النزعة الإنسانية في الآداب الأوربية

يشير مصطلح النزعة الإنسانية إلى جملة من المعتقدات والمناهج والفلسفات التي تضع الإنسان في مركز اهتمامها، ولاسيما في المنهاج التربوي والبحثي الذي طُوِّر في شمالي إيطاليا في القرن الرابع عشر، وانتشر من ثم في جميع أنحاء أوربا. ويفضل بعض الباحثين استخدام مصطلح إنسانية عصر النهضة Renaissance Humanism للتشديد على سمتي التجديد والاستيقاظ من سُبات العصر الوسيط. بيد أن النزعة الإنسانية لا تتطابق زمنياً مع عصر النهضة، بل تجد إرهاصاتها في أواخر العصر الوسيط، وتمتد طويلاً حتى ما بعد عصر النهضة؛ ولاسيما على صعيد الأدب. وكان البحاثة الألمان في القرن التاسع عشر أول من استخدم مصطلح «النزعة الإنسانية» Der Humanismus بتصحيفه في اللغة اللاتينية من «الدراسات الإنسانية» studia humanitatis التي شملت حينذاك الشعر والبلاغة والتاريخ وفلسفة الأخلاق، بهدف تطوير الفضائل الإنسانية بأنواعها كافة وإلى مداها الأقصى عن طريق المشاركة الفعالة في الحياة العامة بتربية الناشئة وإرشاد الكبار (بمن فيهم الحكام)، بوساطة الشعر الفلسفي والبلاغة اللغوية بما يتضمن ممارسة النقد الاجتماعي الواقعي، ووضع فرضيات طوباوية تستلهم العبرة من التاريخ من أجل صياغة مغايرة وجريئة للمستقبل. وباختصار يمكن القول: إن النزعة الإنسانية قد دعت إلى إصلاح شامل للثقافة بغية الخروج من مجتمع عصر الظلمات السلبي الجاهل، نحو نظام جديد يُبرز أفضل القدرات الإنسانية عند الفرد ويشجعها لتكون مؤثرة على صعيد نظام الدولة سواء أكان جمهورياً أم ملكياً. وكان منهل «الدراسات الإنسانية» هو الأدب القديم الإغريقي والروماني، علماً أن لاتينية روما الجمهورية والامبراطورية كانت أقرب إلى الإنسانيين من اللغة اليونانية الأجنبية بالنسبة إليهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النزعة الإنسانية في الأدب الأوروبي

إن ما يلفت النظر في تعامل الإنسانيين مع الأدب القديم (الكلاسيكي) هو الأُلفة المدهشة التي تجلت مثلاً في «رسائل» بتراركا ـ مؤسس النزعة الإنسانية في الأدب ـ مع شيشرون وليڤيوس؛ وما يلفت النظر أيضاً هو واقعية معظم الإنسانيين في أعمالهم الأدبية، إذ رفضوا فيها الافتراضات والمزاعم التقليدية ومالوا نحو التحليل الموضوعي للتجربة المدركة عقلياً وشعورياً، وأحلوها محل الحكمة التقليدية، وقد تجلى هذا الموقف في أعمال بتراركا وبوكاتشو وإراسموس وتوماس مور وكاستيِليونِه B. Castiglione ت(1478ـ1529) ورابليه ومونتينيْ وغيرهم، وعند هؤلاء أيضاً برز الفرد عنصراً محورياً، منه تنبع الخبرات والأفكار وأنواع السلوك والأحاسيس، وإليه تتوجه الاهتمامات على صعيد الرصد والتحليل والاستنتاج. وكان موضوع كرامة الفرد مركزياً لدى عدد من الإنسانيين الذين تعاملوا مع البشر بصفتهم كائنات أرضية تصدر عن طبائعها أفعال متباينة من حيث التقييم الأخلاقي؛ فأكدوا ضرورة تحقيق التوازن بين الجسم والعقل، ولم يدعوا إلى مثالٍ للنقاء والطهارة، لأن هذا غير بشري ومن ثم غير إنساني.

كان بتراركا أبرز أدباء القرن الرابع عشر وصاحب التأثير الأعمق في تبلور النزعة الإنسانية في الأدب، فقد شجع على إعادة اكتشاف النصوص الكلاسيكية ونسخها، ممهداً الطريق أمام الأبحاث الكلاسيكية المهمة لكل من بوكاتشو وسالوتاتي Salutati، ودخل في سجالات أدبية عرَّف من خلالها «النزعة الإنسانية» على أنها النقيض المميز في مواجهة المؤثرات البربرية لتقاليد عصر الظلمات، كما راسل بانتظام وكثافة معظم مفكري عصره وأدبائه، فصارت مراسلاته مرآة عكست مواقفه وتطور آرائه، بالتوازي مع إبداعاته الأدبية، ومنها ملحمة «إفريقيا» Africa التي نظمها باللاتينية، وهي أول ملحمة في عصر النهضة. بيد أن أعماله الأكثر أهمية هي تلك التي كتبها باللهجة المحلية ـ مثل «ديوان الأغاني» Canzoniere ـ التي صارت نموذجاً يحتذى لشعر عصر النهضة، ومقياساً للحكم على جودة العمل مضموناً وشكلاً. وعلى الرغم من كون بتراركا رجل دين كنسي فقد أسست أعماله لشعر دنيوي رصين بمضامين نبيلة. وبسبب فصاحته وحضوره الطاغي صار رمزاً شخصياً لأفكاره وأسلوبه، وقدوة في الوقت نفسه للاهتمام الإنساني الجديد بإحياء الكلاسيكيات وللصنعة الفنية في الأدب؛ كما أن فكرته عن كون الشاعر معلماً فلسفياً وبطلاً ثقافياً قد ألهمت الإنسانيين من بوكاتشو حتى سيدني.

كان بوكاتشو من أصدقاء بتراركا الخلص، وأسهم مثله في تطوير النزعة الإنسانية. وتعد ملحمته «تِسيدِه» Teseide أول عمل اتباعي (كلاسيكي) منظوم باللهجة المحكية ومصدر إلهام ملاحم آريوستو وتاسو. كما يعدّ كتابه «في أنساب آلهة البشر» De genealogia deorum gentilium إنجازاً علمياً في تفسير الأساطير القديمة والأول في نوعه في عصر النهضة، وقد ضمَّنه بوكاتشو دفاعاً مقنعاً عن الشعر بصفته وسيطاً للحقيقة المستورة ومحفزاً على الفضيلة ومصدراً للصحة العقلية. أما إسهامه الخالد في سياق النزعة الإنسانية أدبياً فهو لاشك الديكاميرون Decameron؛ أي مجموعة الحكايات العشر التي تتناول موضوع الحب من زوايا مختلفة، إنسانية في صميمها، من دون أحكام أخلاقية مسبقة. إن الجملة الافتتاحية في العمل: «إنه لأمر إنساني» Umana cosa è تحدد صلب الموضوع وتذكّر القارئ أو المستمع بأن المؤلف قد بنى عمله هذا مستلهماً ملحمة دانتي الروحانية «الكوميديا الإلهية»، بمعنى أن التفهم الشامل لعالم الروح الذي أسس له دانتي، يحاول بوكاتشو أن يقتدي به، ولكن لعالم البشر، للإنسان الفرد في إطار الجماعة، وذلك بتحليل الواقع المدرك والتجربة المباشرة، داعياً باستمرار إلى الرجوع إلى عقل الإنسان وطبيعة تكوينه بهدف تفعيل قدراته وقابلياته. وقد عُدَّ هذا العمل بحق منهلاً للواقعية[ر] الغربية وأحد صروح النزعة الإنسانية في الأدب.

أما ليونه باتيستا ألبرتي L.B.Alberti أحد أبرز شخصيات النزعة الإنسانية في القرن الخامس عشر، فقد كان يتقن اليونانية وكان متعدد المواهب وعميق الثقافة في علوم العصر وفنونه وآدابه، وعندما نشر ملهاته «فيلودُكسيوس» Philodoxeos ظن كثيرون أنها إحدى المسرحيات اليونانية الكلاسيكية التي اكتشفت مؤخراً. وهو شاعر وباحث لغوي ومنظِّر في اللغة والفنون التشكيلية والعمارة، ويعد كتابه «قواعد لغة فلورنسا» Regole lingue Fiorentine بالغ الأهمية في تطوير التعبير الأدبي باللهجة المحكية التي صارت اللغة الإيطالية.

ومن إنجازات نيكولو مَكياڤيلّي المعبرة عن «إنسانية عصر النهضة» تبرز ملهاة «مَنْدراگولا أو اللفّاح» La Mandragola التي تعد أول محاكاة باللهجة المحكية للملهاة الرومانية القديمة. يُظهر الكاتب في ملهاته هذه سمات الضعف البشري المتنوعة بأسلوب واقعي كاشف، ولكن من دون إدانة أخلاقية مباشرة، مهما كان الانتماء الاجتماعي والمهني لشخصياته، ويشي موقفه هذا لاشك بتأثره ببوكاتشو، فهو مثله لا يسخر من أفعال هذه الشخصيات وأفكارها وأحلامها، بل إنه يعرضها بمختلف تجلياتها وتعبيراتها، بحيث إن المفارقة في الموقف هي التي تُولِّد ضحك الجمهور، وليس سلوك هذا أو ذاك الفرد في ذاته. وهكذا يبدو مَكياڤيلي أعمق إنسانية من بعض أسلافه ومعاصريه.

وقد أظهر توركواتو تاسو في ملحمته «القدس محررة» Jerusalemme liberata أصالة روح النزعة الإنسانية، كما تابع متأثراً بأرسطو فكرة بتراركا عن دور الشاعر في تجديد الثقافة، وذلك في كتابه «الدفاع» Apologia، مع التشديد على قدرة الشعر على تقديم تربية أخلاقية. وإلى جانب بتراركا كان إراسموس هو المفكر والأديب الإنساني الوحيد الذي حقق في عصره شهرة عالمية، ولاسيما في دراساته اللغوية التي كان لها كبير الأثر في ما يمكن تسميته بالأسلوب الأوربي، إذ كان من كبار بلغاء اللاتينية. بيد أن أكثر أعماله أصالة بمفهوم النزعة الإنسانية في الأدب هو «مديح الحماقة» Moriae encomium المهدى إلى صديقه توماس مور، وهو مزاوجة أنيقة بين الهجاء والاستبصار الشعري، سرعان ما ظهرت آثارها عند مور نفسه، وكذلك عند رابليه الذي يؤلف مع مونتينيْ ذروة النزعة الإنسانية في الأدب الفرنسي. ويمكن القول إن رابليه يعد بعد بوكاتشو الأب الثاني للواقعية الغربية، وهو الذي طور النثر الفرنسي إلى شكل شعري حر ميَّز أسلوبه الهجائي الذي امتد تأثيره إلى جوناثان سويفت ولورنس ستيرن وحتى جيمس جويس، ويمكن القول إنه أحد آدباء الحداثة.

أما «مقالات» مونتينيْ الشهيرة فتعد مفصلاً مركزياً في مشروع النزعة الإنسانية حول اكتشاف الفرد لذاته والذي بدأه بتراركا. ومثل مَكياڤيلي كان يأخذ في حسبانه عند البحث الجانبين النظري والتطبيقي معاً، ولكن في حين وجد مَكياڤيلي في الجانب العملي الأساس لأي نظرية سليمة، استقرأ مونتينيْ من الأحداث البشرية تعددية مذهلة بحيث كان ينفي ضرورة التحليل النظري. وتوصل إلى أن معرفة الفنون العقلية قد تجعل الإنسان قادراً على أن يكون سيد نفسه ومحيطه.

أما في إنگلترا فإن بدايات أدب النزعة الإنسانية لم تظهر قبل القرن السادس عشر، علماً أن فكر النزعة الإنسانية قد تجلى هناك منذ منتصف القرن الخامس عشر، وتحديداً في أكسفورد. وتعد «يوتوبيا» Utopia توماس مور من بشائر هذا الأدب. كان مور يتقن اليونانية واللاتينية ومن دعاة إحياء التراث الكلاسيكي واستعادته في أعمال إبداعية خلاقة تصب في سياق النزعة الإنسانية. لقد تأثر مور بصديقه إراسموس وهجا مثله المؤسسات التقليدية المتخلفة عن روح العصر، وكان البديل المتخيل عنده نموذجاً لمجتمع مؤسس على العقل والطبيعة معاً. كما دعا إلى رعاية الفضائل وتثقيفها، وإلى الاعتدال في المتع الحسية، كما أنه لم ير أي تناقض بين المتع الدنيوية المعتدلة وبين الورع الديني. والجانب المهم الآخر في «يوتوبيا» هو تأكيد مور أن السياسة تبدأ من الإنسان وتنتهي به، إذ يجب أن تُبنى حصراً وفق الطبيعة البشرية وأن تكون سعادة البشر هدفها.

لقد كان فيليب سيدني بحياته القصيرة الغزيرة الأحداث ظاهرة بارزة في العصر الإليزابيثي. وهو في حلقة سونيتات «أستروفِل وستيلا» Astrophel and Stella وفي «دفاع عن الشعر» Defence of Poesie وفي «أركاديا» Arcadia الأولى والثانية يتناول موضوعات محض إنسانية، ولكن من دون أن يقلد الإنسانيين الإيطاليين ولا الكلاسيكيين. وقد عمل في ملحمته «أركاديا» الثانية أو الجديدة على المواءمة بين ثنائيات تبدو متناقضة على نحو مطلق، كالتأمل والفعل، العقل والعاطفة، النظرية والتطبيق؛ كما حاول المزاوجة بين الفلسفة الكلاسيكية والعقيدة المسيحية، وكذلك بين الواقعية النفسية والسياسة العملية. وبغية حل معضلة تفعيل المبادئ الإنسانية سياسياً في بلدان أوربا ذات الأنظمة الملكية طمح سيدني مع صديقه إدموند سبنسر إلى ابتكار ما أسمياه «الإنسانية الفروسية» chivalric humanism. وقد جسد سبنسر هذه الفكرة في كتابه «ملكة الجن» The Faerie Queene بمعنى أن الفارس ـ وإن لم يكن ذا فعالية سياسية ـ قادر على تحقيق نوع من الفعالية بتمثيل الفضائل الصافية في بلاط عادل ونبيل. وهذه الفضائل لديه هي الفضائل الأرسطية.

كان الشعر والمسرح في عصر شكسبير يتنافسان في طرح الموضوعات ومعالجتها ـ القديمة منها والحديثة، والأوربية منها والإنكليزية ـ وكان أهمها موضوعات النزعة الإنسانية. فقد كان جورج تشابمن G.Chapman مثلاً ـ مترجم هوميروس ـ أبرز المدافعين عن نظرية الشعر القائلة إن الشعر حكمة أخلاقية تتجاوز جميع الأهداف العقلية. أما المسرحي بن جونسون فقد رأى أن الشاعر هو مفسر الطبيعة وأداتها، ومعلّم الأمور الإنسانية التي لا تقل قيمة عن المقدسة، وسيد السلوك الخلقي، وقد عبر عن مواقفه الإنسانية في مأساة «كاتيلين» Catiline التي استخدم فيها بلاغة شيشرون المدينية بأسلوب بطولي. وقد كان شكسبير على اطلاع واسع على الأعمال الأدبية الكلاسيكية وعلى نظريات فن الشعر والبلاغة، واستفاد كثيراً في مسرحياته المبكرة من أوڤيد وبلوتس وليڤيوس، كما استفاد من سِيَر بلوتارخُس وطوَّر تفصيلات شخصياتها إلى تصوير نفسي عميق ومؤثر؛ ولاسيما في مسرحيات «يوليوس قيصر» و«أنطوني وكليوباترا» و«كوريولانُس». وعلى الرغم من كون البنية الدرامية في هذه الأعمال إليزابيثية، فإن توجهها كلاسيكي بامتياز. لم يكن شكسبير موافقاً على كثير من سمات الإنسانية الإنكليزية من حيث قيمتها الظاهرة، فهو تارة يعالج مشكلة ممارسة العنف السياسي باسم العقيدة المسيحية، ويميل تارة أخرى إلى البديل المكياڤيلي، ويسخر تارة ثالثة من جهود تشابمن لإحياء البطولة الهوميرية ومن تمجيد الإنسانيين لنموذج البطولة الكلاسيكية ودعوتهم الأخلاقية والعقلانية، وكذلك من أساليبهم التعليمية المغالية في ثقتها بنجاعتها. بيد أن قراءةً أعمق لأعمال شخصيات شكسبير وقضاياها تبيّن مدى استغراقه في الأهداف البعيدة للنزعة الإنسانية، مثلما تجلت في تراث كل من بتراركا وبوكاتشو وكاستيليونِه ومونتينيْ، الذين لاشك في أنه اطلع على أعمالهم. ففي مسرحيتيه الأخيرتين «حكاية شتائية» و«العاصفة» طوّر شكسبير مفهومه عن الفن وممارسته إلى بنية درامية ومضمونية، حيث تمارس الشخصيات الرئيسية فن صناعة الأخلاق على نحو مرتبط بالوعي والتجربة والخيال والحب والقدرة، مما يمكّنها من احتواء الشخصيات الأخرى وقيادتها بهدف تحقيق عدل دائم. ويعد هذا التطوير لفكرة سيادة الفن آخر الإسهامات المهمة في تقاليد النزعة الإنسانية.

لم تتوقف النزعة الإنسانية في الأدب عند إسهامات شكسبير، بل امتدت حتى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فتجلت مشتتة في أعمال بعض الكتاب الأوربيين، لكنها عادت إلى التركز مجدداً في ألمانيا، ولاسيما في أعمال لسينغ وغوته وشيلر على صعيد دور الفن والتاريخ في بناء الأخلاق وصقل الذائقة الجمالية.[1]


المصادر

  1. ^ نبيــل الحفــار. "النزعة الإنسانية في الآداب الأوربية". الموسوعة العربية. Retrieved 2013-02-12.