عذاب ساكو وڤانزِتي

تفصيلة من "عذاب ساكو وڤانزِتي" (فسيفساء 1967)، جامعة سيراكيوز، سيراكيوز، نيويورك

من المؤكد ان الفنانين الأمريكان لم ينتظروا ثلاثينات القرن العشرين والإنهيار الاقتصادي الكبير الذي حدث عند بداياتها مخلفاً فقراً واحتجاجات اجتماعية ورعباً كبيراً، كي يدركوا أن الحلم الأمريكي كان حلماً كاذباً، وأنه كان من شأنه ان يتحول في أية لحظة الى كابوس. فمنذ بداية القرن العشرين ادرك الفنانون والكتاب الأكثر وعياً أن ثمة ما ليس على ما يرام في ملكوت ذلك الحلم. ولاحقاً إذ حدث الانهيار، تحوّل رصد المساوئ الى تحليل لها، وارتفع صراخ الفن غضباً واحتجاجاً، وصار ما كان وقفاً على الفئة الأكثر وعياً من ضروب الاحتجاج الاجتماعي، سمة عامة، فاستشرى المسرح التحريضي وقام الفن بدوره الناقد، وكثرت التجمعات والتيارات، الى درجة يمكن ان يقال معها ان كل ضروب فنون الواقعية والواقعية الاشتراكية الستالينية التي هيمنت على العقل السوفيتي في تلك المرحلة، راحت تبدو أشبه بلعبة اطفال مقارنة بخط التسييس الاجتماعي والاحتجاج الأمريكي، وعلى الأقل بفعل الحرية والتجريبية، المطلقة في بعض الأحيان، التي راحت تتسم بها تلك الفنون فارضة حضورتها بقوتها الخاصة لا بقوة الأيديولوجيا التي تعبّر عنها.[1]

"عذاب ساكو وڤانزِتي" (فسيفساء 1967)، جامعة سيراكيوز، سيراكيوز، نيويورك

ففي ذلك الحين، اي بعد الإنهيار الاقتصادي الكبير، لم يكتف الفنانون والرسامون بأن يلتفتوا الى الواقع الذي آل إليه الحلم الأمريكي، بل راحوا يتسقطون كذلك أخبار الماضي... مركّزين منه في شكل خاص على ما كان يعتبر في ذلك الحين ماضياً قريبا. ولم يكن ثمة، في ذلك الحين في طول الولايات المتحدة الأمريكية وعرضها، ما هو اقرب الى الأذهان وأشد إيلاماً لشرائح عديدة من الناس ولا سيما لطبقة المثقفين بشكل خاص، من إعدام المهاجرين الإيطاليين ساكو وڤانزِتي. فإعدام هذين، ظلماً وافتراء - في رأي كثر من الأمريكان - كان حدث في عام 1927. ومن حوله كانت تجابهت عقليتان ونظرتان الى أمريكا والى الأمور بصورة عامة، ما جعل من ذلك الحدث الكبير معادلاً أمريكياً لقضية درايفوس الفرنسية، التي كانت شغلت فرنسا كلها قبل ذلك بنحو ثلث قرن. ومن هنا إذا كان نوع معيّن من الفن الأمريكي قد وجد لزاماً عليه ان يبحث عن مواضيع احتجاجية له، في ثنايا التاريخ الأمريكي الراهن... فإن قضية ساكو وڤانزِتي كانت هناك في الإنتظار. ولقد كان الرسام بن شان، واحداً من كبار الفنانين الأمريكان الذين عبّروا في فنهم عن ذلك الحدث، ضمن منطق احتجاجي سياسي واضح. ولم يكن صدفة ان بن شان نفسه رسم ايضاً لوحة جدارية كبيرة كرسها لقضية درايفوس الفرنسية.

وقبل الحديث عن لوحة بن شان، قد يكون من المفيد أن نذكر أن نيقولا ساكو (1891- 1927) وبرتولومو ڤانزِتي (1888- 1927) هما عاملان من اصول ايطالية كانا هاجرا باكراً الى الولايات المتحدة، فانخرط اولهما في التيارات الاشتراكية ثم الفوضوية بعد ان كان جمهوري النزعة اول الأمر، في ما عانق الثاني الأفكار اليسارية باكراً... ولقد وُجّه الإتهام الى الاثنين في العام 1920 بقتل موظفين في شركة كانا يعملان فيها. واستمرت محاكمتهما طوال ما يقرب من ثماني سنوات، تراكمت خلالها شهادات لصالحهما تبرئهما من التهمة. لكن السلطات كانت في حاجة الى كبش محرقة، والى توجيه الإتهام الى أناس معروفين بنزعتهم الإشتراكية لزرع الخوف من «الخطر الأحمر» في البلاد. وهكذا، على رغم الإحتجاجات المحلية والعالمية، وعلى رغم ان كل القرائن لم تثبت أبداً ارتكاب ساكو وڤانزِتي الجريمة، تم اعدامهما يوم 22 آب (اغسطس) 1927، وسط تظاهرات احتجاج عمت العالم كله. ولقد رأى رهط كبير من الفنانين والمفكرين والسياسيين الأمريكان في ذلك الإعدام عاراً ما بعده عار طاول العقلية الأمريكية وبالتالي الحلم الأمريكي كله. وكان بن شان، من هؤلاء، اذ كرس للحادث في العامين 1931- 1932 واحدة من اقوى اللوحات التي انتجها الفن الأمريكي في ذلك الحين، وأطلق عليها اسم «عذابات ساكو وڤانزِتي».

قسم بن شان لوحته الى ثلاثة اقسام، ليجعلها اشبه بسجل تاريخي لما حدث. في القسم الأول الذي يشغل الثلث الأيمن من اللوحة صور الرسام عمالاً ومناضلين يتظاهرون محتجين على حكم الإعدام، بل على المحاكمة من اساسها، وقد حرص على ان تكون للعمال المحتجين سمات المتهمين انفسهما. وفي القسم الثاني الذي يتوسط اللوحة صوّر بن شان، حاكم ولاية ماساشوستس آلفن فولر، على شكل قزم ضئيل، يشير بيده معلنا رفضه تأجيل تنفيذ حكم الإعدام، وإلى جانبه المتهمان ساكو وڤانزِتي يقفان كعملاقين بالمقارنة معه، والكبرياء يملأ وجهيهما. اما في القسم الثالث والأخير من اللوحة، وهو الذي يشغل جانبها الأيسر، فنجدنا وقد تم تنفيذ الحكم، أمام تابوتين يضمان رفات العاملَيْن، وهما محاطان بأعضاء ما سمي يومها «لجنة الأعيان»، المؤلفة من قاضٍ ورئيس جامعة هارڤرد، ورئيس معهد مساتشوستس للتكنولوجيا. إنهم هنا يقفون من دون حراك. ولكن الندم يبدو واضحاً فوق وجوههم، إذ انهم كانوا قبل ذلك قد كلفوا من قبل السلطات بالتحقق من عدالة المحاكمة وصواب الحكم بالإعدام... فاستنتجوا بأن «كل شيء يجري على ما يرام» موافقين في طريقهم على حكم الإعدام بالكرسي الكهربائي. والحال ان هؤلاء الثلاثة هم في نظر بن شان، كما في نظر كل الذين تابعوا القضية، المسؤولون الحقيقيون إذ كان في إمكانهم ان يقلبوا المعادلة لكنهم لم يفعلوا، ولم يتأثروا لا بالضغوطات العالمية ولا بنداء الضمير مع علمهم ان المتهمين انما هما ضحيتان لفزع أمريكي عام لا أكثر. اما العنصر الأخير في هذا القسم من اللوحة فهو القاضي وبستر تاير، الذي ظل طوال السنوات الفاصلة بين حدوث الجريمة ولحظة الإعدام مصراً على انه لن يقبل ابداً بإعادة المحاكمة مهما كانت الظروف.

بالنسبة الى العقل الأمريكي الحر والتقدمي، كان من الواضح ان في الأمر كله ظلماً كبيراً، إذ حتى لو كان ساكو وڤانزِتي قاتلين، فإنه لم يكن ثمة ما يبرر ذلك الحكم الأقصى الذي صدر عليهما. وفي الحقيقة، وأيضاً بالنسبة الى ذلك العقل الأمريكي الحر، كان الأمر في النهاية موقفاً سياسياً واضحاً سرعان ما تجاوز حكاية إعدام الرجلين ليغوص في وضعية أمريكا نفسها، في تساؤل يعيد النظر في عدد كبير من المسلمات.

وبن شان قال بنفسه، تعقيباً على تحقيقه لهذه اللوحة التي اضحت في ذلك الحين، واحدة من اشهر اعمال الفن الاحتجاجي الأمريكي: «لقد وجدت ذات يوم ان عليّ ان أفكر حقاً بقضية ساكو وڤانزِتي. وأنا، بمقدار ما تعود بي الذاكرة الى الوراء، أذكر انني كنت دائماً احب ان أكون محظوظاً بما يكفي لكي اعيش أزماناً كبيرة في حياتي... أزماناً تحدث فيها امور ضخمة... وهكذا حين حلّت قضية ساكو وڤانزِتي أدركت فجأة ان ثمة هنا موضوعاً يمكن لي ان ارسمه». والحال ان لوحة «عذاب ساكو وڤانزِتي» كانت واحدة من اولى اللوحات السياسية الاحتجاجية التي رسمها بن شان... بل انه عاود رسمها مرات ومرات، وحتى العام 1967، قبل وفاته بعامين.

وقبل رسم هذه اللوحة، وبضعة لوحات اخرى من الطينة نفسها من بينها لوحة درايفوس التاي أشرنا اليها، كان بن شان المولود في لتوانيا عام 1898، والمهاجر الى أمريكا حين كان في الثامنة، كان متخصصاً في طباعة الرسوم... ولم يبرز كرسام إلا عند بداية سنوات الثلاثين، بالتواكب مع اهتماماته السياسية والاجتماعية. ولقد قاده هذا الى التعاون مع الرسام المكسيكي دييگو ريڤيرا، حين أقام هذا في الولايات المتحدة محققاً فيها عدداً من الجداريات. بعد ذلك كُلّف بن شان وحده بتحقيق جداريات عدة، صار اسمه من بعدها معروفاً على نطاق واسع. لكن اهتمامه لم يقتصر على الرسم بل اهتم بالكتابة النقدية. وخلال فترة من الزمن تولى كذلك تدريس الشعر في جامعة هارڤرد. وهو رحل عن عالمنا في العام 1969 عن عمر يتجاوز السبعين معتبراً واحداً من كبار الفنانين الأمريكان في القرن العشرين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الهامش

  1. ^ ابراهيم العريس (2014-09-04). "«عذاب ساكو وڤانزِتي» لبن شان: فن مشاكس لدحض الحلم الأمريكي". صحيفة الحياة اللبنانية.