موسيقى عصر النهضة

(تم التحويل من موسيقى النهضة)
فترات وعصور
الموسيقى الكلاسيكية الغربية
الفترة المبكرة
العصور الوسطىح. 500–1400
عصر النهضةح. 1400–1600
فترة الممارسة الشائعة
فترة الباروكح. 1600–1760
الفترة الكلاسيكيةح. 1730–1820
العصر الرومانسيح. 1780–1910
الفترة الحديثة والمعاصرة
الانطباعيةح.1875–1925
الحديثةح. 1890–1930
القرن 201901–2000
الموسيقى المعاصرةح. 1975–الآن
القرن 212001–الآن

موسيقى عصر النهضة هي موسيقى كُتبت في أوروبا أثناء عصر النهضة. وهناك اجماع بين مؤرخي الموسيقى – مع معارضة ملحوظة – على بدء تلك الحقبة من حوالي سنة 1400، مع نهاية العصور الوسطى، وأنها انتهت حوالي سنة 1600، مع بداية فترة الباروك، ولذلك فقد بدأت النهضة الموسيقية بعد نحو مئة سنة من بداية عصر النهضة كما يُفهم في المجالات الأخرى. وكما في الفنون الأخرى، فإن موسيقى الفترة تأثرت بشكل كبير بالتطورات التي عرّفت الفترة المعاصرة المبكرة: صعود الفكر الإنساني؛ استعادة التراث الأدبي والفني لليونان وروما القديمتين؛ ازدياد الابداع والاكتشاف؛ نمو المؤسسات التجارية؛ ارتفاع الطبقة البرجوازية؛ والاصلاح الپروتستانتي. من هذا المجتمع المتغير بزغت لغة موسيقية موحِدة مشتركة، خصوصاً في النمط الپولي‌فوني الذي يميز المدرسة الفرانكو-فلمنكية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تاريخ

موسيقى عصر النهضة المبكر (1400-1467)

لقد كان من المظاهر التي أنقذت المسلاة الإيطالية أن الرقص التمثيلي، والمسرحيات الصامتة، والعزف الموسيقي الجماعي كانت تعرض كلها بين الفصول. ذلك أن الموسيقى كانت عند الإيطاليين- بعد العشق- أهم أنواع التسلية والسلوى عند كل طبقة من طبقات المجتمع في إيطاليا. يدلنا على ذلك أن منتاني وهو مسافر في تسكانيا عام 1581 قد "أدهشه أن يرى الفلاحين وفي أيديهم الأعواد وإلى جانبهم الرعاة ينشدون قصائد أريستو عن ظهر قلب"؛ ولكن هذا، كما يقول بعدئذ، "هو الذي نستطيع أن نشاهده في جميع أنحاء إيطاليا"(99). وقد حفظ لنا فن التصوير في عهد النهضة ألف صورة وصورة لأشخاص يعزفون على الآلات الموسيقية من الملائكة العازفين على العود عند قدمي العذراء في كثير من الصور التي تمثل منظر التتويج، إلى الملائكة الصغار المنشدين في صور ميلتسو Meizzo، إلى نشوة الرجل العازف على القيثارة في صورة الحفلة الموسيقية. وما أروع صورة الغلام- الذي يصعب علينا أن نعتقد أنه هو المصور نفسه- في وسط صورة أعمار الإنسان الثلاثة لسباستيانو دل پيومبو Sabastiano del Piombo، كذلك تنقل لنا الكتب التي ألفت في ذلك العصر صورة لشعب يغني أو يعزف على الآلات الموسيقية في منزله، وفي أثناء عمله، وفي الشارع، وفي المجامع الموسيقية، وأديرة الرجال والنساء، والكنائس، والمواكب، والمقنعات، ومواكب النصر، والاستعراض، والمسرحيات الدينية والدنيوية، وفي الفقرات الغنائية، وفيما بين الفصول في المسرحيات، وفي الرحلات الخلوية كالتي تصورها بوكاتشيو في كتابه ديكمرون Decameron، وكان الأثرياء يحتفظون في بيوتهم بطائفة من الآلات الموسيقية المختلفة الأنواع، وكانوا ينظمون فيها حفلات موسيقية خاصة. أما النساء فكن ينشئن النوادي لدراسة الموسيقى ولممارستها، وقصارى القول أن إيطاليا كانت- ولا تزال- تجن جنوناً بالموسيقى.

وازدهرت الأغاني الشعبية في كل وقت من الأوقات، ومن هذا المعين الذي لا ينضب كانت الموسيقى العلمية تستمد من آن إلى آن ما ينعشها ويبعث الحياة فيها. فكانت النغمات الشعبية تكيف حتى تتفق مع القصائد الغزلية المعقدة، ومع الترانيم، وحتى مع القطع الموسيقية التي تعزف في الكنائس في ساعات القداس. وفي "فلورنسا"، كما يقول تشيليني، "كان من عادة الأهلين أن يلتقوا في الشوارع العامة في ليالي الصيف" ليغنوا ويرقصوا(100). وكان مغنو الشوارع أو الميادين- Cantori di Piazza- يوقعون ألحانهم الحزينة أو المرحة على أعواد جميلة، كما كان السكان يجتمعون ليغنوا أناشيد المديح للعذراء عند أضرحتها المقامة في الشوارع أو على جوانب الطرق؛ وفي مدينة البندقية كانت أغاني العُرس تصعد إلى قمر السماء من مئات قوارب النزهة، أو ترتفع من حناجر العشاق الذين يتغزلون في حبيباتهم في ظلمات الليل على ضفاف القنوات الملتوية. ويكاد كل إيطالي في ذلك الوقت يستطيع الغناء، كما يكاد كل إيطالي يستطيع التغني بعبارات بسيطة متوافقة. وقد وصلتنا مئات من هذه الأغاني الشعبية المسماة بذلك الاسم الجميل فروتولى Frottole أي الفاكهة الصغيرة؛ وهي في العادة قصيدة غزلية، أهم أصواتها السبران (أعلى الاصوات) وإلى جانبه العران، والرخيم، والصور . وبينما كان الصوت الرخيم في القرون الحالية هو المسيطر على النغم ولذلك وصف به، فقد أصبحت للسبران- أعلى الأصوات- السيطرة عليه في القرن الخامس عشر، وقد سمي بهذا الاسم Soprano لأن علاماته الموسيقية كانت تكتب فوق سائر العلامات. ولم يكن هذا الجزء من الغناء في حاجة إلى صوت النساء، فقد كان كثيراً ما يغنيه غلام أو كان هو الصوت النشاز Falsetto من رجل كهل (ولم يظهر الغلمان المخصيون بين المنشدين لدى البابوات قبل عام 1526)(101).

وكان قدر كبير من العلم بالموسيقى يطلب إلى أفراد الطبقة المتعلمة، فكان كستجليوني مثلا يتطلب إلى رسوله المهذب أن يكون من هواة الموسيقى وأن يبرع فيها إلى حد ما لأنها "لا تجعل عقول الرجال حلوة فحسب، بل إنها في كثير من الأحيان تبدل الوحوش إلى حيوانات مستأنسة أليفة"(102). وكان ينتظر من كل شخص مثقف أن يقرأ الموسيقى البسيطة بمجرد النظر إليها، وأن يعزف على آلة ما وهو يغني، وأن يشترك في أية حفلة موسيقية دون سابق استعداد(103). وكان الأهالي في بعض الأحيان يقيمون حفلات تجمع بين الغناء، والرقص، والعزف على الآلات الموسيقية. وكانت الجامعات بعد عام 1400 تقدم للطلاب برامج موسيقية وتمنح فيها درجات علمية؛ وكان في إيطاليا مئات من المجامع الموسيقية؛ وأسس فتورينو دا فلترى حوالي عام 1425 مدرسة لتعليم الموسيقى في مانتوا؛ ولفظ كنسير فتوري Conservatory الذي يطلق على المعاهد الموسيقية في هذه الأيام يرجع في الأصل إلى لفظ كونسرڤاتوري (Conservatori) أي الملاجئ، لأن الملاجئ في نابلي كانت تتخذ أيضاً مدارس لتعليم الموسيقى(104). وكان مما ساعد على انتشار الموسيقى غير ما سبق استخدام فن الطباعة في طبع العلامات الموسيقية؛ فقد حدث حوالي عام 1476 أن طبع ألريخ هاهن Ulrich Hahn في روما كتاباً كاملا للصلوات بالعلامات الموسيقية المتنقلة والسطور؛ وفي عام 1501 بدأ اوتاڤيانو ده پتروتشي Ottaviano Petrucci في البندقية أعمال الطباعة التجارية للأناشيد الدينية" والفاكهة الصغيرة".

موسيقى عصر النهضة الوسيط (1467-1534)

نحت خشبي من سنة 1611 لـجوسكان دپريه، منسوخ من لوحة زيتية، مرسومة أثناء حياته وضاعت[1]

وفي بلاط الملك والأمراء كانت الموسيقى أبرز الفنون عدا فنون الزينة الشخصية والأناقة. فقد كان الحاكم يختار عادة كنيسة محببة له، ويجعل المرنمين فيها موضع عنايته، وينفق المال بسخاء ليجذب إليها أجمل الأصوات وأحسن الآلات من إيطاليا، وفرنسا، وبرغندية، فكان يدرب المغنين الجدد منذ طفولتهم كما فعل فيدريجو في أربينو، وكان ينتظر من أفراد المرنمين أن يقيموا للدولة حفلات غنائية ولبلاطه أعياداً من حين إلى حين. وقد ظل گي‌يوم دوفاى Guillaume Dufay من أهل برگندية يشرف على الموسيقى في قصور آل مالاتستا في ريميني وبيزارو وفي معبد البابا في روما نحو ربع قرن (1419-1444). ونظم گالياتسو ماريا اسفوردسا Galeazzo Maria Sforzo حوالي عام 1460 جماعتين من المرنمين الدينيين، وجاء إليهم من فرسنا بجوسكان دپريه Josquin Depres الذي كان وقتئذ أشهر المؤلفين جميعاً في أوربا الغربية. ولما احتفى لودڤيكو اسفوردسا بليوناردو في ميلان كان احتفاؤه به بوصفه موسيقياً؛ ومما هو جدير بالملاحظة أن ليوناردو اصطحب معه في سفره من فلورنس إلى ميلان أتلانته مگليوروتي Atlante Migliorotti وهو موسيقي ذائع الصيت وصانع آلات موسيقية. وأشهر من أطلانطي هذا في صناعة القيثارة، والعود، والأرغن، والبيان البدائي، لورندسو گوسناسكو Lorenzo Gusnasco من أهل پاڤيا الذي اتخذ ميلان كغيرها من المدن موطناً له. وكان بلاط لودفيكو يموج بالمغنين نذكر منهم نارچسو Narcisso وتستاگروسا Testagrossa وكورديير Cordier من أهل فلاندرز، وكريستوفورو رومانه Cristoforo Romane الذي أحبته بيتريس حباً طاهراً عفيفا. وكان پدرو ماريا Pedro Maria الأسباني يقود الحفلات الموسيقية في القصر وحفلات الجماهير، وأنشأ فرنچينو گافوري Franchino Gaffuri مدرسة خاصة ذائعة الصيت في ميلان واشتغل فيها بتعليم الموسيقى. وكانت إزبلا دست مولعة أشد الولع بالموسيقى؛ واتخذتها أهم موضوع لزخرفة حجرتها الداخلية الخاصة، وكانت هي نفسها تعزف على عدة آلات. ولما أن أمرت بإحضار بيان بدائي من لورندسو جوسناسكو اشترطت ان تستجيب لوحة المفاتيح للمس الخفيف، "لأن يديها رقيقتان إلى حد لا تستطيع معه أن تجيد العزف إذا كانت المفاتيح جامدة"(105). وكان يعيش في بلاطها أشهر عازف على العود في زمانه، وهو ماركتو كارا Marchctto Cara، كما كان يعيش فيه بارتولوميو ترمبون‌چينو Bartolomeo Tromboncino الذي ألف أغاني غزلية بلغ من روعتها وإعجاب الناس بها وبه أنه حين قتل زوجته الخائنة، لم يوقع عليه عقاب ما ومرت المسألة كأنها خلاف لا يلبث أن يزول.

وآخر ما نذكره من هذا القبيل أن الموسيقى كانت تتردد أصداؤها في الكاتدرائيات والكنائس وفي أديرة الرجال والنساء؛ وكانت الراهبات في البندقية، وبولونيا، ونابلي، وميلان ينشدن صلوات المساء ترانيم يبلغ من تأثيرها أن الجموع كانت تهرع من كافة الأنحاء لسماعها. وقد نظم سكتس الرابع جوقة المرنمين في المصلى الستيني، وأضاف يوليوس الثاني إلى المرنمين في كنيسة القديس بطرس جوقة خاصة منهم تدرب المغنين وتعدهم للانضمام لمرنمي معبد ستيني. وكان هذا ذروة الموسيقى في العالم اللاتيني في عهد النهضة. وأقبل على هذه الجماعة أعظم المغنين من جميع البلاد التي تدين بالمذهب الكاثوليكي الروماني. وكان الغناء البسيط لا يزال هو الذي يفرضه القانون على الموسيقى الكنسية، ولكن الفن الجديد Ars Nova الفرنسي- وهو فن معقد معارض له- كان يتسلل إلى جماعات المرنمين في الكنائس الرومانية ويمهد السبيل لپالسترينا Palestrina وفيكتوريا. وكان الاعتقاد السائد في وقت من الأوقات أن ليس من الكرامة أن يصحب الترنيم في الكنيسة من الآلات الموسيقية إلا الأرغن، ولكن عدداً من الآلات المختلفة أدخل إلى الكنائس في القرن السادس عشر لكي تخلع على الموسيقى الكنسية بعض الروعة والجمال اللذين تمتاز بهما الموسيقى غير الدينية. وظل الأستاذ الفلمنكي أدريان ولرت Adrian Willaert من أهل بروج Bruges يرأس فرقة المرنمين في كنيسة القديس مرقص بالبندقية خمسة وثلاثين عاماً درب أفرادها فيها تدريباً حسدتهم عليه روما. وفي فلورنس نظم أنطونيو اسكوارتشيا بولى مدرسة موسيقية كان لورندسو عضواً فيها. وظل أنطونيو جيلا كاملا يسيطر على فرقة المرنمين في الكاتدرائية العظيمة تردد النغمات التي أسكتت صوت كل شك فلسفي. يدلنا على ذلك أن ليون باتستا ألبرتي Leon Battista Alberti كان من المتشككين حتى إذا غنت الفرقة صدق وآمن وقال:

"إن جميع أنواع الغناء الأخرى تمل بالتكرار، أما الموسيقى الدينية وحدها فلا تمل. ولست أعلم مبلغ تأثر غيري بهذه النغمات، أما أنا فإن هذه الترانيم والمزامير التي أستمع إليها في الكنيسة تحدث فيَّ ذلك الأثر الذي وضعت من أجله، فتهدئ من جميع اضطراباتي النفسية، وتبعث فيَّ شيئاً من الفتور الذي تعجز الألفاظ عن وضعه، وتملأ قلبي إجلالا للخالق جل وعلا. وأي قلب قد بلغ من القسوة درجة لا يلين معها إذا سمع ذلك الارتفاع والانخفاض المتزن المتناسق في الأصوات الكاملة الحقة بتلك النغمات العذبة اللينة؟ وأؤكد لكم أني ما استمعت فقط... إلى اللفظين اليونانيين كيري إليسوق (ارحمنا يارب) اللذين يدعوان الله إلى أن يقينا شر بؤسنا البشرى إلا انهمر الدمع من عيني... وفي تلك اللحظة أفكر كذلك في مبلغ ما للموسيقى من قدرة على تهدئتنا والترفيه عنا"(106).

بيد أن الموسيقى، رغم هذا الانتشار الواسع، كانت هي الفن الوحيد الذي تأخرت فيه إيطاليا عن فرنسا في الجزء الأكبر من عهد النهضة. ذلك أن إيطاليا قد أثر فيها انتقال البابوات إلى أفنيون فحرمها من الموارد المالية البابوية، ولم يكن بلاط الأمراء المستبدين في القرن الرابع عشر قد بلغ درجة كبيرة من النضوج الثقافي، ومن أجل هذا كان يعوزها المال والروح اللذان لا غنى عنهما للدرجات العليا من الموسيقى. نعم إنها أخرجت أغاني غزلية جميلة (يسمونها مدرجال Madrigal وهي كلمة لا يعرف اشتقاقها على وجه التحقيق)، ولكن هذه الأغاني التي صيغت على غرار أغاني شعراء الفروسية الغزليين البروفنسالين كانت تلحن تلحيناً جامداً منتظماً متعدد النغمات فلم تلبث أن قضى عليها جمودها.

وكان فخر الموسيقى في القرن الرابع عشر في إيطاليا هو فرانچسكو لنديني Francesco Landini، العازف على الأرغن ولسان لورندسو في فلورنس. وقد فقد هذا الفنان بصره منذ طفولته، ولكنه أصبح رغم ذلك أظرف الموسيقيين وأحبهم إلى الشعب في زمنه، وقد برع في العزف على الأرغن، والعود، وفي تأليف الأغاني، وقول الشعر، وفي الفلسفة. ولكن هذا الرجل نفسه أخذ الفن أولا عن فرنسا، فقد طبق في قطعه الموسيقية الدنيوية التي ألفها، والبالغ عددها مائتي قطعة، الفن الجديد الذي استهوى فرنسا قبل تلك الأيام بجيل من الزمان. وكان هذا "الفن الجديد" جديداً جدة مزدوجة: فقد قبل الإيقاع الثنائي كما قبل التوقيت الثلاثي الذي كانت تتطلبه من قبل موسيقى الكنائس، وابتكرت له علامات موسيقية كثيرة التعقيد والمرونة. ووجه البابا يوحنا الثاني والعشرون الذي كان يصب صواعقه في جميع الاتجاهات، وجه هذا البابا إحدى تلك الصواعق على الفن الجديد ورماه بأنه خيال ووهم ومنحط، وكان لتحريمه إياه بعض الأثر في الحيلولة دون تقدم الموسيقى في إيطاليا. على أن يوحنا الثاني والعشرين لم يكن مخلداً، وإن كان قد بدا للناس في بعض الأوقات أن هذا قد يكون؛ فلما قضى نحبه في سن التسعين (1334)، انتصر الفن الجديد في موسيقى فرنسا، وأعقب هذا انتصاره أيضاً في إيطاليا.

وكان المغنون والمؤلفون الفرنسيون والفلمنكيون يؤلفون فرق المرنمين البابوية في أفنيون. فلما أن عادت البابوية إلى روما جاءت معها بعدد كبير من المؤلفين والمغنين الفرنسيين، والفلمنكيين، والهولنديين، وظل هؤلاء الموسيقيون الأجانب وخلفاؤهم قرناً من الزمان المسيطرين على الموسيقى الإيطالية. وظل المغنون في الفرق البابوية حتى زمن سكستس الرابع يفدون إلى إيطاليا من وراء جبال الألب، كذلك سيطرت الأصوات الأجنبية على موسيقى البلاط في القرن الخامس عشر. من ذلك أنه لما مات اسكوارتشيالوني Squarcialuni (حوالي عام 1475) اختار لورندسو رجلاً هولندياً هو هنريخ اسحق Henrich Ysaac ليخلفه في العزف على الأرغن بكاتدرائية فلورنس. وكان هنريخ هو الذي وضع الألحان الموسيقية لبعض أغاني المساخر، ولبعض أغاني بولتيان، وهو الذي علم الرجل الذي أصبح فيما بعد ليو العاشر أن يحب الأغاني الفرنسية- بل أن يؤلف بعضها(107). وظلت الأغاني الفرنسية وقتاً ما تغنى في إيطاليا، كما كانت قصائد شعراء الفروسية الغزليين تغنى فيها وقتاً ما.

موسيقى عصر النهضة المتأخر (1534–1600)

سان ماركو في المساء. الداخل الفسيح ذو الصدى كان أحد الإلهامات لموسيقى المدرسة البندقية.

وأثمر غزو الموسيقيين الفرنسيين في إيطاليا، وهو الذي سبق غزو الجيوش الفرنسية إياها بقرن من الزمان، أثمر حوالي عام 1520 انقلاباً تاماً في الموسيقى الإيطالية. ذلك أن أولئك الرجال القادمين من الشمال- والإيطاليين الذين دربوا على أيديهم- قد انغمروا في فيض الفن الجديد واستخدموه في تلحين الشعر الغنائي الإيطالي. وقد وجد هؤلاء عند بترارك، وأريستو، وستادسارو، وبمبو- كما وجدوا بعدئذ في تاسو وجواريني- شعراً مطرباً يتحرق شوقاً للموسيقى. ألم يكن الشعر في الواقع يتطلب على الدوام أن يتلى إذا لم يكن يتطلب أن يغنى؟ وكانت مقطوعات بترارك قد أغوت من قبل الموسيقيين، أما الآن فقد لحن كل بيت منها، ولحن بعض مقطوعاتها اثنتي عشرة مرة أو أكثر، حتى لقد اصبح بترارك أكثر من لُحّن له من الشعراء في الأدب العالمي. ولقد كانت هناك أغان صغيرة لا يعرف مؤلفوها، ولكنها تعبر عن عواطف ساذجة ذات حيوية تمس شغاف كل قلب، وتنادي أوتار كل آلة. انظر مثلا إلى هذه الأغنية:

أبصرت فتيات حساناً يتفيأن ظلال أشجار الصيف،

ينسجن تيجاناً براقة وهن ينشدن أغاني الحب بصوت خفيض،

وتستعير كل واحدة منهن من أختها أوراق الأشجار وأزهارها.

وفي خلال هذه الاخوة العذبة حولت

أجملهن عينيها الناعستين نحوي وهمست قائلة: "خذ!"

ووقفت مشدوها حائراً في الحب لم أنبس ببنت شفة،

لكنها قرأت ما تنطوي عليه جوانحي وناولتني تاجها الجميل؛

فاصبحت من أجل ذلك خادمها حتى الممات(108).

وطبق المؤلفون على هذه الاشعار الموسيقى الدينية الكاملة المعقدة الكثيرة الأنغام ذات الأربعة الأصوات- التي يغنيها أربعة أو ثمانية- المتساوية القيمة التي تخضع فيها ثلاثة أصوات لصوت واحد. وجميع هذه النغمات المعقدة الدقيقة المتسلسلة تجمع الأصوات الأربعة المستقلة في نغم متوافق متآلف... وهكذا نشأت أغنية الحب في القرن السادس عشر فكانت من أيتع أزاهير الفن الإيطالي، وبينما كانت الموسيقى في أيام دانتي خادمة للشعر، أضحت الآن بعد أن اكتمل نماؤها شريكة له على قدم المساواة، لا تخفى فيها الألفاظ، و لا تختفي فيها العواطف بل تجمع بين هذه وتلك في ألحان تزيد من قدرتها على استثارة النفس، في الوقت الني تبعث بمهارتها الفنية أسباب البهجة في عقول المتعلمين.

ووجه المؤلفون العظام في إيطاليا أثناء القرن التاسع عشر، بما فيهم باليسترينا نفسه، وجهوا كلهم تقريباً فنهم من آن إلى آن إلى القصائد الغزلية. ويتنازع فيليب فيرديلو Philippe Verdelot، وهو رجل فرنسي عاش في إيطاليا، وقسطندسا فيستا Qoatanza Festa الإيطالي الموطن، شرف الاسبقية في تنمية هذه الصور الجديدة من صور الشعر بين عامي 1520 و 1530. ثم جاء بعدهم بزمن قليل أركادلت Arcadelt وهو رجل فلمنكي كان يعيش في روما، وذكره ربليه في كتاباته(109). وفي البندقية أعفى أدريان ولايرت Adrian Willaert من واجباته بوصفه رئيس فرقة المرنمين في كنيسة سان ماركو لكي يؤلف أجمل قصائد الغزل في أيامه.

وكانت القصيدة الغزلية تغنى عادة دون أن يصحبها عزف موسيقي على الآلات. نعم إن الآلات الموسيقية كان يخطئها الحصر، ولكن ما من واحدة منها، سوى الأرغن وحده، كانت تجرؤ على أن تنافس الصوت الآدمي. ولقد نشأت موسيقى الآلات نشأة بطيئة في أوائل القرن السادس عشر، وكانت نشأتها من صيغ موسيقية وضعت أولا للرقص أو الغناء الجماعي؛ وهكذا نشأ البوان والسلطاريل والسرنيد نشأة تدريجية من الرقص المصاحب للغناء مع الآلات مفردة أو مجتمعة، وأضحت موسيقى الغزل التي تعزف دون غناء هي الكانزوني التي نشأت منها السوناته بعد زمن طويل(100أ)، ومن ثم كانت هي منشأ السمفونية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الآلات الموسيقية في عصر النهضة

وكان الارغن في القرن الرابع عشر قد وصل في تطوره ورقيه الدرجة التي هو عليها الآن تقريباً، فقد ظهرت لوحته الدواسة في ألمانيا والبلاد الوطيئة في ذلك العهد، وسرعان ما أدخلت في فرنسا وأسبانيا، أما إيطاليا فقد تأخرت في قبولها حتى القرن السادس عشر. وكانت الكثرة الغالبة من الأراغن قد أصبح لها قبل ذلك الوقت لوحتان أو ثلاث لوحات من المفاتيح وعدد مختلف من الوقفات والأجهزة التي يمكن بها استخدام عدة مفاتيح في وقت واحد. وكانت الأراغن الكبرى في الكنائس تحفاً فنية في حد ذاتها يقوم الأساتذة العظام بتصميمها، وحفرها، ونقشها. كذلك سرى حب الجمال في الشكل إلى غير الأرغن من الآلات الموسيقية، فالعود مثلا- وهو آلة البيت المحببة- كان يصنع من الخشب والعاج، ويتخذ شكل الكمثرى، وتخرق فيه ثقوب الصوت في نظام جميل. وكانت لوحة الأصابع فيه تقسم بنقوش من الفضة أو الشبة، وتنتهي بصندوق للأوتاد يصنع زاوية حادة مع عنقه. وكانت فتاة جميلة تجذب أوتار العود الذي تحنو عليه في حجرها فتتكون منه ومنها صورة جميلة يهوى إليها قلب كل إيطالي حساس وكان الكثير من الآلات الموسيقية التي يعزف عليها بالأصابع هي الأخرى محببة جميلة.

الوتريات

Hurdy-Gurdy

أما الذين يفضلون العزف بالوتر على العزف بالأصابع فكان لهم أنواع مختلفة من الكمان الذي يمسك على الذراع والذي يتكئ على الساق. وقد تطور النوع الثاني حتى أصبح هو الكمان الجهير واصبح الأول في عام 1540 هو الكمان الصغير.

آلات النفخ

Renaissance recorders

وكانت آلات النفخ أقل انتشاراً من الآلات الوترية، ذلك أن عصر النهضة كان يبغض الموسيقى التي تحدث بانتفاخ الخدود كما كان يبغضها ألقبيادس اليوناني؛ ومع هذا فقد وجد الناي، والفيف، والقربة، والبوق، والقرن، والصافرة والشون، والمزمار. وأضافت آلات الطرق- الطبلة، والدف، والصنوج، والطنبور والصنوج الصغيرة التي تستعملها الراقصات- أضافت هذه الآلات ضجيجها إلى العازفين والسامعين. وكانت جميع الآلات الموسيقية في عصر النهضة شرقية الأصل ماعدا لوحة المفاتيح التي أضيفت إلى غير الأرغن من الآلات للدق على الأوتار أو جذبها بطريقة غير مباشرة. وأقدم هذه الآلات ذات لوحات المفاتيح هو البيان البدائي المسمى كلافيكور Clavirchord (ومعنى كلافس هو المفتاح)؛ وقد ظهرت هذه الآلة في القرن الثاني عشر، وكان للعاطفة شأن في بعثها من جديد في أيام باخ Bach؛ وكانت أوتارها تدق بملامس نحاسية صغيرة تحركها المفاتيح. ثم حلت محلها في القرن السادس عشر آلة الكلافيتشمبالو Claviecembalo التي كانت أوتارها تجذب بريشة أو قطعة من الجلد متصلة برافعات خشبية ترتفع إذا ما ضغط على المفاتيح. وقد اتخذت هذه الآلة في إنجلترا وإيطاليا صورتين مختلفتين سميت في الأولى ڤيرجنال Viriginal وفي الثانية الاسبينت Spinet .

وكانت هذه الآلات كلها حتى ذلك الوقت أقل شأناً من الصوت الآدمي، ولذلك كان جميع الفنانين الفارهين في عصر النهضة مغنين. لكننا نسمع في وقت تعميد ألفنسو صاحب فيرارا في عام 1476 عن حفل في قصر اسكفانيو Schifanio كانت فيه حفلة موسيقية اشترك فيها مائة من النافخين في الأبواق والزمارين والضاربين على الطنبور. وفي القرن السادس استخدم مجلس السيادة في فلورنس فرقة منتظمة من الموسيقيين كان منها تشلينى. وكانت عدة آلات يعزف عليها في ذلك العهد مجتمعة، ولكن هذا النوع من الحفلات قد اختصت به القلة الأرستقراطية. أما العزف المفرد على الآلات فقد كان شائعاً إلى حد يشبه الجنون، فلم يكن الناس يؤمون الكنائس للصلاة على الدوام، بل كانوا يؤمونها في كثير من الأحيان ليستمعوا إلى عازف شهير على الأرغن مثل اسكوارتشيا لوبى أو أوركانيا Orcagna. ولما أن عزف بيتروبونو Pietro Bono على العود في بلاط يورسو بفيرازا طارت أرواح المستمعين، على حد قولهم، من هذه الدار إلى الدار الآخرة(110). وكان كبار العازفين من أسعد الناس وأحبهم إلى القلوب في تلك الايام، ولم يكونوا يطلبون لأنفسهم حسن السمعة ممن يخلفونهم بل كانوا يحصلون على كل ما يطمعون فيه الشهرة قبل مماتهم.

النظرية والنوتة

Ockeghem, Kyrie "Au travail suis," excerpt

أما النظريات في الموسيقى فقد تأخرت عن الاعمال بنحو جيل: ذلك أن العازفين كانوا يجددون، أما الأساتذة فكانوا يرفضون، ثم يجادلون، ثم يوافقون. وفي هذه الأثناء صيغت مبادئ الكرصته ، والنغمات المتعددة المشتركة، والتسلسل الموسيقي، لكي يسهل تعليم الموسيقى وانتقالها. لهذا لم تكن أعظم السمات الموسيقية في عصر النهضة هي النظريات، بل لم تكن التقدم الفني للموسيقى، بل كانت استحالتها من الصبغة الدينية إلى الصبغة الدنيوية، ولهذا لم تعد الموسيقى الدينية في القرن السادس عشر هي التي تقدمت، وأجريت عليها التجارب، بل كان الذي تقدم وجرب هو موسيقى القصائد الغزلية وموسيقى البلاط. ذلك أن الموسيقى الإيطالية في القرن السادس عشر خرجت من سيطرة الكنيسة كما خرج الأدب والفلسفة من هذه السيطرة، وانعكست عليها السمات الوثنية لفن النهضة وما كان فيها من انحلال خلقي، وأخذت الموسيقى تبحث عن إلهام لها في شعر الحب وانتهى النزاع القديم بين الدين والجنس إلى وقت ما بانتصار الحب. وذلك انقضى عصر العذراء وبدأ سلطان المرأة، ولكن الموسيقى في كليهما كانت خادمة الملكة والمؤتمرة بأمرها.

المؤلفون الموسيقيون في عصر النهضة - خط زمني

Orlando GibbonsMichael PraetoriusJohn CooperThomas CampionJohn DowlandCarlo GesualdoPhilippe RogierGiovanni GabrieliLuca MarenzioGiovanni de MacqueTomás Luis de VictoriaLuzzasco LuzzaschiWilliam ByrdGiaches de WertAndrea GabrieliOrlande de LassusClaude Le JeuneGiovanni Pierluigi da PalestrinaCipriano de RoreJacob Clemens non PapaClaude GoudimelPierre de ManchicourtHans NewsidlerThomas TallisChristopher TyeCristóbal de MoralesConstanzo FestaJohn TavernerAdrian WillaertThomas CrecquillonNicolas GombertClément JanequinPhilippe VerdelotAntoine BrumelAntonius DivitisAntoine de FévinMartin AgricolaPierre de La RueJean MoutonHeinrich IsaacJosquin des PrezJacob ObrechtAlexander AgricolaLoyset CompèreAntoine BusnoisWalter FryeJohannes OckeghemGuillaume DufayGilles BinchoisJohn DunstableLeonel PowerOswald von Wolkenstein

انظر أيضاً

الهامش

  1. ^ Macey, Grove, §8.

المراجع

  • Atlas, Allan W. Renaissance Music. New York: W.W. Norton, 1998. ISBN 0-393-97169-4
  • Baines, Anthony, ed. Musical Instruments Through the Ages. New York: Walker and Company, 1975.
  • Bent, Margaret. The Grammar of Early Music: Preconditions for Analysis. In Tonal Structures of Early Music, ed. Cristle Collins Judd. 1998. ISBN 0-8153-3638-1
  • Bessaraboff, Nicholas. Ancient European Musical Instruments. 1st. Cambridge, Mass: Harvard University Press, 1941.
  • Brown, Howard M. Music in the Renaissance. Englewood Cliffs, NJ: Prentice Hall, 1976. ISBN 0-13-608497-4
  • Fenlon, Iain (editor) (1989). The Renaissance: from the 1470s to the End of the 16th Century. Man & Music. Vol. 2. Englewood Cliffs, NJ: Prentice Hall. ISBN 978-0-13-773417-7. {{cite book}}: |first= has generic name (help)
  • Gleason, Harold and Becker, Warren. Music in the Middle Ages and Renaissance (Music Literature Outlines Series I). Bloomington, IN: Frangipani Press, 1986. ISBN 0-89917-034-X
  • Judd, Cristle Collins, ed. Tonal Structures of Early Music. New York: Garland Publishing, 1998. ISBN 0-8153-2388-3.
  • Reese, Gustav. Music in the Renaissance. New York: W.W. Norton, 1954. ISBN 0-393-09530-4
  • Munrow, David. Instruments of the Middle Ages and Renaissance. London: Oxford University Press, 1976.
  • Ongaro, Giulio. Music of the Renaissance. Westport, Connecticut: Greenwood Press, 2003.
  • Strunk, Oliver. Source Readings in Music History. New York: W.W. Norton, 1950.
  • Orpheon Foundation, Vienna, Austria


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وصلات خارجية

الأداء الحديث