عمال حفر قناة السويس

يتناول هذا المقال، العمال المصريون الذين قاموا بحفر قناة السويس منذ بدأ أعمال الحفر عام 1859 حتى انتهائها بعد عشر سنوات عام 1869. تم حفر 165 كم بعرض 190 متراً وعمق 58 قدماً واستخراج 74 مليون متر مكعب من الرمال عن طريق نحو مليون مصري وذلك فى وقت كان عدد سكان مصر أصلاً أقل من 4 ملايين ومات أكثر من 120 ألف مصرى فى أثناء الحفر من الجوع والعطش والأوبئة والمعاملة السيئة. ومعظمهم لم يستدل على جثمانه ودفن فى الصحراء أو غرقاً تحت مياه القناة أو الردم الحكاية طويلة. ومادمنا على مشارف عهد جديد تعلو فيه قيمة الإنسان المصرى ويصبح لحياته ثمن. فالأولى أن نغلق حساباتنا القديمة أولاً.[1]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خلفية

في عهد محمد علي باشا، وتحديداً عام 1847، فقد ذكرت الوقائع المصرية أن مهندسين حضروا من أوروبا لعمل أبحاث هندسية للتأكد من عدم تفاوت منسوب المياه بين البحرين المتوسط والأحمر، تمهيداً لإنشاء قناة ملاحية تصل بينهما،

وقد اصطحب المهندسون الأوروبيون سبعة من المهندسين المصريين، وتم البدء فى إعداد ميزانية للمشروع بسبب ارتفاع الأرض بين البحرين، وكان تعداد مصر آنذاك أربعة ملايين ونصف المليون نسمة.

وفي عهد عباس باشا الأول، الذى كانت سياسته رجعية انكماشية، كما كان يهدف للتخلص من الأجانب، وكان عداؤه للفرنسيين مستحكماً، حدثت انفراجة فى علاقته بالإنجليز الذين نجحوا فى أيامه فى ترجيح مشروعهم الخاص بجعل مصر مركزاً للمرور للتجارة الشرقية والهندية، خاصة لتسهيل ارتباط إنجلترا بمستعمراتها فى الهند، وليعطلوا الحلم الفرنسى القديم بإنشاء قناة ملاحية.

وفى عام 1851 عرض الإنجليز على الخديوي عباس رصف الطريق من السويس إلى القاهرة، ثم إنشاء خط سكة حديد من القاهرة إلى الإسكندرية، لكن المشروع توقف بسبب مقتل عباس فى قصره فى بنها، إلى أن عرض ديليسبس الفكرة على الخديوي محمد سعيد باشا، ولهذا قصة طريفة، فقد كان سعيد يشاهد ديليسبس وهو يقفز بجواده، وقد أعجبته قفزته،

ووجد ديليسبس هذه فرصة مواتية لعرض الفكرة، فلم يتردد سعيد فى منحه الامتياز، حتى إن ديليسبس استخف بالأمر وذكر ذلك فى مذكراته حيث قال: «جمع سعيد باشا قواده وجنده وشاورهم فى الأمر ولما كانوا على استعداد لتقدير من يجيد ركوب الخيل ويقفز بجواده من على الحواجز والخنادق أكثر من تقديرهم للأكثر خبرة وتخصصاً وأكثر كفاءة علمياً» سعيد باشا نفسه قال بعد أن منح الامتياز لديليسبس «أعترف بأنى لم أفكر فى الموضوع كثيراً، وإنما هى مسألة شعور».

ومهما يكن من أمر، فإنه منذ مائة وخمسين عاماً ضرب فرديناند ديليسبس أول ضربة معول فى الخامس والعشرين من أبريل عام 1859 إيذاناً بحفر قناة السويس، لكن لم يكن هذا هو فقط البداية فيما يتعلق بفكرة شق قناة تصل بين البحرين الأبيض والأحمر، على الأقل لم تكن البداية بالنسبة لديليسبس،

فقد بدأت محاولاته منذ وصول الخديو محمد سعيد باشا إلى حكم مصر، وبحكم صداقته مع ديليسبس، استطاع أن يحصل منه على فرمان بعقد امتياز قناة السويس، الذى كان مؤلفاً من 12 بنداً، أهمها حفر القناة وأن يمتد الامتياز إلى 99 عاماً،

مما أثار قلق البريطانيين بسبب ارتباط مصالحهم بالهند، لكن ديليسبس لم يكذب خبراً ومضى قدماً فى تحقيق حلمه، وأخذ برفقته المهندسين لينان دى بلفون وموجل بك، كبير مهندسى الحكومة المصرية، وقاموا بزيارة لمنطقة البرزخ فى 10 يناير 1855 لدراسة جدوى حفر القناة.

وأصدر المهندسان تقريرهما فى 20 مارس 1855 الذى أثبت إمكانية إنجاز المشروع، وشكل ديليسبس لجنة هندسية دولية لتقدم تقريراً تفصيلياً حول المشروع، خلصت أيضاً إلى إمكانية إنجاز المشروع وفق ما ورد فى تقريرها الذى دبجته فى ديسمبر 1855، وأنه لا مكان لأى مخاوف تاريخية من تفاوت منسوبى المياه بين البحرين.

وفى 5 يناير 1856، أى قبل تأميم القناة بمائة عام، صدرت وثيقتان، هما عقد الامتياز الثانى وقانون الشركة الأساسى، الذى كان من بين بنوده قيام الشركة بكل أعمال الحفر وإنشاء ترعة للمياه العذبة تتفرع من وصولها إلى بحيرة التمساح شمالاً إلى بورسعيد، وجنوباً إلى السويس، وأن حجم العمالة المصرية أربعة أخماس العمالة الكلية.

وعلى مدى نوفمبر 1858 تم الاكتتاب فى أسهم شركة قناة السويس، وبلغ عدد الأسهم ٤٠٠ ألف بقيمة 500 فرنك للسهم الواحد، وتمكن ديليسبس من تأسيس الشركة وتكوين مجلس إدارتها.

وفى 25 أبريل 1859 أقيم حفل صغير ببورسعيد للبدء فى الحفر، فكانت ضربة المعول الأولى لديليسبس، وكان معه مائة عامل حضروا من دمياط، وتوقف الحفر بسبب اعتراضات الباب العالى وإنجلترا، إلى أن بدأ مرة أخرى فى ٣٠ نوفمبر إثر وساطة قامت بها الإمبراطورة أوجينى لدى الباب العالى وإنجلترا، فعاود العمال الحفر وكان عددهم قد بلغ 330 عاملاً، و٨٠ عاملاً أجنبياً، ثم تم الاستعانة بالعمال المصريين فقط، فبلغ عددهم 1700 عامل.

وفى عام 1861 بدأت الشركة إنشاء ميناء بورسعيد، وأقامت منارة وكوبرى، وقام الخديو بزيارة الميناء الذى حمل اسمه فى 12 أبريل 1861، وفى أواخر ذلك العام قام الخديو بزيارة مناطق الحفر بجوار بحيرة التمساح، واختار موقع المدينة التى اختير لها اسم «الإسماعيلية»، وزاد عدد العمال إلى 25 ألف عامل، وفى 12 نوفمبر أقام ديليسبس احتفالاً بمناسبة الانتهاء من حفر القناة البحرية المصغرة،

ووصول مياه البحر المتوسط إلى بحيرة التمساح، إلى أن تولى الخديو إسماعيل حكم مصر فى يناير 1863، وتحمس للمشروع وأنشأ محافظة القناة فى العام نفسه برئاسة إسماعيل حمد بك، وفى نهاية العام التالى تم مد خط أنابيب مياه عذبة من التمساح إلى بورسعيد.

ولكثرة عدد العمال، وعدم وجود رعاية صحية، انتشرت الأوبئة ومنها الكوليرا ثم الجدرى، وقضى على كثير منهم، وفى عام 1869 وصلت مياه الأبيض المتوسط إلى البحيرات المرة، وفى 15 أغسطس كانت آخر ضربة فأس فى الحفر واتصل البحران فى منطقة الشلوفة.

كان إجمالى عدد العمال مليون عامل، وعدد الذين توفوا من العمال أثناء الحفر أكثر من 120 ألفاً، وبلغ طول القناة 165 كيلو متراً وعرضها 190 متراً و58 قدماً، وقبيل الافتتاح دعا الخديو إسماعيل ملوك العالم وقريناتهم لحضور حفل الافتتاح الذى جرى فى 16 نوفمبر 1869 وكان أسطورياً، لكن ما يتعين الإشارة إليه هنا أنه قبل أن تراود هذه الفكرة خاطر المسيو ديليسبس بزمان بعيد،

أغلقت قناة السويس نحو خمس مرات، كان آخرها بسبب عدوان 1967 فظلت مغلقة لثمانى سنوات، إلى أن أعيد افتتاحها بعد حرب أكتوبر في 5 يونيو 17975.


برزخ الشهداء

كراكة في حفر قناة السويس.
حفر حوض الترسانة بميناء بورسعيد.
بورسعيد - الكيلومتر 2.
كراكة 4,50 متر في حفر قناة السويس.
عوامة استراحة أثناء إنشاء قناة السويس.
الإسماعيلية أثناء حفر قناة السويس.
الحفر في الإسماعيلية.
قناة السويس الكيلومتر 133.
قناة السويس عند انحناءة القرش.
إحدى كراكات حفر قناة السويس.
اليخت أجيل للامبراطورة أوجيني.
بطاقة بريدية من قناة السويس سنة 1900.
يوم تأميم قناة السويس 26 يوليو 1956.
الصورة الفوتوغرافية الوحيدة من حفل افتتاح قناة السويس في بورسعيد.
دليسبس والخديوي إسماعيل يوم افتتاح قناة السويس 17 نوفمبر 1869.
علي باشا مبارك نائبا عن الخديدوي يقوم بضربة الفأس الأخير لشق ما تبقى من برزخ السويس - 15 أغسطس 1869.
الملك فاروق على متن يخت المحروسة ببحيرة التمساح متجها للبحيرات المرة عبر قناة السويس لمقابلة الرئيس فرانكلن روزفلت. في 13-15 فبراير 1945
كراكة في حفر تفريعة السيسي.jpg
كراكة متوسطة في حفر تفريعة السيسي.
حفر تفريعة السيسي 2015.
كوبري الفردان بني أثناء ح ع 1 للوصول للقدس، الصورة ملتقطة من السفينة تاكادا.

كان إجمالى عدد العمال الذين شاركوا فى حفر القناة نحو مليون عامل، وعدد الذين توفوا من العمال أثناء الحفر أكثر من 120 ألفاً، وبالعودة لكتاب بالغ الأهمية اسمه "السخرة فى حفر قناة السويس" للمؤرخ الدكتور عبدالعزيز محمد الشناوى. سنجد مأساة إنسانية، فقد انفرد ديليسبس بوضع لائحة للعمال وسعى لأخذ توقيع سعيد عليها، وضمنت الشركة الفرنسية من خلالها موردا بشريا هائلا تمثل فى تعبئة المصريين لحفر القناة، جاءت المادة الأولى من اللائحة لتنص على أن تقدم الحكومة المصرية العمال الذين يعملون فى أعمال الشركة تبعا للطلبات التى يتقدم بها كبير مهندسى الشركة وطبقا لاحتياجات العمل، وتناولت المادة الثانية اجور العمال فحددت أجر العامل بمبلغ يتراوح ما بين قرش ونصف القرش وثلاثة قروش فى اليوم، وإذا كان العامل دون الثانية عشرة من عمره يتقاضى قرشا واحدا يوميا، والتزمت الشركة بتقديم الخبز المقدد أو الجراية إلى كل عامل بصرف النظر عن عمره، ونصت اللائحة على فرض عقوبات على العمال الهاربين من الحفر فالعامل المهمل يخصم من اجره بما يتناسب مع مقدار إهماله، أما العامل الذى يهرب فيفقد اجر الخمسة عشر يوما المحفوظة بخزينة الشركة.[2] ونصت اللائحة أيضا على عمل مستشفى ميدانى بمنطقة الحفر ومراكز للإسعاف مزودة بالأدوية، وفى مايو 1859 بدأت اعمال الحفر وكان ديليسبس حاضرا وسط العمال والمهندسين وأمسك بالفأس وضرب أول ضربة بيده وقال للعمال: "سيضرب كل منكم بمعوله هذه الأرض الضربة الأولى كما فعلنا نحن الآن، وعليكم ان تذكروا أنكم لن تحفروا الأرض فقط ولكن ستجلبون بعملكم الرخاء لعائلاتكم ولبلادكم الجميلة. ليعيش أفندينا سعيد باشا سنوات طويلة"!.

وقد ترجمت للعمال هذه الكلمات وشرعوا يحفرون القناة تحت إشراف المقاول وهكذا بدأت المعاناة وبدأت فصول القصة المثيرة التى لم تغلق ملفاتها بعد، وكانت بداية الأزمة ان الشركة الفرنسية قررت التضحية بمئات الآلاف من العمال، حيث كان من المقرر أن يبدأ المشروع بحفر قناة مائية عزبة تصل لمنطقة الحفر بحيث توفر الماء للعمال وتوفر وسيلة مائية لانتقالهم لكن الشركة لحست وعودها وحشدت العمال للحفر مباشرة دون أن توفر لهم موردا للماء او للنقل، وهكذا بدأت اعمال الحفر وارتطمت الشركة بأخطر وأعقد مشكلة واجهتها أثناء الحفر وهى إمداد العمال وسط الصحراء بماء الشرب، وبدأ العمال يتساقطون كالذباب من شدة العطش والانهيارات الرملية. ثم توالى سقوط الآلاف بسبب انتشار أوبئة الجدرى والكوليرا والسل، وخالفت الشركة ما وعدت به أيضا حيث وعدت باستخدام وسائل متطورة فى الحفر وآليات وكراكات" لكنها لم تف بالوعد وأكرهت العامل المصرى على العمل فى ظروف قاسية معتمدا فقط على ساعديه وعلى الفأس و"القفة"!

ويروى المؤرخ فى هذا الكتاب أن سنوات الحفر الأولى للقناة شهدت أكبر عملية حشد للعمال فى التاريخ البشرى. وفى عام 1862 على وجه التحديد كان عدد العمال الذين يساقون زمرا إلى ساحات الحفر يتراوح ما بين عشرين ألفا وبين اثنين وعشرين ألفا فى الشهر الواحد، ويقول الباحث الفرنسى دوا إنه فى شهر ديسمبر 1861 ذهب سعيد باشا بنفسه إلى منطقة الحفر وشاهد أعمال السخرة، ورغب فى أن يزداد نشاط العمل فأمر بحشد عشرين ألف شاب ومنذ ذلك التاريخ وأفواج العمال لم تنقطع وكانت هذه الأفواج يتتابع قدومها شهرا بعد شهر مجتازة فى طريقها إلى البرزخ وعودتها منه الوجه القبلى والبحرى، وكثر تمرد العمال وهروبهم خاصة فى الليالى القمرية وأظهر عمال الوجه القبلى تحديا سافرا للشركة مما اضطر الشركة للاستعانة بالبوليس لإخماد تمرد العمال ومطاردتهم وتعذيبهم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مكتب الزقازيق

كانت مدينة الزقازيق هى نهاية الخط الحديد الذى يتفرع من بنها، وكان بها مكتب العمال التابع للشركة الفرنسية وكانت السلطة المحلية بالمدينة مكلفة بأن تخطر مكتب الشركة بوصول العمال من الصعيد والوجه البحرى وسط حراسة الشرطة، فيقوم مستخدمو المكتب بفرز العمال ويستبعدون أصحاب الأجسام النحيلة ويأخذون الشبان الأقوياء، وكان العمال يقطعون المسافة من الزقازيق إلى منطقة القناة سيرا على الأقدام فى أربعة أيام فى العادة، وكانوا يربطون بالحبال فى أيديهم اليسرى، ويسيرون فى طابور طويل كان يتراءى للناظر وكأنه بلا نهاية، وكان طريق التل الكبير يبدو وكأنه مغطى بالآدميين من كثرة جموع العمال سواء المتجهة إلى ساحات الحفر او القادمة منها، وكان كل عامل يحمل معه "قلة" ماء، وكيسا به خبز جاف. كان العمال يصلون إلى ساحات الحفر منهوكى القوى، بعد سفر طويل شاق فإذا بلغوا ساحات الحفر صدرت الأوامر بتسريح العمال القدامى الذين أمضوا شهرا كاملا وهى المدة المقررة لبقائهم، وكانت عمليات الحفر من المشاهد الضروية والمثيرة التى يحرص على رؤيتها السائحون الأجانب فى هذا العصر، ولقد كتب الفرنسى "مانتو" عن ذلك قائلا: "كان عدد الوفيات ضخما بسبب المجاعة، ولم تكن تُدفع أجور، وهناك نقص فى المؤن، ونقص فى الملابس والأحذية الملائمة لطبيعة المكان، لم تصل ملابس طوال الصيف، كما كان يوجد معتقل يُرسل إليه من يسيء السلوك، وليس على المرء أن يشكو ما لم يمت جوعا"، وكانوا يقفون وقت الطعام فى طوابير طويلة، وكثيرا ما كان يدق جرس الانتهاء من الطعام دون أن ينال أحدهم لقمة.

فكان الموت يدرك العمال قبل أن تصل إليهم المياه، وكان معظم العمال يلوذون بالفرار من ساحات الحفر حين يستشعرون الخطر الداهم بسبب نفاد كميات المياه، وتأخر وصول قوافل المياه، فكانوا يلتمسون النجاة بالهرب قبل أن يدركهم الموت فكانوا يلقون حتفهم فى الطريق من شدة العطش، وتظل جثثهم فى العراء على رمال الصحراء تنهشها الحيوانات الضالة.

الشركة لم تجد رجالا لنقل الموتى!

أنشأت الشركة الفرنسية إدارة طبية ومركزا لإسعاف المرضى لرعاية العمال، ولكن أوامر صدرت بأن تركز هذه الإدارة جهودها فقط فى رعاية العمال والموظفين الأجانب، ومن هنا أصبح العمال عرضة للموت من شدة فتك الأمراض بهم. ووفقا لمجموعة من التقارير الطبية التى مازالت محفوظة حتى الآن فى مكتبة بلدية الإسكندرية أن أكثر الأمراض انتشارا بين العمال فى ساحات الحفر هى النزلات الشعبية والأمراض الصدرية والرمدية وحالات الإسهال الشديد، والدوسنتاريا وأمراض الكبد، والرمد والجدرى.

ثم جاءت الكوليرا فى صيف عام 1865 وعصفت بالعمال لدرجة أن الشركة لم تجد رجالا يرفعون جثث الموتى الذين كان يتم دفنهم فى الصحراء! اما اكبر مأساة تعرض لها العمال خلال عمليات الحفر ظهور مادة طينية سائلة كانت تحتوى على فوسفور حارق مما ادى الى اصابة الآلاف بالأمراض الغامضة والتى ادت الى وفاتهم على الفور، والغريب أن الحكومة الفرنسية منحت وسام الشرف من طبقة فارس للدكتور أوبير روش كبير أطباء الشركة الفرنسية تقديرا لجهوده التى قيل إنه بذلها فى حماية العمال المصريين من الموت بالأوبئة وصدر الأمر الإمبراطورى بهذا الانعام فى 19 يناير 1867، ورغم آلاف الجنائز الرمزية والنعوش التى خرجت فارغة من ضحايا الحفر. كانت الاحتفالات صاخبة بافتتاح القناة، ودعا الخديو إسماعيل ملوك العالم وقريناتهم لحضور الحفل الذى جرى فى 16 نوفمبر 1869 وتكلف نحو 4 ملايين جنيه ذهب!

هنا كانت البداية!

محاولة استعادة التاريخ ليست بالأمر اليسير، وكان السؤال المحدد الذى لم تجب عنه المراجع التاريخية هو: أين دفن عشرات الآلاف من العمال الذين حفروا القناة؟ ولهذا حاولنا أن نجد طرفا للخيط، وكانت المفاجأة أن رمال القناة كانت مقابر جماعية للعمال، وكان العامل الذى يموت يقوم أصدقاؤه بشق حفرة على مقربة من ضفاف القناة ويتم دفنه. وكانت أطراف بورسعيد تضم اكبر مقبرة لعمال السخرة فى التاريخ.

وتشير المراجع التاريخية إلى بعض المناطق التى شهدت تعذيبا للعمال وضربهم ودفنهم أيضا. وكانت منطقة "عتبة الجسر" واحدة من هذه المناطق بالمدينة الباسلة. وهى بالمناسبة كانت أكبر عقبة تواجه أعمال الحفر قبل 150 عاماً حينما كانت هضبة ترتفع لنحو 19 متراً فوق سطح البحر وتمتد 14 كيلو متراً، وقام وقتها بإزالة 10 ملايين متر مكعب من الأنقاض نحو 40 ألف رجل مات نصفهم.

وقد ذهبنا إلى بورسعيد، وقصدنا المكان الذى انطلقت منه عمليات حفر قناة السويس، من أجل التفتيش فى دهاليز الحكايات القديمة، التى يتناقلها الأبناء عن الآباء والأجداد، كان من الصعب أن نجد حكاية كاملة أو شهادة مؤكدة، كما كان من الصعب أيضا أن نجد أثرا أو مقبرة لشهداء القناة، لكننا حاولنا. وكانت البداية من ترسانة لصناعة السفن على إحدى التفريعات شرق قناة السويس وهى المنطقة التى دب فيها العامل المصرى بفأسه لأول مرة فى التاريخ لشق القناة. التاريخ لم ينته بعد وآثار الشركة الفرنسية لا تزال باقية هنا فى بورفؤاد. حيث يقول الحاج محمود الكودى، صاحب الترسانة: أنتمى لعائلة من أوائل العائلات التى استوطنت مدينة بورسعيد، ولم أسمع من قبل عن مقبرة أو شاهد قبر أو أثر لشهداء حفر القناة، لكننا سمعنا من آبائنا وأجدادنا أن العدد الأكبر ممن استشهدوا فى عمليات الحفر أخذتهم المياه وتمت التضحية بهم لأنهم كانوا يعملون فى بطن القناة فى نفس التوقيت الذى تم فيه فتح المياه من ناحية البحر فغمرتهم مياه البحر وغرقوا جميعا، كما أنهم ماتوا نتيجة أوبئة. وكان من المستحيل تحمل مشاق عودتهم لأسرهم فى الصعيد أو الوجه البحرى لكى لا يتفشى المرض، والعامل المصرى الذى تم جلبه بالسخرة من القرى الفقيرة لم يكن له ثمن فى حياته خلال هذه الفترة. فكيف يكون له ثمن بعد وفاته؟! لهذا لم تسع الشركة الفرنسية التى حفرت القناة لتخليد ذكراهم بإقامة نصب تذكارى مثل المسيو ديليسبس، ولم يكن العمال يحملون أى بطاقات هوية حتى يتم تحديد شخصيتهم. ولهذا توفى الآلاف غرقا بدون أن يعرف أهلهم عنهم شيئا.

وفى مدينة بورفؤاد العتيقة لا تزال منازل خبراء ومرشدى القناة كما تركتها الشركة الفرنسية بعد قرار التأميم، وهو مشهد يتكرر فى الاسماعيلية والسويس، ورغم أن أغلب البيوت مهجورة إلا أنها تقف شاهدة على أكبر مأساة إنسانية فى التاريخ. أسفل إحدى البنايات القديمة التقينا حسين عبداللطيف، موظف بالمعاش وأحد المهتمين بتاريخ بورسعيد، حيث أكد لنا أن جميع معالم بورسعيد القديمة تغيرت أسماؤها فكانت هناك منطقة تسمى "عتبة الجسر" تقع على بعد عدة كيلو مترات قليلة من ضفاف القناة، وكانت هذه المنطقة شاهدة على تعذيب عمال حفر قناة السويس، وكان بها سجن يتم فيه توثيق العمال وتعذيبهم وضربهم بالكرابيج كوسيلة للعقاب إذا حاولوا الهرب أو الامتناع عن العمل فى عمليات الحفر، والغريب أن هذه المنطقة أقيم على أنقاضها سجن بورسعيد العمومى فى وسط المدينة!

وفى رحلة البحث عن أثر لشهداء حفر القناة حاولنا أن نعرف مكان أقدم مقبرة فى بورسعيد لعلها تكون مؤشرا أو ربما تكون جثث شهداء حفر القناة قد وريت ثراها، حيث يروى مواطن آخر من بورسعيد هو الحاج سعيد الزيني (77 سنة) أنه لا توجد جبانات قديمة فى بورسعيد، لكن الحقيقة شبه المؤكدة أنه لا توجد مقابر جماعية وإن وجدت فقد تلاشى أثرها، أيضا كل ما نعرفه من الحكايات والروايات أن من كان يموت كان يدفنه أصدقاؤه أو معارفه فى أماكن على مقربة من مجرى القناة وخلف التلال، وكانت بعض الجثث يتم دفهنا دون تغسيلها وبملابس الحفر.

وجدير بالذكر أن رئيس هيئة قناة السويس الفريق مهاب مميش وضع حجر الأساس لإقامة وافتتاح المتحف العلمى الأثرى العالمى مكان استراحة ديليسبس فى مدينة الإسماعيلية والتى كانت المقر القديم للشركة العالمية لقناة السويس البحرية، وسيحوى كل متعلقات ومراحل حفر القناة ومقتنيات ديليسبس صاحب امتياز الحفر، وحسبما قيل فإن الهدف الأسمى من استرداد مقر الهيئة القديم وتحويله إلى متحف أثرى عالمى هو تكريم وتأريخ لمن قاموا بأعمال الحفر من خلال متحف تاريخى إهداءً لأرواحهم وتعبيرا عن العرفان بقيمة العمل الذى أنتجوه.

الهامش