فيلق العمال المصري

(تم التحويل من Egyptian Labour Corps)
فرقة العمال المصرية
Egyptian Labour Corps
Egyptian Labour Corps landing stores near Gaza during World War I.jpg
إبرار القوات بالقرب من غزة.
نشطة1914–1919
البلدمصر
الولاءالحماية البريطانية
الفرعالجيش
النوعالعمل
الدورالدعم
الحجم55.000 عامل
الكنيةELC

فرقة العمال المصرية (تُعرف أيضاً باسم فرقة العمل المصرية أو أنفار السلطة)، هي مجموعة من العمال المصريين الذين كانوا يعملون لدى الجيش البريطاني في مصر أثناء حملة سيناء وفلسطين في الحرب العالمية الأولى.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التاريخ

عملت فرقة العمال المصرية في تمهيد الطرق، إنشاء السكك الحديدية، ومد أنابيب المياه في سبتمبر 1916.

رأت إنگلترة أن هناك أعمالاً غير قتالية ليس على الجندي التابع لإنگلترة القيام بها، فيكفيه جداً أن يحمل السلاح وان يحارب وان تقع الواجبات الغير قتالية على غير، وليس هناك أمهر من المصريين في عملهم، إذ أن هذه الأعمال تعتمد على العمل اليدوي والطاقة البدنية وتشمل تعبيد الطرق ومد السكك الحديدية وحفر الآبار والخنادق ومد أنابيب المياه، واقامة الاستحكامات ونقل معدات الهاتف والتلغراف والمهمات والذخائر والتموين. ولهذا بدا من الضروري جمع المصريين، على شكل صورة فيالق اضافية تكون تحت تصرف القيادة البريطانية تعمل لخدمة القوات المحاربة.

قررت إنگلترة أن تؤلف فيليقين هما فيلق العمال للقيام بالأعمال اليدوية وراء القوات الإنگليزية وفيلق الجمال لنقل المهمات وغيرها من نهاية السكك الحديدية إلى الخطوط الأمامية.

ولم يكد يمر آخر اغسطس حتى أمر الجمال المصريون بالذهاب إلى قناة السويس وبعدم مبارحتهم إياها. كذلك بدأ فيلق العمال عمله منذ أغسطس 1914 حيث اقام التحصينات بقرب الشطوط المهمة وحول ضفتي قناة السويس وقد اقاموها بهمة فائقة ونشاط كبير.

وساعدت الظروف على تكوين فيلق العمال إذ ساءت الحالة منذ بداية الحرب وعانى العمال المصريون والفلاحون الامرين من وقف النشاط الاقتصادي ومن تلك البطالة التي تفشت بين الطبقات العاملة واخيرا الارتفاع في تكاليف المعيشة. فساعد هذا في اول المر على الانخراط في هذا الفيلق والاقبال عليه وبلغ الامر الى انه تقدم الى قومندان البوليس المصري اهالي تطلب الانخراط في فرق العمال بالدردنيل، وذلك للتخلص من تلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية التي يحيوها.[1]

شرعت السلطة العسكرية في تنظيم وترتيب فرقة العمال المصريين في شهر يوليو 1915 وعهد في ذلك الى عشر ضباط فجمعوا حواي الف وخمسمائة عامل وكان النظام فيها في بادئ الامر بالتطوع وبذلك تمكن الانجليز من اخلاء سبيل عدد كبير جدا من جنودهم لارسالهم الى مواقع اخرى حربية، واعطى اجرة العامل فيها يوميا خمسة قروش هذا بالاضافة الى الجراية اليومية.

وخلال الاستعدادات لمعركة غاليبولي رات القيادة البريطانية ضرورة الاستعانة بالعمال المصريين ففي اغسطس 1915 طلبت قيادة الحملة البريطانية للبحر المتوسط نحو خمسمائة عامل مصري من ابناء الصعيد للعمل بجزيرة مودروس فوفقوا في عملهم واتقنوه بحيث ان القيادة طلبت المزيد منهم حتى بلغ عددهم ثلاثة الاف عامل عند جلاء القوات البريطانية عن غاليبولي. ويعلق إلجود على هؤلاء العمال فيقول: "ان الصعيد ينتج رجالا ذوي بناء جسماني رائع، لا يضارعهم انسان اخر في قدرتهم على الاحتمال، انهم يؤدون كافة الاعمال اليدوية في يسر وسهولة ولكنهم يبلغون حد الاعجاز في اعمال الحفر، وهي الاعمال التي كانت الحملة تتطلبها حين ذاك".

وازدادت الاهمية للعمال حيث انه في الفترة بين خريف 1915 وربيع 1916 حشد من فيلق العمل المصري 8.500 فرد للعمل في خدمة الحملة الهندية في العراق و15.000 عامل للعمل وراء خطوط القتال في الجبهة الغربية. كذل انه ما ان اطلع ولاة الامور العسكريين على الاعمال النافعة التي تقوم بها هذه الفرق من العمال حتى اشتد الطلب عليها من كل جبهة ولاسيما قسم التعيينات والطبجية والمهندسين فلبت طلبات هذه الاقسام وسواها. وكان استخدام العمال في اول الامر لقضاء الحاجة الحاضرة الماسة ثم تبين ان الضرورة تقضي بانشاء مصلحة دائمة وتعيين رؤساء لها وتاليف مكاتب دائمة للاستخدام، كذلك خرجت من فرقة العمال المصريين فرقة العمال المتعهدين وهو رجال يعملون في مقالع الحجارة ويشتغلون بانشاء الطرق بموجب عقود فردية.

لاجل هذا لم يتوان القائد العام للجيوش البريطانية عن الالحاح في اتخاذ الاجراءات الفعالة للحصول على العدد اللازم من العمال الذين اشتد الطلب عليهم. حتى لقد بلغ عددهم 1.200.000 مصري جندوا وليس صحيح ان عددهم كان بين 80 و90 الفا ، اذ يذكر هذا العدد البيان الصحفي لمستر لندس القائم باعمال السفارة البريطانية.

احتوت فرقة الجمالة على مائة الف رجل ذهب منهم ثلاثة وعشرون الفا استخدموا في فرنسا، وقدمت هذه الفرقة خدمات جليلة للحفاء، ويصف فرقة الجمالة هذه مراسل المانشستر جارديان الانجليزية فيقول: "لا يمكن لقنبلة او لرصاصة ان تحرك وتثير الحيوان الابله وقواد الابل وهم من الفلاحين الذي جمعوا وسجلوا في القرى المصرية وكلهم عزل من السلاح وغير مدربين على الحرب يمكنهم ان يجروا عند الاشارة للهجوم وان معظمهم الان في الحقيقة في التصاق تام بحيواناتهم وهم يسرعون في تلبية نداء ضباطهم البريطانيين والرصاص يدوي ويتساقط حولهم وهو اذا طلبوا بالخروج بابلهم لتكون في مامن من الاذى اخذوا معهم سترهم التي توزع عليهم خشية ان تسرق اثناء غيابهم. وبعضهم يسعى في الصعود الى التل تحت اطلاق النار لياتوا بنقودهم من خيامهم وكان قواد الابل انفسهم يعيرون الذين يلوذون بالفرار ويقولون عنهم (بنات) وانه لا يليق بهم ابدا ان يكونوا من الرجال. واصبحت اليوم بعض الفرق تقسم نفسها قسمين اولهما الثابتون في امكنتهم وثانيا الهاربون. وان الانتقال من قسم الى اخر اما جائزة واما عقاب".

ضحت مصر من اجل جمع هؤلاء العمال والفلاحين، فقد عرقل هذا اعمال الزراعة التي تتوقف عليها الحياة في مصر، وتعطلت مشروعات الري الجديدة وعندما برزت اهمية هؤلاء الرجال تحول التفكير من مجرد استخدام جماعة محدودة من العمال والفلاحين الى انشاء الفيالق الاضافية. ففي ديسمبر 1915 صدرت اوامر القيادة البريطانية لانشاء عشر مجموعات، كل مجموعة تحتوي على 2.020 جملا، 20 حصانا، 1.168 مصريا، 10 ضباط انجلي تحت رئاسة الكولونيل وايتينجرام، وفي سبتمبر 1916 وبعد موقعة رومانة واثناء التقدم عبر الصحراء كان هناك ثلاثة عشرة مجموعة في خدمة القوات المحاربة، وفي الستة شهور الاولى من عام 1915 استطاعت ان تجمع السلطة العسكرية بين الف والف وخمسمائة جمل وعدد يقرب من الف من الجمالة المصريين ولم يمض شهر ديسمبر 1915 – وبعد تكوين الحملة المصرية – حتى صدر امر من القيادة بضرورة تمهيد فيلقين الى خمسة مجموعات. واثناء الفترة من ديسمبر 1915 – تاريخ تكوين الجمالة – الى عام 1919 كان هناك 170.000 جمال، 72.500 جمل في خدمة الفيلق، واستدعى لهم ضباط من الجيش المصري لصعوبة التفاهم اللغوي معهم، ووضعت فيالق الجمالة هذه لمعاونة الحملة المصرية، تلك الحملة التي وقع عليها عبء القتال في سيناء وفلسطين.

ومصادر تلك الفترة تبين ان التعاقد على هذا العمل كان اختياريا وبناء على عقود تكتب بين الطرفين لمدة ستة اشهر . وكان هذا في بداية الامر، واخذت الصحف تنشر المزايا التي تعود على من ينضم الى هذه الفرق وما يوزع على الفرد يوميا من ماكل ومشرب وملبس ومسكن وذلك لضم اكبر عدد للفرقة فكانت تغريهم بان الجراية اليومية هي 32 اوقية خبز بلدي، 24 اوقية بقسماط، 3 اوقية لحمة، 4 اوقية عدس، 2 اوقية أرز، 4 اوقية بصل، ثلثين اوقية سمن، وثلثين اوقية ملح.

هذا في وقت اشتدت فيه الازمة وانعدمت الاقوات، كذلك رفعت اجرة العامل في فرقة العمال الى خمسة قروش يوميا والجمال الى ستة قروش، واعلن انه عند انتهاء مدتهم يعادون الى اوطانهم على مصاريف السلطة.

وعندما قررت القيادة البريطانية تتبع الاتراك في سيناء وفلسطين والخروج من قناة السويس رؤي انشاء خط للسكك الحديدية من قطية الى فلسطين وهنا الحت الحاجة الى تضاعف افراد فيلق العمال وفيلق الجمالة، ورات السلطة ان اسلوب التعاقد الانجليزي هذا لن ينفع امام ذلك العمل المتزايد، وفي نفس الوقت سرعان ما ظهرت صعوبة جمع المصريين للالتحاق بقسم العمل في الجيش الانجليزي بالرغم مما كان يدفع لهم من اجور، ولاسيما بعدما علم هؤلاء بالمخاطر الجسيمة التي اصابت العمال في شبه جزيرة سيناء نتيجة للغزو التركي حيث تعرضوا لضرب القنابل وراح ضحايا منهم، هذا بالاضافة الى ما شيع عن سوء المعاملة التي يلقاها المتطوعون المصريون لاجل ذلك تردد الفلاحون في اجابة الدعوة، بل انهم فضلوا الموت عن الخدمة في تلك الفيالق المساعدة، هذا في الوقت الذي كانوا يعتقدون ان النصر سيكون حليفا لالمانيا وتركيا.


التجنيد

مرفق طيه نسخ من خطاب أرسلته إلى W.O. [مكتب الحرب] ، والرد البرقي. يخضع الأفراد المصريون الأصليون المشار إليهم لقانون الجيش فقط. ولذلك فإن الجلد غير قانوني. كل من يعرف البلد [مصر] يعتبر سلطة الجلد ضرورية. - السلوك العام للعمال المصريين جيد جدا. لكن هناك بين الحين والآخر حالات للجلد. هل تعتقد أنه يمكن تقنينه بشكل خاص ...؟

رسالة الجنرال ألنبي إلى روبرتسون في 4 ديسمبر 1917[2]

قبر الجندي المصري ثابت هارون محمد، من فرقة العمال المصرية، في مقبرة أدينكرك العسكرية، بلجيكا.

نقلت العمليات الحربية الى فلسطين للقيام بهجوم قوي على الاتراك، وعين اللنبي قائدا للقوات البريطانية في مصر في عام 1917 وتزايدت مطالب الجيش وان كان اللنبي قد ابقى قسما من هذه القوات في مصر لمساعدة الحامية البريطانية للمحافظة على النظام وتوفير الامدادات اللازمة للقوات المحاربة والقسمي العمل والنقل. وحتى ذلك الوقت لم يحتج المصريون احتجاجا ظاهرا على ما كانت تطلبه السلطات العسكرية من العمال غير أنهم بمجرد انتقال الجيوش البريطانية إلى فلسطين، أصبح المصريون يحجمون عن تقديم مساعدتهم، إذ لم يروا أي فائدة من مواصلة الحملة في بلاد أخرى كفلسطين، غير أن السلطات الحربية أساءت تفسير روح القلق التي استولت على المصريين واتهمت هؤلاء بأنهم معادون لإنگلترة. ومن ثم أصبح الحكم العرفي أداة للقمع بصورة أحس بها جميع المصريين.

ويحلل ويفل الموقف "لقد ازدادت حاجات الجيش – كلما تقدمت حملاته – الى العمال والحيوانات والمواد الغذائية، ولم يعد التطوع وحده يكفي للوفاء بها، وبذلك لم يجد رجال الحرب وسيلة للحصول على حاجاتهم سوى الضغط على الحكومة المصرية، وادى هذا بدوره في النهاية الى اشنع صور الضغط في القرى، فراحوا يجندون الناس رغم ارادتهم في فرقة العمال... وكما يحدث دائما في مثل تلك الاضطهادات وقع العبء الاكبر على اشد الناس فقرا واقلهم نصيرا من غير ان يدرك الجيش والموظفون من الانجليز كل تلك المظالم التي ترتكب باسمهم، ولكنهم بالطبع – مذنبون – في نظر الفلاحين.. واصبح الانجليز هم الظالمون اذن فليسقط الاجانب الملاعين".

ولسوء حظ انجترا فان الفلاحين لم يكن لديهم اية رغبة في الانخراط في فرق العمل، فالفلاح المصري كان عزوفا عن ترك قريته، ومسقط رأسه فكيف يترك ارضه ليلقى حتفه في الحرب، كذلك فلم يجذبه للعمل في الجيش اي شعور وطني لانه كان يفهم ان الحرب الدائرة على حدود بلاده لا تخصه هو انما تخص إنگلترة وحدها، وعلى ذلك فعندما تقرر ان يتسع نطاق استخدام العمال المصريين، لم يكن مفرا امام السلطات العسكرية من اتخاذ اجراءات القسر للحصول عليهم.

رأت السلطة العسكرية للتغلب على هذه الصعوبات ان تحول عملية الاستخدام من اسلوب التعاقد الاختياري الى التجنيد الاجباري اذ اصبح لا مفر الا الالتجاء الى طريقة القوة اذ هي التي يحقق لها حشد الاعداد المطلوبة للفيالق الاضافية، وعندما اوعزت القيادة العامة – ارشيبا لدمري في 23 مايو 1917 – باتباع طريقة التجنيد بالاكراه عارضه ونجت على اعتبار ان ذلك يعد خرفا للتصريح الذي اصدره مكسويل يوم 7 نوفمبر 1914 واعلن فيه تكفل بلاده بكل اعباء الحرب دون ان تطلب من مصر اي مساعدة، كما انه يفقد المصريين الذين يعتبرهم الانجليز انهم يضمرون العداء لهم، فحيادهم وهدوءهم من الصواب، وان كان قد اشاد بايجاد اي وسيلة تضمن اشراك المصريين من تلقاء انفسهم في الحرب.

والفت لجنة في القاهرة للكشف عن كل الوسائل لزيادة العمال واشترك فيها السلطان حسين ووزراءه وعرض التشجيع في الصحف، غير انها لم تهتد الى حل، وعندئذ كتب ونجت يعلن موافقته على ما راته اللجنة من استحالة تنفيذ اقتراحات الحكومة الانجليزية وذهب ابعد من ذلك فقال: "اني لا استطيع ان اضمن ان عدد العمال المصريين الذين تستخدمهم الان حكومة جلالة الملك وهو مائة الف، يمكن المحافظة عليه في الظروف الحاضرة وان رشدي اكد لي انه سيبذل هو ووزارءه كل جهد لمساعدة السلطات التي تتولى التجنيد وتسهيل عملهم" ثم قال: "ان القسر يمكن اتباعه اذا ابطل التصريح – تصريح مكسويل – وسواء بطل على يدنا او على يد الوزراء من تلقاء انفسهم فانه سوف يكون من المستحيل ان نتجنب الكراهية الناجمة عن خيانة العهد، وهذه الكراهية سوف تعبر عن نفسها محليا في صورة اضطرابات داخلية وبعبارة اخرى ان القسر سوف يقتضي زيادة كبيرة في فرق الحامية الانجليزية في مصر، ولا يوجد ثم ريب من انه سوف يقلل المساعدة التي تعطيها مصر الان ان لم يوقعها تماما".

ويقول سعد زغلول في مذكراته: "تدور على السنة الناس اشاعة بان الانجليز يريدون ان يجمعوا جندا من مصر بطريق الجبر. ويعللون ذلك بانه اذا لم تشترك مصر في الحرب معهم فلا تتقاسم معهم شعور الفرح والخير وبما انها تتنعم بحسن ادارتهم يلزمها ان تشاطرهم المتاعب التي يتحملونها في سبيل الحرب، ويرد قوله هذه الاشاعة بان رشدي والسلطان غير مبالين لهذا المشروع ومعارضون فيه حتى ذهب بعضهم الى انه ربما ادى هذا الخلاف الى سقوط الوزارة".

واستعملت السلطة الضغط على الحكومة، غير ان هذه رفضت ما يوعز من استعمال القسر وان كانت قد بدات بعرض وسائل الاغراء على التطوع للعمل ففي 20 اكتوبر 1917 اعلنت الحكومة قرارها: "بما ان السلطة العسكرية البرطيانية ابلغت الحكومة المصرية بانها تلاقي صعوبات في ايجاد الرجال اللازمين لفرقة العمال بطريق التطوع الاختياري، وبما انه ولو ان الحكومة البريطانية قد اخذت على عاتقها الدفاع عن مصر الا ان البلاد لا تستطيع ان تقف وقفة المتفرج ازاء هذا الدفاع بل ان من واجبها الادبي ان تعاون السلطات العسكرية المشار اليها جهد الاستطاعة وبما انه يتعين في هذه الحالة العمل على ايجاد وسيلة للتشجيع على التطوع الاختياري فقد قرر المجلس ان يقترح على السلطة العسكرية زيادة الاجر اليومي وان تتحمل هذه الزيادة الحكومة المصرية وان يعفى كل رجل يتطوع في هذه الفرقة لمدة سنة على الاقل، من الحدمة العسكرةي. وكذلك اعفاء كل رجل يتطوع في هذه الفرقة من اجور الخفر طول مدة تطوعه". الا ان ذلك كان دون جدوى ومن هناك اصبح التجنيد الاجباري الوسيلة الوحيدة التي لابد من اتخاذها للحصول على العدد اللازم من العمال واقترح الانجليز استخدام جميع المقترعين للتجنيد ممن تثبت لياقتهم ولم يصبهم الدور، ولكن الحكومة المصرية رفضت قبول ذلك حتى لا تتهم بانها اشركت البلاد في جهود الحرب. كما رفضت رفضا قاطعا حل هذه المشكلة بالاجبار. ولم تكن على استعداد لان تتحمل مسئولية التجنيد الاجباري، وكانت واثقة من ان موظفي الادارة في الاقاليم وخاصة العمد يمكنهم بوسائل الضغط الحصول على ما يلزم من الرجال وبذلك ابدت استعدادها لتوفير العدد بتلك الوسائل الادارية سواء قبل المواطنون او لم يقبلوا.

وهكذا اتفقت كلمة السلطة وكلمة الحكومة على جمع الرجال، وظل التجنيد اختياريا في الظاهر وفي الحقيقة لم يكن بهذه الصورة اذ فرضت السخرة دون ان ينص عليها القانون، وعلى الفور طلبت الحكومة من المديرين في منشورات دورية ان يضاعفوا جهودهم لتشجيع التجنيد، وابلغ المديرون مأموري المراكز هذه الاوامر وابلغها هؤلاء بدورهم للعمد، وانذر الاخيرون باشد العقوبات اذا قصروا في العمل، وانه اذا لم يتطوع للجيش البريطاني عدد كاف من القرية او الناحية فان اللائمة تقع على المسئولين انفسهم لذا اتخذ المديرون والعمد التدابير التي اعتقدا انها ستحميهم من المصير الذي يهددهم اذا فشلوا في مهمتهم وبهذه الطريقة اصبح من اللازم على كل مدير ان يقدم شهريا من مديريته عددا معينا من الرجال لسد طلبات السطلة.

وقاسى المصريون سواء عن طريق جمعهم او من السخرة التي فرضت عليهم والتي ارجعتهم الى عهد اسماعيل، ولاهمية هذه المرحلة في حياة شعب مصر ستعرضها من خلال شهود العيان.

بدأ تنفيذ السياسة التعسفية الجديدة لحشد العمال والفلاحين قسرا للعمل في السلطة فعين ستة وعشرون ضابطا بريطانيا بين الاسكندرية واسوان لاجل هذه العملية. وكل ضابط يعاون مامور المركز في جمع الانفار وتبدا العملية باستعداء عمدة القرية وابلاغه بالعدد المطلوب من قريته وعندما يأوى الفلاحون الى دورهم يبدأ الخفراء ورجال البوليس بالهجوم عليهم لجمع العدد المفروض على القرية ان تجمعه، وبين صراخ الاطفال وولولة النساء يحشد الرجال الذين وقع عليهم الاختيار في مضيفة العمدة تحت حراسة قوة من بوليس المركز. وفي الصباح يساق الجمع – وهم موثقون بالحبال – الى المركز حيث يتسلمهم الضابط البريطاني ليشحنهم بالسكة الحديد الى كمب التوزيع بالاسماعيلية ولا يجرى – خلال هذه العملية – اي قدر من التسجيل الدقيق. وانما يكتفي الضابط البريطاني باعداد قائمة باسماء الرجال واحيانا يقسمهم الى مجموعات (50 رجلا) يختار لكل مجموعة رئيسا من بينهم يتولى تنفيذ ما يصدر اليه من اواخر خلال الرحلة الحزينة الى الحرب.

وتناول سلامة موسى هذا الامر بقوله: "رحلت الى الريف – قرية بالقرب من الزقازيق – ورايت كيف كان يسلط الانجليز علينا الموظفين المصريين من مامورين ومديرين وحكمدارين وشرطة لخطف محصولاتنا، وكانت الجمال والحمير بل الرجال يخطفون ايضا كما لو كانوا في قرية زنجية على خط الاستواء قد كبسها النخاسون لخطف سكانها وبيعهم في سوق الرقيق. وكان المنظر تئن منه النفس كما يفتت القلب فكان الرجل يربط بالحبل الغليظ من وسطه وخلفه امثاله، ويسيرون على هذه الحال صفا الى ان يبلغوا المركز فيحبسون في غرفة المتهمين ثم يرحلون الى فلسطين وكنت انجح احيانا بالرشوة في استخلاص بعض هؤلاء المساكين. وذات مرة وانا بالمنزل سمعت صراخا ودخلت على نسوة في فزع ونحيب، وعرفت ان ثلاثة ممن يزرعون ارضنا القي القبض عليهم وهم يحرثون في الحقل فخرجت ووجدتهم مربوطين بالحبال الغليظة بحراسة احد الشرطة، اما سائر الشرطة فقد تركوهم كي يغزوا قرية اخرى، واستطعت بمساومات مع الشرطة ان احصل على الافراج عنهم ولكني لم انجح في كل مرة، ففي ذات يوم قصدت الى مامور الزقازيق اطلب منه اطلاق اثنين من الفلاحين فتأملني ثم قال: انا عايز ارحلك انت لفلسطين فتركته اذا لم تكن الظروف وقتئذ تأذن بالتحدي وفي تلك السنوات السود اثري كثير من العمد ثراء فاحش فقد فرضوا ضرائب على جميع الشباب من سن العشرين الى الخمسين على مقدار ما يملك، فهذا يؤدي خمسة جنيهات وذك عشرة جنيهات حتى يعفيهم من الاعتقال وبعثهم الى فلسطين، وعرفت عمدة كان يملك ستة افدنة فقط جمع نحو خمسة الاف جنيه بهذه الطرق، وكان الفلاحون يجوعون كي يجمعوا هذه الغرامات ويؤدوها".

ولم يكن ذلك رأي شهود العيان من المصريين فقط بل أيضاً أيده الإنجليز أنفسهم فيذكر الجود وكان اميرالايا في الجيش الانجليزي "ان كل مدير مديرية كان مطالبا بان يقدم من مديريته عددا معينا من الانفار. وفشله في ذلك كان يجر عليه لوما قاسيا من رؤساءه. اما كيف كان المديرون يحضرون الانفار، فقد كان ذلك متروكا لتصرفات الموظفين في كل مديرية وهؤلاء كانوا يفهمون بالاشارة. فشيوخ القرى اختاروا الضحايا الذين كانوا يرونهم مناسبين دون تدخل من احد، لقد حانت لهم الفرصة لتصفية ثارهم المبيت ضد اعدائهم. واصبحت مصر الزراعية تمزقها الحزازات فوشت العائلات ببعضها البعض الاخر وتسمم الجو بالفساد، وكان الفلاحون الذين لا يستطيعون دفع المال من اجل اعفائهم اول من كانوا يؤخذون غالبا ثم يعقبهم الاعداء الشخصيون لحكام القرية، وكان اهل الريف الذين يرتادون الاسواق يخطفون عنوة ثم يرحلون الى اقرب معسكر عمل، واذا كان اغلبهم يستسلمون للمصير فان البعض منهم كان يقاتل من اجل حريته ويولي الادبار".

وسجلت مجلة نيشن هذه الحقيقة: "ان تجنيد فرق العمال فكك عرى الاسرة بغياب عائلها ورجالها مما ادى الى زيادة الفقر وانحلال الاخلاق كما ادى سوء معاملة هؤلاء العمال الى تعرضهم للامراض وموتهم حتى اننا قد صنعنا ما عم من سخط عليها بين طبقات الفلاحين، فقد وعدنا مراعاة لشعور المسلمين الا نزج مصر في الحرب ولكننا نقضنا هذا الوعد بتجنيد فرق العمال وما كان تجنيدنا ايها على طريقة التجنيد الاجباري المنظم بل كان يجري على ايدي اعوان يتفرقون في القرى ويتصيدون العمال من هنا وهناك، وقد عاج الكرباج الذي طالما افتخر اللورد كرومر بالغائه".

ويصف الدكتور جست في 28 مارس 1919 ما رآه "وضع نظام للتطوع ظهر عدم كفايته وصدرت الاوامر باخذ العمال من الحقول بالاكراه، والطريقة هي ان يدخل رجال الحكومة القرية وينتظرون رجوع الفلاحين الى منازلهم في الغروب فيحيطون بهم وينتقون خيرهم للخدمة. فاذا رفض احدهم هذا التطوع الاجباري جلد حتى الاقرار بالقبول وعلى هذا النحو ساقوا صبيانا من سن اربعة عشر عاما وشيوخا في السبعين، وكانت الجموع المريضة المنهكة تساق لتادية الاعمال الحربية والكرباج كفيل بتسخيرهم من غير حساب، اصبح الجلد من الاعمال اليومية، وكان المكلفون بالجلد هم اطباء انفسهم حتى ان المرضى كانوا يخافون ان يختلط الامر فينتقلون خطا من طابور المحتاجين للعلاج الى طابور المحكومة عليهم بالجلد".

ويقول سعد زغلول في مذكراته معلقا على ذلك الموقف: "افتخر رجال الحكومة بانهم عارضوا في التجنيد الاجباري حتى منعوه، ولكن الحكام في سائر انحاء القطر اخذوا من بضعة ايام يتخطفون الناس من الاسواق ومن الطرقات ومن المساكن في القرى ويحملونهم على ان يكتبوا طلبا بالتطوع في الحملة، ومن يأبى من المخطوفين ان يختم ضرب حتى يختم، وفي بعض المراكز اقيم صانع اختام على باب المركز ليصنع ختما لكل من ليس له ختم وقد ابى الرجال في اطسا – بمديرية المنيا – فجاءتهم قوة من العساكر والخفر وساقتهم الى المركز مكبلين بالحديد، وهنا ضربوا حتى ختموا، وحدث ان بعض الاهالي في جهة فارسكور رفضوا السير مع العساكر، وحدثت مشاجرة ادت الى اطلاق النيران عليهم فقتل ثلاثة ، والسلطة تستعين في جمع الناس بكل طريقة من طرق الجبر بالاكراه، وهذا فضلا عن كونه اشد انواع مصادرة الامة في حريتها، فانه احتقار لها بانزالها منزلة الانعام السائرة".

هكذا كان الناس يساقون مكرهين الى ميادين الحروب ولنآت الآن على فكاهة ذكرها سعد في احدى خطبه فقد قال انه رأى جنديا يسوق مصريا مكبلا في الحديد فلما مثل اما رئيسه قال له من هذا؟ فرد عليه الجندي قائلا: هذا متطوع يا سيدي.

ويذكر احمد شفيق في حولياته حادثة ان دلت على شئ فانما تدل على الضيق الذي حصل بالمصريين من جراء هذا السخرة يقول: "ان قطارا كان يقل جماعة من المتطوعين المحروسين بالجند شاهري اسلحتهم قاصدا القنطرة، فما ان ابتعد عن مدينة الزقازيق بضعة كيلو مترات حتى القى واحد منه بنفسه من القطار اثناء السير تخلصا من التطوع الذي لم يكن بالطبع بناء على رغبته فمات في ساعته".

من هذا نرى ان تموين الجيش البريطاني اصبح ضريبة اجبارية تزداد باتساع العمليات الحربية، وسارت مواكب العبيد المقيدة بالحديد والاغلال لتحارب معركة الحرية كما كان يسميها الحلفاء.

وكم من المخازي والفساد واكب هذه العملية الحربية، فكثير من العمد انتهزوا هذه الفرصة ليوقعوا باعدائهم وابناء الاسر المناوئة لهم فيخصونهم بالاختيار للعمل في السلطة، بينما يتسترون على معارفهم ويعفونهم منها وسويت حسابات قديمة على اثرها تمزقت مصر من الاحقاد والثار واتهمت الاسر بعضها البعض وسمم الفساد جو البلاد. كما اتسعت الذمم بقبول الرشاوي وامتد خيطها من العمدة الى ماموري المراكز والضباط البريطانيين انفسهم. وبالرغم من صدور الاحكام التي تمنع قبول الهدايا الا ان الثراء انتاب الكثير من العمد بعد ان فرضوا الاتاوات ليعفوا من الذهاب الى الحرب، وساءت احوال الاسر ومضى النساء يبعن حليهن حتى يدفعن مقابل الافراج عن اولادهن وازواجهن من خدمة السلطة.

العمل الميداني

فريق إنشاء السكك الحديدية.

سيق المصريون الذين جمعتهم السلطة الى ميدان الحرب لا الى الميدان الشرقي فحسب بل الى الغربي ايضا، فأخذوا من الدار الى النار حرموا من وطنهم وآلهم، وذهبوا الى حيث يقومون بحفر الخنادق وتمهيد الطرق وانشاء السكك الحديدية ونقل الاغذية والذخائر وذلك لتقديمها للخط الامامي وتحت وابل قنابل الالمان وحلفائهم. وقد بلغ عددهم 100.002 عاملا حتى نوفمبر 1918.

منذ اواخر عام 1915 بدئ في استخدام العمال المصريين لمضاعفة الخط الحديدية المممتد من الزقازيق للاسماعيلية لتسهيل عملية نقل القوات والعتاد الحربي الى منطقة القناة، ثم ما لبث ان استخدم هؤلاء على نطاق واسع لبناء خطوط السكك الحديدية الخفيفة والطرق المرصوفة في الاراضي الصحراوية الممتدة على الجانب الشرقي من قناة السويس. وبذلك عبدوا الطرق ومدوا انابيب المياه وبنوا الخزانات والصهاريج واقاموا مخازن العتاد والتموين وخطوط البرق والتليفون وانشأوا التحصينات ومهدوا الاحجار والاشواك واعدوا المياه والادوات ومدوا الاسلاك فوق الرمال لتيسير قوات الامبراطورية.

فمن غير المصريين يقوم بهذا العمل؟ لقد فرض عليهم وما عليهم الا الطاعة، واصبحت القنطرة مركزا لتجمع عدد كبير من العمال، وبفضلهم غدت ملتقى هاما للخطوط الحديدية.

عقب تقهقر الاتراك عن القناة تتبع الانجليز خطواتهم في سيناء وكانت قاحلة لا ماء فيها ولا سبيل لسير الجيوش بمدافعها وعرباتها الضخمة. وهنا "ارسل الانجليز امامهم العمال المصريين والرديف المصري لتمهيد الطرق حتى اصبحت صالحة لسير السيارات ولجر المدافع الضخمة، ومدوا بجوارها الانابيب لنقل المياه الماخوذة من ترعة الاسماعيلية، وأنشأوا سككا حديدية لسير القطارات عليها، فاصبحت الصحراء هينة الاختراق بفضل العمال المصريين والرديف المصري، وصار زحف الجنود فيها مستطاعا بعد ان كان ضربا من المخاطرة". ويؤكد كيرسي انه "لعبور شبه جزيرة سيناء وحدها يلزم قطع مائة وعشرين ميلا على الاقل من القنطرة، وفي هذا السبيل كان من الضروري زيادة فرق العمال المصريين لانشاء الخطوط الحديدية كما كان من الضروري اعادة تنظيم حملة الخط الاول على استخدام الجمال والحمير لامكان تموين القوات في الصحراء من رأس السكة الحديدية، وهذه الاعمال كانت تتطلب وقتا لاتمامها، كما وان التقدم سيكون حتما بطيئا اذ ان سرعته ستتوقف على سرعة انشاء السكك الحديدية التي قدرت سرعة انشائها بحوالي عشرون ميلا في الشهر".

وتصف صحيفة وادي النيل المجهود الحربي للعمال "من القنطرة شرقا تجد الاستحكامات المنصوبة، وهذا الطريق البري مرصوف بالاحجار الصغيرة بواسطة الوابورات ، وحفرت الابار على الجانب المقابل للقنال حتى تتمنكن العربات الرائحة الجاية مدة عظيمة من النهار من اطفاء جيشان الاتربة بالرش، هذا هو الحال الذي عليه الطريق من الاسماعيلية الى القنطرة وللمصريين يد في تسوية الطرق واقامة الاستحكامات وهم الذين يشتغلون بالحفر لتسيير هذه الانابيب فيها".

فرقة العمال المصرية تتحرك على طريق من الأسلاك المتشابكة.

وقد أرجع الكثير من مسجلي الحوادث الحربية أن السبب في نصر القائد "مري" في معاركه إنما هو راجع إلى المصريين "والفضل كله اليوم في النصر يعود الى فرقة المصريين الذين مدوا السكك الحديدية مسافة مائة ميل في الصحراء القاحلة بل وتعدوا ذلك بأن نقلوا الأحمال الثقيلة والغذاء والثياب والذخيرة وتلك الالات التي تتدفق الى خطوط القتال. ويعود الفضل ايضا الى القوافل القائمة بها فرقة العمال المصريين".

لقد تقدم العمال المصريون بكل همة ونشاط غير مبالين بالاخطار ، فحدث على سبيل المثال اثناء عملهم بالعريش ان استطاعت قنبلة ان تقتل وتجرح تسعة وثلاثين منهم، ورغم ذلك فلم يتوان البقية عن العمل.

وتصف صحيفة المقطم نشاط العمال المتزايد فتقول: "استخدمت إنگلترة علاوة على العمال العاديين عددا كبيرا من الصناع البارعين من نجارين وحدادين وسمكرية وصناع خيام وعمال محاجر وبرادين وسائقي القطارات . وعمال هذه الفرقة يقولون ان اهم صناعة من صناعاتهم انشاء الاستحكامات. وقد أنشاوا برعاية الملاحظين البريطانيين حطا (للديكوفيل) على الشاطئ الغربي بمصر، وبنوا مخافر وعنابر، وشقوا الطرق، وانشاوا ارصفة الموانئ وبلغ من نشاطهم وهمتهم ان مائة وخمسين رجلا افرغوا تسعمائة طن من المهمات الحربية في احد الناقلات في يوم واحد وكوموها احسن تكويم. وفي شرقي القنال فان فرق العمال انشات جانبا كبيرا من الاستحكامات الدائمة وشبكة سكك الحديد، ومدوا انابيب المياه، ويظن المرء ان مد الانابيب من الاعمال الهينة ولكنها في الحقيقة مهمة شاقة تقتضي نق لونصب الوف الاطنان من الانابيب وتمهيد الطرق. وقامت فرق العمال باعمال كبيرة القيمة في شحن البواخر وتفريغها في الموانئ المصرية، وفي توزيع المهمات في مواضع شتى على شاطئ البحر في الشرق والغرب. ومع ان السواد الاعظم منهم لم يالف ركوب الزوارق والنقل بها ومع شدة المجاري البحرية في القسم الجنوبي الشرقي من البحر المتوسط، فقد تعلموا ان يعملوا في هذه الاحوال الشاقة ويذللوا المصاعب. وبعد ما استولى الجيش على العريش واحتلها انزل العمال المذكورين مقادير من المهمات لا تقع تحت حصر من البواخر الى البر في القسم الجنوبي من فلسطين". هذا وقد استخدم العمال المصريين في بناء المطارات أيضا.

وكان انتصار الانجليز على الاتراك في رومانه يعود الى تلك الاعمال الباهرة والخدمات الجليلة التي قامت بها فرقة العمال المصرية هذه. فقد مهدت الطرق لتقدم الجيوش البريطانية ومدت السكك الحديدية ودكت الحصو والاستحكامات ونظمت بمهارة انابيب المياه وطمرتها تحت الرمال واقامت لوازم التليفون والتلغراف ونصبتها في اماكن معينة، ونقلت ايضا المهمات والذخائر الى مساافت معينة شاسعة وفي ارض يصعب السير فيها وبالاختصار فان فرقة العمال قامت بجميع الاعمال الهندسية الثانية فاطلق يد الجنود للقيام بواجباتهم الحربية الخصوصية، والحق ان هذه الفرقة العظيمة القيمة يحق لمصر ان تفتخر بالاعمال الباهرة التي قد قام بها ابناؤها فباعمالهم التي يستحقون من اجلها كل مديح وثناء. ثم ان البوليس المصري التابع لهذه الفرقة يستحق هو وقومندانه المصري وضباطه كل مديح وثناء، فان المحافظة على النظام بين الالوف من الفلاحين غير المدربين ليس من الهينات".

ودرات مناقشات في مجلس العموم البريطاني حول هؤلاء العمال، فكان الجميع يعترف بتلك الاعمال الفنية التي افادت الجيش البريطاني اثناء الحرب. كذلك اشاد المهندسون الانجليز في بورسعيد بمهارة العمال فهناك خطابات منهم الى المسئولين في القاهرة. اذ كانوا ياوصلون عملهم ليل نهار، وذلك لعدم امكان تزويد المدينة بعمال اكثر. وبذلك اخل العقول التي حددت مدة العمل بثلاثة اشهر في بادئ الامر ثم بستة اشهر فاصبح العامل او الجمال يدخل تحت خدمة السلطة ولا يعرف متى ستنتهي هذه الخدمة.

ويبين اللنبي فضل المساعدات المصرية في حملته على فلسطين وسوريا اذ يسجل: "تبعت فرقة العمال المصرية منذ اليوم الاول من ايام القتال فكانت تسير وراءهم في زحفهم وتعمل بهمة ونشاط ونجاح في تحسين الطرق وقد كانت بعض فصائل هذه الفرقة تعمل في خطنا الاصلي وبهذا فان مصر مسئولة الى حد كبير عن نجاح الحلفاء في فلسطين".

واقر ملنر في تقريره بان الشعب المصري تحمل التكاليف والقيود التي اقتضتها تلك الحرب بالصبر والرضا والخدمة التي قام بها فيلق العمال المصري كانت خدمات لا تثمن ولا غنى عنها للحملة الفلسطينية".

هذا عدا البطولات التي قام بها العمال، فعلى سبيل المثال لا الحصر حدث انه في شهر مارس 1917 ان كان جندي انجليزي يسبح في مياه البحر قرب العريش فجذبه التيار وبعده عن البحر فاخذ يصيح طالبا العون. وفي الحال القى احد رجال الفرقة بنفسه واخذ معه خشبة تساعد الجندي على العوم ثم عاد الى الشاطئ وجاء بحبل طويل ثم سبح في البحر المتلاطم بالامواج حتى بلغ الجندي فاعطاه طرف الحبل وانتشله. وقد حدث ان طيارة من طيارات الالمان اغارت ليلا على احدى المستشفيات القائمة على خطوط المواصلات. وقذفت عليها القنابل، فخرجوا على الفور وساعدوا في نقل الجرحى من المستشفى الى مكان امين وعرضوا انفسهم للمخاطر.

ووصل مجهود مصر الحربي عبر البحر وليس على حدود مصر فقط. فخدم العمال المصريون في الميدان الغربي وبلغ عدد رجالهم 16.300 رجل في منتصف عام 1917.

ذلك انه لما طارت اخبار نجاح العمال المصريين الى فرنسا. خاطب العسكريون فيها ولاة الامور في مصر، ومن هنا تم الاتفاق على ارسال بعذ هذه الفرق الى فرنسا لتحل محل الجنود البريطانيين ليرسلوا الى خطوط النار.

وفي مارس 1917 ارسلت بعثات العمال المصريين من مديرية جرجا للخدمة في فرنسا "فبات اهلهم على احر من الجمر منتظرين ورود الاخبار عنهم وقد زار حضرة مدير جرجا المعسكر منذ يومين فقابله جناب القائد فرأى ساعدته فرقة من العمال مستعدين للسفر الى فرنسا فخطب فيهم باذلا لهم النصح ومبينا الفوائد التي تعود عليهم من هذا السفر ماديا وادبيا ولاسيما في هذا الحين الذي اشتد فيه الغلاء طالبا لهم السلامة".

هذا ومضت الصحافة تنشر شروط الاغراء للحث والتشجيع على السفر، فكل عامل يرغب في السفر الى فرنسا يعطى بذلة، بالطو، حذاء، 3 بطانيات، 2 قميص، 2 جوارب، لباس، قميص من الفانلات هذا عدا الطعام الذي يحتوي على لحم، خضر، شاي ، لبن، سجائر، واجرة اليوم 8 قروش.

وتقول الاهرام : "نزلت في فرنسا حديثا الفرقة الاولى من قسم الاشغال المصري القادمة اليها من مصر للاشتغال باعمال مختلفة فيها اجور طيبة. وقد وصفها كاتب ممن حضروا حفلة استقبالهم في فرنسا فقال: "جاءتنا فرقة من العمال المصريين للعمل معنا هنا في اعمال مختلفة مؤلفة من رجال ممتلئين صحة وقوة ونشاطا وقد قوبلت هيئتها بلباس الحاكي على انها فرقة جد وعمل ولاحظنا على وجوه رجالها السرور بالمناظر الجديدة التي وقعت عليها ابصارهم في البلاد".

وبرهن هؤلاء الرجال على كفاءتهم فقد عملوا في جو يختلف كل الاختلاف عن البيئة التي عاشوا فيها. حضروا من اقصى صعيد مصر ليتحملوا اعباء المعيشة في فرنسا ورغم ذلك فقد اثبتوا جدارة فائقة، فقد حدث مرة في احدى موانئ فرنسا انهم فرغوا من شحن باخرة تحمل 3.000 طن من البضائع والمهمات المختلفة في اقل من ثلاثة ايام، وفرغوا مرة اخرى من احدى البواخر ستة الاف طن من الشوفان في يومين وجاء التقرير الرسمي عنهم ما نصه "وكل ما شاهدناه من اعمال هذه الفرق يشهد بالفضل للضباط وصف الضباط والرجال فيها. فانهم يؤدون اعمالهم برغبة ونشاط يبعثان على اشد الارتياح".

ولم يقتصر ارسال العمال الى فرنسا فاوفدوا الى اليونان والعراق فادوا خدمات جليلة هناك وعملوا تحت نيران القنابل والمدافع والبندقيات.

هذا بالاضافة الى الخدمة في الدردنيل، ففي شهر مايو 1915 جمعت اورطة من الاشغال مؤلفة من ستة بلوكات للخدمة في الدردنيل، وقامت هذه الاورطة مدة الاربعة الأشهر التي خدمتها في شبه الجزيرة بخدمات فائقة تحت وابل مستمر من القنابل. وذهبت طوائف من العمال الى طنوس ومدروس للقيام باعداد الطرق وتمهيدها للقوات المتحاربة، وفي سلانيك ارسل عدد كبير من العمال المصريين قدر في عام 1916 بستمائة عامل ثم ما لبث ان وصل الى سبعة الاف عامل في عام 1918 وكان عملهم هناك القيام بانشاء السكك الحديدية.

كذلك استخدمت فرق كبيرة من هؤء العمال في ميدان العراق الجنوبي، فوصولها في عام 1916 حوالي 8.280 عاملا، فخلفوا فيها اثارا من اعمالهم وصنعهم في البصرة الى بغداد. وهذا بالاضافة الى ان الانجليز في العراق رأوا ان يستعينوا بجانب من العمال المصريين على حفظ النظام والامن العام في مدينة بغداد فالفوا قوة البوليس اختاروا رجالها من العمال المصريين فقامت هذه القوة بعملها حق القيام. وبلغ العمال الذين عملوا فيها وراء البحار نحو ثلاثة وعشرون الف عامل.

لعبت فرقة الجمالة دورا مهما – لا يقل اهمية عن دور العمال – في الحرب مع إنگلترة وحلفائها سواء على شرق مصر او غربها فانه حينما شرع الجيش البريطاني في تتبع الاتراك في سيناء كان الطعام والمياه والذخيرة تنقل في كل مكان على ظهور الجمال قبل ان تمد الطرق والسكك الحديدية. فان طبيعة الحرب تقضي على فصائل من الجنود ان يرابطوا في مواقع بعيدة عن الطرق المطروقة. اذن فلابد من استخدام العدد الكبير من الجمال لايصال المهمات والمؤونة والماء اليهم. ولا يخفى ان الجمال يستهدف في بعض الاحيان لشئ من الخطر، فالماء والذخيرة من اشد الضروريات في اثناء المعارك ويغلب ان تكون الجبال الوسيلة الوحيدة لنقلها الى المواضع التي تبدو فيها الحاجة اليها. وقامت هذه الفرقة بنصيبها في كل معركة دارت في الميدان شرقي قناة السويس. وفي كل قتال حربي مع السنوسيين، ولعبت فرقة الجمالة دورا مهما في معاونة لورانس ضد الاتراك. وفي مساعدة اللنبي في الاستلاء على العقبة، فحملوا المؤن والامدادات من العقبة للقوات العربية التي كانت تحت قيادة الامير فيصل في معان.

كذلك ادى الجمالة خدمات جليلة في نقل الجرحى البريطانيين، فكانوا ينقلونهم باسرع ما يمكن وبدون خوف من القنابل والنيران التي كانت تحيط بهم.

وقد اطلع مندوب المقطم على بعض السجلات من اعمال البسالة والاقدام التي قام بها بعض الجمالة، فمن ذلك ان الامر صدر في بئر دويدار الى جانب منهم بان يصعدوا الجبال بالجمال الى تل طلبا وكان ذهابهم الى ذلك التلا ثلاث مرات من الاعمال المقرونة بالخطر، وكتب القائد يقول في ذلك ان الباش ريس عبد الله خيري سلك سلوك باهرا النهار بطوله، وقاد رجاله صاعدا الى التل في المرات الثلاث باتم نظام وذكر القائد اسماء آخرين امتازوا في تلك المعركة التي دارت في يوم 23 ابريل 1916 – معركة رومانه – وبعد هذه المعركة وجه القوات الانظار الى ثبات الجمالة تحت قنابل المدافع وقالوا: "انهم لم يفارقوا جمالهم بل سلكوا مسلكا عظيما" وحدث مثل ذلك في رفح وبقية المدن، على ان افعال الفرقة ظهرت على اتمها في المعركتين اللتين دارتا في فلسطين حيث اثبت رجالها انهم اهل للاسم الحسن الذي احرزوه، فقد وجه قواد الفرق نظر القائد العام الى خدمات الفرقة الجليلة وشده لزومها. وسالوا الجمالى اي مكافاة وعرض على قائد احدى الفرق اسماء سبعة وعشرين رجلا من الجمالة، وقال عنهم الضابط الذي عرض اسماءهم ان الوصف المعتاد لا يفيهم حقهم من اثناء على حسن منالهم، فقد فعلوا في كل مرة فوق الواجب المفروض عليهم، وفي مقدمة الممتازين الباش ريس عمر محمد عمر، ولكن الجمال حامد عبد الله معوض لا يقل عنه فقد ظل ستة عشرة ساعة متوالية واحدى يديه مجروحة جرحا بالغا بعد ما عضه احد الجمال.

وهناك شواهد اخرى من هذا القبيل وهي مقتبسة من تقارير القواد والضباط فقد خدم الباش ريس نور الدين سعيد خدمة عظيمة فانه رد الطمأنيننة الى نفوس الجمال وجعلهم ينطرحون على الارض بقرب جمالهم وساعد الجنود في نقل الذهيرة في الخنادق تحت نيران المدافع السريعة والبنادق والقنابل. كما عهد الى الباش ريسي عباس سعيد محمود والريس محمد عثمان في نقل جماعة من الجرحى فجاء بهم الى مكان آمن تحت نار القنابل وهما رابطا الجاش، وقد صوب الاتراك عددا كبيرا من القنابل اثناء معركة رومانه تلى نقالات الجرحى في الميدان. فاستقر الراي على نقل كل شيء الى موضع امن ودعى الجمالة الى المساعدة وبينما هم ذاهبون بالجرحى سقطت بجانبهم تسع عشرة قنبلة وهم سائرون فلم يفر واحد منهم بل ظلوا يقودون جمالهم كانه لم يحدث حادث ما، وقد احتفل في 27 مايو 1916 بعرض بعض بلوكات الجمالة في فلسطين فوزعت عليهم المكافات والجوائز اعترافا ببسالتهم، وكان الجمالة لابسين الجلاليب الزرقاء وعلى رؤوسهم الطاقيات، وقد اجمع الذين عرفوا هؤلاء الجمالة على انهم استحقوا هذا التكريم اعظم استحقاق.

وتشجيعا للمزيد من التضحية والتفاني انعم السلطان بنوط الجدارة من الفضة والبرونز عليهم وخاصة الجرحى والذين استمروا في ممارسة عملهم تحت النيران. وهذا وقد اقر اللنبي بخدمات هذا الفيلق في برقية له لوزارة الخارجية البريطانية في 31 اكتوبر 1918 فقال: "ان فيلق الجمالة قدم خدمات قيمة ساعدت كثيرا في النصر للحملة".

وهكذا قدمت مصر اقصى ما يمكن تقديمه في هذه الحرب لصالح إنگلترة. ووقع العبء الاكبر من هذه التضحيات على العمال والفلاحين الذين استخدمتهم السلطة، فقاسوا من طريقة جمعهم او بمعنى اصح خطفهم التي استمرت طيلة عامي 1917 – 1918 حتى بعد اعلان الهدنة فانتشر الرعب في نفوس الفلاحين واصاب الحزن كل منزل حيث فقد فردا من افراده واهله لا يعلمون هل سيعود ام لا، فلم تنقطع المآتم ولم يهدا الندب على تلك الالوف التي ذهبت، خطفهم الانجليز لكي يرمونهم في اتون النيران خارج بلادهم، وقد اجمع المؤرخون والمعاصرون لتلك الفترة على ان من اهم اسباب ثورة 1919 ذلك التجنيد الاجباري الذي وقع على القرى المصرية. وبالرغم من تلك الخدمات الجليلة التي قدمها الفيلقان لإنگلترة الا انهم قاسوا الامرين فقد عاشوا في ظروف غير طبيعية، وزاد الامر وبالا عليهم المعاملة القاسية التي كانوا يلقونها على يد قوات الانجليز الذين انتزعت من قلوبهم الشفقة والرحمة.

وتقول صحيفة رائد العمال الانجليزي في 3 ابريل 1919: "كان الكرباج هو الوسيلة الوحيدة لتسخيرهم، واصبح الجلد من الاعمال اليومية في معسكرات هؤلاء المجندين واي معسكرات.. لا خيام .. وسوء تغذية .. ورداءة كساء.. وقلة غطاء.. ثم امراض تفترسهم افتراسا لقد كانوا يموتون كالذباب في الصحراء، وكثيرا ما رفض السماح لهؤلاء المجندين بالعودة الى بلادهم حتى بعد انتهاء مدة خدمتهم".

هذا ويقر ملنر في تقريره عن اسباب ثورة 1919 ان المستشفيات التي كان يمرض فيها هؤلاء العمال لم تكن على ما يرام وانه كان من بين ضباطهم كثيرون يجهلون لغتهم ولا خبرة لهم بمعاملتهم. وتظلموا من اطالة مدة خدمتهم الى ما بعد التاريخ الذي تعاقدوا عليه وذلك بعد ما تولت السلطة العسكرية امر التجنيد، وقد صرح مستر تشرشل في مجلس العموم البريطاني بان الخدمة الطبية للفلاحين المصريين العاملين سواء في فرقة العمال او الجمالة كانت ناقصة وغير كافية.

وؤكد الدكتور جست في صحيفة دايلي نيوز انه "لسوء تغذيتهم وملبسهم وعدم وجود مستشفيات كافية وراءة احوالها كانت نسبة الوفيات بينهم عالية جدا رغم عدم نشر احصاءات".

ويصفهم السير فالنتين تشيرول "وبعد ان جند هؤلاء عاملناهم كما يعامل العمال الرخيصو الاجر عادة، فكانت اطعمتهم وملابسهم وخيامهم وفراشهم رديئة، وقال قس انجليزي ان الفلاحين في هذه الفرقة كانوا يتساقطون في سيناء وفلسطين والعراق تساقط الذباب".

وكان الرافعي شاهد عيان فيقول: "كانوا يعاملون معاملة المعتقلين وما هم بالمذنبين يربطون بالحبال ويسافرون كالانعام ويقام عليهم الحراس وينقلون بالقاطرات في مركبات الحيوانات ويعاملون اسوا معاملة ولا يعتنى بصحتهم ولا بغذائهم وراحتهم وكانوا يوعدون بان يستخدموا لمدة محدودة ثم تمد على الرغم منهم ومات كثيرون منهم في ميادين القتال او في الصحراء في سيناء والعريش او في العراق وفرنسا واصيب كثير منهم بالامراض والعاهات التي جعلتهم عاجزين عن العمل".

وقد سئل بعض من قضى عليهم نكد الطالع بان يكونوا ضحية هذا التطوع فقالوا انهم ذاقوا الامرين وكانوا في اسوا حال، وزيد ايضا انه كان نصيب البعض منهم ان اسر في الجيش التركي شهورا او اصيب البعض بجراح اليمة.

ونشر الكاتب الامريكي مستر جورج كريل في مجلة لو جب في 27 سبتمبر 1919 عما قاساه هؤلاء العمال "لقد سيق مليون ومائتا الفا من المصريين الى الخدمة في فرقة العمال والنقل وما يتهم به الوطنيون المصريون السلطة العسكرية ان معاملتها للعمال كانت اسوا من معاملتها لدواب النقل فقد كان طعامهم رديئا ومسكنهم فاسدا وكانت العناية الصحية بهم ضئيلة فمات هؤلاء المجندون التعساء كالذباب، وكلما قضى منهم نفر وخلا بموتهم مكان ساق الكرباج الالاف غيرهم ليحلوا محلهم. ودم هؤلاء الرجال هو الذي يجري بين مصر وإنگلترة اليوم. وقد تعرض هؤلاء العمال للنار وهم يحفرون الخنادق وينقلون المؤن والذخائر على خطوط القتال".

ويصف الجود ظروف العمل يقول: "الشهور الأولى من عام 1916 لم يكن لسائقي الجمال زي خاص بهم، وان كانت قد صرفت بطانية واحدة لكل منهم. وبهذه المعدات الوهمية تحمل الرجال مشاق الحملة في سيناء". ثم اشار للظروف الجوية القاسية "ان فلسطين في الشتاء ليست بالبلد الذي ييسر القيام بحملة مريحة في اراضيها. وعمليات النقل بالدوات في مثل هذا الجو الذي لا يرحم تتم في اقسى الظروف، فالوحدات المقاتلة يمكنها ان تتوقف حتى تتحسن الظروف الجوية ولكن قوافل التموين لا يمكن ان تتوقف لتاخذ قسطا من الراحة.. وكانت الامطار الغزيرة تضيع معالم المدقات وتجتاح مسافات طويلة من خطوط السكك الحديدية فتقتلعها، ولا يكون ثمة مفر من تعطيل كافة وسائل النقل الميكانيكية وهنا ياتي دور الجمال لتحمل عبئها ولقد تمكنت قوافل الفيلق من اداء مهتمها بفخر في هذه الظروف ، وكم من قوافل صارعت العواصف وهي تحمل التموين الى الخطوط الامامية وكثير من الرجال والدواب والجمال لقى حتفه دون رحمة على الطريق.. لقد كان هذا الفيلق بحق مخلوقا فريدا".

وهاجمت الحمى فرقة الجمالة التي كانت تعمل لمساعدة الامير فيصل، وكثر المصابون بالتيفوس والدوسنتاريا، ورغم ذلك فقد كانوا يقومون بمهامهم ، وانتشرت الكوليرا وكثرت الاعداد المصابة بها لدرجة انهم حينما عادوا الى مصر نقولها معهم، كما مات الكثير من جرائها من الرديف في الميدان.

وبناء على ذلك اصدرت الحكومة المصرية في 29 يونيو 1921 بلاغا رسميا يتبين منه ان العمال الذين لاقوا حتفهم وهم قائمون بخدمة الانجليز واصيبوا بجراح وعاهات مستديمة وبعجز تام او جزئي عن العمل ستصرف لهم مكافأت ومعاشات واعتبر ذلك هبة ممنوحة مع انها حقوق واجبة، هذا وقد كانت المبالغ التي قدمت بسيطة للغاية.

وفي ملفات اذونات المعاشات لعمال السلطة يتضح ان ما انيط اليهم من اعمال قد سببت لهم عاهات واصابات مستديمة وهم يطالبون بالتعويض، فعلى سبيل المثال لا الحصر فالجمال، منصور شحاتة، ارسل لقومندان قلم تعويضات حملة الجمال اللفتنت همفورز يطلب التعويض على عينه التي فقدت اثناء عمله كتربي، وكذلك طلب تعويضا من يدعى محمد ابراهيم العامل بالسلطة الذي اصيب باصابة مستديمة وطلب سعد كريم حسن الذي يقول في طلبه "افندن اني كنت شغال تبع الريس عبد القادر سالم رئيس طلبة نمرة 816 بالسلطة العسكرية بالقنطرة، ونظرا لاني مكثت شغالا بالاتربة حتى عجزت بصري في عيني الاثنين وذلك من عناء الاشغال بالسلطة، وهو الاخر يطلب تعويضا عن اصابته.

واصاب الموت الكثيرين على اثر اعمالهم الشاقة هذه، ففي شكوى من والد يطلب تعويضا عن ابنه – المدعى فريد عبد القادر – الذي مات اثناء قيامه بخدمة االجيش الانجليزي ، وانقطعت اخبار البعض من الذين وقعوا تحت يد السلطة.

وتروي المقطم عن الذي قاساه الجمالة على لسان احد الضباط الانجليز: "جرح جمال احمد يونس في راسه ولكنه ظل مع جماله ولم يذكر شيئا عن جرحه حتى حططنا الرحال في محلة اخرى على بعد ميل من محلتنا الاولى. وبعد سبع ساعات من جرحه، وقد كان هذا الجرح بالغا، كما تبين من الكشف الطبي واضطر الجراحون ان يستخجروا احدى عينيه ويعملوا له عملية جراحية كبيرة في الجمجمة". واما هذه الشدة في العمل وهذا الضغط المتزايد حاول بعض الجمالة الفرار وترك عملهم مما قاسوه، وشاركهم في ذلك بعض من العمال والرديف المصري وامتلأت الصحافة باعلانات الهروب.

وتعددت الاصابات حتى في فرنسا من جراء الظروف المناخية القاسية لتراكم الثلوج وعدم تحمل المصابين لها، كذلك ارتفعت نسبة الوفايات العاملين في طنوس ومدروس.

ومن الغريب فعلا ان اهل مصر من ذوي اليسر يقدمون خدماتهم للانجليز عن طريق دفع الاعانات للصليب الاحمر ويهملون من كان منهم فلم يساعدوا هذه الفرق الامر الذي جعل كاتبة انجليزية تقول: "لقد عرفنا من مزايا اهل مصر انهم اذا دعووا لمبرة عامة يظهرون بمظهر الكرم والاريحية ويكتتبون بسخاء للاعمال الخيرية النافعة مثل خدمة الصليب الاحمر والاعانات الخاصة ونحو ذلك، وكثيرا ما نرى منهم عطفا على المنكوبين والبؤساء ومن الغريب والحالة هذه انهم لم يهتموا الاهتمام الواجب باخوانهم رجال فرقة العمال المصرية المشتغلين بالاعمال العسكرية انهم يستحقون كل عطف ومساعدة".

وكانت رحلة العودة لمن كتبت له اصعب من الرحيل امتلات بالعذاب والمشقة واللهفة والحنين لارض الوطن بعد ذلك الحرمان الطويل والغربة القاسية والتي انعسكت فيما رددوه من كلمات فاضت بالشوق والحب لمصر.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

جمع الدواب

وكما جمعت السلطة الرجال لم تبق على جمل او حمار او حصان الا واستولت عليه لصالحها. وطبقت نفس طريقة جمع العمال على الحيوانات. "وكان كل ذلك يجري بمساعدة رجال الحكومة بل بناء على اوامرهم وبضغطهم على الاهالي فكانوا يسارعون الى ارهاق الاهالي لخدمة السلطة العسكرية ويتفانون في اظهار الهمة في تلبية طلباتها كل فيما يخصه فالمدير يتلقى الامر من وزارة الداخلة بجمع عدد مخصوص من الدواب، والمامور بدوره يفرض على كل بلد او قرية ما يخصها من القدر المطلوب، فيقوم العمدة بجمع ما طلب منه من افراد الاهالي كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، وكان هؤلاء الحكام من المدير الى العمدة الى الخفير يستعمل كل ما اوتي من حول وقوة وما منح من سلطان للحصول على ما فرض على مديريته او مركزه او قريته. بل لقد تعدى بعضهم حدود العدالة في تنفيذ تلك الاوامر حتى ان البعض استعمل هذه الظروف سبيلا لجمع الاموال من الناس واكلها بالباطل".

وكان على العمدة والمشايخ في كل البلاد ان يقدمون للسلطة كشفا وافيا يشتمل على عدد الجمال والحمير واسماء اصحابها، وخضع ذلك لرقابة صارمة وقبض على عدد كبير منهم لاخفائهم بعض الجمال والحمير، وعلى سبيل المثال، فقد تستر العمدة عبد الرحمن التميس عمدة اسيوط على اغنياء البلد ولم يذكر في تقريره من الجمال والحمير الا النذر اليسير خوفا من انه اذا قدم جمال غيره يضظهر هو الاخر الى ذكر جماله وحميره.

وفي حقيقة الامر فانه منذ ان بدات الحرب كان لابد من الاستيلاء على قطعان من الجمال حيث احتاجت اليها القوات البريطانية لنقل المهمات. وهنا بدات السلطة تجمع الجمال من المديريات وفي بادئ الامر جعلت اجرة الجمل الواحدة خمسة عشرة قرشا يوميا، ولم يمض شهر فبراير 1915 حتى كانت قد جمعت الفين ومائتي جملا.

هذا وقد اعترف لويد بانه "مما اغضب المصريين الحاح السلطات البريطانية في طلب الجمال والحمير لاستخدامها في سلاح الهجانة اذ تعتبر الدابة بالنسبة للفلاح شيئا مقدسا وحتى شرعية الطلب لم تخفف من غضب الناس كما لم تقلل من متاعبهم".

ورغم الاعداد الكبيرة التي جمعتها السلطة الا انها دائما كانت تحتاج الى المزيد، فعانى الفلاحون كثيرا من فقدان دوابهم اللازمة لهم – وقد اسيئ الى الزراعة بجمع هذه الدواب – ففي عام 1917 اشتدت الحاجة الى استخدام الجمال في النقل الحربي، ووجدت اللجان المكلفة بالشراء من قبل الجيش صعوبة كبيرة في الحصول على العدد اللازم من الجمال، بل ان المنشورات السرية التي ارسلتها الحكومة الى المديرين لحثهم على بذل جهود قوية في هذا لسبيل لم تحدث نتيجة سوى نشر الظلم، فكبار اصحاب الاراضي وشيوخ القرى كانوا يتمتعون بميزة الاعفاء والفلاحون والفقراء هم الذين كان عليهم ان يقدموا جمالهم.

واظهرت الحكومة كرما في معاملة السلطة العسكرية حيث فتحت وزارة المالية في 25 اغسطس 1917 بعض الاعتمادات للمديريات لابتياع الحمير اللازمة للسلطة، وقالت الحكومة في بلاغها ان الغرض من ابتياع هذه الحمير "انها لازمة للخدمة اليومية" ثم صدرت الاوامر للمديريات بان ينتقي المفتشون البيطريون الحمير الصالحة للعمل، وان يقدروا اثمانها التي تدفع من خزانة المديرية من الاعتمادات المفتوحة.

وتبع ذلك ان نشرت السلطة العسكرية اعلانا في 26 نوفمبر 1917 امرت فيه جميع المصريين ان يقدموا دوابهم، واصبح غير مصرح لهم بالتصرف فيها او حتى نقلها. وفرضت العقوبة على من يخالف تلك الاوامر.

وازدادت حركة المصادرة لاعز ما يملكه الفلاحون. واقر ملنر في تقريره ان ما تم في هذا الامر كان من اهم اسباب ثورة المصريين عام 1919.

ولعبت الحكومة دورا مهما في تقديم الدواب للسلطة العسكرية وفي الضغط على الناس كما كان دورها في جمع الرجال للسلطة. ووقف الوزراء اوقاتهم لجمع الدواب للسلطة العسكرية، وتحملت هي التكاليف ذلك ان السلطة استولت ايضا على ركائب المهندسين التي وجدتها صالحة للاستعمال. وهنا كان على الحكومة التعويض لهؤلاء، وعلى سبيل المثال فقد وافق مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة في 23 فبراير 1918 على اعطاء عبد المسيح فهمي وحسين كامل ماهر وكامل ميخائيل، المهندسين بري الفيوم مصاريف الركائب التي يتكبدونها بسبب استيلاء السلطة العسكرية على ركائبهم.

وفي بداية عام 1916 كان هناك 20000 جمل مستخدمة في الحملة المصرية، وفي اواسط 1917 ارتفع العدد الى 35.000 وقسموا الى مجموعات حوت كل مجموعة على 2.000 جمل، وهذه المجموعات عملت في خط النقل الاول تنقل الاحجار وتحضر الامدادات.

وجمعت الجمال من مختلف المديريات، فكان نصيب البحيرة 2.526، الغربية 4.218، الدقهلية 1.560، المنوفية 2.740، الشرقية 5.817، القليوبية 2.096، الجيزة 1.436، الفيوم 1.201، بني سويف 1.380، المنيا 2.106، اسيوط 3.543، جرجا 2.363، قنا 2.084، أسوان 353، القاهرة 203 ، الاسكندرية 86، الاسماعيلية 33، وبناء على ذلك قلت الجمال وارتفعت الاسعار بمعدل ثماني مرات عما كانت عليه قبل الرب. وبلغ من جبروت السلطة انها بعد الحرب ارادت ان تبيع ما تبقى من الجمال للمصريين باسعار قدرتها وفق مصالحها.

اما بالنسبة للحمير فكانت لها منفعة تامة، وقسمت الى اربع مجموعات كل منها تحتوي على 2.000 حمار عملوا بكل طاقتهم مع المصريين في خطوط القتال.

العرفان

تم الاعتراف بالقيمة الكبيرة لخدمة فرقة العمال المصرية من قبل اللنبي في رسالته المؤرخة في 16 ديسمبر 1917 حيث ذكر قيمة خدماتهم الكبيرة وأهميتها، وصمودهم تحت النيران وتفانيهم في أداء الواجب في ظل ظروف صعبة.[3]

الهوامش

  1. ^ لطيفة سالم (2008). مصر في الحرب العالمية الأولى . دار الشروق.
  2. ^ Hughes 2004, pp. 100-1
  3. ^ A Brief Record of the Advance of the Egyptian Expeditionary Force under the command of General Sir Edmund H. H. Allenby, GCB, GCMG July 1917 to October 1918 compiled from Official Sources (1919) p. 24

المصادر

  • "General Staff General Headquarters Egyptian Expeditionary Force". Canberra: Australian War Memorial. February 1918.
  • Allenby, E. H. H.; H. Pirie-Gordon; Army of Great Britain; Egyptian Expeditionary Force (1919). A Brief Record of the Advance of the Egyptian Expeditionary Force under the command of General Sir Edmund H.H. Allenby, GCB, GCMG July 1917 to October 1918 compiled from Official Sources (2 ed.). London: H.M. Stationery Office. OCLC 17017063.
  • Blenkinsop, Layton John; Rainey, John Wakefield, eds. (1925). History of the Great War Based on Official Documents Veterinary Services. London: HMSO. OCLC 460717714.
  • Bowman-Manifold, M.G.E. (1923). An Outline of the Egyptian and Palestine Campaigns, 1914 to 1918 (2nd ed.). Chatham: The Institution of Royal Engineers, W. & J. Mackay & Co. OCLC 8139160.
  • Bruce, Anthony (2002). The Last Crusade: The Palestine Campaign in the First World War. London: John Murray. ISBN 978-0-7195-5432-2.
  • Cutlack, Frederic Morley (1941). The Australian Flying Corps in the Western and Eastern Theatres of War, 1914–1918. Official History of Australia in the War of 1914–1918. Vol. Volume VIII (11th ed.). Canberra: Australian War Memorial. OCLC 220900299. {{cite book}}: |volume= has extra text (help)
  • Downes, Rupert M. (1938). "The Campaign in Sinai and Palestine". In Butler, Arthur Graham (ed.). Gallipoli, Palestine and New Guinea. Official History of the Australian Army Medical Services, 1914–1918. Vol. Volume 1 Part II (2nd ed.). Canberra: Australian War Memorial. pp. 547–780. OCLC 220879097. {{cite book}}: |volume= has extra text (help)
  • Hughes, Matthew, ed. (2004). Allenby in Palestine: The Middle East Correspondence of Field Marshal Viscount Allenby June 1917 – October 1919. Army Records Society. Vol. XXII. Phoenix Mill, Thrupp, Stroud, Gloucestershire: Sutton Publishing. ISBN 978-0-7509-3841-9.
  • Keogh, E. G.; Joan Graham (1955). Suez to Aleppo. Melbourne: Directorate of Military Training by Wilkie & Co. OCLC 220029983.
  • Lawrence, T.E. (1962). Seven Pillars of Wisdom: A Triumph. London: Penguin Jonathan Cape. OCLC 803300735.
  • McPherson, Joseph W. (1985) [1983]. Carman, Barry; McPherson, John (eds.). The Man Who Loved Egypt: Bimbashi McPherson. London: Ariel Books BBC. ISBN 978-0-563-20437-4.
  • Powles, C. Guy; A. Wilkie (1922). The New Zealanders in Sinai and Palestine. Official History New Zealand's Effort in the Great War. Vol. Volume III. Auckland: Whitcombe & Tombs. OCLC 2959465. {{cite book}}: |volume= has extra text (help)
  • Wavell, Field Marshal Earl (1968) [1933]. "The Palestine Campaigns". In Sheppard, Eric William (ed.). A Short History of the British Army (4th ed.). London: Constable & Co. OCLC 35621223.
  • Wilson, L.C. (1934). The Third Light Horse Brigade Australian Imperial Force in The Egyptian Rebellion 1919. Brisbane: L.C. Wilson. OCLC 219822717.
  • Woodward, David R. (2006). Hell in the Holy Land: World War I in the Middle East. Lexington: The University Press of Kentucky. ISBN 978-0-8131-2383-7.