طبقات الأمم

طبقات الأمم لصاعد الأندلسي.

راجت في الأزمنة القديمة محاولات عدّة لتفسير طبائع البشر وفقا لتغيرات المناخ، ويعد صاعد الأندلسي (1029 م - 1070 م ) أول مفكر عربي قام ببلورة هذه الفكرة.

وكان الفيلسوف الإغريقي أرسطو أول من ربط بين الإنسان والطبيعة على أساس أن الأول ابن للثانية، فتكررّت منذ ذلك الحين مقولة مفادها أن الإنسان إبن بيئته وغالبًا ما تُعرض كموضوع للإنشاء في صفوف المرحلة الثانوية في مدارس العالم العربي.

وقد خلص ابن صاعد في كتابه «طبقات الأمم» إلى نتيجة مفادها أن أثر المناخ يفعل عميقًا ليس في طبائع البشر فحسب، بل أيضاً في أذهانهم. بمعنى أن تأثيرات المناخ تتعدّى مسائل المزاج الفردي أو الجماعي وتطول أنماط تفكيرهم واستعداداتهم الذهنية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تقسيـم الأمم

كان صاعد الأندلسي قاضيًا ومفكرًا، ومن المعروف أنه تتلمذ، في شبابه، على يد الفيلسوف ابن حزم. لذلك نلاحظ أنه جريء في تقديم الرؤية التي تميّز بها لاحقاً والتي تقول بأثر المناخ في أنماط وأشكال التفكير والإنتاج العلمي.

فهو يعتبر أن المناخ المعتدل هو الذي احتضن، على مرّ العصور، الحضارات العظيمة ذات الإنجازات الخلاقة. أما الأقاليم المتطرفة مناخيًا إذا جاز التعبير، أي الحارة جدًا، أو الباردة جدًا، فلم تشهد حضارات عظيمة ولا إنجازات علمية تستحق الذكر، وفق رأيه.

لذلك يقول صاعد إن الأمم المتقدّمة تقع كلها، تاريخياً، في بلدان تمتاز بمناخها المعتدل، ويحصرها في ثماني أمم هي: «الهند والفرس والكلدانيون والعبرانيون واليونانيون والروم وأهل مصر والعرب».

أما الأمم غير المتقدّمة على مستوى إنتاجها العلمي والحضاري، وفق ما يقول، «فبقية الأمم بعدما ذكرنا».

لماذا يحصر صاعد الأمم ضمن هذا التوزيع التفاضلي الذي قد لا نوافق عليه تماماً اليوم؟

لابد من الإشارة بادئ الأمر إلى أن صاعد الأندلسي ينطلق، في بناء أطروحته هذه، من معارف عصره. إذ إن إنجازات الصين واليابان، العريقة والمؤكدة اليوم، لم تكن معروفة بما فيه الكفاية من العرب إذّاك، فسقطت هاتان الأمتان من قائمة الأمم المتقدمة التي عرضها المفكر الأندلسي.

وكذلك هي الحال بالنسبة إلى أمم عديدة، ككينيا في القارة الإفريقية، حيث من المعروف اليوم أن أولى الحضارات البشرية قد ظهرت فيها بعد اكتشاف بقايا أول إنسان بدائي قبل فجر التاريخ.

فمعارف عصره، المحدودة لم تلعب لمصلحة نظريته. كما أن صاعد الأندلسي قد تسرّع في الانتقال من المناخي إلى الفيزيولوجي إلى الذهني. فما الذي تقوم عليه تحديدًا نظريته في هذا المجال؟

يعتبر مؤلف «طبقات الأمم» أن المناخ المعتدل يؤدي إلى إعتدال في البنية الجسدية، الأمر الذي يساهم في التوازن العام للشخصية، فيزداد من يعيش في أقاليم معتدلة المناخ استعدادًا للنباهة والحكمة والتفكير السويّ، الأمر الذي ينعكس ازدهارًا للعلوم والفنون والمعارف في أمتّه.

أما الذين يعيشون في أقاليم باردة، في شمال الأرض، وهو يشير هنا إلى الروس والإسكندينافيين والألمان الحاليين، فأمزجتهم في نظره باردة وأخلاقهم فجّة، ويُعرفون بالجهل والبلادة والغباء.

ومثلهم الذين يعيشون في أقاليم شديدة الحرّ، جنوب خط الاستواء كما يشير، في غانا وبلاد النوبة والسودان، فألوانهم سوداء وشعرهم مفلفل، ويُعرفون بأمزجتهم الحارة، وبعدم ثبات البصائر عندهم، الأمر الذي ينعكس عندهم، على المستوى الذهني، طيشًا وجهلاً.

أي أن المشهد الأممي، وفق ما يرسمه صاعد، ينقسم إلى شطرين: شطر محكوم بالابتكار والإنتاج المعرفي والحضاري، في ظل المناخ المعتدل، وشطر آخر محكوم بغياب الإنتاج الفكري والإبداع. شطر نوراني وآخر مظلم.


الأمم النابهة والأمم غير النابهة

يبدأ صاعد الأندلسي تفحصّه لظاهرة اختلاف وتوزّع الأمم على وجه المعمورة فيقول: «وجدنا هذه الأمم على كثرة فرقهم وتخالف مذاهبهم طبقتين: طبقة عُنيت بالعلم فظهرت منها ضروب العلوم وصدرت عنها فنون المعارف، وطبقة لم تعنَ بالعلوم عناية تستحق بها اسمه بعد من امتثله، فلم يُنقل عنها فائدة حكمة ولا رويت بها نتيجة فكرة».

ينطلق المفكر الأندلسي من أن سبب تفرّق الأمم يعود إلى «افتراق اللغات» في ما بينهم، حيث إن كل أمة قد بلورت ثقافتها وحضارتها حول لغة تميّزت بها. وتأكيد صاعد على أهمية اللغة في فرز الأمم حضارياً يشكّل ملاحظة علمية مهمة لا نجدها على هذا النحو الدقيق عند المفكرين الإغريق الذين كانوا قد استأثروا في ما مضى بالتفكير الفلسفي. فاللغة، في نظر صاعد، هي محرّك الأمة وقلبها النابض؛ وما من شك حول صحة هذه الملاحظة حيث إن الحضارة العربية تنطق باللغة العربية، وكذلك الفرنسية والألمانية والأميركية التي تصرّ كلها على الإنتاج والإبداع بلغاتها الأُم. فبين لغة الأُم والأمّة علاقة عضويّة أشار إليها الأندلسي بحذاقة.

غير أن اللغة، كمُحّرك للأمم، لا تسمح بتفسير تفوّق بعض هذه الأمم على بعضها الآخر، فيتساءل صاعد: ما الذي يدفع بعض الأمم إلى التقدّم والأخرى إلى الركود؟ ويجيب معتبرًا أن المناخ هو سرّ تفسير الظاهرة برمّتها.

فالمناخ المعتدل ينشّط الذهن ويفتح الذكاء، أما المناخ غير المعتدل، الحار أو البارد، فيلعب دورًا معوّقًا وكابحًا لمسألة النباهة.

فالاعتدال، المناخي ينعكس هدوءًا واعتدالاً في التفكير، في نظر مؤلف طبقات الأمم. الأمر الذي يوفَر الظروف المؤاتية للحكمة والتفكير الصحيح والاستعداد للنباهة وحُسن التقدير والإبداع.

فاعتدال المناخ يترافق مع الاعتدال والتوازن في التفكير، حيث يُتاح للعلوم والمعارف والفنون بأن تتفتَق بعدها بسهولة، ضمن مناخ عقلي يسوده أيضًا الاعتدال. وبذلك يغدو، في نظر صاعد، المناخ المعتدل مناخ الأمم النابهة بامتياز، حيث يقع عملياً فردوس العلوم والمعارف.

ثُم يُتابع المُفكر الأندلسي تحليله قائلاً، بقسوة وإطلاقيّة لافتتين:

«وأما الطبقة التي لم تُعْن بالعلوم، فبقية الأمم بعدما ذكرنا، من الصين ويأجوج ومأجوج، والترك، وبرطاس، والسرير، والخزر، وجيلان، وكشك، واللان، والصقالبة، والبلغر، والروس، والبرجان ، والبرابرة، وأصناف السودان من الحبشة، والنوبة، والزنج، وغانة، وغيرهم.

وأما سائر هذه الطبقة التي لم تُعْن بالعلوم، فهم أشبه بالبهائم منهم بالناس، لأن من كان منهم موغلاً في بلاد الشمال ما بين آخر الأقاليم السبعة التي هي نهاية المعمور في الشمال، فإفراط بُعد الشمس عن مسامة رءوسهم برّد هواءهم، وكثّف جوّهم، فصارت لذلك أمزجتهم باردة، وأخلاقهم فجّة، فعظمت أبدانهم، وابيضت ألوانهم، وانسدلت شعورهم، فعدموا بهذه دقّة الإفهام وثقوب الخواطر، وغلب عليهم الجهل، والبلادة، وفشا فيهم العمى والغباوة، كالصقالبة والبلغر ومن اتصل بهم.

ومن كان منهم ساكنًا قريبًا من خط معدّل النهار وخلفه إلى نهاية المعمورة من الجنوب، فطول مقاربة الشمس لسمت رءوسهم أسخن هواءهم وسخّن جوّهم، فصارت لذلك أمزجتهم حارّة وأخلاطهم محرقة، فاسودت ألوانهم، وتفلفلت شعورهم، فعدموا بهذه رجاحة الأحلام، وثبوت البصائر، وغلب عليهم الطيش وفشا فيهم النوك والجهل، مثل من كان في السودان ساكنًا بأقصى بلاد الحبشة والنوبة والزنج وغيرها».

في الواقع أن القسم الأكبر من المعطيات التي يعتمد عليها صاعد الأندلسي أو ينطلق منها قد استقاه من الكتب التي كانت معروفة ومتداولة في عصره. وغالبًا ما كانت هذه المؤلفات غير دقيقة وقائمة على روايات أو على تقارير رحلات لم تكن صحيحة على الدوام.

فاعتبار أن الصينيين لا ينتمون إلى الأمم النابهة يثير عندنا اليوم ابتسامة استغراب، وكذلك القول بأن أبناء هذه الأمم أقرب إلى البهائم منهم إلى البشر. فمعلومات صاعد الأندلسي ليست معلوماته هو، بل المعلومات الشائعة، ومن هنا خطؤه المنهجي الأول.

إضافة إلى أنه في زمنه لم تكن بعد قد ظهرت العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تسمح لنا اليوم بتصويب رؤيتنا لمجمل هذه الأمور. فعلم الآثار كان غائبًا إذ ذاك، وكذلك علم الجغرافيا البشرية والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع. لذلك كله أتت نظرية صاعد، موضوعيًا، ضحية هذا النقص الفاضح في المعلومة الصحيحة.

غير أن صاعدًا قد أخطأ، من ناحيته هو، باعتماده على نمط في التحليل يصنف اليوم بالميكانيكي، أو بالآلي، وقوامه الانتقال من سبب إلى نتيجة بشكل مباشر وبالاعتماد على عنصر تفسيري واحد. أي أن صاحب التحليل يلجأ إلى المناخ كإطار تفسيري وحيد لنباهة أو عدم نباهة الأمم، حيث ينتقل بعدها آليًا من الاعتدال المناخي إلى النباهة ومن غياب الاعتدال المناخي إلى عدم النباهة.

فهذا ما يضفي الإطلاقيّـة على التحليل ويؤدي أيضًا إلى ليّ المعطيات ضمن مسار وحيد ومحدّد مسبقًا. بحيث إنه يبدو لنا أن أفكار صاعد هي أحكام لا مجال لمراجعتها لكونها مسبوكة ضمن سياق لا يقبل المراجعة.

فهناك فرق كبير بين أن يكون التأثير المناخي سببًا من أسباب نباهة الأمم أو عدم نباهتها، وأن يكون التأثير المناخي السبب الوحيد للتفسير. ويكمن خطأ صاعد في أنه حصر نفسه ضمن هذا العنصر الأوحد الذي أقحمه في الحكم المبرم على أمم، في أقاليم باردة أو ساخنة تُعرف اليوم بنباهتها وبإبداعها، وليس آخرها فنلندا، القريبة من القطب الشمالي، حيث مقرّ شركة الهواتف الخليوية الأولى في العالم اليوم.

نظرية مونتسكيو

اشتهر المفكر الفرنسي مونتسكيو (1689 - 1755م.) بكتابة «روح القوانين» الذي أضحى بعيد صدوره سنة 1748م، في جنيف، في 31 جزءًا أو كتابًا، من أبرز المراجع في العلوم السياسية. فمونتسكيو هو صاحب مبدأ فصل السلطات الذي تعتمده جميع الأنظمة حالياً عبر العالم.

غير أن ما لا نعرفه أحيانًا هو أن مونتسكيو قد توصّل إلى هذا المبدأ بعد انكبابه على دراسة معظم دساتير الدول المعروفة في عصره أو العائدة لأزمنة سابقة لعصره على ضوء نظرية المناخ . فسؤال البحث (كما نسمّيه اليوم) الذي ينطلق منه مونتسكيو هو: لماذا تختلف أنظمة ودساتير الأمم على وجه الأرض؟ وجوابه هو: بسبب اختلاف المناخ الذي تعيش في ظلّـه هذه الأمم.

وهنا يقوم الكاتب والمفكر الفرنسي بالعودة إلى نظرية المناخ الأرسطويّة محددًا إياها على نحو خاص إذ يعتبر «أن شعوب البلدان الحارة تشبه العجزة الذين يتميزون بالتردّد، في حين أن أبناء البلدان الباردة يتسمون بشجاعة الشبّان».

ولتأكيد قوله هذا الذي يوزّع الشعوب على فئتين متعارضتين، وانسجامًا مع عصر الأنوار الذي كان ينتمي إليه والمفعم بالكلام عن أهمية ودور العقل في فهم كل ما يتعلق بالإنسان، يحاول مونتسكيو إضفاء صبغة «علمية» عليه ويروي لنا كيف توصّل إلى اقتناعه هذا، فيحدثنا كيف أنه ذات يوم قام باختبار ملموس على لسان خروف.

وضع لسان الخروف بادئ الأمر في قبو بارد في أسفل بيته ثم قام بفحصه في اليوم التالي على مجهر كان بحوزته، فلاحظ أن لا شيء ظاهرًا على سطح هذا اللسان الذي بدا أملس.

ثم وضع بعدها اللسان في الشمس خارج القبو وقام بفحصه بعد بضع ساعات، فلاحظ أن النتوءات العصبية الموجودة على سطحه قد تفتحت وأضحت بارزة. فيخلص - لا نعلم كيف - إلى خلاصة مفادها الاختلاف الجذري بين التأثيرين، الحار والبارد، للمناخ. فيقول: «إن هذه الملاحظة تؤكد ما قلته من أن النتوءات العصبية لا تتبلور في البلدان الباردة، بل تبقى مضمرة وتغرق في جيوبها حيث لا تعود على تماس مع تأثير الأشياء الخارجية. مما يعني أن الأحاسيس تكون عندها غير متأججة.

ففي البلدان الباردة، التفاعل مع الملذات هو في حدّه الأدنى، بينما يعظم في البلدان المعتدلة ويتضخم كثيراً في البلدان الحارة. وكذلك هي الحال بالنسبة إلى مسألة الألم».

ثم ينتقل المفكر الفرنسي من مجال تأثير المناخ في الطباع إلى تأثيره في مسائل سن القوانين ونظم الدساتير وممارسة الشأن السياسي برمته، فيؤكد على أن القوانين والدساتير إنما تأتي مطابقة في صياغتها وممارستها مع تأثيرات المناخ. ثم ينتقل إلى أن البلدان الحارة - ومنها البلدان العربية - غير قادرة على ممارسة الحكم الديمقراطي ولا على التعامل مع العدالة الاجتماعية كما هي الحال في البلدان الباردة، الأوربية تحديدًا، حيث كان يقيم هو. فالعدالة وسيادة السلطة التشريعية، الباردة، على السلطة التنفيذية، الحارة، تأتي بشكل طبيعي في الغرب، في حين أن المعادلة مقلوبة في الشرق، وآسيا وإفريقيا حيث تغيّب السلطة التنفيذية عمليًا السلطة التشريعية والقضاء.

من هنا يرسم المشهد السياسي العالمي على نحو يحتفظ فيه بصورة الحكم العادل والمتنوّر للغرب والغربيين، بينما يرى أن مصير شعوب البلدان الحارة، في آسيا وإفريقيا تحديدًا، هو العيش في أنظمة استبدادية وقمعيّة.

وتقوم إطلاقيّة الحكم الفكري هذه على مقاربة ميكانيكية هي أيضاً، كتلك التي لجأ إليها العربي صاعد الأندلسي، بالانتقال من سبب إلى نتيجة ضمن سياق مغلق وواحد. غير أن مونتسكيو يضفي على العملية صبغة أيديولوجية استثمرها بعده دعاة النظرية الاستعمارّية، القائلون بوجوب حكم الغرب، لبلدان آسيا وإفريقيا بهدف إعمارهم سياسيًا وجعلهم يتبنّون أشكال الإنتاج والحياة السياسية المعتمدة في أوربا.

بيـن صاعد ومونتسكيو

لذلك ففي المحصلة تبدو المسافة كبيرة بين ما طُرحَ في نظريتي المناخ عند كل من المفكرين، الأندلسي والفرنسي.

فصاعد عرض وجهة نظره بشكل بدا له مبنيًا، انطلاقًا من ملاحظات جغرافية وثقافية عامة. وبقي طوال الوقت ضمن هذا السياق التحليلي، إذ إنه لم يقحم لا المسألة العرقية (حيث إن بيض روسيا وزنوج غانا يتساوون في نظره في عدم النباهة) ولا المسألة الدينية (مساويًا في النباهة بين الروم والهنود والعرب). أي أن صاعد قد عرض كلاماً لم يقحم فيه لا نفسه ولا عرقه ولا أمّته أيديولوجيًا، على الرغم من أنه كان قاضيًا شرعيًا في مدينة طليطلة. أما مونتسكيو فقد انحاز أيديولوجيًا لكتلته الجيو - سياسية، محاولاً إخفاء المسألة تحت قشرة من العلمويّة، حيث يحاول تبرير موقفه بالعودة إلى ما يدعي أنه اختبار، بغية إضفاء صفة العقلانية عليه. فالانتقال عنده من البيولوجي إلى المناخي إلى الذهني أقل ما يُقال فيه أنه متسرّع وغير مقنع. فكيف لنا أن نستنتج من لسان خروف خضع لحرارتين نظرية خطيرة كتلك التي يطرحها والتي تتعدّى مسألة نباهة بعض الأمم وغياب النباهة عند بعضها الآخر باتجاه تقسيم شعوب الأرض على أساس ذهني وأيديولوجي. صحيح أن نظريات المناخ باتت تُحفظ اليوم في خزانات التراث الفكري وأن أحدًا لم يعد يجرؤ على طرحها على النحو الاستبعادي الذي كانت تُطرح فيه شرقًا وغربًا. إلا أنه من المفيد اليوم أن نستعيد من خلال الطرق الإطلاقيّـة والميكانيكية التي كانت تطرح بها تجارب فكرية لمقاربة التنوّع البشري من وجهة نظر أحادية أقنعت الكثيرين في ما مضى.

تخطّت العلوم الإنسانية والاجتماعية اليوم نظريات المناخ وقدّمت تفسيرات تعدّدية لظاهرة التنوّع البشري، مع احترام خصوصية كل تجربة من التجارب البشرية. كما أنها ساهمت في الانتقال من رؤية إطلاقية ومنحازة إلى رؤية إنسانية شاملة تقوم على احترام جميع أشكال وأنواع الثقافة البشرية من منظورها هي، لا من منظور خارجي، وبالاعتماد على تفسيرات عدّة، لا على تفسير واحد ومنغلق.

المصادر

فريدريك معتوق (2008-10-01). "صاعد الأندلسي ونظرية المناخ". مجلة العربي. Retrieved 2010-03-29.