مذكرات الفريق جمال الفيصل في الوحدة والانفصال - الجزء الثاني : مؤامرة الانفصال

العرض العسكري لجيوش الجمهورية العربية المتحدة - القاهرة ٢٣ تموز ١٩٥٩

كتب الفريق جمال الفيصل قائد الجيش الأول (السوري) للجمهورية العربية المتحدة :


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الانفصال

امتازت أشهر تموز وآب وأيلول من عام ١٩٦١ باضطراب الأحوال في دمشق للأسباب التالية:

- تذمر الوزراء المستقيلون وإطلاقهم لمختلف أنواع الشائعات التي تنتقد تصرفات المصريين.

- إصدار القوانين الاشتراكية.

- توحيد الوزارة ونقل الوزراء السوريين إلى القاهرة.

- نقل بعض ضباط المخابرات.

- سوء المواسم الزراعية الناتجة عن الجفاف الذي ضرب سورية في أعوام ١٩٥٨، ١٩٥٩ و ١٩٦٠.

- إغلاق أسواق السعودية والعراق في وجه المنتجات الصناعية السورية بسبب الخلافات السياسية.

- أدى نقص المواسم الزراعية إلى نقص وجود القطع النادر والذي كانت تحصل عليه سورية من بيع هذه المحاصيل. وبالتالي أدى ذلك إلى نقص السلع الضرورية المستوردة من الخارج في الأسواق. وبالنتيجة هبوط القيمة الشرائية لليرة السورية.

- إقبال المصريين على شراء السلع الضرورية المستوردة ونقلها من دمشق إلى القاهرة بسبب افتقار مصر لهذه السلع أيضاً.

- سوء تصرف بعض المسؤولين العسكريين المصريين التي أتيت على ذكرها سابقاً.

- نشاط العملاء الذين يعملون بوحي من الدول الغربية لإساءة سمعة الدولة وعبد الناصر.


كل هذه الأمور أدت إلى تعيين المشير عبد الحكيم عامر نائباً لرئيس الجمهورية في دمشق وإعطائه صلاحيات رئيس الجمهورية. وقد تعددت زيارات المشير لدمشق وباشر في معالجة الوضع على الشكل التالي:

الحد من سلطة رجال المخابرات وإغلاق بعض مكاتبهم.

محاولة إعطاء بعض التفسيرات الخيرة لقانون الإصلاح الزراعي في كل ما يتعلق بحصة أفراد العائلة الواحدة وخاصةً فيما يتعلق برجال العشائر.

الإسراع في صرف تعويضات الأسهم التي شملها قانون التأميم.

إصلاح الوضع في سورية بصورة عامة.


خلاف المشير عامر مع السراج

اعتقد وزير الداخلية السوري ورئيس المجلس التنفيذي عبد الحميد السراج أن مجيء المشير عامر إلى دمشق معناه سحب السلطة منه وتقليص صلاحياته وخاصةً بعد أن أبدى السراج معارضته لنقله من دمشق للقاهرة . وقام عبد الناصر باستدعائهما للقاهرة لحل الخلاف وأصر السراج على موقفه ثم عاد لدمشق وكان مستاءاً جداً من المعاملة التي لقيها بالقاهرة. فاجتمع بأعضاء الاتحاد القومي بدمشق وأعلمهم بنبأ استقالته لخلافه مع المشير وكأنه يريد منهم دعمهم في موقفه، إلا أن بعض من اجتمع بهم نقل إلى المشير أقوال السراج فاجتمع المشير أيضاً بأعضاء الاتحاد القومي وشرح موقفه. بعدها دعا الرئيس عبد الناصر السراج للسفر ثانيةً للقاهرة فسافر مع المشير بنفس الطائرة ولكن الرئيس فشل في إقناعه بتسوية الخلاف وأصر السراج على الاستقالة وعاد لدمشق. وأثناء وجود السراج في القاهرة للمرة الأولى بعد أن استدعاه الرئيس قدم أحد عناصر المخابرات الحربية تقريراً ذكر فيه أن السراج طلب من أحد ضباط المخابرات المدنية (تنفيذ المتفق عليه في حال عدم عودته من القاهرة)، وعندئذٍ حامت الشبهات حول عناصر مخابرات وزارة الداخلية وخاصةً العسكريين القدماء منهم فاستدعي بعضهم إلى دورة عسكرية تدريبية وأبعد البعض الآخر عن المخابرات كما تم نقل الأسلحة الموجودة في مستودعات وزارة الداخلية في دمشق ودير الزور. وكان هذا التقرير سبباً في عدم الاطمئنان إلى عناصر المخابرات واتهامهم للتحضير بالقيام بانقلاب عسكري.

أخبار عن انقلاب

الخبر الأول: ذكر لي المشير عامر في بيته أن الشيخ أحمد كفتارو أبلغه بأن المقدم مهيب الهندي قد طلب من الملازم موصلي الاشتراك معه بانقلاب وأن الملازم أقسم اليمين على القرآن بعدم إفشاء السر وقام باستشارة الشيخ كفتارو عن الطريقة التي يتحلل بها من قسمه . ثم أضاف المشير بأنه أوفد أحمد علوي والعقيد اسطمبولي رئيس المخابرات الحربية للتحقيق بالموضوع ، وأنه ينتظر عودتهما لمعرفة حقيقة الأمر . وبعد حوالي الساعة عاد الضابطان المذكوران وأعلما المشير بأن الموضوع لا يستحق الاهتمام ولا يوجد أي شيء مريب وأقول للحقيقة بأني صدمت من هذا التدبير.

الخبر الثاني: في منتصف شهر أيلول ١٩٦١ تلقى العقيد جاسم علوان هاتفاً من شخص مجهول طلب منه الانتباه للوائه ومراقبة ضباطه ، فقام العقيد جاسم علوان مع عدد من الضباط باستعراض أسماء ضباط اللواء ولم يرتابوا بأحد منهم (علماً بأن اللواء المذكور هو الذي قام بعملية الانفصال).

الخبر الثالث: تقدم اثنان من ضباط الطيران الحربي في الجيش الأول كلٍ بتقرير يتهم فيه أحدهما الآخر بالمشاركة بالتخطيط بانقلاب لإنهاء الوحدة . ولدى بحث التقريرين مع رئيس شعبة المخابرات الحربية العقيد محمد اسطنبولي اقترح العقيد تشكيل لجنة من ضباط شعبة المخابرات الحربية للتحقيق وقد حدث الانفصال قبل أن تتمكن اللجنة المذكورة من القيام بالتحقيق المطلوب.

الخبر الرابع: في أوائل شهر أيلول من عام ١٩٦١ قابلني في فندق بلودان في الساعة الرابعة مساءً السيد خالد العظم رئيس وزراء سورية الأسبق وأعلمني أن أكرم الحوراني قد اتصل معه بواسطة أحد أنصاره وأطلعه على عزمه على القيام بانقلاب عسكري وطلب منه الاشتراك به. ولكن السيد العظم أعلمه بأنه من مؤيدي الوحدة وأنه متأكد من أن إسرائيل ستهاجم سورية في اليوم الأول لحدوث انفصال . ثم سلمني طلباً يطلب فيه رفع الحجز عن بيته وعن أثاث بيته . وعند انتهاء المقابلة مباشرةً اتصل معي هاتفياً المقدم علي شفيق مرافق المشير عامر وأعلمني أن المشير يود مقابلتي، فذهبت لبيته في بلودان وأبلغته أني اجتمعت منذ برهة مع السيد العظم وأعلمته عما دار بيني وبينه. وبعد أسبوع أصدر الرئيس عبد الناصر أمراً برفع الحجز عن ممتلكات السيد العظم.

استنفار وحدات الجيش الأول

على إثر ورود الإخباريات عن احتمال وقوع انقلاب عسكري في دمشق أمر المشير عامر بحجز الوحدات العسكرية في ثكناتها واستنفارها ثم خفف الاستنفار إلى النصف بعد انقضاء الأسبوع الأول من الإخباريات ، كما أعيد النظر بتوزيع الضباط على القيادات وخاصة قيادات الوحدات المتمركزة في قطنا والقابون والقطيفة وقد تبين لرئيس شعبة المخابرات ولكاتم الأسرار أن توزيع الضباط يوحي بالثقة التامة وأن الوحدات المذكورة لا تشكل أي خطر على الوحدة وعلى العكس فإنها تشكل ضماناً للوحدة :

فاللواء ٧٢ للمشاة بقيادة العقيد جاسم علوان مضمون ويمكن الاعتماد عليه إلى أقصى الحدود (علماً بأن هذا اللواء هو الذي قام بتنفيذ الانفصال بقيادة رئيس أركان اللواء المقدم مهيب الهندي بينما كان العقيد جاسم علوان قائد اللواء يقضي أوقاته متنقلاً بين مكاتب قيادة الجيش).

اللواء ١٨ بقيادة حسين القاضي مضمون ويمكن الاعتماد عليه إلى أقصى الحدود (مع العلم أنه في صباح يوم الانفصال ٢٨ أيلول ١٩٦١ بينما كان اللواء ذاهباً إلى منطقة الضمير للقيام ببعض المناورات التقى برتل من سيارات الهجانة المصفحة بقيادة المقدم حيدر الكزبري قادماً إلى دمشق لتنفيذ عملية الانفصال وعند المقابلة بين حسين القاضي والكزبري اتفق الاثنان على أن يذهب كل منهما في حال سبيله واتفقا على القول بأنهما لم يتقابلا مطلقاً).

اللواء ٧٠ المدرع وهو بإمرة ضابط مصري بالوكالة ، لاسبيل للشك فيه (إلا أنه استسلم عند أول نداء وجه إليه يوم الانفصال).

كتائب المدفعية والمدفعية الصاروخية بإمرة قادة كتائب مصريين (لم يتمكنوا من السيطرة على جنودهم واستسلموا عندما طلب منهم الاستسلام يوم الانفصال).

سرية المراسم المكلفة بحراسة الأركان بقيادة أحد الضباط المتحمسين للوحدة كان مريضاً في مشفى المزة العسكري وعندما علم بخبر الانقلاب ترك المشفى وجاء إلى وحدته رغم مرضه وجرد جنوده من ذخيرة البنادق والرشاشات وتعاون مع الانفصاليين.

تنفيذ عملية الانفصال

في مساء يوم الأربعاء ٢٧ أيلول ١٩٦١ ذهبت إلى مكتبي كالمعتاد وقد حضر لزيارتي الوزيران طعمة العود الله وأحمد حنيدي وغادرا مكتبي في الساعة العاشرة مساءً وقد لاحظت في ذلك الوقت غياب المقدم عبد الكريم النحلاوي عن القيادة لأن من عادته أن يقدم لي معاملات لجنة شؤون الضباط مساء كل يوم، ولدى السؤال عنه علمت بأنه قام بزيارة الوزير جادو عز الدين في منزله.

الاستطلاع الجوي فوق اسرائيل

تم الاتفاق مع قيادة القوات الجوية على أن تقوم الطائرات العربية بعملية استطلاع جوي فوق المطارات الاسرائيلية والتقاط الصور الفوتوغرافية لتلك المطارات على أن تبدأ العملية من المطارات الموجودة في سيناء ومنطقة القنال ودمشق في الساعة الثالثة والعشرون من مساء يوم ٢٧ أيلول ١٩٦١ . وفعلاً قامت الطائرات بالوقت المحدد بالاستطلاع ثم عادت من مهمتها سالمة، وأبلغني قائد القوات الجوية السورية العقيد موفق عصاصة بنجاح عملية الاستطلاع في الساعة الرابعة والعشرون من اليوم المذكور. ثم ذهبت إلى بيت المشير وأعلمته بانتهاء عملية الاستطلاع ونجاحها. وهكذا بينما كنا نسهر الليالي للاستعداد للعمليات الحربية القادمة مع إسرائيل كان أعداء الوحدة يستعدون للقضاء عليها.

التنفيذ الفعلي للانفصال

ذهبت إلى منزلي في حي المزرعة بعد أن أبلغت المشير بنجاح عملية الاستطلاع في الساعة الواحدة من صباح يوم الخميس ٢٨ أيلول ١٩٦١ . وفي الساعة الثانية اتصل معي هاتفياً العقيد محمد اسطنبولي و أعلمني أن معسكر الفدائيين في حرستا تعرض لإطلاق النار من قبل بعض وحدات اللواء ٧٢ الذي يرأسه العقيد جاسم علوان وأن العقيد علوان موجود معه في مكتبه في قيادة الجيش . وفور سماعي للنبأ ارتديت ثيابي بسرعة وقدت سيارتي بنفسي إلى قيادة الجيش في ساحة الأمويين، وعند مدخل القيادة وجدت بانتظاري العقداء محمد اسطنبولي ، جاسم علوان وأحمد زكي وقد كرر العقيد اسطنبولي أقواله السابقة وأضاف عليها العقيد جاسم علوان بأنه قام بتفتيش لوائه في الساعة الثانية عشرة واستقبله رئيس أركانه المقدم مهيب الهندي وأن الوضع كان طبيعياً في اللواء وأنه حاول بعد وصوله لدمشق الاتصال مع المقدم مهيب الهندي أكثر من مرة ، وأخيراً اتصل معه وقال له المقدم مهيب: (إن كل شيء قد انتهى وعلى المصريين مغادرة دمشق وإننا نرفض الوحدة ونريد الاتحاد). وعندئذٍ اتضح لي بعض الأمور أهمها.

أن اللواء المميز ٧٢ الذي تحتفظ به القيادة لصيانة وحماية الوحدة هو الذي قام بضربها .

أن العقيد جاسم علوان كان غائب الفطنة بحيث أنه لم يلاحظ شيئاً مريباً عندما قام بزيارة لوائه قبل ساعتين من تنفيذ الانفصال مع أن اللواء في ذلك الوقت كان يستعد للحركة باتجاه دمشق وأنه كان في تلك الأثناء يتمون بالمحروقات والذخائر وتوزيع المهمات على كتائبه وتجهيز الدبابات بالمدخرات وهذه الأمور تستغرق مدة ثلاث ساعات على أقل تقدير .

أن العقيد محمد اسطنبولي رئيس شعبة المخابرات الحربية لم يتمكن من استجواب الضابطين الطيارين حول الانقلاب الذي ذكراه في تقريريهما رغم مضي ١٥ يوم.

لقد حدث ما توقعته فعلاً عندما طلبت من المشير عامر الموافقة على نقل العقيد محمد اسطنبولي من رئاسة شعبة المخابرات إلى مركز آخر لأن العقيد اسطمبولي على طيب عنصره غير قادر على إدارة شعبة المخابرات الحربية في وقت تتعرض فيه الجمهورية لاضطرابات داخلية. عندما أعلمني العقيد جاسم علوان أن المقدم مهيب الهندي مشترك بمؤامرة الانفصال اتجه تفكيري فوراً إلى المقدم عبد الكريم النحلاوي ورفاقه من الضباط. صعدت إلى مكتبي وباشرت باستدعاء ضباط القيادة من منازلهم وبعد فترة وجيزة حضر المشير عبد الحكيم عامر بعد أن تلقى نفس الهاتف الذي تلقيته من العقيد اسطنبولي واستمع إلى أقواله وأقوال جاسم علوان وأحمد زكي ثم أصدر أمره باستدعاء الوزراء العسكريين طعمة العود الله، جادو عز الدين، أحمد حنيدي، وأكرم ديري. وفي الساعة الثانية والنصف صباحاً انقطع الاتصال مع دوريات الشرطة العسكرية التي كانت تعمل على محوري دمشق-قطنا و دمشق-القابون-عدرا. وفي الساعة الثالثة والنصف وصلت وحدات حرس البادية إلى منزل المشير عامر وابتدأت بإطلاق النار الكثيف عليه. وفي هذه الأثناء حاولت الاتصال بالعقيد عواد الباغ رئيس أركان الجبهة ولم أتمكن من الاتصال بأي من ضباط قيادة الجبهة المكلفون بصيانة الحدود وحراستها. اتصلت بالعقيد رفعت خيري قائد لواء السويداء وأعلمته بنبأ الانقلاب العسكري وطلبت منه إرسال بعض وحداته لتحرير القيادة التي كانت قد حاصرتها دبابات اللواء ٧٢ فأجابني بأنه سينفذ الأمر فوراً. ولكني علمت بعد ذلك أنه كان يقوم باعتقال الضباط المصريين وبالتحضير لمساندة الانفصال في نفس الوقت الذي كان يعدني فيه بمساندة الوحدة والإبقاء عليها. في تمام الساعة الرابعة اتصل معي هاتفياً العقيد موفق عصاصة قائد القوات الجوية السورية وأعلمني أن بعض وحدات المشاة قد احتلت مطار المزة العسكري وعلمت بعد ذلك أنه كان يتفق مع الانفصاليين في نفس الوقت الذي كان يتصل فيه معي هاتفياً. في تمام الساعة الرابعة والنصف تم للانفصاليين محاصرة مبنى القيادة ومحطة الإذاعة والهاتف الآلي ومركز الشرطة العسكرية، كما قام المشير عامر بإرسال برقية إلى الرئيس عبد الناصر يعلمه فيها بنبأ الانقلاب ويطلب مساعدته. في تمام الساعة الخامسة صباحاً اجتمع ضباط الانفصال وطلبوا مقابلتي ، فذهبت لمقابلتهم عند مدخل القيادة الرئيسي وفوجئت عندما وجدت كل من العقيد موفق عصاصة ، العقيد محمد منصور الذي قدم من اللاذقية ، العقيد عبد الغني دهمان (قائد منطقة دمشق) ، المقدم حيدر الكزبري الذي كان من المفروض أن يكون في دير الزور لتفقد أحوال الثكنات الشرقية ودراسة إصلاحها وترميمها ، المقدم النحلاوي ، المقدم عبد ربه ، النقيب حناوي ، والمقدم زهير عقيلي. وعند مقابلتي حاولوا استمالتي إلى جانبهم وابتدروني بالقول : (نحن خدامك ونأتمر بامرك وأنت رئيسنا وقائدنا) ثم أخذ أحدهم طرف ردائي وقبله وقال : (نحن تلاميذك ونطلب منك استلام مقدرات البلد والتحكم فيها كيفما تشاء ولن نخالف لك أمراً). فأجبتهم بالحرف الواحد : (إنكم الآن تقومون بإشعال النار وسوف تحرقون أيديكم وتحرقون البلد معكم فما هي غايتكم ؟).

العقيد موفق عصاصة: (نريد تبديل الوحدة باتحاد يشترك فيه لبنان والأردن).

فأجبته إن الوحدة قائمة فلا تقوموا بتحطيمها وأن لبنان له وضع خاص ولا يمكن أن يشترك بأي اتحاد مع البلاد العربية وكذلك بالنسبة للأردن وأن هذا الأمر سياسي ويتعلق بالرئيس عبد الناصر.

العقيد عبد الغني دهمان: (نريد التخلص من المصريين).

فأجبته بأن التخلص من المصريين لايجب أن يكون سبباً لتحطيم الوحدة وأن الضباط المصريين أشخاص يصيبون ويخطئون كغيرهم، وهذا الأمر تسهل معالجته. ما المقدم عبد الكريم نحلاوي: (نريد إجراء بعض الإصلاحات ضمن الجيش وإن حركتنا عسكرية بحتة كما نطلب إعادة الذهب السوري الذي أخذه المصريون من البنك المركزي في دمشق).

فأجبته أنني لا أمانع في إجراء بعض الإصلاحات ضمن الجيش، أما الذهب فإنه لايزال موجوداً في صناديق البنك المركزي بدمشق.

المقدم زهير عقيلي: (إن الوضع الاقتصادي سيء جداً ونريد العمل على تحسينه والتخلص من الضباط المصريين).


ثم اختتمت الحديث ووعدتهم بنقل مطالبهم فوراً إلى المشير عبد الحكيم عامر. ولدى بحث الأمر مع المشير طلب مقابلة المقدم عبد الكريم نحلاوي مدير مكتبه في دمشق والذي يتمتع بثقته . وفي الحال طلبت منه الحضور ، فحضر بعد أن أخذ رفاقه ثلاثة ضباط مصريين كرهائن حتى عودته من مقابلة المشير. وعند دخول النحلاوي إلى مكتب المشير جردته من بندقيته واختلى مع المشير لنصف ساعة وبعد خروجه عاد الضباط الرهائن ، ثم طلب الضباط الانفصاليون مقابلتي للمرة الثانية. وتمت المقابلة في أحد مكاتب شعبة المخابرات في الطابق الأرضي من مبنى القيادة. وقبل مقابلتي لهم حاول السيد أكرم الديري التفاهم معهم لكنه فشل وعاد والدم يسيل من ساقه، وأعلمنا أن المقدم حيدر الكزبري أطلق عليه النار عندما انتهره قائلاً: (أنت آخر من يحق له أن يتكلم). وعند نزولي لمقابلة الضباط للمرة الثانية شاهدت الوزير السابق أمين النفوري والعقيد المتقاعد محمود بنيان كانا قد جاءا لاستطلاع جلية الأمر إلا أن المقدم النحلاوي طردهما.

اجتمعت مع ضباط الانفصال وكرروا أمامي أقوالهم السابقة ، واقترحت عليهم الاجتماع مع المشير عامر فوافقوا على مبدأ الاجتماع وأعلمتهم أني لن أسمح لهم مطلقاً بإساءة معاملته باعتباره من رموز الوحدة القائمة، ثم جردتهم من أسلحتهم وأعلمتهم أنهم سيمرون على جثتي قبل الإساءة له. ولدى اجتماعهم به تقدموا إليه بالمطالب التالية:


المطلب الأول: إعادة الذهب إلى صناديق البنك المركزي. فأجابهم المشير أن الذهب موجود فعلاً في صناديق البنك المركزي في دمشق وبإمكانهم التأكد من ذلك بتفقد صناديق البنك المذكور.

المطلب الثاني: استبدال الوحدة باتحاد تدخل فيه كافة الدول العربية وخاصة السعودية والأردن ولبنان . فأجابهم المشير بأن هذا حلم من أحلام الجمهورية العربية المتحدة ولكن الدول المذكورة لن توافق على ذلك. وعلى كل حال فإن هذا الأمر من اختصاص الرئيس عبد الناصر وبإمكانكم السفر إلى القاهرة على متن طائرة عسكرية خاصة وبحث الأمر معه، ولكن الانفصاليين تنازلوا عن مطلبهم هذا ولم يوافقوا على السفر إلى القاهرة.

المطلب الثالث: ترحيل الضباط الآتية أسماؤهم إلى القاهرة وهم : اللواء أنور القاضي (مصري)، العقيد أحمد زكي (مصري)، العقيد أحمد علوي (مصري)، العقيد محمد اسطنبولي (سوري). فوافق المشير على ترحيلهم وقد تم ترحيلهم فعلاً على طائرة سورية إلى القاهرة.

المطلب الرابع: ترحيل كافة الضباط المصريين الموجودين في سورية وإعادة الضباط السوريين الموجودين في مصر. فوافق المشير على هذا المطلب وكلفهم بتنفيذه على أساس أن الطائرة التي تقوم بنقل الضباط المصريين تعود إلى دمشق محملة بالضباط السوريين.

المطلب الخامس: تعديل لجنة الضباط . فوافق المشير على التعديل المطلوب وطلب منهم تعيين أسماء اللجنة التي يريدونها وفعلاً فقد تم تشكيل اللجنة المذكورة من قبل الضباط الانفصاليين وقام المشير بتوقيعها ثم قاموا بتوزيعها وتعميمها.

المطلب السادس: إجراء بعض التنقلات بين الضباط القادة في قيادة الجيش والأسلحة والوحدات الأخرى . فأجابهم المشير بأنه يوافق على التعديلات والتنقلات التي يريدونها وفعلاً فقد تم تنظيم قائمة بالتنقلات المطلوبة وضعها الضباظ الانفصاليون ومهرها المشير بتوقيعه ثم قاموا بتعميمها وتنفيذها.


وفي نهاية الاجتماع تم الاتفاق على الأمور التالية:

أولاً:إعلان الاتفاق من قبل الانفصاليين بإصدار البلاغ رقم ٩ الذي قمت بوضع كلماته.

ثانياً: أن يقوم الانفصاليون بفك الحصار عن القيادة وسحب الدبابات والمصفحات وإعادتها إلى معسكراتها.

ثالثاً: أن يقوم المشير عبد الحكيم عامر أو الفريق جمال فيصل بإلقاء البيان رقم ١٠ الذي يعلن انتهاء الخلاف وعودة الأمور إلى مجراها الطبيعي.

رابعاً: أن تقوم وحدات دمشق العسكرية بعرض عسكري في اليوم التالي ٢٩ أيلول ١٩٦١ للبرهنة على إنهاء الاختلاف وبيان تماسك وحدة الجيش.

وبذلك يكون الاختلاف قد انتهى بصورة نظرية، وقد باشرت فعلاً بتحضير نص البيان رقم ١٠ المفروض إذاعته بعد انسحاب الوحدات إلى مراكزها.

وبعد أن تم الاتفاق مع الانفصاليين على كافة الأمور العسكرية اتصل معي هاتفياً الرئيس عبد الناصر وأوصاني بالمشير خيراً ، كما أعلمني أنه يعتمد علي اعتماداً كلياً لحل الأزمة والمحافظة على سلامة المشير. ثم اتصل بالمشير الذي أعلمه بأن الأمور في طريق الحل والتسوية وأنه في طريق التفاهم مع الضباط الانفصاليين لإيجاد مخرج للأزمة. وفي تلك الأثناء اتصل معي العميد حكمت الداية من حلب وأعلمني أنه يؤيد القيادة الوحدوية وأنه لا يعترف بالانفصاليين وكذلك كان موقف العقيد ماجد ماميش.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البلاغ رقم ٩

تمت إذاعة البلاغ رقم ٩ بعد أن قام الانفصاليون بإجراء بعض التعديلات عليه على الشكل التالي

(إن القيادة العربية الثورية للقوات المسلحة التي دفعها الشعور بالخوف على وحدة الصف العربي وحماسها للقومية العربية وتأييدها لها ودفاعاً عن مقوماتها تعلن للشعب العربي الكريم أنها لاتنوي المس بما أحرزته القومية العربية من انتصارات وتعلن أنها لمست عناصر انتهازية مخربة تريد الإساءة لقوميتنا فقامت بحركتها المباركة تلبيةً لرغبة الشعب العربي وآماله وأهدافه ، وأنها عرضت قضايا الجيش على سيادة المشير نائب الرئيس والقائد العام للقوات المسلحة الذي تفهم أمور الجيش على حقيقتها واتخذ الإجراءات المناسبة لحلها لصالح وحدة القوات المسلحة والجمهورية العربية المتحدة. وقد عادت الأمور العسكرية إلى مجراها الطبيعي اعتماداً على ثقتها بحكمة القائد العام للقوات المسلحة وقائد الجيش الأول الذين يحققان أهداف القوات المسلحة والجمهورية العربية المتحدة)

نتائج إذاعة البلاغ رقم ٩

أولاً: على الصعيد العسكري

عندما أذيع البلاغ رقم ٩ اعترض عليه بعض الضباط الانفصاليين الذين لم ترق لهم تسوية الأمور والإبقاء على حكومة الوحدة ، فاتصلوا برفاقهم الذين اتفقوا مع المشير وطلبوا منهم إلغاء البلاغ رقم ٩ والسير بعملية الانفصال حتى النهاية وقد حدثني العميد فيصل سري الحسيني بأن المقدم مهيب الهندي اتصل من معسكر قطنا بالمقدم عبد الكريم النحلاوي في قيادة الجيش وطلب منه إلغاء الاتفاق وتنفيذ عملية الانفصال وهدده بالزحف على دمشق وتقويض مبنى القيادة على رؤوس الضباط الذين يحاولون الاتفاق مع المشير. وهكذا تراجع الانفصاليون عن الاتفاق الذي تم معهم وامتنعوا عن سحب الدبابات المحاصرة للقيادة وإعادتها إلى معسكراتها، وبالعكس فقد دخلت بعض مصفحات قوى البادية إلى الساحة الداخلية لمبنى القيادة. ثم امتنعت والمشير عامر عن إذاعة البيان رقم ١٠ بإنهاء حالة التمرد ، وهكذا فقد عادت الأمور إلى ماكانت عليها في الصباح قبل الاتفاق على حل الموضوع وتأزم الموقف من جديد. وعندها طلب العقيد موفق عصاصة بلسان رفاقه تسفير الوزراء العسكريين أكرم ديري ، جادو عز الدين ، طعمة العودالله ، وأحمد حنيدي للقاهرة فوافق المشير على سفرهم وسافروا فعلاً على طائرة عسكرية خاصة.

ثانياً: على الصعيد المدني:

عند إذاعة البلاغ الأول الذي أذاعه الانفصاليون من محطة إذاعة دمشق قامت في دمشق بعض المظاهرات الهزيلة المنظمة تهتف هتافات معادية للوحدة. أما بعد إذاعة البلاغ رقم ٩ فقد عمت مظاهرات الفرح والابتهاج كافة شوارع دمشق واتجهت باتجاه قيادة الجيش الأول لتعبر عن بهجتها وسرورها بإنهاء الخلاف وتسوية الأمور ، إلا أن الانفصاليين منعوها من الوصول إلى مبنى القيادة بعد أن اتفقوا على المضي بعملية الانفصال وإلغاء اتفاقهم مع المشير.

السفر إلى القاهرة

عندما قرر الانفصاليون إلغاء اتفاقهم مع المشير ذهبت إلى مكتبي ووقفت فيه برهة وجيزة من الزمن وسألت الله أن يلهمني إلى سلوك الطريق السوي وعندها غمرتني موجة من ارتياح الضمير والاطمئنان النفسي وقررت البقاء على موقفي المؤيد للوحدة ومساندة المشير حتى يصل سالماً إلى أهله. ثم دخلت إلى مكتب المشير وبقيت لجانبه إلى أن دخل العقيد عصاصة وطلب من المشير السفر للقاهرة كما دخل العقيد محمد منصور وطلب مني البقاء في دمشق ثم تبعه اللواء عبد الكريم زهر الدين (وقد ظهر للمرة الأولى) وطلب مني بإلحاح البقاء في دمشق واستلام البلد بصورة تامة والتصرف بمقدراتها، وأعلمني بأن الضباط الانفصاليين يطلبون عدم سفري للقاهرة وعندها أجبته : (يا عبد الكريم لقد أقسمت يمين الولاء للجمهورية العربية المتحدة وسأبر بقسمي وإن الرجال تعرف بمواقفها الحاسمة في الفترات الحرجة من حياتها، وإن العمل الذي قام به الضباط الانفصاليون سيكون له نتائج سيئة جداً على مستقبل الأمة العربية تفوق نتائج حروب المغول وتحطيم الخلافة العباسية كما تفوق نتائج الحروب الصليبية. وإنكم بعملكم الذي قمتم به اليوم قد حطمتم الوحدة العربية وقضيتم عليها لفترة طويلة من الزمن لا يعلم إلا الله مدتها).

وعند ذلك ذهبت إلى مطار المزة مع المشير عامر يرافقنا اللواء عبد الكريم زهر الدين والعقيد موفق عصاصة . وفي المطار وقبل إقلاع الطائرة طلب مني اللواء زهر الدين عدم السفر والبقاء في دمشق ، ولكني رفضت طلبه ودخلت الطائرة. وعند إقلاع الطائرة نظرت إلى غوطة دمشق وتألمت لأن ضباط الانفصال حطموا الوحدة تلبيةً لنزعات شخصية ونزوات فردية تحقيقاً لأطماع مادية سعى إليها بعض أبناء هذا البلد المجاهد المناضل.

تكريس الانفصال

مقابلة الرئيس عبد الناصر يوم الانفصال

ذهبت والمشير عامر من مطار القاهرة إلى منزل الرئيس عبد الناصر في منشية البكري وقام المشير بإطراء موقفي وحدث الرئيس عن تفاصيل ما جرى ومساندتي له وشكرني الرئيس على موقفي الشريف.

وفي اليوم التالي للانفصال أي صباح يوم الجمعة ١٩٦٢/٩/٢٩ أبلغني القصر الجمهوري بدعوة الرئيس لي لحضور الاجتماع الشعبي الذي سيقام في الساعة الثالثة بعد الظهر وقد حضره نواب الرئيس والوزراء وأكثر من نصف مليون مواطن مصري وألقى الرئيس كلمة شرح فيها أحداث يوم الانفصال الأسود.

بقيت في القاهرة مدة ثلاثة أشهر وقابلت فيها المشير عامر عدة مرات لأسباب مختلفة منها معالجة قضية وفد الضباط الانفصاليين الذي جاء إلى القاهرة.

وفد ضباط الانفصال إلى القاهرة

بعد مضي ما يقرب من شهر على قيام الانفصال وصل إلى القاهرة وفد عسكري مؤلف من ثلاثة ضباط برئاسة العقيد الطيار زهير عقيل. وقد جاء الضابط المذكور لزيارتي في منزلي وطلب مني التوسط لدى المشير لتسوية الأمور التالية:

١- وقف المهاترات الإذاعية بين مصر وسوريا.

٢- إعادة تسيير البريد والخدمات البرقية.

٣- إعادة تسيير الطيران التجاري بين القاهرة ودمشق.

وقد قمت بإبلاغ المشير عامر هذه المطالب فرفض البحث فيها إطلاقاً كما رفض استقبال أعضاء الوفد.

تكريس الانفصال في دمشق

في اليوم التالي ليوم الانفصال أعلن عن تشكيل وزارة سورية انفصالية برئاسة السيد مأمون الكزبري ذو الميول الأمريكية ورئيس مجلس نيابي سابق في عهد الشيشكلي. تظاهرت هذه الوزارة بالدعوة لقيام وحدة بينما كانت تعمل على تعميق جذور الانفصال ، وكان من أولى الأعمال التي قامت بها حكومة الكزبري :

-إصدار قانون بتشكيل المجلس العدلي لمحاكمة الوحدويين السوريين . وللمجلس العدلي تاريخ بغيض في سوريا حيث شكله الفرنسيون لمحاكمة الوطنيين السوريين وقمع الحركات الوطنية.

-توقيع مرسوم بإحالتي على التقاعد اعتباراً من يوم ١٩٦١/٩/٢٩.

وعند قيام دولة الانفصال تم الاتصال بالرئيس السابق السيد شكري القوتلي الذي كان يستشفي في سويسرا وطلب منه تأييد الانفصال فأيده وقد أسفت لهذا الموقف منه. كما تداعى السياسيون القدامى إلى عقد اجتماع لهم في دمشق وعقد الاجتماع في منزل السيد أحمد الشرباتي وزير دفاع أسبق وبنتيجة الاجتماع أصدروا بياناً أيدوا فيه الانفصال وأرسوا قواعده تقرباً من الضباط الانفصاليين وقد وقع على وثيقة الاجتماع كل من: أحمد قنبر، رشاد جبري، سهيل الخوري، هاني السباعي (من حزب الشعب)، أسعد هارون، حسن مراد، صبري العسلي، محمد العايش، نجيب الأرمنازي (من الحزب الوطني)، أكرم الحوراني ،صلاح الدين البيطار (من حزب البعث)، بشير العظمة (شيوعي)، فؤاد قدري، حامد الخوجة (عشائر)، أحمد الشرباتي، خالد العظم (مستقلين).

وقد أسفت كثيراً عندما علمت بأن السيد صلاح الدين البيطار وقع على وثيقة كهذه.

من هو مأمون الكزبري

مأمون الكزبري محامٍ درس المحاماة في فرنسا واحترف السياسة فعين رئيساً للمجلس النيابي السوري خلال فترة حكم الشيشكلي ثم وزيراً للعدل خلال فترة حكم التجمع التي سبقت قيام الوحدة السورية المصرية. ورد اسمه في التقرير الذي رفعه علي عبد الكريم الدباح الدندشي والتقرير المذكور يتألف من ٧٠ صفحة يذكر فيه كاتبه كافة المؤامرات الأمريكية للتدخل في شؤون سوريا الداخلية وأحداث الانقلابات العسكرية فيها وأسماء السوريين المشتركين فيها وأدوارهم التي قاموا بها والمبالغ التي قبضوها.


تسفير الضباط المصريين من دمشق والسوريين من القاهرة

قامت جامعة الدول العربية بتنظيم عمليات سفر الضباط المصريين والسوريين ، وقد جرت عملية النقل بواسطة بواخر مصرية انتقلت بين بيروت والاسكندرية حملت الضباط وعائلاتهم وحوائجهم المنزلية ومفروشاتهم . وقد عومل الضباط السوريين معاملة حسنة خلال أيام السفر، أما الضباط المصريين فقد عوملوا في دمشق معاملة سيئة حيث جرى تجميعهم واعتقالهم في أبنية معرض دمشق الدولي وقد أطلعني المشير عامر على بعض الصور المسيئة التي أخذت للضباط المصريين في مراكز تجميعهم.

المقابلة الأخيرة مع الرئيس عبد الناصر والسفر إلى سوريا

في الأيام الأخيرة من كانون الأول ١٩٦١ اتصل معي هاتفياً المقدم علي شفيق وأعلمني أن الرئيس عبد الناصر ينتظرني في منزله بمنشية البكري. و في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي رحب بي واستقبلني اسقبالاً ودياً واعتذر عن عدم مقابلته لي خلال مدة وجودي في القاهرة لأشغاله الكثيرة التي نتجت عن الانفصال. وقد ختم حديثه قائلاً بالحرف الواحد: (لن أنسى ما حييت موقفك في يوم الانفصال وإني أقف معك في كل وقت وأينما كنت). وعندها شكرته واستأذنته بالعودة إلى سوريا فقال لي: (إني أضع تحت تصرفك الوظيفة التي تريدها سواءً كانت عسكرية أو مدنية)، لكني اعتذرت عن ذلك وأنبأته بعزمي على العودة إلى سوريا وودعني إلى باب بيته. وفي أوائل كانون الثاني ١٩٦٢ قابلت المشير عامر في منزله بحي الزيتون وأعلمته بعزمي العودة إلى سوريا فظهرت عليه علامات الاستياء ثم وافق على عودتي. ويوم ١٩٦٢/١/٥ أعلمت الوزراء السوريين السابقين الموجودين بالقاهرة بنبأ سفري إلى دمشق ورافقني إلى المطار السيدان أحمد حنيدي وجمال الصوفي وعند وصولي إلى مطار الماظة الحربي وجدت في وداعي الفريق علي عامر رئيس أركان القوات المصرية والفريق جمال عفيفي نائب قائد القوات الجوية والرائد شمس بدران مدير مكتب المشير والمقدم علي شفيق مرافق المشير. وتم تجهيز الطائرة الخاصة بالمشير التي هبطت في بيروت حيث استقبلني اللواء شميط رئيس الأركان اللبناني في وزارة الدفاع اللبنانية وكنت على معرفة سابقة به ، ومن مكتبه اتصلت هاتفياً باللواء نامق كمال رئيس الأركان السوري وأعلمته أني عائد لدمشق فأرسل سيارة أقلتني وكان فيها الملازم أول حناوي أحد تلاميذي السابقين.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تشكيل حكومة الانفصال للمجلس العدلي

بدأ الانفصاليون بمهاجمة حكم الوحدة والتشهير بالرئيس عبد الناصر، وكان من جملة أعمال التشهير إحداث مجلس عدلي لمحاكمة مؤيدي الوحدة وتحويل المحاكمات إلى منبر للخطابة لانتقاد الرئيس عبد الناصر وتجريحه عن طريق محاكمة الوحدويين. وللمجلس العدلي في سوريا تاريخ أسود لأن المفوض السامي الفرنسي كان يشكله للانتقام من رجال سوريا الوطنيين أيام حكم الانتداب الفرنسي على سوريا. تشكل المجلس العدلي وأعطى صلاحيات إصدار الأحكام المبرمة دون اتباع أي طريق من الطرق التي تحتمها أصول المحاكمات، وقد قدمت إلى المجلس المذكور دعاوي كثيرة منها ما أقيم علي بصفتي قائداً للجيش الأول قد ردت واعتبرت باطلة بعد أن ثبتت قانونية الإجراءات التي اتخذت بحق مقيميها.

الدعاوى المقدمة للمجلس العدلي ضد قائد الجيش الأول

كان من المألوف أن يقوم رؤساء الأركان منذ عهد حسني الزعيم بتوقيف الأشخاص الذين يعارضون سياستهم في سجن المزة العسكري ، إلا أنني امتنعت خلال فترة قيادتي للجيش عن توقيع أوامر التوقيف كما منعت الشعبة الثانية من توقيف الأشخاص دون محاكمة. ومن ثم فقد أنيط أمر التوقيف بوزير الداخلية بناءً على تفويض من رئيس الجمهورية وفقاً لأحكام قانون الطوارئ. كما أنني قد خولت صلاحية التوقيف في منطقة الجبهة وفقاً للقانون المذكور، إلا أنني لم أستعمل صلاحيتي هذه مطلقاً. أما التوقيفات التي كانت تتم في سجن المزة العسكري فقد اتفقت مع وزير الداخلية على أن يرفق كل مذكرة توقيف بكتاب يبين فيه أن التوقيف قد تم يناءً على أمره ووفقاً لقانون الطوارئ. وكان لهذا التدبير الأثر القانوني الكبير عندما أقيمت دعاوى التوقيف غير القانوني وحجز الحريات على قائد الجيش الأول بعد الانفصال. ونتيجة التحقيق القضائي الذي قام به قضاة المجلس العدلي تقرر عدم مسؤوليتي عن التوقيفات المذكورة.


نهاية الجزء الثاني.


الجزء الأول من مذكرات الفريق جمال الفيصل في الوحدة والانفصال على الرابط التالي :


مذكرات الفريق جمال الفيصل في الوحدة والانفصال - الجزء الأول : قيادة الجيش الأول للجمهورية العربية المتحدة