة الأخيرة التي توصلت إليها كافة الأديان التقدمية هي، استحالة أن يكون الإله إنساناً، أو الإنسان إلهاً. وستتطور بعدها مصطلحات العقل، لا المصطلحات الإلهية، في إيضاح الطبيعة وتفسيرها. وستُفصَل الحياة الدنيا عن الحياة الآخرة بشكل قاطع. لكن، لا يزال مفهوم الإله المراقِب لكل تصرفات الإنسان، والمعاقِب أو المكافئ إياه على أعماله؛ يصون وجوده بشكل وطيد آنذاك. لقد تداخل هنا مصطح الإله مع مؤسسة الدولة المجرَّدة المركزية، كانعكاس لها، وتشابَكا بشكل معقد. ينوِّه "هيغل" إلى هذه الحقيقة على نحو أكثر جلاء، عندما قال في القرن التاسع عشر: "الدولة هي الحالة المجسَّمة للإله على وجه الأرض". إذ ثمة أواصر وطيدة وكثيبة بين مصطلح الدولة المنقطعة تماماً عن الملوك الشخصيين، والمجردة، والمستحوذة على بنية مركزية راسخة ومتينة من جهة؛ وبين مفاهيم الدين المتحولة من الآلهة المتعددة إلى الإله الواحد ذي المكانة المركزية الراسخة والمتينة من الجهة الثانية. والإسلام والمسيحية على السواء، طوَّرا بجانبهما هذا نظرية الدولة المركزية. بيد أن هذه النظرية دخلت حيز التنفيذ العملي، وسيدنا محمد كان لا يزال على قيد الحياة، لتظهر الدولة الإسلامية المتنامية، وتظهر إلى جانبها الدولة البابوية الإلهية. تداخلت التحديثات التي قامت بها الذهنية الإقطاعية في العديد من المواضيع الأخرى، مع الميثولوجيات ذات الدوغمائيات القديمة، ومع الفلسفة والأخلاق اليونانية والزرادشتية. إنها متمفصلة من ثلاثتها. فبدءاً من تصويراتها حول الجنة والنار وحتى مفهومها حول الكون، ومن عالَم الخير والشر إلى تصويراتها بشأن الجِن والملاك، ومن أشكال عبادتها حتى أحكام قوانينها؛ مصادرها الرئيسية جميعاً هي: الميثولوجيا السومرية، الفلسفة الإغريقية، وأخلاق الحرية لدى زرادشت. لعبت هذه الذهنية دوراً أيديولوجياً بارزاً منذ قرابة القرن الرابع الميلادي وحتى القرن الخامس عشر، لتبسط نفوذها على المناطق الحضارية الأساسية، وتنتشر في كافة القارات، وعلى رأسها أوروبا. ومع بدء شرارة الثورة الذهنية الجديدة بالتزامن مع النهضة المبتدئة في القرن الخامس عشر، بدأت تعيش مرحلة التراجع والجزر. لكن من غير الممكن الادعاء بتخطي ذهنية العصور الوسطى تلك، بشكل كلي. حيث أنها تسعى لمواصلة وجودها، وبمظاهر جديدة، في العديد من المناطق، وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط. جسَّد مجتمع الدولة الإقطاعية أيضاً مرحلة مشابهة في نضوجها من حيث تمأسسه السياسي والعسكري. الدولة واثقة من نفسها ومعتَدّة لأبعد الحدود. فهي أقدس ما أنزله الإله على وجه البسيطة. وجنودها هم جنود الله. أي أن قناع القدسية متوطد تماماً. القوة الأولى فيها هي القوة السياسية، والثانية هي المفوضية الدينية، والثالثة هي العسكرية. في حين أن البيروقراطية تشكل القوة الرابعة. لقد ترسخت مؤسسات الدولة، كلٌّ في مكانها. ولا تفقد الدولة من قيمتها المؤسساتية إلى جانب توالي السلالات في استلام دفة الحكم. الأساس هنا هو المؤسسات، لا السلالات. والأمر عينه على مستوى الأشخاص أيضاً. ويُرى في وجه الأرض – مرة أخرى – أنه هبة منحها الإله لحكامه عليها. وعلى العبيد أن يُبدوا رضاهم بذلك، بل وأن يشكروه دائماً على هبته تلك. غُلِّفَت الحروب بهالة من القدسية، فهي تُشَن باسم النظام الإلهي. ورغم أنها تناشد الإنسانية جمعاء وتنادي بالحرية والمساواة، إلا إن جباية الضرائب وجمع الغنائم هما المؤسستان الاستغلاليتان الأساسيتان فيها. أي أنها تواصل العبودية القديمة بجانبها هذا. في حين يتم إعداد جيوشها على نحو أكثر نظاماً ودائمية. لقد انتقلت منذ زمن بعيد من المحاربين المشكِّلين لحاشية الأمير إلى الجيش كمؤسسة بحد ذاتها، بحيث اعتمدت أنظمة الجيوش البرسية والهيلينية والرومانية أساساً، مع تأسيسها جيوشاً أضخم عدداً وعُدّة في العصور الوسطى. يشكِّل الخَيل والسيف رمزَي الجيش لهذه الحقبة، حيث تشهد مؤسسة الفرسان أوج ازدهارها، بكل أُبَّهَتها وعظمتها وأهميتها. لم تتمأسس البيروقراطية بعد. إنما حُدِّدَت مكانة الوزراء والموظفين، وعُيِّنَت أحوالهم. وفُصِلت الطبقات العسكرية عن رجال العلم. وأُلحِقت الجبايات بأسس وأحكام صارمة. وشاعت الاستخبارات والمراسلة كمؤسسة بحد ذاتها. يُنظَر إلى الحروب كشكل من أشكال الإنتاج. ذلك أن الفتوحات هي موارد ربح وفير وهام. بمعنى آخر، ففتح الأراضي الجديدة يعني إنتاجات فائضة أخرى. والدولة الأقوى هي الدولة الأفضل في حربها وفتحها. التغذي على الدماء المراقة والاستغلال لا يأبه بأية حدود. فالجهاد في سبيل الله لا يمكن أن يكتمل، إلا بفتح العالم أجمع. وهذا بدوره ما مؤداه الجهاد الكوني والأبدي. لا يمكن أن ينفتح النظام الدولتي، وبالتالي أن ينتعش وينضج؛ أكثر من ذلك. لقد بلغ حدوده الأخيرة في التضخم والتعاظم. هذا ما معناه بلوغ مؤسسة الدولة عهد النضوج ضمن سياق المراحل التاريخية. وما بعدها، لا يمكن أن يكون ثمة شيء، سوى الأزمة. تُعتَبر العبودية هنا حالة طبيعية متأتية من الله، في الحياة الاجتماعية. أي أن اصطلاح "العبودية" هو حالة فطرية منذ بداية الحياة، وليس حالة مكتسبة فيما بعد. فالناس يولدون ويموتون وهم عبيد. ويستحيل التفكير في شكل حياة أخرى عدا العبودية. إذ، ثمة الله، وثمة عباده. أما الملائكة والأنبياء، فهم الرسل المبلِّغون بأوامر الله. إذا ما حوَّلنا ذلك إلى اللغة السوسيولوجية، فالله هنا يمثل سلطة الدولة المجردة المتمأسسة. في حين ترمز الملائكة إلى جيوش الموظفين، ويشير الأنبياء والملائكة الأساسية إلى الوزراء وزمرة البيروقراطية العليا. أما إدارة شؤون المجتمع، فتتم عبر نظام "رموز" مريع حقاً. ثمة أواصر وطيدة بين الإدارة الظاهرية والإدارة الرمزية. وبدون فك رموز العلاقة الكائنة بين جانبَي الإدارة الملموس والرمزي، يستحيل بلوغ فهم وإدراك سليم للمجتمع. بمعنى آخر، إذا كنا نود استيعاب ماهية إدارة المجتمع بوجهها الحقيقي، فعلينا نزع الستار البانتيوني* (النظام الألوهي). وحينها سنرى أن الوجه الظالم والقبيح للقمعيين والاستعماريين الاستغلاليين مستتر تحت غطاء القدسية منذ آلاف السنين. إن العبودية الاجتماعية ليست مجرد ظاهرة طبقية. فالطبقات والشرائح الاجتماعية برمتها مُلحَقة بها، عدا الاستبداديين (وهم أيضاً في الحقيقة أسرى النظام). ما من نظام تَبَعي مستتر بعمق أكثر من النظام العبودي. والمرونة فيه دليل على مدى تجذر النظام وتوغله. البراديغما الأساسية للمجتمع هي، نظام عبودي أزلي وأبدي، لا بداية له ولا نهاية. فالنظام سيستمر إلى الأبد كيفما هو عليه منذ الأزل. يعود هذان المصطلحان (الأبدية والأزلية) بالأرجح إلى دولةِ عهدِ النضوج. الامتحان وتبدُّل المكان متعلقان بالدنيا الآخرة. لذا، فمناهضة النظام، حتى على الصعيد الفكري أو الروحي، تُعد أكبر ذنب. فما بالك بالتمرد الفعلي عليه! العبودية المثلى هي الفضيلة والقُدرة الكفؤ عينها، بالنسبة لكل من يعرف كيف يذعن له ويطيعه بشكل مطلق. وغدا المبدعون المبتكرون القائمون على خدمة الجماعة بأفضل الأشكال في عصر البطولة والبطولات، في المجتمع الطبيعي وعهد الهرمية الإيجابية؛ يمثلون الشخصيات الشيطانية الأخطر على الإله (الأسياد) في عصر العبودية، بحيث تستحق العقاب واللعنة. وقد طُوِّرت "الشيطانية" كاصطلاح، تجاه مجموعات الناس الرافضة للعبودية. أُطلِق هذا المصطلح ذو الجذور الشرق أوسطية، على المجموعات الشعبية المتنافرة مع النظام. من هنا، يُطلَق اسم "عُبّاد الشيطان" على الشرائح الكردية المتشبثة بتقاليد الحياة الطبيعية لديها، وغير المعتنقة للأديان التوحيدية. إن تقديس تلك الشرائح الكردية للشيطان، ذو معاني عظيمة. 'لدنيا الدنيا في عين النظام العبودي لعصر النضوج، هي مكان مفتوح لارتكاب الآثام في كل لحظة. لذا، يجب تجنب الحياة الدنيا. وبقدر ما تود العيش فيها فإنك تقترف الذنوب. الشكل الأمثل والأكمل للحياة، هو إعداد الذات للموت، بكل جوانبها. وبينما يرى هذا التقرب في الطبيعة مجرد مادة ميتة يجب عدم الدنو منها أبداً، فهو بالمقابل يَحكُم باستحالة الخلاقية والإبداع مسبقاً. إذ يستحيل التفكير بمفهوم الطبيعة الحية من أجل العبيد. في الحقيقة، ثمة آثار مروعة من القمع والاضطهاد والاستعمار في ولادة هذا الانتظام والترتيب. يكمن السبب الروحي الأولي في عدم لملمة المجتمع الشرق أوسطي أشلاءه وقواه حتى اليوم، في هذا النواع من التقرب إزاء الطبيعة. مقابل ذلك، ثمة عالَم بَرّاق ومبهر على وجه البسيطة بالنسبة لدنيا الأسياد، بحيث لا يذكِّرهم بالبحث عن جنات نعيم أخرى. إنهم، وآلهتهم الملقبة بنفس اللقب – الرب – (مصطلحات الإدارة) يعيشون حياة رغيدة ومحظوظة للغاية، إلى أنْ تبلغ "حكايات ألف ليلة وليلة"، التي ما هي سوى سرود ميثولوجية لنظام الدولة الناضجة (المزدهرة) في العصور الوسطى. أما حالة المرأة المحبوسة في القفص، فثمة تغييرات طرأت عليها، بما يفيد بتمرين صوتها وتطوير زينتها، لا غير. ثمة عبودية غائرة ومتوارية بأبعاد لا تصدق. لقد تعرضت امرأة العصور الوسطى للانكسار الثقافي الكبير الثاني الجاري للمجتمع الجنسوي. فبينما نشاهد حصول الانكسار الثقافي الكبير الأول في ثقافة الإلهة إينانا – عشتار – في فترة ولادة الدولة العبودية؛ يمكننا مشاهدة الانكسار الثقافي الذي عاناه النظام الناضج (المستوي) إزاء المرأة، متمثلاً في مثال "ماريام" الأخت الكبرى لسيدنا موسى، وفي "مريم" أم سيدنا عيسى، و"عائشة" زوجة سيدنا محمد؛ بشكل ضارب للنظر. بالتالي، ومثلما لم يَعُد هناك أي أثر للألوهية الأنثوية، بات يُنظَر إليها ككائن أدنى إلى الشيطان. وأي اعتراض بسيط من المرأة، قد يجعلها الشيطانَ بعينه. وقد تبيع روحها إلى الشيطان في أية لحظة. وقد تُضِل الرجل وتحرفه عن هُداه. وفي حالة سوء أخلاقها، يتوجب حرقها وهي حية، لتلتهمها الألسنة الحمراء. ثمة ثقافة مجازر تمتد إلى حد وأد البنات وهن صغيرات، ورجمهن بالحجارة حتى الموت، واتهامهن بأنهن مخلوقات مثيرة للشهوات الجنسية لدى الرجال وسالبة عقولهم. لقد تسللت حالة العبودية الغائرة في الأعماق، داخل المجتمع منذ آلاف السنين، إلى أن بلغت أبعاداً لا تطاق. حقيقةً، لا يمكن استيعاب أبعاد مستوى عبودية النظام، ما لم تحلَّل المرأة. فما الحلقات المدورة* المعلقة في كل طرف فيها والمهر وأشياء الزينة، سوى انعكاس لثقافة العبودية. وقد حُرِمَت من التفكير وكأنها خرساء مبتور لسانها. إنها أُمٌّ جافة مجدبة، وحقل يستطيع الرجال استخدامه وحرثه كما يشاؤون. كما خرجت من كونها "جوهر، ذات" منذ أمد بعيد، فغدت "مادة، شيء". لم يعد هناك أثر من الألوهية الأنثوية للمجتمع الطبيعي. لم يعد ثمة أي أثر للمرأة الحكيمة، مديرة شؤون الأطفال واليافعين؛ المرأة التي يلتف حولها الرجال ويدورون في مدارها. لم تكن حال الأطفال والشبيبة اليافعين مغايرة لحال المرأة، بل شبيهة بها. وكأن نظام العبودية العام بتَر روح الطفل الطبيعية، قبل أن يطأ عنقوده السابع. أما فترة الشباب والمراهقة، فهي تنتج شخصية مصطنعة كلياً، عبر أساليب النظام التعليمية الخارقة، بحيث ضُبِطَت كل تصرفاتهم وسلوكياتهم سلفاً. ولا يمكن التفكير بالحرية بتاتاً، حتى على مستوى الألفاظ. Jمكننا يمكننا اعتبار هذه المرحلة بكاملها، مرحلة محو المجتمع وإفنائه، فكراً وروحاً. إذ لا يوجد سوى صوت المجتمع الفوقي الصاخب بصوت "الله" وقرقعة "السيوف" وطقطقة "النعال". كل الملاحم تتميز بالدراما المبنية على الاقتتال والفتح. قد تكون هذه اللوحة مبالَغ فيها. لكن الحقيقة الروحية لتلك المرحلة، تنعكس بما يتناغم وجوهرَ هذه اللوحة. لقد احتل النظام العبودي الكلاسيكي الأكثر استقراراً وثباتاً، محله بدل العبودية بشكلها البدائي الأولي. تعيش الدولة هنا، والمجتمع الذي تمثله، ذروة مراحلها، مرحلة النضوج التام. هذا ووُطِّدَت كافة المصطلحات والمؤسسات الأساسية المعنية بالنظام، بحيث تُعلِن الجوامع والكنائس والكنيسد* واجب تقديس النظام كل يوم، عبر الأذان ودقات الأجراس. وما يأتي بعد ذلك، ليس في مضمونه سوى المدة الأخيرة من مرحلة الأزمة العامة، التي سيلجها المجتمع، وإن بدى ظاهرياً بأنه قوي ومتماسك؛ لتبدأ الدولة الرأسمالية بإبداء قدرتها وكفاءتها في التطور. فمن المعلوم أن أكثر المراحل عظمة وأبّهة، إنما هي مرحلة الانحلالات والتفككات المتأزمة، والمتوالية. يسري مفعول هذا القانون العام للطبيعة أكثر فأكثر بالنسبة للمراحل الاجتماعية أيضاً. لم نلجأ كثيراً إلى مصطلحات "القنانة، القرية، المدينة، العصور الوسطى" كاصطلاحات أخرى لهذه المرحلة. ولم نعمد إلى تكرار الأسلوب المسمى بالتحليل الطبقي ونتائجه، لأنها أمور معروفة. لا شك في أنه بالإمكان إبراز بعض الحقائق بهذا الأسلوب، بحيث تُصطَلَح مختلف شرائح المجتمع على نحو: القن، القروي، التاجر، المديني، المِهَني، والمعنيون بالفن والعلم. كما أن الأرض كأداة إنتاج، وعلاقات المُلكية المبنية عليها، والقانون المتطور؛ كلها تستلزم المعالجة الشمولية. فكون الأرض أهم وسيلة للإنتاج، وكون الحروب والفتوحات والنزاعات والصراعات اتخذت الأرض أساساً لها، وأن الطبقة الوسطى تنامت وتوطدت بما يؤهلها للعب دورها الهام في التطورات الاجتماعية؛ كل هذه الأمور تستحق الدراسة بعناية ودقة. لكن، وبما أن هدفنا هنا قد اتخذ من التعريف العام للدولة أساساً، فكان من الأنسب طرح الجوانب المعنية باللوحة، بخطوطها العريضة. إن العوامل المؤدية إلى انهيار نظام الدولة العبودية للعصور الوسطى، داخلية بالأساس. ولا داعي لوجود هجمات إثنية جديدة من الخارج، أو ظهور أديان جديدة من الداخل لأجل انهياره. ذلك أن طاقات الكُمُون لأجل الانهيار متراكمة في الداخل بما فيه الكفاية. فالمستوى الراقي للإثنيات المدرَجة داخل حدود الدولة، الشريحة البورجوازية الوسطى المتصاعدة حديثاً، المذاهب الدينية، والشرائح المتمردة باسم مختلف الأقوام؛ إنما هي القوى الأساسية المتمردة على المونارشية، والتي تُعتَبر بأنها دولة مطلقة. ولدى تطابق مطاليب الحركة الإثنية في الدولة القومية، مع مطاليب الطبقة الوسطى المدينية، وخاصة البورجوازية التجارية، في الحدود القومية؛ تمخضت عنه ولادة الدولة القومية والمجتمع الرأسمالي كإحدى أهم المنعطفات وأعظمها في التاريخ. ستشكل هذه المرحلةُ المبتدئة منذ القرن الخامس عشر الميلادي – على وجه التقريب – وحتى يومنا الحالي، المرحلةَ الأخيرة للدولة بصفتها المجتمع البنيوي الفوقي. ذلك أن المستوى الذي بلغته الذهنية وأحرزه التطور التقني المادي، سيَعتَبِر أن طراز التنظيم على شكل دولة – على الأقل بشكلَيها البدائي الأولي والكلاسيكي – لم يعد ذا نفع أو جدوى بالنسبة للمجتمع، بل وسيعتبرها مرحلة مؤسساتية مكبِّلة للأرجل ومقيِّدة إياها.         هـ الدولة الرأسمالية والمجتمع الرأسمالي، أزمة الحضارة     كان لينين محقاً عندما قال: "الدولة والثورة هما المسألة الأساسية في مراحل الأزمة العامة". كان منتَظَراً منه القيام بصياغة تعريف صحيح للدولة والمجتمع، حيث اعتقدَتْ به كل الشرائح المسحوقة والمستعمَرة في القرن العشرين، ورأته كانطلاقة نبي. كان صادقاً في أفكاره وعملياته، قديراً ماهراً، وقريباً جداً من التعريف الصحيح لهما. لكن الدولة – مرة أخرى – عرفت كيف تواصل نفسها، لدى لينين أيضاً، كوجود سحري مستحيل التعريف، لتُفرِغ جهوده من محتواها. لقد تبدت الدولة كحالة أشبه بـ"ثنائية كوانتوم" بالنسبة لكل الأنبياء والحكماء والفلاسفة ورجالات العلم في راهننا. هذه هي الثنائية التي مفادها: "إنْ عرفتَ مكان الظاهرة، فلن تعرف زمانها. وإنْ عرفتَ زمانها، فلن تعرف مكانها". بعض الفلاسفة يسمونها "مبدأ الغموض". قد يكون مبدأً من أجل "المعرفة"، كأكثر أنواع الإدراك رقياً. وأنا أيضاً أؤمن – أو أعرف – بأن "المرء يتكون في لحظة المعرفة". أي، ولأن المعرفة والتكون يحصلان في ذات اللحظة، فإنني لم أجد سبيلاً للخلاص من نصف المعرفة، رغم انشغالي بها كثيراً. لكنها ثنائية تجري في الحدود الأصغرية والأعظمية للكون، وتُشعِرنا بوجودها في كيانات (تكوينات) الكون الخارقة. لا أعتقد بأن الدولة ظاهرة كهذه. ومثلما نوَّه أنجلز بحدسه الداهية، فـ"الدولة" لا يمكن أن تكون شيئاً عدا إحدى لوازم التحف القديمة، التي سيأتي يوم وترمى فيه في مزبلة التاريخ، كأداة مهترئة لا نفع منها. ويكمن سوء الطالع بأكمله في صعوبة فهمها، بسبب الجهل بهوية صاحبها الحقيقي، وأين وكيف تكونت، وهذا من دواعي مضمونها. حتى إن برز صاحبها، فهي تتحول إلى حقيقة مختلفة كل الاختلاف. هكذا يسود منظر، وكأنها "ثنائية كوانتوم". إننا نعيش الرأسمالية. وأمريكا، القوة المحركة للرأسمالية، لا تتوانى عن شن حرب التحجيم على الدولة، على الصعيد الكوني. فعندما يضيع الخاتم في فيلم "سيد الخواتم"، الذي نوهنا إليه سابقاً، إنما تكون بذلك – في الحقيقة – انتقدَت السلطة المفرطة المتحولة إلى عائق حقيقي. لكنها من جانب آخر، لا تتورع عن لف العالم واستيعابه (احتضانه) كدولة. وهذا ما يفضي إلى أن الظاهرة المُشْكِلة مستمرة في ذروة المجتمع الفوقي أيضاً، وبكل حدة. أظن أن حالة الدول الأخرى، التي يجب أن تكون على شكل ولايات منفردة بذاتها، لم تُحلَّل بشكل برَّاق. وبالكاد يكون ما من حكومة لم تفكر بالإصلاحات في موضوع الدولة. لكن الغريب في الأمر أن كل إصلاح لا يسفر سوى عن تأزيم الأزمة. فهدف المجازفة الشرق أوسطية الأخيرة، إنما هو "مشروع الشرق الأوسط الكبير الإصلاحي". إنه حديث الساعة في العالم أجمع. ولكن، هل المسافة المقطوعة فيه هي نحو الأمام أم الخلف؟ هل هو الحل، أم تجذير للعقم واللاحل؟ هذا ما لم يُجزَم به بعد. حسب قناعتي، تتأتى كل هذه التحديدات والغموض أساساً من ذات المشكلة، ألا وهي عدم تجاسُرنا على تعريف الدولة. فحال علماء الاجتماع، الذين يجب عليهم صياغة ذاك التعريف، ليس أكثر تقدمية من حال الرهبان السومريين الساعين لمعرفة قدر الإنسان من خلال تحركات النجوم. فبينما تضاهي إحصائيات القرن العشرين بمفرده ما هي عليه إحصائيات الحروب والعنف على طول التاريخ البشري أضعافاً مضاعفة؛ فإنهم لا يتخلفون عن كتابة المجلدات المليئة بالكذب والرياء حول "إرهابية الفرد والتنظيم"، اللذين ليسا سوى ثمرة جانبية من النظام ذاته. وكأن كل ما يفعلونه، كعنف منظَّم، هو تأمين عدم فهم الدولة. حتى ذوو النوايا الحسنة منهم، فإن تعاريفهم لا تتعدى في مستواها مسألة تعريف الفيل عبر شعر جلده! فقد مزَّقوا الواقع الظاهراتي المتكامل إلى أشلاء متناثرة تحت اسم الأسلوب، لدرجة لم يعد بالإمكان معرفته أو قراءته. ومن ثم يتصرفون وكأنهم غير عالمين بما اقترفت أيديهم بهذا الشأن. الغريب في الأمر هو، وكأن عدم التعريف الصحيح للدولة أصبح بلاء مسلَّطاً عليها هي أيضاً. لقد غدت الدولة تشكل أزمة مجتمعية أساسية، بمواراة ذاتها حيناً، وبجاذبيتها أحياناً أخرى، وبإخافتها وترويعها ومعاقبتها الغير في أغلب الأحيان؛ بحيث جعلت من ذاتها حالة مبهمة يكتنفها الغموض. وغير وارد ألا نرى ماهيتها هذه في كل زاوية وبقعة من العالم. فالمجريات الحاصلة حالياً في ميزوبوتاميا السفلى، مهد ولادة الدولة، كافية بحد ذاتها لنراها وكأنها تنتقم لذاتها من ماضٍ لعين. تماماً كيفما تلدغ الأفعى الطويلة ذنَبَها. أو كما قيل بلغة الكتاب المقدس: مثل حيوان اللوياثان الذي يعض على ذنَبه في نفس مكان ولادته، ليقضي بذاته على حياته، ويصارع لإنهائها بيده. ومثلما جرى في كل نظام مجتمعي قمعي واستعماري، فولادة الرأسمالية أيضاً لا تكون بدون الدولة. كانت دوغمائية النظام الإقطاعي ذات نوعية دينية، في حين كانت ميثولوجية في العبودية البِدْئِيّة. وبينما تجسَّد الإله في إحداهما في شخص المَلك وسلالته بالذات، كان الإله في اللاحقة منهما يمثل ذاته في الوجود المجرد للدولة، بمواراة ذاته وتستره. فعصور الذهنية البشرية كانت تستلزم ذلك. لدى وصولنا إلى نهايات القرن الثاني عشر الميلادي، نلاحظ في البنية الذهنية للدين الإسلامي، أن العلم والفلسفة سينهزمان أمام الدوغمائية الدينية. حيث ستُغلَق أبواب الاجتهاد رسمياً، لتلف القوالب الدوغمائية ذهنية المجتمع الشرق أوسطي كشِباك الجهالة. في حين أنه في القرن الثاني عشر الميلادي، ستبدأ في أوروبا مرحلة وضع اللبنات الأساسية لثورة ذهنية تاريخية، عبر جمعهم بين الميراثين الشرقي والإغريقي وتهجينهما. ورغم كافة الجوانب القمعية للديانة المسيحية آنذاك، إلا إنها لم تتوانَ عن استثارة وتحريض فضولها في المعرفة، بجانب من جوانبها. لذا، إن تجاوز الدوغمائيات المنفتحة بأبعاد واسعة أمام التفسير في الديانة المسيحية، من خلال ذكريات المجتمع الطبيعي وبقاياه المتبقية، والتي لا تزال تنبض بالحياة والحيوية؛ لن يكون أصعب مما هو عليه لدى الأمة الإسلامية. فمثلما لم تنهزم الذكريات الغضة والطازجة للمجتمع الطبيعي – في وقت من الأوقات – أمام الإمبراطورية الرومانية، فإنها لن تنهزم أمام دوغمائية الديانة المسيحية أيضاً. بل وستبلغ وجهة نظر الطبيعة النابضة بالحياة والأمل، تجاه مفهوم المادة الميتة السائد في المسيحية بصدد مفهومها إزاء الطبيعة. ثمة نظريات كثيرة تتداول دوافع بلوغ الرأسمالية النصر المظفر في أوروبا الغربية. لكن الدافع الرئيسي لذلك – حسب قناعتي – هو عدم تجذر الدوغمائية فيها، وعدم السماح لها بالتوطد بقدر ما هي الحال عليه في الشرق الأوسط. لقد عاقبت محاكم التفتيش الكاثوليكية (engizisyon) ثلاث شرائح: الهراطقة (المنشقون عن المذهب)، الكيميائيون (رواد العلم)، والساحرات الجِنِّيّات (بقايا النساء الحكيمات). فوجود ثلاثتهم هو ترياق الدوغمائية، وعلاجها الناجع. وفيما بعد، كان مقدراً أن تتولد الذهنية النهضوية من رماد آلاف الجثث المحروقة من هؤلاء. لم يكن ميلاد نظام المجتمع الرأسمالي قدراً محتوماً، ولم تشتمل المطلقيةُ موضوعَ الرأسمالية في هذه المرحلة التي شهدت إحدى أعظم الثورات الذهنية. ولكن، كيف حصل أن صارت النظامَ المهيمنَ بالانتفاع من هذه الثورة؟ إن النوع الفكري والعقائدي الذي يستوجب التركيز فيه بإمعان ودقة، هو تأسيس الأواصر القطعية ورسم الخطوط المستقيمة بين الثورات الذهنية والأنظمة الاجتماعية البارزة على مر التاريخ. إنه الشكل المنعكس على التفكير العلمي لمفهوم "اللوح المحفوظ" في الكتاب المقدس. والمعتقد الدوغمائي الذي يقول "ما هو مكتوب على الجبين، سوف تراه العين"، على حد التعبير الشعبي؛ إنما يشير إلى مدى تفشي مثل هذا النوع من التفكير والمعتقدات. والنقطة التي نوهنا إليها بكل عناية ضمن التحليلات التي سعينا لطرحها، هي الروابط الكامنة بين هذا المفهوم والمفهوم الإداري للإرادة الهرمية الدولتية. إنه تقرب يتخذ من إقناع المجتمع بكون نظام "الأوامر" هو قانون إلهي، أساساً له، ويفرض التفكير فيه كقانون ومخطط للأحكام القانونية. وتتبدى تقاليد آلاف السنين من هنا "من العصر الذهبي"، لترسم سياقاً من التطور المستقيم المنتهي باصطلاحات "المحشر" و"الجنة والنار". فكرة القدَرية أيضاً هي من دواعي هذا المفهوم. إنه جدل محتدم بين أصحاب مذهب الاعتزال، وأصحاب مذهب اللوح المحفوظ، في العالم الإسلامي. وأساس هذا المفهوم، الذي لا يرى أي معنى في ضرورة النقاش الحر أو في تفضيل الإرادة الحرة ذات الخيارات المتعددة؛ إنما هو أكثر قِدَماً. حيث يمتد ليصل حتى العصور الميثولوجية المعتقدة بأن الآلهة الفَوطَبيعية (فوق الطبيعية) هي التي خلقت كل الحوادث والمجريات، وهي تدير شؤونها؛ ليواصل وجوده مع المثالية الفلسفية. في حين أن شكله المبتدئ مع عصر النهضة في الحضارة الأوروبية، والمستمر حتى راهننا، هو مفهوم ذو سياق تقدمي مستقيم الخط. هذا ويرتكز الإيمان القوي بـ"التقدم"، والسائد في المرحلة التنويرية، وكذلك المعتقد القائل بـ"ضرورة التوجه صوب الشيوعية" في الماركسية؛ في جذورهما إلى هذا السلوك الفكري الدوغمائي. لقد حَطَّمَت الظواهر التي برهن عليها الجزيء الأصغر من الذرّة، أي فيزياء كوانتوم؛ القوةَ التي تميز بها هذا التفكير. ذلك أن إحدى أعظم الثورات الفكرية التي تظهر أمامنا تشير إلى الحقيقة القائلة بأن التطور الطبيعي والمجتمعي لا يحصل في خط مستقيم متواصل، بل في مساحات الفوضى البينية، وفي عالم الجزيء ما تحت الذرّة، وعلى نحو منفتح لتفضيلات وانتقاءات متعددة ذات اختيارات حرة. وبالأصل، يمكننا بلوغ هذا الطراز الفكري من الطريق الحدسي والتصوري، دون الحاجة إلى اللجوء إلى فيزياء الجزيء الأصغر من الذرّة. حيث لا يمكننا تعليل النتيجة الظاهرة للعيان، والمتمثلة في التنوع اللامحدود للكون والطبيعة، من دون وجود قوة التطور التي تترك المجال مفتوحاً أمام الاختيار (الانتقاء) الحر في عالم كافة الظواهر والحوادث الموجودة. ذلك أن التنوعية تستلزم الحرية، في حين أن التقرب بخط مستقيم يفرض التطابق، وبالتالي اللااختيار. ولأجل تأمين إمكانية التقرب بخلاقية وإبداع، نلجأ إلى هذا التفكير العلمي الفلسفي، وإلى المرحلة المتسارعة بوتيرة أكثر اعتباراً من القرن الخامس عشر، والمنتهية بانتصار الرأسمالية المظفر. باقتضاب، كان من الممكن ألا يكون انتصار الرأسمالية قدراً محتوماً. يجب تناول بواعث انتصار الرأسمالية بنحو أقرب إلى الصحة. إن الماركسية التي أثرت علينا كثيراً، وبإعلانها أن الرأسمالية وكافة أشكال المجتمع الطبقي السابقة لها "خط اضطراري وضروري لتقدم التاريخ"؛ إنما قدمت بذلك أعظم مساهمة منها – دون أن تعلم، وخلافاً لمعتقداتها وآمالها وطموحاتها – إلى الرأسمالية، التي طالما كافحت ضدها بحدة. يكمن في صُلب الأفكار التي ذكرتُها في هذه المرافعة، قناعتي التي تشير إلى أنه "لا وجود لمبدأ الضرورة والاضطرار في أنظمة المجتمع، مثلما قالت به أشكال الفكر الأساسية، بما فيها الماركسية". أي أن المزاعم القائلة بـ"التطور الضروري والاضطراري"، سواء بالنسبة لأشكال المجتمع الفوقي أو الدولة؛ تحمل آثار الدعايات الرسمية الممتدة على طول آلاف السنين. بمعنى آخر، فمفهوم "القدر" القديم، متواصل في راهننا تحت غطاء علمي، وباسم "قوانين المجتمع الضرورية والاضطرارية". تعمل ديناميكيات التحول المجتمعي بشكل مغاير، بحيث لا يمكن تعليلها بالاعتماد على البنى الفوقية والتحتية فحسب. ذلك أن التحولات تحدث بتأثير عوامل متشابكة ومعقدة. نخص بالذكر هنا أن التفسير الدوغمائي للمادية الدياليكتيكية المؤثرة على قسم كبير من المتنورين المعاصرين، ومثلما بُرهِن عليه في انهيار الاشتراكية المشيدة؛ بدا غير واقعي، بل وتسبب في خيبات الأمل الكبرى لكل من عقدوا آمالهم عليه. إن ربط الأنظمة التاريخية للمجتمع بطراز النضال المتبع في السلوكيات الأيديولوجية والسياسية والأخلاقية للمراحل، سيكون تحليلياً أكثر من ربطها بمحصلة القوانين الضرورية الاضطرارية. فالقانونية في ظاهرتَي الفرد الإنسان والمجتمع الإنساني، إنما هي مرنة للغاية، وتتسم بخاصيات تخولها لإحداث التحولات السريعة. أما القانونية الصلبة المشاهَدة في الظواهر الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية، فهي سارية المفعول ضمن حدود الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا فحسب. وما يتبقى، فتحدِّده بنية العقل لدى الإنسان، وظاهرة المجتمع. لهذا الغرض، يستحوذ عدم ربط الإنسان والمجتمع بالمفاهيم القدرية على أهمية قصوى، من حيث إمكانيات وفرص التحرر. وسواء كانت الأحكام المسبقة، أو الأحكام القدرية، فهي تطلي ديناميكيات الإبداع الحر بالنشاء. وعندما يكون علم الاجتماع موضوع الحديث، فعلينا أن نضع نصب العين، في كل زمان ومكان، أن القسم الساحق مما قيل ويقال فيه يعود إلى الأنظمة الاجتماعية المهيمنة والمتسللة منذ آلاف السنين متخفية وراء أقنعة متغايرة في كل مرحلة. وأنه يلعب دوراً انحيازياً في يومنا الراهن، تحت غطاء العلمية. إن دراسة العلاقة القائمة بين المجتمع الرأسمالي والثورة الذهنية النهضوية المتسارعة والمتجذرة بنسبة كبرى اعتباراً من القرن الخامس عشر، ضمن هذا الإطار؛ ستكون منوِّرةً أكثر. لقد أثرت خاصيتان في ميلاد الذهنية النهضوية في مجتمع أوروبا الغربية. فضُعف وهزل ثقافة الدولة من ناحية، والذكريات الطازجة الحية لذهنية المجتمع الطبيعي من ناحية ثانية؛ كوَّنتا الأرضية الخصبة لظهور الفكر الحر الخلاق. وقد عجزت دوغمائيات الديانة المسيحية الصلبة عن منع تكوُّن شروط هذه الأرضية. وبات بالإمكان تخطي دوغمائية المسيحية، لدى التحام تلك الشروط المساعدة مع التأثير المشترك لثقافة المعلومات المتأتية من الشرق الأوسط حصيلة الحروب الصليبية من جهة، ومع الثقافة الإغريقية الرومانية من الجهة الثانية. تلعب مرحلة التمذهب (المذهبية) في الديانة المسيحية في القرن الثالث عشر، دور السبب والنتيجة على السواء في هذه المستجدات. إن المذهبَين الدومينيكاني والفرنسيسكاني يُعَدان تطورَين يستحقان الالتفات إليهما. وقد قُمِعَت مذاهب مشابهة في الديانة الإسلامية في هذه المرحلة، من قبيل المعتزلة، والإشراقيون. وهنا تبرز أهمية المساهمات التي قدمتها الاكتشافات الجغرافية، بما أمَّنَته من مراقبات وترصدات عالمية جديدة. أسفرت هذه المستجدات الثنائية الاتجاه (التركيبة الجديدة)، أي، ضعف ثقافة الدولة، وذكريات المجتمع الطبيعي من جهة، والميراث الإيجابي للديانتين الإسلامية والمسيحية – الموسوية هنا مؤثرة كثقافة أكثر جذرية – والثقافة الإغريقية الرومانية، والكشوفات الجغرافية من الجهة الأخرى؛ عن ولادة الذهنية النهضوية. يمكننا النظر إلى عصر النهضة بأنه القوة الإدراكية الثالثة الكبرى في التاريخ البشري. ذلك أن القوة الأولى هي حقبة الذهنية النيوليتية، التي بلغت أَوجَها في الحوض الداخلي لسلسلة جبال طوروس وزاغروس في أعوام الألف الرابع (4000ق.م) قبل الميلاد. حيث نشاهد أن كل الآلات التقنية اللازمة لانتقال الإنسانية إلى الحضارة، قد تشكلت في هذه المرحلة. فالعجلة، آلة الحياكة، آلات الحراثة المزدوجة، القرى الضخمة، اللغات البارزة، البنى الإثنية، والملاحم البطولية؛ كلها تخلق المعجزات والخوارق الملتفة حول القوة الإبداعية العظمى للمرأة الأم. وما دين الإلهة الأنثى في حقيقة الأمر سوى سمو عظيم بالذهنية، وتقديس لإنتاجية المرأة. كل اللُّقى المتبقية من هذه الحقبة تؤكد صحة هذه الحقيقة. فكلمة "ستار" التي لا تزال تعني "النجمة"، تعني في اللغة الآرامية – التي كانت اللغة والثقافة المهيمنة في ذاك العصر – الإلهة الأنثى. والأهمية التي تتميز بها كلمة "يا ستار" في راهننا أيضاً في اللغة الكردية – لغة الوطن الأم – والتي تعني "يا الله"؛ إنما تعبر عن الحيرة والعظمة والقوة العقائدية الكبرى. هذه الكلمة هي إيجاد غائر القِدَم، لدرجة أنها تواصل وجودها في كافة اللغات ذات الأصول الآرية، وإن بأشكال متغايرة. يمكننا القول أن جنة الدنيا قد خُلِقَت أولاً في هذا الحوض. حيث تشهد البشرية مئات من "البدايات" في الإنتاج والحياة الاجتماعية على حد سواء. فقوالب الموسيقا وضوابطها وآلاتها المخترعة في تلك الحقبة، لا تزال آثارها تبعث فينا القشعريرة وتهزنا من الصميم، لتعانق أرواحنا وتحاصرها. تشير البحوثات الجارية إلى أن هذه الثقافة، ولدى انتشارها صوب الحوض السفلي لنهرَي دجلة والفرات ووادي النيل ووادي البينجاب؛ أسفرت عن ظهور الحضارتين السومرية والمصرية، لتبدأ بذلك سلسلة عصور الحضارات المتتالية. أما مرحلة الذهنية العظمى الثانية، فتحققت في الأعوام ما بين (600 إلى 300ق.م) على ضفاف بحر إيجة. إنها المرحلة التي حققت فيها ذهنية الفلسفة والعلم وثبة عظمى تجاه الميثولوجيا العبودية. وتسمى أيضاً "عصر الحِكمة". كانت بلاد غرب الأناضول آنذاك كأوروبا الغربية في راهننا، حيث شكلت انعكاس الموجة الحضارية في الشرق على ضفاف بحر إيجة. وما لعبته الديانة المسيحية من دور في أوروبا، لعبته الحضارات الحثية والميدية والمصرية والكريتية آنذاك مجتمِعة. وهنا أيضاً شكَّل عدم تجذر تقاليد الدولة، الوجودُ الرصينُ لثقافة المجتمع الطبيعي، الجغرافيا الرائعة المعطاءة، ووجود البحار والجزر المذهلة؛ شكّل مجموع العوامل المؤثرة في ولادة الذهنية الجديدة. لا شك أن التجارة الشرقية – الغربية الكبرى أيضاً كانت عاملاً اقتصادياً مهماً فيها، حسب ما نستوعبه من بقايا طروادة. تكمن هاتان النهضتان أولاً في أساس النهضة في أوروبا الغربية. وإذا لم نفهم النهضة الحاصلة في حواف جبال طوروس وزاغروس، فلن نفهم النهضة الحاصلة على ضفاف بحر إيجة. وإذا لم نفهم هذه الأخيرة، فلن نفهم النهضة في أوروبا. وإذا ما توغلنا أكثر؛ لو لم نفهم كيف حدث انتشار الثورة النيوليتية الآرية المتكونة في الحوض نفسه – وكذلك ثقافتها ولغتها – في أعوام (5000 – 4000ق.م) من الصين إلى أوروبا، ومن أفريقيا الشمالية نحو القفقاس؛ لا يمكننا فهم كيفية تشكُّل الحضارات اللاحقة في هذه المناطق مع المجتمعات النيوليتية. يتميز فهم تدفق السياق التاريخي في هذا الاتجاه بأهمية قصوى من أجل فهم الثورات الذهنية الكبرى والأديان والبنى الاجتماعية. إنني أبين هذه النقاط لأن كل إنسان أوروبي (وأحفاده) عندما يقال له "الحضارة"، فأكثر ما يخطر بباله هو النهضة الإغريقية الرومانية والديانة المسيحية. بيد أن هذه التطورات الحاصلة في تلك المناطق ليست سوى محطات منفردة بذاتها ضمن النهر المقدس المتدفق، وهو يحفر ويحفر في قاع العصور الحضارية الممتدة على طول آلاف السنين، ويوسع يوسع أطرافها، ويفتح يفتح أمامها، ويُعلي يُعلي أعلاها، دون كلل أو ملل. أهم المزايا البارزة في الذهنية النهضوية هي، إعادة اكتساب الروح الإنسانية التي كانت أفنتها العصور الوسطى، العودة إلى الدنيا والطبيعة التي كانت محفوفة بغطاء من السوء والبغض، الانقطاع عن الدوغمائيات، والثقة بعقل الإنسان. فموهبة المعرفة كانت احتكرتها الدولة منذ أيام الرهبان السومريين، لتجعلها إحدى أهم الوسائل لتعزيز نفسها وترسيخها. لا يقتصر الأمر على الإنتاج الفائض وأدوات الإنتاج المتطورة، بل حتى المعلومات الأكثر فائدة تُحال مع أصحابها، وعلى الفور، إلى مؤسسة الدولة. حيث لا يُسمَح للعلم الجديد أن يخلق المساحات الحرة. ذلك أن مساحة العلم الحر تعني مجتمعاً جديداً. ومن دواعي طبيعة الدولة العبودية أنها ترى مثل هذه الكيانات خطراً يهدد وجودها، فلا مناص حينئذ من الهجوم عليها، إما بالاستيلاء عليها، أو بإزالتها من الوجود. لتفعيل الكنيسة لمحاكم التفتيش في هذه المرحلة معانيه البارزة. فالفرد عندما يكتسب الروح يتحرر. وأكثر من حوكِم بالانحراف عن المذهب هم ذوو الفكر الحر تجاه دوغمائية الدين. أما النساء المنعوتات بالجِنّيّات الساحرات، فيُحاكَمن لأنهن يحملن هويات غير هاضمة للمسيحية. في حين أن الكيميائيين هم الباحثون عن المعلومات المغايرة لما هو موجود. تتميز هذه التيارات الثلاثة بماهية قادرة على إحداث الثغرات في الدوغمائية. وبينما تعكس التيارات الفنية الحياة بما فيها من روعة وجمال، يتم تخطي ذهنية الطبيعة الميتة والمادة الجامدة. وتتشكل روح الفرد من جديد عبر آداب الرسم والموسيقا والمعمار، شكلاً ومضموناً. الفرد المكتسب للروح والفكر الجديدين، هو الإنسان الذي ينضح بالحيوية، بحيث يضيق عليه جلده. وبهذا الفرد، لا يُسعى لفتح (اكتساب) الأراضي الجغرافية فحسب، بل والطبيعة أيضاً. المرحلة في الوقت ذاته مثيرة ومحفِّزة لتَصَوُّر اليوتوبيات الجديدة، حيث باتت الألبسة القديمة ضيقة عليها. لكن، وبسبب عدم مواءمة الشروط المادية لذلك، أُسِّسَت اليوتوبيات المنتظمة فحسب. لم يَعُد ثمة رغبة للعودة إلى أجواء الدنيا المضجِرة القديمة. ولكن، لم يُجزَم بعد تماماً بكيفية شَرع الأبواب أمام الدنيا الجديدة المرتقبة. هذه البحوثات ستحث على البحوثات في العلم والفلسفة. فبقدر الانقطاع عن العالم القديم، سيتم الانفتاح نحو العالم الجديد. ولدى الانفتاح بالانتقال من الدين الكوسموسي (cusomus) نحو الفلسفة، فُتِح الباب أمام الثورة العلمية الكوبرنيكية. وخطا ديكارت خطوته الأساسية نحو الثورة الفلسفية، دون أن يُدخِل ثنائية "المادة – الروح" والإله في صُلب الأمر. وبإقحام "غاليليو غاليلي" المعاييرَ على العلم، قدّم أعظم مساهمة وأقواها لمرحلة سلسلة الثورات المتوالية. ومع "نيوتن" يغدو الكون مستقلاً عن الإله، ليكتسب قدرته على الحركة والسير بموجب قوانينه هو. أما الفترة المتراوحة بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، فقد شهدت مرحلة تجذر الثورات الفلسفية والعلمية والفنية. وأَلحَقَت البروتستانتية بذلك ضربةً قاصمة بالكنيسة المتصلبة ودوغمائيتها المتحجرة، رغم دوران عجلة محاكم التفتيش التي لا تعرف التوقف؛ ليحوز الدين بحرية العقيدة الفردية. إن الانقطاع عن الكنيسة هو في مضمونه انقطاع عن سلطة الدولة. فالكنيسة الكاثوليكية هي الدولة بحد ذاتها، وهي الدرع الحصين الحامي للدولة الإقطاعية، والمحيط بها في نفس الوقت. إذ لا يمكن التفكير في دولة بلا كنيسة. والكنيسة بالأصل تحارب باسم الدولة. إن تحرير الثورة الذهنية للفرد يعني انهيار عبادة الدولة. وحتى لو حصل ذلك بمظهر مذهب مختلف، فالمنهار هو مشروعية الدولة الإقطاعية. يشكل التطور الحاصل في القرن الثامن عشر تطور الأساس الركن لجماهير النهضة، حيث خرجَت الثورة الذهنية من كونها فكر وأمل وروح جديدة لحفنة من الناس، لتكتسب قاعدة جماهيرية واسعة لها لغتها الخاصة، تماماً كما الدين الجديد (الديانة المسيحية أو الإسلامية). وغدا وجود هذا الكم من الجماهير الحرة في كل بلد من بلدان أوروبا الغربية يشكل تهديداً حقيقياً، سواء بالنسبة لدولة (رهبان) الكنيسة الكاثوليكية، أو للدول المَلَكية. وبات من الصعب التحكم بشؤون هذه الجماهير وتسييرها عبر محاكم التفتيش. ثمة حاجة للحرب. وما حروب المائة عام، وحروب الثلاثة عقود، سوى تعبير عن هذه الحقيقة. والمغلوب على أمره إزاء بلدان أوروبا المستيقظة، سيكون الكنيسة الكاثوليكية والنظم المَلَكية. ومع اندلاع الثورات الإنكليزية في عام 1640، والأمريكية 1776، والفرنسية 1789؛ بدأ عصر انتصار المذاهب والدول القومية. تحظى إعادة النظر في تعاريف الثورة بأهمية ملحوظة من أجل تحليل مراحل الأزمات لصالح التيارات الديمقراطية البارزة. فتقييم الثورات الأوروبية عموماً بأنها "ثورات بورجوازية"، إنما هو ثمرة التقرب الطبقي المحدود للماركسية. وكأنه هدية موهوبة للبورجوازية، تحت ذريعة التشبث بالبروليتارية. لا جدال في وجود التأثير الأعظم للتعليل الدوغمائي للمادية الدياليكتيكية في ذلك. وإذا ما اعتبرناه شكلاً منعكساً على العصر الجديد من العقيدة القدرية التي تفترض تطور السياق التاريخي ضمن خط مستقيم، مثلما قُرِّر به في مفهوم "اللوح المحفوظ"؛ سنكون قد دنونا من الحقيقة المرئية أكثر فأكثر. بدون تخطي هذه الدوغمائية، التي عانيتُ أنا أيضاً من تأثيرها البليغ، لن نتمكن من تحليل المضمون الخارق في الغنى للحقيقة القائمة. ما من كِتاب من الكتب الطبقية الرأسمالية يتداول فكرة أو نظرية أو برنامجاً معيناً بصدد الثورات الإنكليزية والأمريكية والفرنسية. فالذين لعبوا أدوارهم في هذه الثورات لم يعلنوا أنفسهم كممثلين للطبقة البورجوازية. حيث كانت الغالبية الساحقة من الجماهير المنخرطة في صفوف هذه الثورات، تتشكل من الفقراء المطالبين أساساً بالحرية والمساواة. كذلك، فالزعم بأن الحركات النهضوية والإصلاحية والتنويرية السابقة لها، اتخذت الطبقة البورجوازية أساساً لها؛ إنما هو مبالغة مفرطة. فالبورجوازية عندما كانت تتنامى وتتصاعد كطبقة – بكل جهودها المبذولة – لم تكن تفكر أو تهتم بأي شيء، سوى تراكم وادخار رأس المال المعتمد على الربح والمنفعة. ما من جدل في أنها كانت تعي تماماً الروابط القائمة بين الدرب المؤدية إلى الربح، وبين وظيفة الدولة. لقد كانت تبذل جهودها في سبيل التأثير على السلطة والاستحواذ بها للاستيلاء عليها. لكنها لم تكن تملك بين يديها نظرية وبرنامجاً ثورياً بشكل خاص. إن الشروط الموضوعية الكامنة في أسس الثورات هي حصيلة للتطور الطبيعي الطويل الأمد للتاريخ. لم يكن المفكرون والناشطون السياسيون – كأعضاء ذاتيين – يمتلكون برنامجاً، أو حتى حزباً ثورياً بورجوازياً خاصاً بهم. لقد كانوا يشكلون تيارات مدعومة بحماية بعض الرجال الأغنياء، الذين كانوا في غالبيتهم من ذوي السمات الإقطاعية، ومن المعنيين بالعلم والفن. أما المطاليب البارزة في الصدارة، فكانت الحنين إلى عالم إنساني مثالي، حر ومتساوٍ. كانت كل اليوتوبيات المكتوبة مناقضة للرأسمالية. إذن، والحال هذه، كيف صار واعتُبِر هؤلاء المفكرون والمناضلون أناساً بورجوازيين، وغدت الثورات ثورات بورجوازية؟ كلنا نعلم أن البورجوازية خلال هذه الفترة، قامت – كطبقة جديدة – بما تقوم به كل قوة تسعى إلى بسط نفوذها، لتستولي على دفة الحكم والسلطة، كلياً أو نسبياً. وقد نجحت في ذلك. يجب الإدراك يقيناً أن جميع القوى الهرمية والدولتية اعتمدت على ضرورات الفن المسمى بـ" السياسة"، لتستلم دفة الحكم وتُخلَع منه آلاف المرات، وأن هذه الأداة المساعدة على السلب والنهب والاستغلال، استمرت في وجودها دون انقطاع؛ وأن القوة الأخيرة المتسامية والمستحوذة عليها – والشبيهة لسابقاتها – لن تتصرف بشكل مغاير أبداً. جميع الثورات هي ثمرات كدح الشعوب. وقد تنضم القوى القديمة أو الهرمية الدولتية إلى عمليات الشعوب بين الفينة والفينة. خاصة وأنها – أي تلك القوى – تتميز بعقلانيتها ومغامرتها في أيام ازدهار الثورة وانتصارها. إنها خبيرة ماهرة في استثمار مطاليب المسحوقين لصالحها هي. ولا تتناقص مثل هذه المحاولات أبداً في جميع الثورات، سواء أحرزت النصر أم لا. فعلى سبيل المثال؛ عندما خطط سيدنا عيسى لعمليته وتعمق فيها، لم يكن يفكر بها في سبيل تأسيس الإمبراطورية البيزنطية. بل وكان في جوهره ضد قوة الإمبراطورية. لكن الحركة التي أسفر عنها، لم تنجُ من أن تكون آلة بيد هذا الشكل من الدولة، والذي كان الساحة الموائمة لأكثر الأباطرة مكراً وخبثاً. وسيدنا محمد أيضاً لم ينجُ من أن يكون أداة لبناء الإمبراطورية (الأموية)، عبر تغلبه الساحق على أرستقراطية مكة المكرمة بفكره وعمليته، بل وبإبادته "أهل البيت". لا يستطيع أحد الزعم بأن سيدنا محمد خطط لإمبراطورية إقطاعية. وهكذا، يمكن سرد المئات من الأمثلة المشابهة. قد يقال: "إذن، والحال هذه، ما من ثورة قامت بها الشعوب وفلحت". سننوه هنا إلى ضرورة التحليل المغاير لهذه الظاهرة، مع التذكير بأننا سنعالج هذا الموضوع بشمولية في الفصل اللاحق. لذا، سنكتفي بالقول: "لا محاولات الشعوب ذهبت سدى، ولا مشكلة السلطة تم تحليلها". الغرض الأولي من هذه المرافعة هو تفتيت هذه العقدة الكأداء وتفكيكها. والدرس الأهم الواجب استنباطه هنا، هو الإدراك بأن تفجر الأيديولوجية التسلطية وخرقُها هو الدرع المجتمعي الأكثر رصانة وحصانة. تتطابق مضامين المطاليب في "الحرية، الأخوّة، المساواة"، والتي تعد السمات العامة للثورات الأوروبية، مع المطاليب المنادى بها تجاه التسلطية والاستعمارية منذ تأسيس الهرمية. فكيفما أبدت سلطة الدولة تطوراً متتالياً كحلقات السلسلة المتعاقبة، فحركات الشعوب أيضاً تتميز إزاء ذلك بسياق تطورها التاريخي الخاص بها. كلا الظاهرتين الجدليتين تؤثران وتتأثران ببعضهما البعض بعلاقاتهما وتناقضاتهما. من العصيب جداً إدراك وتفهم التحولات المجتمعية الأساسية، وفي مقدمتها مراحل الثورة، عبر تعميمات مجردة، دون رؤية هذه الثنائية للدياليكتيك المجتمعي بخاصياتها وعمومياتها، ضمن مرحلة التطور التاريخي. إلى جانب كون القومية والمجتمع الرأسمالي على علاقة ببعضهما كصياغات أساسية للحضارة الخاصة بأوروبا، فإن وجود أحدهما لا يشترط الثاني بالضرورة. فتكوُّن القومية وتشكُّل المجتمع الرأسمالي، كل منهما يتميز بمنطق مغاير للآخر. وتشكُّلهما في ذات المرحلة لا يشير إلى امتلاكهما ذات المنطق. هذا وإظهار البورجوازية نفسها كقوة رائدة للقومية، إنما يرتبط عن كثب بمآربها الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية. يُعبَّر عن هذه الروابط في اللغة الأيديولوجية باصطلاح "القوموية"، وفي السياسة والاقتصاد باصطلاح "الليبرالية". إنها أسلحة مثلى للتأثير على الدولة والشعب في آن واحد. فكلاهما ظاهرتان تَصَوُّرِيّتان وافتراضيتان، وأداتان دعائيتان قويتان. كلنا نعلم علم اليقين أن البورجوازية تسامت إلى السلطة بالأرجح عبر هذه الوسائل، لتؤمِّن سيرورتها. تحتل هذه الأدوات الشعاراتية حيزاً محدوداً في حركات النهضة والإصلاح والتنوير، التي جعلت أوروبا تغدو "أوروبا". ولكن، حينما نصل القرنين التاسع عشر والعشرين، نرى أنها ستضرم الأجواء وتؤججها. ونرى أن مصطلحَي "البروليتاريا، الشيوعية" اللذين نادت بهما الشرائح المسحوقة والمستعمَرة، سيُستخدَمان على نحو مشابه. لكنهما، وانطلاقاً من دواعي مضمونهما، لن يُظهِرا القدرة على إحراز النصر عينه في فن السلطة. أود التنويه بدقة فائقة إلى النقطة التالية: لا يمكن إدراك الثورات، التي تتميز بلحظات مهمة من الانكسارات وإعادة البناء في التحولات المجتمعية، بشكل موضوعي عبر بنى المنطق اليساري واليميني السائدة في القرنين التاسع عشر والعشرين. لا يزال التعريف الصحيح لحركات التضحية العظمى باسم الإنسانية يحافظ على أهميته وأولويته. فبمجرد النظر إلى طراز انهيار السوفييتات والنتائج المسفرة عنها، يمكن تفهم أهمية الحاجة الماسة لإعادة تعريف التضحيات الجسام التي قدمها الملايين في سبيل الثورة السوفييتية. لقد دخلت مواضيع السلطة والعنف وأدوات التمويه الأيديولوجي دائرة الجدل والنقاش، ولو بشكل محدود، بعد ظهور هذا الكم الهائل من الآلام الأليمة والعنف وإراقة بحور من الدماء باسم الحداثة في القرنين الأخيرين؛ وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وما تركته من آثار مروِّعة. من الضروري استيعاب حقيقة البورجوازية ضمن هذا الإطار، باعتبارها الشكل الطبقي الأساسي للرأسمالية. ذلك أن الاكتفاء بنعتها بالطبقة القمعية والاستعمارية الجديدة، لا يشير إلى الجوانب الخاصة فيها. بل يشيد بسمة عامة تشمل كافة طبقات السلطة والاقتدار. تكمن خاصية الطبقة البورجوازية في استخدامها الفردية والذكاء التحليلي تجاه المجتمعية بشكل أعظمي، لتنجح بالتالي في تفتيت وتشتيت النسيج الأخلاقي المحيط بالمجتمع، بما لم تقدر عليه أي طبقة من الطبقات السلطوية الأخرى. المجتمع الطبيعي أيضاً كان في بدايات انهياره مناهضاً، وبحدة، لتراكم القيم على حساب المجتمع. لذا، كان يَعتَبر أن الموزِّع الأكبر لهذه القيم المتراكمة هو الفرد الأنبل والأقدر. لقد كان متنبهاً تماماً لخطر تراكم القيم. ولم يكن هذا الأمر ممكناً إلا بعد المرور إلى المجتمع والدولة الهرميَّين. وهذا بدوره لم يكن ممكناً إلا بوجود قوة السلطة الخاصة. فالتراكم أدى إلى تكوُّن هذه القوة من جهة، وإلى بدء تكوين هذه القيمة إياه من الجهة الثانية. هكذا برزت إلى الوجود سلسلة المنطق الارتكاسي الرجعي. حيث كان أكثر المدخرين للقيم هم أكثر الحائزين على قوى السلطة. وإذا ما تمعنا في الأمر عن كثب أكثر، سنجد أن الادخار والتكديس نوع من سلب المجتمع ونهبه. لقد حصل هذا لأنه كان من المستحيل التفكير بالقيمة بلا مجتمع. من هنا، فالإدراك الصحيح والسليم للمجتمع الطبيعي، يؤول إلى تحديد أهم مبدأ أخلاقي على الإطلاق. فما دام المُعَيِّن لجميع القيم هو المجتمع، إذن، والحال هذه، لا يمكن حصول التراكمات – الفردية منها أو المجموعاتية – دون رضاه وقبوله، أي خارج نطاق مصالحه ومنافعه. في الحقيقة، إن ما شوهد في جميع الحروب من سلب ونهب وغنائم، ليس إلا تعبيراً عن تفسخ وتردي هذا المفهوم، ولا أخلاقيته في المجتمع الطبقي. فأصحاب السلطة، ولكي يُضعِفوا من قوة بعضهم البعض، جعلوا من تجريد بعضهم البعض من القيم المتراكمة مبدأً أساسياً لهم. إنهم لا يخطئون أبداً في موضوع تحديد المصدر الأس للقوة. فرغم وجود شرائح التجار والحِرَفيين منذ بدايات الحضارة، كنموذج مصغّر عن نمط الطبقة البورجوازية، إلا إنها أُدرِجَت دوماً في دائرة المراقبة والتحكم، باعتبارها خطر مهدِّد. لقد كانت المراقبة عليهم مستمرة، بحيث لا يتخلصون أبداً من التعرض للنهب والسلب الكثيفين. كذلك هي حال قوة الدولة العبودية والإقطاعية المعتمدة على مُلكية الأرض. حيث نظرت بعين الشك دائماً إلى تشكُّل شريحة ثالثة عدا العبيد والأقنان، مما حفّزها ذلك على عدم إنقاص مراقبتها إطلاقاً. فالتاريخ الحضاري يرى في تشكل كيان آخر عدا طبقة العبيد أمراً منافياً للطبيعة. وثمة أخلاق ووجهة نظر عالمية مترسخة على هذا النحو ضمن هذا النظام المستمر حتى الحضارة المرتكزة إلى واقع الطبقة البورجوازية. هناك أحكام وقواعد أساسية بشأن الحرب والسلطة. فالتوازن المؤسَّس في داخلها، كان متسماً بقدرته على مواصلة ذاته على مر آلاف السنين. حيث يتميز بأفق تطبيقي محدود في إدارة شؤون المجتمع، إلى جانب لجوئه إلى العنف والقانون في ذلك. إن ما أمَّن ثبات المجتمع وصموده أساساً، هو النسيج الأخلاقي، الذي عرف كيف يصون مزيته هذه، رغم محاولات قوة السلطة المتواصلة لتعريته وإفنائه. وكون هذه القوة تشكل حفنة أقلية نسبةً إلى ضخامة المجتمع، إنما هيأ الأرضية المساعدة على تحقيق ذلك. وبولادة الطبقة البورجوازية انهدم هذا التوازن العظيم. إنها طبقة متضخمة في حجمها، بحيث لا يطيق المجتمع تحملها، سواء كقوة سلطة وتسلط، أو كقوة استعمار واستغلال. ذلك أنها كانت مرغمة على استثمار المجتمع برمته في سبيل تحقيق سلطتها واستعمارها. لهذا السبب كانت الماركسية أعلنتها – عن حق – كآخر طبقة سلطوية واستعمارية. فتطَوُّرها وتناميها كطبقة، يستلزم دائماً بعثرة المجتمع وتشتيته. وهذا ما يتطلب أولاً، وقبل كل شيء، تمزيق الأخلاق شر تمزيق، باعتبارها النسيج الأساسي المحصن للمجتمع والحامي إياه. أي أنه يستحيل أن يتشكل المجتمع الرأسمالي، دون تمزيق وإزالة الأخلاق، التي ما هي في أساسها سوى عاطفة الحرية والمساواة للمجتمع الطبيعي. إلى جانب صحة مقولة ماركس الملفتة للأنظار في تعبيرها في "البيان الشيوعي"، والتي يقول فيها: "لقد مَسَحت البورجوازية وكَنسَت كل ما له علاقة بالماضي"؛ إلا إن هذه العملية ليست عملية ثورية، بل مدمِّرة ومناهضة للمجتمع. فعزل المجتمع من أدوات حمايته لذاته وتجريده منها، ليس بحركة ثورية. بل هو، بأقل تقدير، حركة مناوئة للإنسانية، لا غير. إن البورجوازية المستحوذة على قوة السلطة والاستعمار، تُعتَبَر مرضاً سرطانياً خبيثاً تسلل إلى رحم المجتمع. ولا داعي لأن يكون المرء رجل علم حتى يتمكن من تحديد الروابط القائمة بين أمراض السرطان الخبيث والأيدز وغيرها من الآفات المستعصية من جهة، وبين ذاك السرطان الاجتماعي من الجهة الثانية. عندما يُعرِّف "هوبز Hobbes" الحاجة إلى السلطة (الدولة) في شروط ولادة المجتمع الرأسمالي، يقول فيها بأنها أداة "لإعاقة تَحَوُّل الناس إلى ذئاب تنهش بعضها". إنه تثبيت صحيح، ولكنه معكوس. أي أن الرأسمالية تؤسس سلطتها بغرض تحويل الناس إلى ذئاب تنهش في بعضها. ففي الواقع الحديث، لم يصبح الإنسان ذئب أخيه الإنسان فحسب، بل هو ذئب مسلَّط على الطبيعة بأكملها. ما الذي ستُبقي عليه هذه الطبقة (الهارعة وراء التراكم والربح الأعظمي) في المجتمع والطبيعة وتدعه وشأنه، في سبيل استغلالها واستثمارها؛ وبعد أن تستولي على عرش السلطة المفرطة في القوة؟ سيكون من الناجع أكثر فهم آلية المصطلحات التي حللتها الماركسية بإسهاب داخل الرأسمالية، ضمن هذا الإطار؛ من قبيل القيمة، الربح، الكدح، المشاطرة، الإمبريالية، الحرب، وغيرها. ويتماشى تعبير "سيأتي الدّجّال"* القريب من يوم الحشر، والمذكور في الكتب الدينية؛ بشكل كبير مع حقيقة هذه الطبقة. ذلك أنه ما من نظام مجتمعي حاكم آخر امتلك كل هذه القوة الهجومية والمدمِّرة تجاه دعائم المجتمع وبيئته الطبيعية. لقد بلغ واقع الطبقة البورجوازية، الذي ولّد الفاشية والقوموية العِرقية من الظاهرة القومية، والكوارثَ الأيكولوجية من ظاهرة التحكم في الطبيعة، وولّد كذلك البطالة المتفاقمة من ظاهرة الربح والمنفعة؛ بلغ مرحلة سيلتهم فيها نفسه بنفسه. فهذه الطبقة تفقد ماهياتها الذاتية مع مرور كل يوم، لتتجه نحو الزوال. أي أن الثورة المضادة لها لا تقوم بها البروليتاريا، بل هي بذاتها. ولن يكون بمستطاع الزمن المجتمعي الجديد أن يكوِّن ذاته، إلا عندما تستعصي مواصلة وجود هذا الواقع الطبقي، وبالتالي عندما ينهار ويتفكك. باعتبار أن مرافعتنا هذه تتسم بماهية الأطروحة، فهي غير مخولة لدراسة ومعالجة المراحل الأساسية للرأسمالية، وفي مقدمتها كيفية إلحاق الرأسمالية لكل الأنظمة السابقة لها بذاتها، تدوُّلها، ربطها العلم والفن بالسلطة وإتباعهما بها، انتقالها إلى المرحلة الإمبريالية، تطورها المختل، وحروبها. المهم هنا هو تفعيل المنطق الأساسي لهذه المراحل، التي تُعتبَر كل واحدة منها موضوعاً يتطلب تدوين كتب عديدة ومختلفة لدراستها. يمكننا تطوير تعريفنا للطبقة بأبعاد أخرى. فما نجم عنها من انهيار للاشتراكية المشيدة، وتحويلها الحركات (والدول) التحررية الوطنية إلى قوة احتياطية، وتسخيرها الديمقراطيين الاجتماعيين لمآربها؛ إنما هي آليات هامة. ومن مهارات واقعنا الطبقي المهيمن الجديد، بدءاً من العلم والتكنولوجيا وحتى المجتمع الإنساني، إنتاجُه الربح لذاته عبر الدعايات حتى فيما يتعلق بأتفه المواضيع، واستخدامه النشاطات الرياضية والفنية بدور مخدِّر، وإخراج البروليتاريا والمتنورين من كونهم متمردين تجاهه، وإدخاله إياهم في حالة يرتجون فيها العمل منه، إفراغ محتويات كل ما هو موجود باسم القدسية، وإخلاؤه تصورات العالم الناضح بالحيوية والنشاط للنهضة لتحل محلها وجهة النظر الآلية (الروبوتية) الجامدة. يتصدر عمق الماهية المؤسساتية للرأسمالية قائمة التحديثات التي أدخلتها على بنية السلطة. حيث تم الانتقال من السلطة المرتبطة بالشخص إلى نظام السلطة التي تربط الأشخاص والأحزاب، بل وحتى المجتمعات، بها. لقد تطورت الماهية التجريدية والمستترة للسلطة، ذات الآليات المكونة من طوابق الأيديولوجيا والسياسة والاقتصاد. وانطلاقاً من مفهوم القومية، أَقنَعَت الجميع بامتلاكها للسلطة القومية بأكملها، عبر النزعة القوموية المبتدَعة، والتي تتضمن الاعتقاد القائل باستحالة كون السلطة مُلكاً للقومية بتاتاً. بل إن المجموعات الإثنية والسلالات وشرائح الأقليات القومية، هي الصاحبة الحقيقية للسلطة، في كل زمان، وفي كل مكان. لكن، وبالمقابل، يُخلَق نظام يجعل كل فرد – حتى الفرد المسحوق القابع في القاع – يرى نفسه (بمعنى من المعاني) صاحب السلطة. بالتالي، يمكن، وبكل سهولة، مشاهدة زوج يؤدي دور "الإمبراطور الصغير" تجاه زوجته، مهما كان فقيراً، ومهما كانت العائلة قابعة في قعر النظام. وبشكل متسلسل، تلعب الزوجة بدورها هذا الدور إزاء أطفالها. والأطفال؟ ماذا عساهم فاعلين عدا تكرار النظام نفسه عندما يكبرون؟ إن تأسيس سلسلة التسلط على هذه الشاكلة هو خاصية من خواص النظام القائم. الأحزاب أيضاً أُسِّست حسب السلطة، مثلما هي حال الأفراد. والآلية الأساسية هي نقل الدولة إلى المجتمع، والمجتمع إلى الدولة. لقد بات المجتمع بذاته مُلكاً للدولة. والدولة ممتطية على رأس المجتمع، وعلى كل طرف فيه، كالإله المستتر. ربما كانت ذهنية السلطة التي خلقتها الأيديولوجيا، هي أعظم كذَّاب ومخادع. أما آلية فن السياسة في المجتمع، فهي على النحو المذكور، باعتقاد المرء أنه صاحب الدولة، وقناعته بضرورة خدمتها؛ والتي تمنح بمضمونها هذا أرقى أشكال الديماغوجيات السياسية. فالسياسة ليست – كما يُظَن – وسيلة الاقتدار والتسلط، بل إنها أداة لحماية السلطة، ونشرها وترسيخها. نخص بالذكر هنا دور السياسة على هذا المنوال تجاه الديمقراطية. إذ من العصيب الحديث عن ظاهرة تحث على إنكار الديمقراطية بقدر فن السياسة. معلوم أن السياسة تعني إنكار الديمقراطية منذ أيام إمبراطورية أثينا. التحم الاقتصاد بالسلطة أكثر من أي وقت مضى. وإدارة الاقتصاد هي في الوقت عينه اقتصاد سياسي. إننا في عصر، ما من فرد أو مجموعة يستعصي جذبها إلى المستوى المطلوب، عبر سلاح الاقتصاد. الشعار الضارب للعين في هذا العصر هو: "ما من قيمة يستعصي على النقد (المال) تفكيكها أو استئصالها، وما من قوة لا يمكنه الاستحواذ عليها". يمكننا توسيع نطاق التعريف المتعلق بمضمون السلطوية أكثر فأكثر، فيما يخص الدولة القومية. فالدولة القومية هي الشكل المعاصر لتسميات الدولة الرهبانية، السلالاتية، والدينية المتبقية من العصور الغابرة. إنها الطوابع المختومة على جوهر السلطة. وهي الحدود المحفوفة باللغة والتقاليد المشتركة في مرحلة تنامي الرأسمالية، وكذلك التوسعات والتضخمات الجغرافية المفضلة من أجل تراكم مثالي. أي أن الأساس هنا ليس مفهوم الوطن، بل مصطلح ساحة الربح والتراكم المساعد. فهذه الساحة المنغلقة في وجه المبارزين الخارجيين، هي الساحة المثلى من أجل ضمان تراكم رأس المال، وتعزيز السلطة. وولادة النزعة القوموية هي حصيلة لهذا التطور المادي. فتقهقر الذهنية الدينية مع ظهور العلمانية (استيعاب العالم برمته)، إنما يشير إلى الحاجة لغطاء أيديولوجي جديد. هنا تحرز الأيديولوجية القوموية تطوراً سريعاً، نظراً لارتباطها بظاهرة القومية. هذه النزعة القوموية، التي كان يجب التفكير بها – مضموناً – بأنها الشكل الأكثر تطوراً للعواطف والمشاعر الإثنية (العشائرية) القديمة؛ أظهرت نفسها كعقيدة خادمة، حلت محل الدين والعواطف الإثنية المشتركة. ولدى بدء ممارسة القمع والاستغلال إزاء الإثنيات والمذاهب والأديان وما شابهها من العناصر الأيديولوجية في الداخل، وإزاء الظواهر والأنظمة الاجتماعية المشابهة في الخارج؛ تحولت القوموية إلى مفهوم عِرقي أسمى. وترك مفهوم "الدين الأسمى"، الذي ساد في وقت من الأوقات، مكانه لمفهوم العِرق القومي الأسمى. وابتدأت القوموية – كما الدين – مجدداً بتقييم المجتمع الذي كانت الذهنية العلمية نوَّرَته. ولعبت الذهنية المشحونة بالنزعة القوموية في القرنين التاسع عشر والعشرين، دور الأداة المشروعة الأكثر ملاءمة لتحفيز المجتمعات على الانخراط في كل أنواع العنف والحروب، تماماً كمفهوم الحرب المقدسة. وكيفما شهد القرنان السابع عشر والثامن عشر أعوام ولادة القوميات بكثافة، كان القرنان التاسع عشر والعشرون مرحلة تصاعدت فيها النزعة القوموية وتأججت. وغدا عصر النعرة القوموية، الذي بلغ ذروة سلطة الدولة في الحرب العالمية الثانية، بداية آخر وأشمل أزمة تمر بها الرأسمالية، من خلال التخريبات والدمار الناجم عن تلك الحروب. وأُدرِك استحالة تماشي النعرة القوموية مع الإنسانية إطلاقاً. إن ولوج النظام القائم عصر الأزمة مبكراً، لا يعني افتقاده لقوته فحسب، بل وينمُّ عن خطر ضرب كل القواعد والأحكام عرض الحائط، والإفراط في الاستعارة والطيش الجنوني. تُعَد انتفاضات 1968 أكبر انتقاد وأشمله للنظام الموجود. هكذا كانت برهنت تلك الانتفاضات استحالة مواصلة الرأسمالية ذاتها، بعد بلوغها مفهوم السلطة التوتاليتارية، سواء بشكلها الاشتراكي المشيد أو الفاشي. واستحالة التواصل تعني الأزمة. وهذا ما شهدته الإنسانية. هذه المرحلة التي يمكننا تسميتها أيضاً بـ"الفوضى"، إنما هي مغايرة للنهضة. فبينما كانت النهضة مخرجاً من أزمة المجتمع الإقطاعي، فإن المرحلة التي ولجتها الرأسمالية في السبعينات هي الفوضى. وماهية التحديثات والفوارق التي ستسفر عنها، ستحددها قوة ونوعية النضال الذي سيُخاض خلالها. ما يجب الانتباه إليه هنا، هو التغيرات التي أضفتها هذه المرحلة على وجهة النظر (البراديغما) العالمية الأساسية. إن النتائج المتمخضة عن انهيار كافة القيم الأخلاقية الموجودة في البنية الداخلية للمجتمع، وغسل النعرة القومية جميع الذهنيات وملئها إياها، والتخريبات الأيكولوجية من الخارج؛ تؤدي إلى تفشي وجهة نظر عالمية ذات تطابق روبوتي (آلي)، رمادية اللون، باهتة، عديمة النكهة والطعم، مفتقرة إلى الأمل والطموح والمعتقدات، وعديمة الأهداف. أما القلق والإجهاد، الحدة، النقمة والنفور، العنف، الغرائزية الشهوانية، الوحدة والعزلة الفردية، انعدام القيمة الاجتماعية، سيادة منطق العلاقات المتطلعة إلى المصالح الشخصية، انعدام الوفاء والإخلاص، عدم الاهتمام بالفلسفة الإنسانية المثالية، الأنانية المفرطة، وافتقار الحياة تدريجياً لمعناها المقدس؛ إنما تشكل جميعها النفسية المهيمنة والجو الاجتماعي السائد في الأزمة. والبحوثات والتطلعات الجديدة الجذرية، لا تنمو إلا في أوساط كهذه. حيث أن الماهية الدائمية للأزمة الخانقة تستلزم ذلك. ولأول مرة في التاريخ، يبلغ نظام الإمبريالية والقمع القومي والطبقي للسلطة الرأسمالية هذه الضخامة التي تمكِّنه من استيعاب العالم بأكمله وتطويقه إياه، بحيث لم يبقَ مكان لم يحتله. لقد ترسخت هذه الحقيقة في نهايات القرن التاسع عشر، بحيث وصل التسلط والتحكم والصهر، بل وحتى الإبادة الجماعية القومية والطبقية والإثنية والدينية والجنسية، المرحلةَ الأكثر تفشياً وانتشاراً في التاريخ. إنه العصر الذي غدا فيه الناس ذئاباً تنهش في أبناء جنسها أكثر من أي عصر آخر. وإذا ما نظرنا من زاوية التطبيق العملي للإمبراطورية أيضاً، فسنجد أنها وصلت مع أمريكا إلى مرحلتها النهائية. إننا في آخر عصر إمبراطوري. ومن الناحية النظرية، تسري أمور هذه الإدارة على النحو التالي: تَخَطّي سلطة الدولة لحدود مدينة أو وطن أو قومية ما، تَرَكُّزُها في شخص واحد، التوسع المستمر الدؤوب، التوقف ومن ثم الجزْر والتقهقر، وأخيراً مرحلة الانهيار. إن استيطانها في نظام المجتمع يولِّد تأثيرات متتالية. فكل سلطة جديدة تضطر لتصبح إمبراطورية تحذو حذو سابقتها، وتسير على أثرها. هذه الاستمرارية التاريخية المبتدئة من السلالة الأكادية لدى السومريين في أعوام 2350ق.م (أي في التاريخ المدوَّن، حسب ما نعلم)؛ تتواصل في راهننا مع سلالة "بوش" في الدولة الأمريكية. الغريب في الأمر أن الإمبراطورية الأخيرة تشهد اشتباكات محتدمة في نفس المنطقة التي ولدت فيها الإمبراطورية الأولى. إذن، يمكننا هنا التفكير في مبدأ حماية النباتات وجودَها اعتماداً على جذورها. لا مكان للدولة أو القومية أو المجتمع المستقل كلياً في واقع الإمبراطورية. أو بالأحرى، قد يُهدَف إلى الاستقلال التام، ولكنه يتسم بتطبيق عملي نادر جداً. أما الحقيقة المهيمنة، فهي التبعية ضمن نطاق الإمبراطورية الحاكمة. قد تختلف مستويات التبعية، ولكنها لا تغير شيئاً من الشكل المهيمن للحقيقة الواقعة. ففي الإمبراطورية المؤثرة في البنى الاجتماعية قرابة 4350 عاماً، تكون العديد من مجموعات السلطة، الصغيرة منها والضخمة، بدءاً من أقرب الحلفاء للدولة المهيمنة وحتى أتفه الدول الزائفة والشكلية، والتابعة لتلك الدولة المهيمنة سواء بشكل مباشر أو ملتوٍ؛ إنما هي في حالة تبعية ضمن الحدود القائمة. تسري هذه الحقيقة بشكل أكبر حتى في العصر الذي يدّعي بسيادة الدولة القومية – هي في الحقيقة الأقلية في القومية – المستقلة كلياً. إن الاستقلالية التامة عن القوة المهيمنة هي من بُدَع النعرة القوموية وألاعيبها ومزاعمها السياسية للتأثير على مجتمع ما. فأنْ تكون مهيمناً، يعني أن تمتلك أقوى ذهنية وسلطة، وأحصن بنية اجتماعية واقتصادية، وأعتى قوة عسكرية، وأفضل وسائل العلم والتقنيات. ولأن الوجود الأمريكي يحاكي هذا التعريف، فهو يمثل القوة المهيمنة الأولى في يومنا الحاضر. لكن كل أبعاد أزمة النظام القائم، وطراز إدارته، ونهايته الحتمية؛ هي أيضاً تتصدر الجوانب المستعصية والمتأزمة فيه. يتميز تحليل الخصائص الاجتماعية للنظام ضمن واقع المرأة بالأرجح، بقيمة تعليمية عليا. ومنذ البداية علينا التنويه إلى أن التدقيق في أي ظاهرة اجتماعية بشكل منفرد ضمن التصنيفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها؛ إنما يتضمن مخاطر حقيقية. فكل أنظمة البنى الفوقية والتحتية للمجتمعات التي تعيش التكون المستمر ضمن تكامل تاريخي متواصل؛ تعمل ككل متكامل، كما أجزاء الساعة. إن مرض التقسيم المفرط إلى أجزاء، يتأتى من خاصية افتقار العلم الغربي لتكامل الظاهرة. ومن المهم بمكان عدم غض النظر عن التكامل من الناحية العلمية، لدى اللجوء إلى هذا السلوك، الذي يعقّد إدراك الحقيقة بنسبة لا يستهان بها. يتوجب رؤية المرأة كاختزال للنظام القائم برمته، وتحليلها وفقاً لذلك. فكيفما يكون المجتمع الرأسمالي امتداداً لكافة المجتمعات الاستغلالية القديمة، ويشكل ذروتها؛ فالمرأة أيضاً تعيش ذروة التأثير الاستعبادي لكل هذه الأنظمة. وبدون فهم المرأة المتشكلة ضمن الطوق الخنّاق لقمع واستعمار المجتمع الهرمي والدولتي الأقدم والأكثر كثافة على الإطلاق؛ لا يمكننا تعريف المجتمع على نحو صحيح وصائب. كذلك، فالفهم الصحيح للعبودية الإثنية والقومية والطبقية، يمر من تعريف المرأة. تعود البحوثات المتعلقة بالمرأة، والتي سعى علم الاجتماع لتمحيصها ودراستها كمواضيع علمية بحد ذاتها، إلى الربع الأخير من القرن العشرين. ولكنها تحتل حيزاً بسيطاً ومحدوداً للغاية في العلم، بحيث لا يمكن إخفاء عيوب وفشل تلك الدراسات، تماماً مثلما لا يمكن إخفاء المزراق في كيس صغير. لقد بدأت الحركات الفامينية والبيئوية بالحث على التفكير في الخصائص الجنسوية للتاريخ والهيمنة والدمار المروِّع الناجم عن الحروب والسلطة. تشير هذه النقطة إلى السمة الجنسوية لكل البنى العلمية – بما فيها علوم الاجتماع – التي يجب أن تكون أكثر موضوعية. إنها جنسوية العلم. بينما أدع تفسير حالة المرأة إيجابياً إلى الفصل اللاحق، لننظر معاً إلى ما أضفَتْه الرأسمالية على العبودية التقليدية. علينا التحديد يقيناً أن جلب الرأسمالية للحرية أولاً، هو أمر مناقض لجوهر النظام القائم. إن الزعم القائل بأن القيود المكبِّلة للمرأة تكسرت بسبب تمزيق الرأسمالية للتقاليد الموجودة، هو تضليل يغلب عليه الخداع. تتمثل علاقة الأنظمة التحكمية المتسلطة مع الحرية في تحديد الأساليب الأدق أو الأغلظ، الواجب اتباعها لتأمين سيرورتها هي. فالمرأة التي تُنَظَّم باسمها ملاحمُ العشق بكثرة، تماثل في حالتها المرأةَ المتعرضة لأشد أنواع العبودية فظاظة وقبحاً. فالمرأة كطائر الكناري الموضوع في القفص (البيت الذي يهيمن عليه الرجل). قد تكون محبوبة، ولكنها أسيرة. وكيفما إذا أطلقنا سراح العصفور من القفص، فسيخرج منه محلِّقاً دون أن يلتفت وراءه، فإذا ما وَعَت المرأة – ولو قليلاً – وأدركت أن هناك مكان حر يمكنها الذهاب إليه، لن يبقى حينها بيت أو قصر أو غنى أو قوة أو إنسان ولن تهرب منه. ثمة طاقة كامنة لديها تخولها للفرار من كل ذلك. حيث ما من موجود أو كائن تعرَّض للأسر كالمرأة، وذلك بقمع أو إزالة الشروط الموضوعية والذاتية لتطورها الحر. ثمة علاقة بين مستوى عبودية المرأة وعدم ثبات صحة التحليلات الاجتماعية كلها وعدم توطدها، وعدم إدراج المخططات والبرامج المعَدَّة حيز التنفيذ، وظهور التطورات الخارجة عن نطاق الإنسانية. من هنا، وبدون تأمين الحلول المرجوة للمرأة وتحقيق حريتها ومساواتها، لا يمكن تحقيق الحلول القديرة لأي ظاهرة اجتماعية أخرى، أو تأمين حريتها أو مساواتها. وبإضافة الرأسمالية إلى حلقة النظام السائد، فإن النظر إلى مظهر المرأة بمستوى التبضُّع والسلعية، سيُدْنينا من الحقيقة أكثر. كلنا على علم تام ببيع المرأة وشرائها أكثر من غيرها في أسواق النخاسة في عهد العبودية الكلاسيكية. استمرت هذه الحال واتسع نطاقها في العبودية الإقطاعية على شكل جاريات. ما يتم بيعه هنا هو المرأة بكاملها. وما المهر والسمسرة السياسية عليها، سوى أشكال لانعكاس هذا النظام حتى داخل العائلة. أما في الرأسمالية، فأُضيفَ إلى ذلك عناصر جديدة، بحيث يُحدَّد سِعر كل طرف فيها، تماماً كما يمزق القَصّاب اللحم إلى أجزاء ليحدد أسعارها. بدءاً من شعرها وحتى عُقب قَدَمها، من ثدييها إلى وُركها، من بطنها حتى عضوها الجنسي، من كتفيها إلى ركبتيها، من ظهرها وحتى ساقيها، من عينيها إلى شفتيها، من خديها إلى طولها. باختصار، يكاد لا يتبقى فيها أي مكان إلا ويُجزَّأ وتُحدَّد قيمته. لكن، ومع الأسف، لا يخطر على البال السؤال: هل لها روح أم لا؟ وإن وُجدَت، فكم تساوي روحها؟ أما من ناحية العقل، فهي "ناقصة العقل" منذ الأزل. إنها السلعة المانحة للذة في دُور الدعارة وفي المنازل الخاصة. وهي آلة لإنجاب الأطفال. لكن لا تُعد عملية الإنجاب هذه من أنواع الكدح، رغم أنها أصعب عمل. علاوة على أن تنشئة الطفل، التي تُعتبَر عملاً شاقاً للغاية، لا أجر لها أبداً. أما مكانة المرأة في كافة المؤسسات الهامة، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية والعسكرية؛ فهي رمزية لا غير. في حين أنها الأداة التي لا غنى عنها في الدعايات. بالإضافة إلى أنها الموجود الفريد من نوعه، المعروض للسوق بعد تحويل جنسيتها إلى سلعة باهظة الثمن. كما أنها موضوع الشتم والسب والضرب بالأغلب. وأكثر من يكون أداة ووسيلة لخداع العشق وريائه. ويتم التدخل في كل شيء فيها. إنها الهوية التي يتم تشكيلها بعناية ودقة، لتتكلم بطريقة أنثوية، ويُضبَط صوتها ولغتها ولسانها وكلامها بموجب ذلك. هي الإنسان الذي يستحيل مصادقته كإنسان. هي الإنسان الذي لا يتخلى أكثر الرجال اعتداداً بنفسه عن عاطفة الهجوم والتهكم عليها. لقد غدت المرأة المادةَ الشيء الذي اعتقد كل رجل نفسه إمبراطوراً عليها. يمكننا إغناء التعريف أكثر. لكن الغريب في الأمر هو اعتقاد المجتمع الذكوري المهيمن بإمكانية عيشه براحة وطمأنينة تجاه هذه الهوية المُحَمَّلة بهذا الكم من الخواص السلبية. إذن، هذا ما يفضي إلى الاعتقاد بأنها عبد هادئ ومطيع للغاية. في الحقيقة، إن الحياة المشتركة مع ظاهرة منظمة بهذا القدر صوب السلبيات، تُعتبَر بالنسبة للرجل الإنسان صاحب الكرامة، شاقة جداً ومخادعة. رغم النقد الموجَّه إلى أفلاطون لتهميشه المرأة كلياً وإبعاده إياها خارج دائرة الدولة والمجتمع، إلا إن هذه الخاصيات المُحِطّة من القدْر بارزة ومؤثرة في سلوكه. يجب قراءة هذه النقطة الموجودة في شخص فيلسوف بعين سليمة وصائبة. فعلى سبيل المثال: تُعَد الحياة المشتركة مع هذه الخصائص لدى "نيتشه" مخرِّبة للشخص ومُفسِدة إياه. إذن، والحال هذه، لماذا يتميز عجز المرأة واعتلالها بقوته في المجتمعات؟ لأن هذه المجتمعات ذاتها أصبحت عاجزة ومعتلة. لأن الرجل نفسه غدا عاجزاً ومعتلاً. وهذا بدوره يأتي من الخاصية الانتقالية للعبودية. فالعبد المفيد بهذا القدر، سيكون الشريك المرغوب بالأكثر – بالطبع – بالنسبة للأناس المعتادين على العبودية. بالتالي، فالمرأة الغاصّة والغارقة تعني مجتمعاً غاصّاً، ورجلاً عاجزاً معتلاً. "هذا المشط لذاك الرأس". باقتضاب، من دون تسليط الضوء بكفاءة ومهارة على ظاهرة الأنوثة، وبدون توحيد أنوثة المرأة الأم الحرة للمجتمع الطبيعي مع أنوثة المرأة الواعية الحرة للحضارة الطبقية؛ يستحيل خلق شريك الحياة بشكل متوازن. وبدون تكوين الذكورة على نحو مماثل مجدداً، لا يمكن تحقيق الوحدة بين الجنسين. بمقدورنا ملاحظة طراز تكوُّن الرأسمالية وإدارتها للشؤون في الساحة الاجتماعية من خلال العديد من الظواهر، وخاصة في الرجل، الأسرة، العمل والموظفية، والعديد من الميادين الأخرى كالميدان التعليمي، الصحي، والقانوني وغيره. وإذا ما قمنا بصياغة تعريف موجز للأسرة، فإنها الحُجْرة (الخلية) وأصغر جزيء في هذا النظام البؤرة الذي يعد المؤسسة الأولية للمجتمع الهرمي والدولتي. فالإمبراطور المتربع في القمة، ينعكس على الأسرة على شكل "إمبراطور صغير". إنها – الأسرة – النظام الذي تنعكس عليه العبودية المتفشية في المجتمع. ذلك أن العبودية التي في الأسرة، هي صمّام الأمان، والضمان الأس للعبودية المجتمعية. وكأن النظام يتم خلقه في العائلة، في كل يوم، بل وكل ساعة. والعائلة تنوء تحت عبئه الثقيل الوطأة. فالعائلة هي الحمار الهادئ المطيع للمجتمع الهرمي والدولتي، بحيث يمكن امتطاؤه على الدوام، بل وتحميله العبء أيضاً. بشكل عام، فانعكاس إسقاط النظام الرأسمالي المتبعثر والمتفسخ على العائلة بشكل ضارب للعين، ينبع من هذه الأواصر الكثيفة فيما بينهما. لا داعي أبداً للحديث عن اقتصاد الرأسمالية. ذلك أن الرأسمالي بذاته هو لُبّ الاقتصاد. إنه بالأساس النظام الذي يضع كل شيء نصب عينيه ويقوم به من أجل الربح والمنفعة. وهو الاستغلالي الأكبر، والمبارِز الوحشي الأعظم. ما من ظاهرة في المجتمع لم يتم تبضيعها. المجتمع المتبضّع هو المجتمع المراد إنهاء شأنه. ومجتمع كهذا، إنما يعني النظام الذي أكمل عمره، وبالتالي يستوجب إنهاءه. يبذل النظام السائد محاولات دؤوبة مضنية وخارقة في سبيل إطالة عمره، عبر العلم والفن. ليس – كما يُظَن – من أجل تطوير العلم والفن (بما فيهما التقنية أيضاً)، بل في سبيل مواصلة حالته الفانية بقوتهما المتطورة بشكل مذهل. إنه يستذكرنا بالعناية المشددة التي يُلجَأ إليها بوساطة كل الوسائل العلمية والتقنية، بغرض معالجة مريض أصبح على شفا حفرة من الموت. حيث يلعب الفن والعلم دوراً مصيرياً لا استغناء عنه في هذه المراحل من سياق الأنظمة، أي في فترات الأزمات الخانقة، للتمكن من إعادة البناء ثانية وتكوين أنظمة جديدة يمكن إحياؤها والعيش فيها. تتأتى مكانة الرأسمالية في التاريخ من كونها آخر النظم التسلطية المتحكمة. إن انتفاع هذا النظام المليء بالثغرات والمسامات المفتوحة منذ عهد المجتمع الهرمي، من أجواء الحرية الناجمة عن النهضة ليحتل بذلك منزلة الصدارة؛ إنما يؤدي في الوقت نفسه إلى كشف النقاب عن كل طاقاته الكامنة وتفجيرها. وما من احتمال وارد في إمكانية تطوره أكثر من ذلك، سواء شكلاً أو مضموناً. إذ لم يتبقَّ جانب أو زاوية إلا واستُغِلت في المجتمع والطبيعة على السواء. كل ما تم عمله، لم يتجاوز الناحية الكمية. وتَحَمُّل المجتمع لهذا التلاعب المفرط به يتأتى من تطبيق العنف عليه بأبعاد لا مثيل لها، لدرجة تؤدي إلى تفجير الذرّة إذا ما طُبِّقت عليها. لم يحصل أن سار نظام آخر بهذا الكم من التداخل بين العنف والحرب. فالمجتمع والفرد يتحركان كمن يمتطي حصان "الرُّدَيو" في مباريات السباق. إذ ما من تقدم محرَز، بل ثمة هبوط وصعود فحسب. وإذا لم يتم تجاوز هذه الشروط الاجتماعية المهيمنة في الفرد أيضاً، فسيستمر هذا الانسداد والعقم فيه من حيث البحث عن الجديد، تحديد وجهة السير، وامتلاك الكفاءات والمهارات الخلاقة. إن مواطَنة الدولة في هذا النظام القائم تعاني حالة انهيار وتفسخ، سواء من ناحية المعنى أو البنية. من الناحية الظاهرية، ما من أراضٍ أو مجتمعات جديدة يمكنها تجاوز الرأسمالية بزعامتها الأمريكية. فأوروبا تمر الآن بمرحلة النقد الذاتي إزاء التخريبات العظمى التي تسبب بها النظام الراهن. وهي مضطرة للاستمرار في هذا المنحى حتى الأخير. وفي أمريكا اللاتينية لا تتواجد الشروط التاريخية ولا الاجتماعية لتكون كأمريكا الثانية. لذا، فمصيرها مرتبط بعاقبة أمريكا النهائية. وأفريقيا تعيش حالة مشابهة، لكن على نحو أكثر تخلفاً. أما غربي شواطئ الأوقيانوس (المحيط)، أي الصين واليابان، فبمقدورهما – بالأرجح – مساعدة أمريكا في تأمين سيرورة النظام. إذ لا تهدفان ولا تطمحان إلى رأسمالية خلاقة جديدة، ولا تمتلكان إمكانيات ذلك. لذا، يمكنهما أن تكونا مطبِّقتين لها بالشكل الأمثل. وروسيا معترفة بأن هزيمة السوفييتات ذات بُعد استراتيجي، وبالتالي اضطرت لقبول التقدم بمساندة أمريكا لها، كسياسة جديدة. لا يتبقى سوى الشرق الأوسط، البلاء. ليس مصادفة أن يكون الشرق الأوسط بلاءً مسلَّطاً على النظام القائم، بجغرافيته وثقافته. ذلك أن الحُجرات والخلايا النواة للمجتمع تكمن هنا. هنا تستتر جذور بادئي الحضارة ومداوميها. وآلهتهم من هنا. لذا، وسواء عاجلاً أم آجلاً، سيعود الابن إلى بؤرة أبيه، ليقوموا بحسابات المنزل مرة أخرى. هذا الدور الذي يليق بمنزلة أمريكا، دخل حيز التنفيذ مع مشروع الشرق الأوسط الكبير. هذه العلاقات والتناقضات التي ستتكاثف مع الزمن، ستحدِّد ما ستُفرزه الفوضى السائدة. ما يمكننا قوله منذ الآن، هو أن المستجدات الجارية في منطقة الشرق الأوسط، معنية ومرتبطة بتوجه النظام القائم نحو الانهيار والزوال، ولكن من الأخير. لهذا الغرض، فهي تستوجب تحليلات صائبة وسليمة، بحيث تتميز بدرجة قصوى من الأهمية. ونقاط الانكسار في التناقضات القائمة هي الساحات التي تتكثف فيها الفوضى وتتركز. تلعب هذه الساحات بالأرجح دور المهد ووظيفة الرحم الحامل بالجديد. هل ستصبح بقايا معابد الرهبان السومريين، التي شهدت سلفاً ولادة الحضارة، قبراً لها في هذه المرة؟ انتهى الفصل الأول     جميع الحقوق محفوظة لشبكة قوات الدفاع الشعبي الكردستاني COPYRIGHT © 2005 BAY HPG            

تحرير تصانيف
تحرير مشاريع ويكي
[{{fullurl:بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/أخبار

تاريخ الشرق الأوسط|action=edit}} تحرير أخبار

تاريخ الشرق الأوسط

{{ بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/أخبار تاريخ الشرق الأوسط }}

تحرير اقتباسات
[{{fullurl:بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/مواضيع

تاريخ الشرق الأوسط|action=edit}} تحريرمواضيع في

تاريخ الشرق الأوسط

{{بوابة:تاريخ الشرق الأوسط/مواضيع تاريخ الشرق الأوسط}}

تحرير بوابات شقيقة






[[تصنيف: تاريخ الشرق الأوسط|*بوابة:تاريخ الشرق الأوسط]]