الجمـرة الخبيثـة: السلاح البيولوجي الأول للقـرن الحادي والعشرين

Anthrax
تصنيفات ومصادر خارجية
Bacillus anthracis Gram.jpg
Microphotograph of a Gram stain the bacterium Bacillus anthracis which causes anthrax.
ICD-10 A22.minor
ICD-9 022
OMIM [1] 606410 608041
DiseasesDB 1203
MedlinePlus 001325
eMedicine med/148 
MeSH D000881
Color-enhanced scanning electron micrograph shows splenic tissue from a monkey with inhalational anthrax; featured are rod-shaped bacilli (yellow) and an erythrocyte (red).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المنظور الطبي للحرب البيولوجية والكيميائية

Medical aspects of medical and biological warfare انتابت العالم في الشهور القليلة الماضية حالة من الهلع حين خيم شبح الحرب البيولوجية بظلاله مهدداً بالهلاك الصامت عبر رسائل بريدية تحمل جراثيم الجمرة الخبيثة الفتاكة, فالحرب البيولوجية تعمل بحق على إعادة تغيير خريطة العالم ونمط المجتمعات, والسهولة النسبية في الوصول إليها أسلحتها تجعلها أكثر خطورة على حياتنا في المستقبل القريب والبعيد على نحو سواء. توفر الأسلحة البيولوجية للدول الأقل قوة فرصة للوصول إلى (ساحة اللَّعب) لمواجهة القوى العسكرية العظمى في العالم. وعلى الرغم من حظر استخدام هذه الأسلحة بمقتضى اتفاقيات زاد عمرها على خمس وسبعين عاماً, إلا أن تداولها خلال القرن الماضي قد لاقى رواجاً خفيَّاً; إذ اقتحمت بعض الدول الحمراء هذا المجال وشاركها في ذلك عدد من الجماعات الإرهابية حين قدّمت لها الأسلحة البيولوجية على طبق من ذهب السلاح الصامت الفعّال الذي يؤدي إلى القتل الجماعي المؤكد وينتهي بها إلى رد فعل شعبي هائل الصدى! وتغلبت هذه الجماعات على الحواجز التكنولوجية نتيجة لزيادة تدفق المعلومات واتساع مداخل التقنية, وسرعان ما نجحت في التدرّب على سيناريو الحرب البيولوجية الذي لم يتح لها من قَبْل, وعبر إمدادات (الإنترنت) توفّرت لها المعلومات الجاهزة لفهم القدرات التي تتمتع بها الأسلحة البيولوجية وزال الغموض الذي اكتنف الكيفية التي يمكن بها امتلاك وإنتاج ونشر أسلحة هذه الحرب. ونعد الأسلحة البيولوجية على رأس ثالوث الرعب الذي يطلق عليه أسلحة الدّمار الشامل (Weapons of mass destruction; WMD) أما ضلعا المثلث فهما الأسلحة النووية (Nuclear weapons) و الأسلحة الكيميائية (Chemical weapons). ويمكننا القول بكل الثقة أن الأسلحة البيولوجية الآن ــ وهي في مهدها ــ قد فاقت نظيرتيها قوة وجاذبية وحظيت باهتمام عالمي وعسكري واسع النطاق, ولعل هذا يرجع إلي خمسة أسباب رئيسية ترجِّح كفتها وهي كالتالي:

Bacillus anthracis
Bacillus anthracis.png
Photomicrograph of Bacillus anthracis (fuchsin-methylene blue spore stain).
التصنيف العلمي
مملكة:
Phylum:
Class:
Order:
Family:
Genus:
Species:
B. anthracis
Binomial name
Bacillus anthracis
Cohn 1872
Structure of Bacillus anthracis.

أولاً: إن الأسلحة البيولوجية زهيدة الثمن

تكون هذه الأسلحة زهيدة الثمن في إنتاجها إذا ماقورنت بأسلحة الدمار الشامل, فهي قادرة على قتل ملايين البشر ولها نفس التأثير المهلك الذي تحدثه قنبلة نووية!! كل ماتحتاجه هو تجهيز مختبر بعدد محدود من العمالة المدربة لاستنبات كمية كبيرة من البكتريا الحيّة في غضون عدة أيام, في حين لن تزيد تكلفة إنتاج هذه الأسلحة عن 800:1 من تكلفة إنتاج أسلحة الدمار الشامل الأخرى!

ثانياً: الأجهزة والأدوات المستخدمة قانونية

تستخدم الأجهزة والأدوات اللازمة لتحضير الأسلحة البيولوجية في إنتاج اللقاحات (Vaccines) والمستحضرات الدوائية الأخرى, فهي ثنائية الاستخدام ومن ثمّ فلا يمكن معاقبة من تضبط في حوزته لأنها تجهيزات قانونية يمكن استخدامها بعينها لأعراض علمية نبيلة. إذن يمكن للمُعِدّ إنكار تورطه في حيازة هذه الأدوات بسهولة نافياً عن نفسه التّهمة. كما يساعد هذا الاستخدام الثانئي أيضاً للأجهزة على تخفيض التكلفة الشاملة لإنتاج الأسلحة البيولوجية; إذ يمكنها أداء أنشطة قانونية لإنتاج مواد استهلاكية يطلبها السوق الدوائي ولها هامش من الربح.. لاريب أن هذه القدرة تعني إمكانية استغلال كفاءة الأفراد المدربين على الوجهين: الوجه القانوني والوجه غير القانوني!

ثالثا: تؤدي إلى الهلاك والدّمار في صمت وسكون

تدوّي الأعيرة النارية سريعاً, وتحدث القنابل دماراً ملحوظاً, وعادة مايصاحب تأثيرها حدثاً درامياً رهيباً, أما الأسلحة البيولوجية فتعمل في صمت لتؤدي دورها الكريه في إحداث الدمار دون أن يلحظها أحد, فالضحايا لاينتبهون عادة إلا والهجوم قد شق طريقه إليهم ونال منهم في دهاء. تخيّل أن هناك أسلحة عديمة اللون والطعم والرائحة والصوت يمكن أن تقتل أعداءك, وكل ما يحتاج إليه المجني عليه هو أن يأخذ نَفَساً عميقاً من هذه السحابة غير المرئية, وبعدها يلقى مصيره الأبدي المحتوم!

رابعاً: تعمل الأسلحة البيولوجية في وقت لاحق

تعمل معظم الأسلحة العسكرية فوراً للحصول على التأثير المرغوب, ولكن الأسلحة البيولوجية على العكس من ذلك تماماً, فهي تظهر نتائجها في وقت لاحق بعد انقضاء فترة حضانة المرض (Incubation period) وتتراوح عادة بين يوم إلى نحو ستين يوماً حسب نوع السلاح البيولوجي, مما يجعلها أكثر خبثاً. هَبْ أن مهاجما يعرف أن حشود فرق الأعداء المرابطة على الحدود ستتلاشى في غضون 72 ساعة (في حالة الجمرة الخبيثة) أو سيكون هذا مصير معظمهم حين تبدأ الأعراض في الظهور عليهم.. إنه يخطط لتحركاته في ظل نتائج مؤكدة سيمنى بها عدوه!

خامساً: القدرة على الإنكار

حتى هذا الوقت لايمكن مطابقة سَلْسَلَة الحمض النووي الدنا (Sequensing of DNA) للسلاح البيولوجي المستخدم في الهجوم بالحمض النووي الذي يمتلكه المعدِّ لهذا السلاح, وبالتالي لن يكون هناك دليل دامغ على اتهام مجموعة من الأشخاص واثبات التهمة عليهم دون آخرين, وهكذا يحتمي صانعوا هذا السلاح وراء ستار كثيف من الغموض والإنكار. وعوضاً عن هذه المميزات السالفة الذكر التي تتمتع بها الأسلحة البيولوجية تحمل الجمرة الخبيثة كسلاح بيولوجي رقم واحد في هذا القرن عدداً آخر من الخصائص الفريدة تجعلها تحتل قائمة المهددات البيولوجية والعسكرية الأكثر فتكاً ودهاء, ومنها:


شديدة الفتك (Highly lethal):

يلقى نحو 100% من الحالات المصابة مصرعها من جراء استنشاق الرذاذ الملوث بتركيز قاتل بأبواغ الجمرة الخبيثة (Anthrax spores). ويبلغ هذا التركيز القاتل نحو 8 آلاف إلى 50 ألف من الأبواغ.

غير مُعْدِيَة (Non contagious):

مما يجعل جيشاً يستخدمها ضد آخر دون ثمة تخوف من حدوث انتشار ثانوي, ويضعها في مرتبة الأسلحة الموجهة توجيهاً حاداً نحو فئة معينة, وهذه الظاهرة لها جاذبية عسكرية خاصة في تكتيك وتنفيذ العمليات الدقيقة التي لها أبعاد استراتيجية ذات نطاق محدّد, وعلى عكس الجدري والطاعون التنفسي, فكلاهما مُعدٍ, مما يعرقل العمل العسكري في نطاق استخدامها.

يمكن الوقاية من الإصابة بسهولة إذا تم التحضير لذلك مسبقاً: فهناك لقاح واقٍ, وجرعات من المضادات الحيوية الفعالة التي يمكن استخدامها مسبقاً لحماية الجيوش من خطر الإصابة بها, وهي خاصية متميزة ترفع الروح المعنوية للقوات الغازية وهي مطمئنة على حماية نفسها وواثقة من هلاك عدوها حين تقتحم منطقة ملوثة بالمرض.

يمكن تخزينها لفترات طويلة (Store for long periods):

حيث تبقى صالحة للاستعمال لعدة سنوات, وليس للعوامل الجوية تأثير قوي عليها, حيث تستطيع الأبواغ البقاء لفترات طويلة في بيئات غير ملائمة, وقد تم اختبار أبواغ الجمرة الخبيثة في عام 1940 في جزيرة على ساحل اسكتلندا, وقد ظلت باقية حتى تم التخلص منها بإزالتها في عام 1986.


ثابتة في الأجواء المختلفة للمعارك (Stable):

تتأثر بعض الأسلحة البيولوجية أثناء رشها على الهدف, أو بتأثير بعض الأسلحة النووية الأخرى, ولكن صلابة الجمرة الخبيثة وثباتها يسمح ببقاء تأثيرها المهلك في أجواء الحرب, فهناك سلاح بيولوجي يمكن استخدامه بين أسلحة المدفعية والقذائف و مدافع الهاون بمجرد الرّش.


مقاومة للأشعة فوق البنفسجية (UV-resistant):

تعمل أشعة الشمس (الأشعة فوق البنفسجية) على القضاء على كافة الأسلحة البيولوجية عدا عاملين فقط هما العصويات الجمرية (Bacillus anthracis) المسببة للجمرة الخبيثة والكوكسيلة البورنيتية (Coxiella burnetii). فكلاهما مقاوم للانحلال بفعل أشعة الشمس.

فترة الحضانة قصيرة (Short incubation period):

إذا كان هناك ثمة سلاح يمكن التنبؤ بظهور آثاره على نحو دقيق فإنه سيكون بالتأكيد هو الأسهل , استخداماًعدة أيام, تكون الأقرب لإعداد , وإذا كانت آثاره لاتستغرق سوى الخطط التكتيكية في الحروب الحضانة (بين الإصابة وظهور أعراض , وتتراوح فترة المرض الخبيثة. وهناك أسلحة بيولوجية ) من يوم إلى ستة أيام في حالة الجمرة أخرى مثل داء البروسيلات تتباين فيه فترة الحضانة في تفاوت (Brucellosis) كبير (من 5 أيام إلى 60 يوماً).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

متوفرة بسهولة (Easily available):

فهو من الأمراض الحيوانية التي تحدث حول العالم, وعينات التربة المأخوذة من المواقع المختلفة تجعله متوفراً في مواقع متباينة. وفضلاً عن ذلك يوجد ما يقرب من 1500 مستودع للأحياء المجهرية الدولية التي تبيع المستنبتات للمختبرات والشركات المنوطة بإعداد اللقاحات ولأغراض وقائية وعلاجية.

سهلة الإنتاج (Easy to produce):

فكما أشرنا سابقاً, أنها لاتحتاج إلى تجهيزات خاصة أو أدوات دقيقة. وعلى العكس من ذلك, فإن الأدوات والتجهيزات اللازمة ثنائية الاستخدام في الأعراض القانونية (الدوائية ـ والتشخيصية) وغير القانونية (كأسلحة بيولوجية).

ذات حجم مناسب: يبلغ حجم عصويات الجمرة الخبيثة نحو 5-1 ميكرون, وهو الحجم النموذجي الذي يمكن استنشاقه ليصل بسهولة إلى الحويصلات الهوائية ب الرئة, فالأحجام الأكبر من الأسلحة البيولوجية الأخرى تطرد عبر مجرى تنفس للخارج مرة ثانية دون أن تحدث تأثيراً يذكر.

يمكن استخدامها على شكل مسحوق أو سائل: مما يسمح بقدر من المرونة في اختيار الخطة الملائمة للاستعانة بها للقضاء على العدو.

Anthrax skin lesion.


كمية صغيرة منها تسبب دماراً شاملاً:

حيث قدرت وزارة الدفاع الأمريكية أن نحو 64 رطلاً من الجمرة الخبيثة التي نشرها من طائرة على شكل رذاذ (Aerosol) أو غاز تؤدي إلى نحو ثلاثة ملايين إصابة على منطقة تماثل واشنطن في ظل ظروف مناخية ملائمة.

والآن, دعونا نستعرض الجوانب الطبية لداء الجمرة الخبيثة:

*المقدمة والسَّرْد التاريخي:

تعد الجمرة الخبيثة داء حيوانياً (Zoonotic disease) ينجم عن العدوى بالعصويات الجمرية (Bacillus anthracis) ويصيب الحيوانات الأليفة والمفترسة, وبخاصة الحيوانات آكلة العشب كالخراف والماعز والماشية والخيول والخنازير. ويصاب الإنسان عادة بالعدوى عن طريق مخالطة الحيوانات المصابة أو المنتجات الحيوانية الملوثة, وغالباً ما تحدث الإصابة البشرية عن طريق الجلد, ونادراً ما تتم العدوى عن طريق الجهاز التنفسي أو الهضمي. وقد كان للجمرة الخبيثة سجل حافل مع الإنسان على مر التاريخ إذ ورد ذكرها في سِفْر الخروج من التوراة (Exodus) حيث يعتقد أنها الضربة الخامسة التي أصابت الحيوانات الأليفة والمواشي في مصر والتي أعقبها الإصابة الجلدية للإنسان ببثور وقرح. وقد ظلت أوروبا تعاني من داء الجمرة الخبيثة طوال الفترة بين القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر, واحتل مكانته كأحد الأمراض الحيوانية الهامة ذات الأثر الوخيم على اقتصاد البلاد. ثم ارتبط هذا الداء بنشأة العلوم الميكروبيولوجية (علوم الأحياء الدقيقة) والمناعية لكونه أول مرض تم تعيين نشأته الجرثومية بصورة حقيقية مؤكدة على يد العالم الألماني روبرت كوخ (Robert Koch) [1910-1843], في عام 1876. كما يعتبر أول مرض تم اكتشاف لقاح فعّال مضاد له من البكتريا الحيّة (Live bacterial vaccine) بفضل العالم الفرنسي لويس باستير (Louis Pasteur) [1895-1822]], عام 1881. وظهر في النصف الأخير من القرن التاسع عشر نمطاً جديداً من الجمرة الخبيثة لم يعرفه العالم من قبل أطلق عليه الجمرة الخبيثة الاستنشاقية (التنفسية) (Inhalational anthrax) وقد أصاب هذا النوع فرّازي الصوف في إنجلترا نتيجة تولد رذاذ (Aerosol) وأبخرة مُعدية من أبواغ الجمرة الخبيثة (Anthrax spores) أثناء عملية تصنيع وتشغيل شعر وصوف النعاج, وتمثل هذه الحالة أيضاً أول مرض تنفسي مهني أمكن وصفه (First occupational respiratory disease). كما تم استخدامها في القرن العشرين كسلاح بيولوجي شديد الفعالية لما تسببه أبواغها من عدوى تنفسية ذات معدلات وفاة هائلة تعقب استنشاقها, وتعاظم الاهتمام العسكري بها عقب حدوث أكبر وباء للجمرة الاستنشاقية في مدينة (س ردلو سك) (Severdlovsk) في الاتحاد السو فيتي السابق (روسيا) عام 1979, إذ انطلقت أبواغ الجمرة الخبيثة من مرفق للأبحاث العسكرية يقع عند مهب الريح على منطقة تبعد 50 كيلومتراً من الموقع, وقد رصدت فيها حالات الإصابة.

*الجرثومة (The organism):

العصويات الجمرية (Bacillus anthracis) هي بكتريا حية موجبة الجرام, مكوّنة للأبواغ, غير متحركة, يتراوح حجمها بين (1.5-1 ميكرومتر x 10-3 ميكرومتر), وتنمو هوائياً (Aerobically) على أجار دم الخراف ولاتقوم تحت هذه الظروف بحل الدم (Non hemolytic). وتكون مستعمرات هذه الجراثيم كبيرة, خشنة, ذات لون أبيض رمادي تنمو بطريقة غير منتظمة وخارج الحافة, وتستطيع تكوين محفظة بارزة (Prominent capsule) في وجود البيكربونات و ثاني أكسيد الكربون سواء داخل الأنابيب (In vitro) أو داخل الأنسجة الحية (In vivo). وتعيش الجرثومة داخل النسيج الحي محاطة بمحفظة (Capsule) على شكل فرادي أو سلاسل تتكون من عصيتين أو ثلاثة دون أن تكوّن أبواغاً داخل الأنسجة الحية على الإطلاق, وتحدث عملية تكوين الأبواغ (Sporulation) فقط إذا تعرّض الجزء المصاب للأكسجين. وتتميز هذه الأبواغ بشكلها البيضاوي ومقاومتها العالية وقدرتها على البقاء حية لعقود طويلة في ظل ظروف بيئية معينة للتربة التي تقع عليها, ويتم التعرف على وجودها يقينياً بالكشف عن مكون ذيفان المستضد الواقي (Protective antigen toxin component) أو انحلالها باستخدام لاقم بكتيري (عاثية) نوعي (Specific bacteriophage), كما يمكن تعيين المحفظة بواسطة ضد متألق [[[Flouorescent]] antibody), والفوعة (Virulence) في الخنازير الغينية (Guinea pigs), فضلا عن مجموعة من الاختبارات التأكيدية الإضافية التي شقّت طريقها نحو النور والتي تعتمد على تعيين الذيفان وجينات المحفظة باستخدام تفاعلات سلسلة البوليمراز (Polymerase chain reaction;PCR) التي تم تطويرها كأدوات بحثية.



*الوبائيات (Epidemiology):

تعد الجمرة الخبيثة داء واسع الانتشار على الصعيد العالمي, حيث تتواجد الجراثيم في التربة على شكل أبواغ لفترات طويلة من الزمن, ويبقى هناك استفسار حائر عما إذا كان تكاثر هذه الجراثيم يحدث داخل التربة, أم أنها مجرد دورات من التكاثر تتوالى داخل الحيوانات المصابة قبل دفنها في التربة? وكما أشرنا سابقاً أن هذه الجراثيم تعيش داخل الحيوانات المصابة على شكل عصوي, ولايحدث التجرثم وتكوين الأبواغ إلا بعد أن تتعرض الجرثومة نفسها للهواء بعد دفن الحيوان المصاب وتحلله. وتبدأ دورة الحياة حينما تقوم الحيوانات الأليفة أو المتوحشة بابتلاع الأبواغ أثناء تناولها الأعشاب من أرض ملوثة, وتعمل الظروف البيئية كالجفاف على زيادة احتمالات الإصابة بالفم, إذ أن تناول الأعشاب اليابسة يؤدي إلى حدوث جروح بتجويف الفم أثناء المضغ, وينتقل المرض من حيوان لآخر بطريقة ميكانيكية عن طريق عضات الحشرات الطائرة, بينما تنتقل من مكان لآخر عن طريق الذباب والسنور.

*متى يصاب الإنسان بالجمرة الخبيثة?

يصاب الإنسان بالجمرة الخبيثة إذا تعرض لمخالطة الحيوانات المصابة أو تناول منتجات حيوانية ملوثة. وينتشر المرض في المناطق الريفية من أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط أثناء مخالطة الحيوانات الأليفة الملوثة أو دفن الحيوانات المصابة بصوفها وشعرها وعظمه, وهكذا تؤدي ملامسة المواد الملوثة إلى حدوث الإصابة الجلدية (Cutaneous form), ولكن من النادر أن نصادف الآن إصابات ناجمة عن عمليات تصنيع الشعر والصوف والجلد والعظام الملوثة كما كان يحدث من قبل, وتحدث الإصابة الفمية البلعومية (Oropharyngeal anthrax) أو الهضمية (Gastrointestinal) عند تناول اللحوم المصابة, كما تحدث الإصابة الاستنشاقية (التنفسية) (Inhalational anthrax) عند استنشاق كمية كافية من الرذاذ والأبخرة المشبعة بالأبواغ في مساحة مغلقة أثناء عمليات تصنيع الصوف أو الشعر الملوث. ولايمكن الاعتماد على التقارير المتوفرة وحدها لتقدير عدد المصابين بالجمرة الخبيثة سنوياً على نحو دقيق, غير أن التقدير الذي تم إعداده عام 1958 على الصعيد العالمي يشير إلى أن عدد حالات الإصابة في الإنسان يتراوح بين 20,000 إلى 100,000 حالة سنوياً خلال هذه الفترة. غير أن الرصد غير الدقيق يجعل من الصعب تقدير المعدلات الحقيقية لحدوث المرض (Incidence rate), أما الإحصاءات الحالية فتشير إلى وجود إصابات حيوانية في 82 دولة فضلاً عن بعض الحالات المسجلة للإصابات البشرية في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا. ولقد انخفض عدد الإصابات السنوية في الولايات المتحدة انخفاضاً واضحاً, إذ تم رصد 18 حالة فقط خلال القرن العشرين عدا حالات الجمرة الخبيثة التنفسية التي حدثت من جراء استخدامها كسلاح بيولوجي. كما تم تسجيل بعض الحالات الجمرة الخبيثة التنفسية في بعض الفلاحين الروس الذين يعملون في تصنيع صفوف الأغنام في منازلهم, كما تم رصدها في خمس من العاملين في مصنع صوف في نيوهامبشاير (New Hampshire) في الخمسينات من القرن الماضي. ويعد وباء الجمرة الخبيثة الذي تم رصده بين عامي 1978 حتى 1980 في زيمبابوي هو الأوسع انتشاراً على الإطلاق, وقدرت فيه عدد الإصابات بنحو 10,000 حالة معظمها من النوع الجلدي, فضلاً عما ندر من النوع الهضمي. أما حالات الإصابات التنفسية في هذا الوباء فلم تزد عن ثمانية حالات رغم عدم وجود تقارير تشريحية تؤكد ذلك.

*الإمراض (Pathogenesis):

تحمل العصوية الجمرية (Bacillus anthracis) ثلاثة عوامل معروفة شديدة السُمّية: 1- المحفظة المضادة للبلعمة (Antiphagocytic capsule). 2- بروتين ذو ذيفان خارجي مميت (Lethal exotoxin protein). 3- بروتين ذو ذيفان خارجي مسبب للوذمة (Edema exotoxin protein).


1- المحفظة المضادة للبلعمة

(Antiphagocytic capsule):

تم اكتشاف الدور الذي تلعبه المحفظة في الإمراض في مطلع القرن التاسع عشر, حيث وجد أن سلالات الجمرة الخبيثة التي يتم فيها نزع المحفظة تفقد فوعتها (Avirulent). ولقد أميط اللثام عن رموز الجينات المسؤولة عن تصنيع المحفظة (Genes encoding synthesis of capsule) وعرف أنها مشفرّة (Coded) على 110 كيلو قاعدة بلازميدية (110 Kilobase plasmid), كما كشف التجليل الجزيئي (Molecular analysis) عن الدور الحاسم الذي تلعبه المحفظة في إضفاء السمية على عصويات الجمرة الخبيثة. وتتكون المحفظة من بوليمر لحمض الجلوتاميك المتعدد (A polymer of poly -D- glutamic acid) وهو الذي يمنح المحفظة خاصية المقاومة للبلعمة كما يجعلها مقاومة للتحلل بفعل بروتينات مصل الدم ذات الكاتيونات الموجبة (Serum cationic proteins). 2 و3 بروتينان ذوا ذيفان خارجي (Exotoxins); الأول مميت (Lethal)والثاني يسبب الوذمة:

كان روبرت كوخ (Koch) أول من أشار إلى أهمية السّموم (الذيفانات) في دراساته الأولية على الجمرة الخبيثة, ثم أعقبه (سميث Smith) و(كيبي Keppie) اللذان قاما بتعيين العامل السام (Toxic factor) في مصل الحيوانات المصابة عام 1954, وعندما تم حقن الحيوانات السليمة بهذا المصل نفقت على الفور, مما أكّد لنا أهمية هذه السموم في إحداث الفوعة (Virulence). وقام العديد من العلماء بتجارب متتالية في هذا المجال البحثي لاكتشاف أثر هذه السموم على المناعة (Immunity), إلى أن جاء العقد الأخير من القرن العشرين باكتشافات مذهلة نتيجة للتقدم الهائل في علم البيولوجيا الجزيئية (Molecular biology) الذي رسم لنا صورة كاملة للآليات الكيميائية الحيوية التي تؤدي بها هذه السموم (الذيفانات) دورها, وبذلك تم الكشف عن صورة محددة لدورها في الأمراض. وتقع الجينات (Genes) المسؤولة عن تشفير وتصنيع هذين النوعين من البروتينات على 60 كيلو قاعدة بلازميدي (60 K-B Plasmid) (بما يميزها عن تلك الجينات التي تصنع المحفظة), وعند حدوث إصابة العائل ـ سواء كان حيواناً أو إنساناً ـ تزداد نسبة البيكربونات وثاني أكسيد الكربون في البيئة وترتفع درجة حرارة المصاب, مما يسمح بزيادة عملية نسخ الجينات المسؤولة عن تخليق هذين السّمين (الذيفانين) والمحفظة أيضاً.

وتتكون ذيفانات الجمرة الخبيثة-شأنها شأن العديد من الذيفانات البكتيرية والنباتية من مركبين: رابط الخلية (Cell binding) أو الموضع B (B-domain)والجزء النشيط أو الموضع A (A-domain) وهو الجزء المختص بالنشاط السُمّي والإنزيمي.

ويتم تخليق كلا المركبين AوBعن طريق جينات مختلفة تفرز كبروتينات مرتبطة ارتباطا غير متكافئ(Uncovalently linked proteins).

يحتوي كلا الذيفانين على نفس نوع البروتين البائي B ويطلق عليه المستضد الواقي (Protective antigen), ويبلغ وزنه الجزيئي (83,000), ولكنها يختلفان في نوع البروتين (A).

ويتكون الذيفان المميت (Lethal toxin) من المستضد الواقي, ويبلغ وزنه الجزيئي (90,000) وهو مميت لحيوانات التجارب. وقد وُجد أن هذا العامل المميت (Lethal factor) يتشابه في النسق (Homology) مع إنزيمات البروتيازات المعدنية (Metallo proteases) على الرغم من عدم اكتشاف نشاطه الإنزيمي المباشر حتى الآن.

أما الذيفان المسبب للوذمة (ذيفان الوذمة Edema toxin) فيتكون من نفس المستضد الواقي B مع نوع آخر من البروتينات يُعرف باسم عامل الوذمة Edema factor وزنه الجزيئي يبلغ نحو (89,000). ويسبب هذا النوع من البروتينات حدوث وذمة إذا تم حقنه في جلد حيوانات التجارب. ويتركب هذا البروتين من محلِّقة (سِكلاز) الأدينيلات المعتدة على الكالموديولين (Calmodulin - dependent adenylate cyctase), حيث تعمل هذه المحلقة على رفع نسبة الأدينوزين الحلقي الأحادي الفسفات داخل الخلايا, مما يسبب حدوث وذمة واضحة تتواجد غالباً في موضع الانتساخ البكتيري (Replication). ولايعمل أي من من البروتينات السامة الثلاثة (البروتينات الذيفانية B ونوعا البروتين A) منفرداً, فإزالة أي من البلازميد المشفِّر للذيفان أو جين المستضد الواقي بمفرده يضعف الجرثومة ويقضي على سميتها. ويبدو أن الذيفان المميت (Lethal toxin) هو الأكثر أهمية في إحداث السمّية بشكل يفوق ذيفان الوذمة.

وقد أدت الدراسات الحديثة على نماذج مستنبتات (الخلية) إلى فهم أوضح للتفاعلات (التآثرات) الجزيئية (Molecular interactions) للبروتينات السامة, فالمستضد الواقي يتحد بمستقبلة معينة على الخلية وذلك من نهاياته الكربوكسية (Carbox-terminus). ويؤدي هذا الالتحام إلى انشطاره بواسطة إنزيم البروتياز (Protease) المرابط على سطح الخلية, مما يؤدي إلى احتجاز جزيء حجمه 63 كيلودالتون (63 Kilodalton) من المستضد الواقي, مما يزيد من قابلية التصاق المستضد الواقي بأي من عامل الوذمة أو العامل المميت بشدة, ثم ينغمد هذا المركب المعقد الناتج داخل كيس حمضي متجهاً نحو عصارة الخلية (Cytosol) ليظهر نشاطه السام. ويختلف الأمر في حالة إصابة الحيوانات, حيث يتواجد هذا المركب السّام في مصل الدم ثم يلتصق الذيفان المميت أو ذيفان الوذمة بالخلايا المستهدفة مكوناً الأبواغ. وتبدأ العدوى حينما تدخل الأبواغ عبر الجلد أو المخاط حيث يتم هضمها موضعياً بفعل البلاعم (Macrophages), حيث تتجرثم بداخلها وتتحول إلي عصيات إنتاشية لها محفظة ومزودة بالسموم (الذيفانات). وتتكاثر البكتيريا في هذه الأماكن وينتج عنها السموم المميتة والمسببة للوذمة التي تضعف وظائف كرات الدم البيضاء في العائل (Impair leukocytic functions) وتؤدي إلى ظواهر مرضية مميزة تتمثل في:الوذمة والنزيف ونخر الأنسجة (Tissue necrosis) والنقص النسبي في كرات الدم البيضاء, وفي حالة النوع الاستنشاقي (التنفسي) من الجمرة الخبيثة:تصل الأبواغ إلى الحويصلات الهوائية حيث تقوم الخلايا بالتهامها ثم تنقلها إلى العقد اللمفاوية الرغامية القصبية (Tracheo-bronchial lymph nodes) حيث يتم حدوث التجرثم (Germination). وبمجرد دخول الأبواغ إلى العقد اللمفاوية, تقوم عصيات الجمرة الخبيثة بالإنتاج الموضعي للذيفانات مما يؤدي لظهور خصائص مرضية أخرى كالنزف الشديد, والوذمة, والتهاب الغدد اللمفاوية الناخر (Necrotizing lymphadenitis), والتهاب المَنصِف (Mediastinitis) (وهو من العلامات التي ينفرد بها هذا المرض), بعدها تنتشر العصيات في الدم, مما يؤدي إلى حدوث إنتان دموي (Septicemia) ومنه إلى الأعضاء الأخرى. وسرعان ماينتهي إلى حدوث التهاب سحائي نزفي (Hemorrhagic meningitis) ويزداد تركيز الذيفان في الدم وتحدث الوفاة. وتنجم الوفاة عادة من حدوث فشل تنفسي يصاحب الوذمة الرئوية (Pulmonary edema), وتجرثم الدم (Bacteremia), والالتهاب السحائي (Meningitis). وقد وجد أن مستحضرات الذيفان (السم) الخام تضعف الانجذاب الكيميائي (Chemotaxis) لكرات الدم البيضاء, مما يضعف من قدراتها البلعمية والفتاكة فمستحضرات السم (الذيفان) المسبب للوذمة تضعف البلعمة وتمهد لانفجار الحويصلات الهوائية وتثبط إنتاج الإنترلوكين 6 (Interleukin6; IL-6) وعامل نخر الورم (Tumor necrosis factor;TNF) عن طريق الخلايا الوحيدة (Monocytes) التي تضعف مقاومة العائل. أما السم المسبب للوذمة (ذيفان الوذمة) فيقوم بحل الخلايا البلعمية الكبيرة فوراً ثم يؤدي إلى إفراز السيتوكين (Cytokines IL-1) ذو التأثير السام وعامل نخر الورم (TNF).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

*الصورة الإكلينيكية (Clinical picture):

ينصب الاهتمام العسكري بالجمرة الخبيثة على استخدامها كسلاح بيولوجي فتاك (النوع التنفسي), أما أشكال المرض الأخرى فلا يعنى بها سوى عموم الأطباء بخاصة في دول العالم الثالث حيث تظهر بعض الإصابات أحياناً:

1- النوع الجلدي من الجمرة الخبيثة [شكل (2)ْ] (Cutaneous form of anthrax):

ويمثل حوالي 95 % من حالات الجمرة الخبيثة, وتتراوح فترة الحضانة إلى الجلد من يوم إلى خمسة أيام وتظهر بعدها أعراض المرض, حيث يبدأ في الظهور كحطاطة صغيرة (Small papule) تتحول في غضون يوم أو يومين إلى حويصلة (Vesicle) تحتوي على سائل مصلي دموي مع العديد من الجراثيم وكرات الدم البيضاء, ويتراوح قطر الحويصلة بين 2-1 سم, وسرعان ما تتمزق تاركة قرحة ناخرة (Necrotic ulcer) في مكانها. وعادة ما تكون غير مؤلمة ومحاطة بوذمة تتفاوت في درجتها, فقد تكون واسعة النطاق تشتمل على الوجه أو أحد الأطراف ويطلق عليها الوذمة الخبيثة (Malignant edema).

ويصاحب المرض عادة ارتفاع درجة المريض والشعور بالصداع والإعياء, وتزداد هذه الأعراض مع استفحال الوذمة واتساع رقعتها.

وقد يصاحب المرض أيضاً حدوث التهاب في الغدد اللمفاوية الموضعية (Local lymphadenitis) وتكون قاعدة القرحة خشارة (Eschar) تنفصل بعد أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع مخلفة ندبة (Scar) ونادراً ما يحدث إنتان دموي (Septicemia) عند استخدام العلاج المناسب ولاتتجاوز فيه نسبة الوفيات 1%.



2- النوع الاستنشاقي (التنفسي) من الجمرة الخبيثة

(Inhalational form of anthrax): تبدأ الإصابة بالجمرة التنفسية عقب فترة حضانة تتراوح بين يومٍ واحد إلى ستة أيام كاملة من الأعراض غير المحدّدة كالشعور بالتوعك والإرهاق وآلام عضلية مع حُمَّى, وقد يصحبها سعال جاف وشعور طفيف بعدم الارتياح أثناء التنفس. وتستمر هذه الأعراض عادة لمدة يومين أو ثلاثة تتخللها فترات قصيرة من التحسّن (وتتشابه هذه الأعراض تقريباً مع حالات الإنفلونزا), ثم تعقبها بداية حادة لشعور متزايد بضيق تنفسي (Dyspnea) وأزيز (Wheezes), ويشعر المريض بآلام في الصدر وتعرّق غزير (Diaphoresis). وقد يصاحب هذه الأعراض حدوث وذمة بالصدر والرقبة. ويظهر الفحص بالأشعة السينية وجود اتساع في المنصف (Widening of mediastinum) وهو من الفحوص المؤكدة لحدوث المرض, فضلاً عن وجود ارتشاح جنبي (Pleural effusion). ولايعد الالتهاب الرئوي أحد الظواهر الدائمة المصاحبة للمرض على الرغم من احتمال حدوثه. وتعد إصابات الجمرة التنفسية نادرة الحدوث, إلا أن العديد من المرضى الذين عانوا من أمراض تنفسية مزمنة قد أصابهم الداء مما يضفي المزيد من الشكوك حول الاعتقاد بأن الاصابة بأمراض تنفسية مزمنة تزيد من قابلية الإصابة بهذا المرض. وتحدث الإصابة بالالتهاب السحائي (Meningitis) في 50% من الحالات ويؤدي إلي حدوث نوبات تشنجية. ويعقب البداية المفاجئة لضيف التنفس تطور سريع نحو حدوث الصدمة (Shock) لتنتهي بالوفاة السريعة في نحو 36-24 ساعة من ظهور الأعراض. وحدوث الوفاة في هذا النوع من الجمرة مؤكد وتبلغ نسبته 100%. على الرغم من تناول العلاج المناسب.


3- النوعان الفمي البلعومي, والهضمي من الجمرة الخبيثة

(Oropharyngeal and gastrointestinal forms):

عند ابتلاع (تناول) لحوم ملوثة بالجمرة الخبيثة, ونيئة لم يتم طهيها بدرجة كافية تظهر أعراض الداء بعد فترة حضانة تتراوح بين يومين إلى خمسة أيام. وتتمثل هذه الأعراض في: حدوث احتقان شديد بالحلق, قرحة بالفم أو اللوزتين مصحوبة بارتفاع في درجة الحرارة مع تورم بالرقبة نتيجة لالتهاب الغدد اللمفاوية العنقية أو التهاب العقد اللمفاوية تحت الفك السفلي مع وذمة, وضائقة تنفسية, وعسر في البلع, وغثيان وقيء وارتفاع في درجة الحرارة مع حدوث آلام شديدة بالبطن. بفحص المريض يكتشف الطبيب علامات تتماشى مع الإصابة بأعراض البطن الحادة (Acute abdomen) قد يصاحبه قيء دموي, واستسقاء (حَبَن) شديد في البطن مع إسهال. ترتفع نسبة الوفاة في هذين النوعين إلى نحو 50%, وخاصة في النوع الهضمي, على الرغم من تناول العلاج المناسب.

4- الالتهاب السحائي (Meningitis):

قد يحدث الالتهاب السحائي عقب التجرثم الدموي كأحد مضاعفات الإصابة بأي شكل من أشكال الجمرة الخبيثة السابق ذكرها ــ ونادراً مايحدث دون وجود بؤرية أولية ظاهرة إكلينكيا, وغالباً مايكون الالتهاب نزفياً (Hemorrhagic) وهو أحد الظواهر التشخيصية الهامة والمميتة في جميع الحالات.


* التشخيص (Diagnosis):

يعتبر التاريخ المرضي من أكثر الأمور أهمية في تشخيص الجمرة الخبيثة, فالنوع الجلدي يتم تشخيصه في وجود بثرة جلدية غير مؤلمة تتحول لاحقاً إلى حويصلة ثم قرحة تحيطها وذمة تتحول فيما بعد إلى خشارة سوداء (Black eschar) ويميز حدوثها وجود وذمة شديدة متسعة الرقعة (الوذمة الخبيثة). ويمكن التأكد من التشخيص بإجراء ناقص مزرعة باستخدام صبغة الجرام (Gram's stain).


التشخيص التفريقي

(Differential diagnosis):

يجب أن يشمل على التولاريمية (Tularemia), وداء المكورات العنقودية أو السّبحية, وجدري الغنم (وهو داء يروسي يصيب الخراف والماعز ويمكن انتقاله إلى الإنسان).


أما تشخيص النوع التنفسي (الاستنشاقي) من الجمــرة:

فهو شديد الصعوبة في الأحوال العادية, دون أن يحوم الشك حول المرض من التاريخ المرضي (تَعَرُّض المريض للعصويات الجمرية في حرب بيولوجية ـ أو لأبخرة ورذاذ الجمرة في الأعمال الزراعية والصناعية). والأعراض المبكرة غامضة عموماً, ولكن:

ظهور الضيق التنفسي مع حدوث اتساع منصفي يشير إلى وجود المرض.

يدل الانصباب الجنبي النزفي أو التهاب السحايا النزفي على التشخيص.

لايفيد فحص البلغم (Sputum examination) في مثل هذه الأحوال, فالالتهاب الرئوي لايعد أحد الظواهر المؤكدة لحدوث الجمرة الخبيثة بالفعل.


تشخيص النوع الهضمي من الجمرة الخبيثة:

ويصعب تشخيصه أيضاً نتيجة ندرة المرض, وأعراضه التي تتشابه مع الكثير من الأمراض الأخرى. يعتمد التشخيص كما أشرنا سابقاً على التاريخ المرضي, وعلى تناول لحوم ملوثة أثناء حدوث أوبئة. وقد يجدي إجراء مزروعة جرثومية في تأكيد هذا التشخيص. كذلك لا يمكن تمييز الالتهاب السحائي الناجم عن الجمرة الخبيثة عن غيره الناتج عن أسباب طبية مغايرة. ولكن وجود نزيف في السائل النخاعي في حوالي 50% من الحالات قد يشير إلى حدوث المرض. ويمكن التأكد من صحة التشخيص بالتعرف على الجرثومة في السائل النخاعي بالفحص المجهري أو المزرعة أو كلاهما معاً. ويفيد مصل الدم فقط في التشخيص الاستعادي (Retrospective diagnosis); حيث يمكن التعرف على المستضد الواقي أو المحفظة في 68% إلى 93% من حالات الجمرة الخبيثة الجلدية, وفي حوالي 67% إلى 94% من حالات الجمرة الخبيثة البلعومية. كما تم الإقرار باستخدام الاختبار الجلدي (الأنثراكسين) وهو عبارة عن مستضد غير نوعي مستنبط من تحلل العصويات, وقد تم تطوير هذه الطريقة وتقييمها في الاتحاد السو يتي (سابقاً) أما الدول الغربية فخبرتها محدودة في هذا النوع من الاختبارات.


*العلاج (Treatment):

يعتبر البنسللين (Penicillin) هو الدواء المختار لعلاج الجمرة الخبيثة. ويمكن معالجة حالات الإصابة الجلدية التي تحدث بلا سُمّية وبدون أعراض جهازية باستخدام البنسللين الفمي, أما إذا كان هناك ثمة دليل على وجود أعراض جهازية (Systemic symptoms), فيمكن البدء في استخدام العلاج بجرعات كبيرة عن طريق الحقن الوريدي (2 مليون وحدة كل 6 ساعات) حتى يستجيب المريض للعلاج, وسوف يظهر العلاج الفعال نتائج ملموسة على الوذمة ويخفض من حدة الأعراض الجهازية, ولكنه لن يغير من مراحل تطور الآفة الجلدية نفسها. ويجب أن يستمر العلاج لفترة تتراوح بين 10-7 أيام. وقد استخدم التتراسيكلين والكلورامفينكول أيضاً بنجاح في الحالات النادرة التي تكونت لديها مقاومة طبيعية ضد البنسللين. ويجب أن يتم علاج الجمرة الخبيثة التنفسية والفمية ـ البلعومية والهضمية بجرعات كبيرة من البنسللين يتم حقنها وريدياً (2 مليون وحدة كل ساعتين) مع الاستخدام الأمثل لقابضات الأوعية الدموية (Vasopressors) والأكسجين والمعالجات الأخرى.


الوقاية العلاجية (Prophylaxis):

أشارت الاختبارات التجريبية إلى أن العلاج باستخدام المضادات الحيوية قد يقي من الموت إذا تم في خلال يوم واحد من التعرض للرذاذ والأبخرة الملوثة بعصويات الجمرة الخبيثة, وقد تم استخدام ثلاثة من الأدوية في هذا المجال هم: سيبروفلوكساسين (Ciprofloxacin), ودوكسيسايكلين (Doxycycline), والبنسللين (Penicillin), حيث تستخدم جنباً إلى جنب مع التمنيع النشط (Active immunization).

التمنيع النشط (Active immunization):

تم ترخيص لقاح للاستعمال البشري أنتجه قسم الصحة العامة في ولاية ميتشجان الأمريكية ويتم تصنيعه من المستنبتات الهوائية لعصويات الجمرة الخبيثة على أن تكون ذراري الجراثيم موهَنَّة (Attenuated) وبلا محفظة (Uncapsulated) وغير حالّة للبروتين (Non proteolytic strains). وتحتوي مرشحات هذه السلالات على مستضد الجين الواقي الذي يعد في حد ذاته جيناً مناعياً, فضلاً عن كميات قليلة جداً من العامل المميت, ومقادير أقل من عامل الوذمة يتم تحديدها بدقة متناهية. ويتم تخزين هذا اللقاح في درجة حرارة تتراوح بين 2 و 8 درجات مئوية. الجرعة 0.5 ملليلتر تحت الجلد عند صفر و 2 و 4 أسابيع, تعقبها جرعة منشطة (Booster dose) عبارة عن 0.5 ملليلتر على مدار 6 شهور و 12 شهراً, و 18 شهراً. ويوصى بإعطاء جرعات منشطة سنوياً إذا توالى احتمال التعرض لجراثيم الجمرة الخبيثة بانتظام. ويعطى اللقاح للعاملين في مجال تصنيع المنتجات الحيوانية المستوردة من دول لم تتم فيها السيطرة على أوبئة الجمرة الخبيثة, وتشمل هذه المنتجات الصوف والشعر وجلود وعظام الحيوانات. كذلك يعطى للعاملين في المختبرات أثناء حدوث الأوبئة, كما يستخدم للحماية أثناء الحروب البيولوجية وقد تم تطعيم 150 ألف فرد من القوات الأمريكية في الفترة بين 11 يناير إلى 28 فبراير عام 1991 (ما يبلغ 25% ــ إلى 30%) من إجمالي القوات الأمريكية التي تم نشرها في منطقة الخليج أثناء حرب تحرير الكويت. ويوفر اللقاح استجابة ووقاية في نحو 83% من الأفراد بعد مرور أسبوعين على الجرعات الثلاثة الأولية. ومناعة تبلغ 91% بعد إعطاء الجرعات التكميلية المنشطة الأخرى.

التأثيرات الجانبية للقّاح:

تفاعلات موضعية (Local): وتشمل وذمة وإحمرار وحكّة وألم موضع الحَقن تظهر في خلال يوم واحد وتختفي في خلال ثلاثة أيام من التلقيح. أما التفاعلات النمطية الأخرى فتتمثل في الشعور بألم عضلي خفيف وصداع وتوعك لمدة يوم أو يومين.


* Bibliography:

  • المصدر مركز تعريب العلوم الصحية

[2]