سورة الصف

سورة 61
الصف
Aṣ-Ṣaff
The Ranks
التنزيلمدنية
أسماء أخرىThe Column, The Ranks, Battle Array
الجزءجزء 28
عدد السجدات2
عدد الآيات14


سورة الصف هي سورة مدنية، من المفصل، آياتها 14، وترتيبها في المصحف 61، في الجزء الثامن والعشرين، وهي ثالث السور «المُسبِّحات» التي تبدأ بتسبيح الله،[1] نزلت بعد سورة التغابن.[2]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نص السورة

بسم الله الرحمن الرحيم Ra bracket.png سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ Aya-1.png يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ Aya-2.png كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ Aya-3.png إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ Aya-4.png وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ Aya-5.png وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِ Aya-6.png وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ Aya-7.png يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ Aya-8.png هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ Aya-9.png يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ Aya-10.png La bracket.pngRa bracket.png تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ Aya-11.png يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ Aya-12.png وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ Aya-13.png يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ Aya-14.png La bracket.png.[3]


أسباب النزول

1) عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفر من أصحاب النبي وقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تبارك وتعالى عملناه، فأنزل الله تعالى ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۝١ [الصف:1] … إلى قوله ﴿إنّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا [الصف:4] … إلى آخر السورة.. فقرأها علينا رسول الله.

2) قال المفسرون: كان المسلمون يقولون: «لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا» فدلهم الله على أحب الأعمال إليه، فقال: ﴿إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا [الصف:4] … الآية، فابتلوا يوما بذلك فولوا مدبرين، فأنزل الله تعالى ﴿لمَ تقولون ما لا تفعلون [الصف:2].[4]

اسمها

سُميت سورة الصف، لأن كلمة الصف ذُكرت في آياتها الرابعة، ولها اسم آخر أقلّ شيوعاً هو «سورة الحواريين»، والحواريون هم أصحاب عيسى المقرَّبون وقد ذُكروا في الآية 14.[1][5]

التفسير الميسر

هذه السورة تستهدف أمرين أساسين واضحين في سياقها كل الوضوح، إلى جانب الإشارات والتلميحات الفرعية التي يمكن إرجاعها إلى ذينك الفرعين الأساسين.

تستهدف أولاً أن تقرر في ضمير المسلم أن دينه (هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة)، سبقته صور منه تناسب أطوار معينة في تاريخ البشرية، وسبقته تجارب في حياة الرسل وحياة الجماعات، تمهد كلها لهذه الصورة الأخيرة من الدين الواحد، الذي أراد الله أن يكون خاتم الرسالات. وأن يظهره على الدين كله في الأرض.

ومن ثم يذكر رسالة (موسى) ليقرر أن قومه الذين أرسل إليهم آذوه وانحرفوا عن رسالته (فضلوا) ولم يعودوا (أمناء) على دين الله في الأرض: ﴿يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم. فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم الفاسقين [الصف:5]، وإذن فقد انتهت قوامة قوم موسي على دين الله، فلم يعودوا أمناء عليه، مذ زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، ومذ ضلوا فأضلهم الله والله لا يهدي القوم الفاسقين.

ويذكر رسالة (عيسى) ليقرر أنه جاء ( امتداداً ) لرسالة موسى، ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وممهداً للرسالة الأخيرة ومبشراً برسولها، ووصلة بين الدين الكتابي الأول والدين الكتابي الأخير: ﴿وإذ قال عيسى بن مريم: يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم، مصدقاً لما بين يدي من التوراة، ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [الصف:6] وإذن فقد جاء ليسلم (أمانة) الدين الإلهي التي حملها بعد موسى إلى الرسول الذي يبشر به.

وكان مقرراً في علم الله وتقديره أن تنتهي هذه الخطوات إلى قرار ثابت دائم. وأن يستقر دين الله في الأرض في صورته الأخيرة على يدي رسوله الأخير: Ra bracket.png هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ Aya-9.png La bracket.png.

هذا الهدف الواضح في السورة يقوم عليه الهدف الثاني. فإن شعور المسلم بهذه الحقيقة، وإدراكه لقصة العقيدة، ولنصيبه هو أمانتها في الأرض...يستتبع شعوره بتكاليف هذه الأمانة شعوراً يدفعه إلى صدق النية في الجهاد لإظهار دينه على الدين كله – كما أراد الله – وعدم التردد بين القول والفعل ثم يجيء في مطلع السورة بعد إعلان تسبيح الكون وما فيه لله Ra bracket.png يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ Aya-2.png كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ Aya-3.png إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ Aya-4.png La bracket.png.

ثم يدعوهم في وسط السورة إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة: Ra bracket.png يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ Aya-10.png تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ Aya-11.png يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ Aya-12.png وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ Aya-13.png La bracket.png.

ثم يختم السورة بنداء للذين آمنوا، ليكونوا أنصار الله كما كان الحواريون أصحاب عيسى أنصاره إلى الله على الرغم من تكذيب بني إسرائيل به وعدائهم لله: Ra bracket.png يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ Aya-14.png La bracket.png.

هذان الخطان واضحان في السورة كل الوضوح، يستغرقان كل نصوصها تقريباً. فلا يبقي إلا التنديد بالمكذبين بالرسالة الأخيرة، وهذا التنديد متصل دائماً بالخطين الأساسيين فيها وذلك قول الله، عن رسول الله Mohamed peace be upon him.svg بعد ذكر تبشير عيسى عليه السلام به: ﴿فلما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مبين [الصف:6] Ra bracket.png وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ Aya-7.png يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ Aya-8.png La bracket.png.

وهناك توجيه إلى خلق المسلم وطبيعة ضميره. وهو أن لا يقول ما يفعل، وألا يختلف له قول وفعل، ولا ظاهر وباطن، ولا سريرة ولا علانية. وأن يكون نفسه في كل حال. متجرداً لله. خالصاً لدعوته. صريحاً في قوله وفعله. ثابت الخطو في طريقه. متضامناً مع إخوانه. كالبنيان المرصوص.

بين يدي السورة

سورة الصف
سورة الصف

سورة مدنية ، شأنها شأن السور المدنية في الاهتمام بجانب التشريع والأحكام، وقد تحدثت هذه السورة الكريمة عن القتال في سبيل الله، وبينت أنه أحب الأعمال إلى الله، وأنكرت على الذين يقولون ما لا يفعلون، وذكرت موقف بني إسرائيل من أنبيائهم، وخصت بالذكرموسى و عيسى ابن مريم عليهم السلام، كما ضربت المثل لأعداء الله في محاولتهم القضاء على دين الله، بالذي يريد أن يطفئ نور الشمس بفيه، وما هو بمطفئه، وكذلك أعداء الله يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون، ثم أرشد الله سبحانه عباده المؤمنين إلى نوعٍ من التجارة خاصٍ، ربْحُهُ النجاة من النار، وبِضَاعَتُه تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم. وختمت السورة بأمر المؤمنين أن ي كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تفسير الآيات

قد سبق الكلام على تسبيح ما في السماوات والأرض بحمد الله، كما سبق بيان معنى كونه سبحانه العزيز الحكيم، أما قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (3) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص، فقد جاء في سبب نزولها عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفرٌ من أصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فتذاكرْنا فقلنا: لو نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله تعالى لعملناها، فأنزل الله تعالى: سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم حتى ختمها، فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها. {صحيح. رواه الترمذي (3363-85-5) }.

لقد كان المؤمنون في مكّة قلّةً مستضعفةً، وكان المشركون لا يألون جهدًا في إيذائهم، وكانت هذه القلة المستضعفةُ تريد القتال للدفاع عن نفسها، إلا أنه لم يُؤْذَنْ لها، لأنها ما زالت ضعيفةً غيرَ قادرةٍ على مواجهة العدوّ، وتحمّل أعباء القتال، وأُمرتْ هذه القلةُ بإعداد أنفسها الإعدادَ الإيمانيّ بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولكنها كَفّتْ عن القتال على مضض، وظلّت تتطلع إلى القتال، حتى بعد الهجرة سألوا: أيّ الأعمال أحبّ إلى الله، فأخبرهم الله أن القتال في سبيله أحبّ الأعمال إليه، ثم قال لهم بعد ذلك: كتب عليكم القتال وهو كره لكم، فثقل عليهم الأمر، ونكل عنه بعضهم، فعاتبهم الله تعالى في موضعين، هنا: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون (2) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، وفي سورة النساء قال تعالى: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا {النساء: 77}.

ولكن إذا كانت الآياتُ الأولى من السورة نزلت عتابًا للمؤمنين على قولهم ما لا يفعلون في أمرٍ ما، إلا أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي إذن عتابٌ ولومٌ لكلّ من خالف قولُه فِعْلَه، فالواجب على المؤمن أن يوافق ظاهرُه باطنَه، وسرُّه علانيته، وأن توافق أقوالُه أفعالَه، أما أن يقول ولا يفعل، فذلك أمر ممقوت كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، وقد أنكر الله على هؤلاء في موضعٍ آخر فقال: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون {البقرة: 44}، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يُؤْتَى بالرجل يومَ القيامة فيُلْقَى في النّار فتندلقُ أقتابُ بطنِه فيدورُ حولَها كما يدور الحمارُ في الرحى، فيأتيه الناسُ فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه". {متفق عليه}. ويدخل في هذا الوعيد الرجل الذي ينقض عهده، ولا يفي بوعده، قال صلى الله عليه وسلم : "أربعٌ من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةً منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". {متفق عليه}.

وعن عبد الله بن عامر قال: أتانا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا صبيّ، فذَهَبتُ لأخرجَ لأَلْعَبَ، فقالت أُمي: يا عبد الله تعالَ أُعْطِكَ، فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "وما أردتِ أن تعطيه؟" قالت: أردتُ أَنْ أُعطيَه تمرًا. فقال: "أما إنّك لو لم تفعلي كُتِبَتْ عليك كذبة". {حسن. رواه أبو داود (4970-335-13) }. وقوله تعالى: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص اختلف أهل التأويل في المراد من قوله تعالى: صفا كأنهم بنيان مرصوص هل المراد أن يقوم المقاتلون صفًا واحدًا متمكاسًا تماسك اللبنات في البنيان؟ أم ذلك كنايةٌ عن اجتماعهم وتآلفهم؟ فقالوا: إن صور القتال تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فإذا كان القيام صفًا واحدًا صالحًا للقتال فهو المطلوب، وهذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، صفّهم صفًا واحدًا، وسوّاهم كما كان يسوّيهم للصلاة، وأما إذا دعت طبيعةُ القتال إلى التفرق وانقسام المقاتلين إلى مجموعات فهذا أَوْلَى، ويكون المراد أنّهم في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كالبنيان المرصوص، وإن انقسموا مجموعات.

ثم ذكر الله تعالى موقف بني إسرائيل من أنبيائهم، فقال: وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم تقدير الكلام: واذكرْ يا نبينا إذ قال موسى لقومه، لتعلم أنه قد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله {الأنعام: 34}، فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم {الأحقاف: 35}، يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم، أئن ذكرتم {يس: 19}، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان {الرحمن: 6}، وهل هناك إحسانٌ بعد إحسان الله أفضلُ وأعظمُ من إحسان الأنبياء لأممهم؟ إنّ الأنبياءَ بهم أخرج اللهُ الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الغيّ إلى الرشاد، فالواجب ألا يكذبوا وألا يُؤْذَوا، بل يقابَلُوا بالتصديق والاتباع والإحسان والشكر والعرفان، ولكنّ بني إسرائيل لم يقدّروا أنبياءهم حق قدرهم، فكذبوا فريقًا، وفريقًا قتلوا. وممن كذّبوا وآذوا موسى عليه السلام، وإيذاءُ بني إسرائيل لموسى إيذاءٌ متطاول متعدّد الألوان، وقد ذكر القرآن الكريم في قصص بني إسرائيل صورًا شتى من ذلك الإيذاء، ومن ذلك الإيذاء ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنّ موسى كان رجلاً حييًا ستّيرًا، لا يُرى من جلده شيءُ استحياءً منه، فآذاه مَنْ آذاه مِن بني إسرائيل، فقالوا: ما يستترُ هذا التسترُّ إلا من عَيْب بجلده: إمّا برصٌ، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا، فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإنّ الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه عريانًا أحسن ما خَلَق اللهُ وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إنّ بالحجر لَنُدَبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا".

ولقد استفاد النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر الله له نبأ موسى وإيذاءَ بني إسرائيل، فكان صلى الله عليه وسلم إذا أوذي يقول: "يرحم الله موسى، قد أُوذي بأكثر من هذا فصبر". {متفق عليه}.

ولقد نهى الله تعالى المؤمنين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما آذت بنو إسرائيل موسى، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها {الأحزاب: 69}.

ولقد بذل موسى عليه السلام جهدًا كبيرًا في هداية بني إسرائيل وتقويم اعوجاجهم، وكانت النهاية أنهم زاغوا بعدما بُذلت لهم كلَّ أسباب الاستقامة، فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، جزاء وفاقا {النبأ: 26}، ولا يظلم ربك أحدا {الكهف: 49}، وإنما عاقبهم الله على زيغهم فأزاغ قلوبهم، كما قال تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون {الأنعام: 110}، وكما قال تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا {النساء: 115}، والآيات في هذا المعنى كثيرة، والمقصود أن الهداية أنواع، وأهمها هداية البيان والإرشاد، وهداية التوفيق، فأما الأولى فهى إلى الأنبياء وأتباعهم من المصلحين، وأما الثانية فهي إلى الله وحده، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم {الشورى: 52}، فهذه هداية البيان والإرشاد، وهي التي قال الله فيها: إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا {الإنسان: 3}، وقال: ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء {البقرة: 272}، وقال: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين {القصص: 56}، وهذه هداية التوفيق إلى صراط الله المستقيم، وهذه الهداية الثانية مترتبة على قبول الهداية الأولى، فمن أجاب المرسلين واتبع سبيلهم هداه الله إلى صراط مستقيم: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا، قال تعالى: وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون {فصلت: 17}، وقال تعالى عن قوم موسى: فلما زاغوا أي عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به أزاغ الله قلوبهم ثم قال تعالى: والله لا يهدي القوم الفاسقين.

وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم فصرح هنا أنه رسول الله، كما صرح عند ولادته أنه عبد الله، ولم يقل قط: إنه الله، ولا إنه ابن الله، ولا إنه أقنوم من أقانيم الله، وقوله: مصدقا لما بين يدي من التوراة التي جاء بها موسى، ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، وأحمد كمحمد من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ، قال صلى الله عليه وسلم : "إن لي خمسة أسماءً: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب". {متفق عليه}.

وليس عيسى وحده هو الذي بشّر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وإنما الأنبياء جميعًا قد بشّروا به صلى الله عليه وسلم ، وأخذ الله عليهم العهد إذا بُعث وهم أحياء أن يؤمنوا به ويتّبعوه، قال تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين {آل عمران: 81}، وقد أخبرنا الله سبحانه أن أهل الكتاب يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، وذلك من كثرة نعوته صلى الله عليه وسلم في الكتب التي بأيديهم، قال تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون (156) الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل {الأعراف: 156- 157}، بل إن أمة محمد معروفة أيضًا عند أهل الكتاب لما نعتها اللهُ به في التوراة والإنجيل، قال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما {الفتح: 29}.

ولهذا كله هاجر نفرٌ من علماء بني إسرائيل إلى يثرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، انتظارًا لبعثته، وكانوا إذا حدث بينهم وبين الأوس والخزرج شيءٌ يستفتحون عليهم برسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إنه سيُبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به {البقرة: 89} لأنهم كانوا يرجون أن يكون من بني إسرائيل، فلما كان من بني إسماعيل كفروا به حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق {البقرة: 90}، و بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده {البقرة: 90}، فلما جاءهم أي: أحمد المبشّر به بالبينات قالوا هذا سحر مبين، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا {الكهف: 7}، ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام أي: لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله، ويجعل له أندادًا وشركاء، وهو يُدْعى إلى التوحيد والإخلاص، ومثل هذا لا يهديه الله أبدًا؛ لأن الله لا يهدي القوم الظالمين.

مرئيات

سورة الصف بصوت حسن صالح.

المصادر

  1. ^ أ ب حسين نصر، قرآن الدراسة، ص1364.
  2. ^ المصحف الإلكتروني، سورة الصف، التعريف بالسورة Archived 2019-02-11 at the Wayback Machine.
  3. ^ القرآن الكريم - سورة الصف.
  4. ^ "الكتب - أسباب النزول - سورة الصف". Retrieved 2015-05-23. {{cite web}}: Cite has empty unknown parameter: |(empty string)= (help)
  5. ^ "الحواريون بيانهم وسبب تسميتهم - إسلام ويب - مركز الفتوى". Retrieved 2019-12-08. {{cite web}}: Cite has empty unknown parameter: |(empty string)= (help)