سعيد جنبلاط

غلاف كتاب "سعيد جنبلاط"، تأليف رياض غنام.

سعيد جنبلاط (1813 - 1861) زعيم الدروز في لبنان، شارك في حرب الجبل بين الدروز والموارنة. في 1860.

كتاب «سعيد بك جنبلاط» الذي وضعه الدكتور رياض غنام هو مثل ساطع على نوعيّة أعمال غنام ومزاياها، من حيث التجرّد والنزاهة الفكرية، وعمق البحث وتقيّده بالمنهجية العلمية واستناده إلى مروحة واسعة ومتنوّعة من المراجع المحلية والدولية ذات الصدقية.

غاية الكتاب، على ما جاء في مقدّمته، هي إلقاء الضوء على شخصية الشيخ سعيد، الزعيم الدرزي الرئيسي في جبل لبنان أواسط القرن التاسع عشر، وإظهار مسؤوليته عن الأحداث الدموية خلال تلك المرحلة. إلا أن الكتاب تجاوز هذه الغاية إلى ما هو أبعد منها، فقدّم صورة غنيّة عن تشابك وتقاطع العلاقات الدولية في جبل لبنان، بعدما تحوّل الجبل وقتذاك إلى جاذب لها بهذا الشكل لأوّل مرّة في تاريخه، كما رسم بدقة خريطة العلاقات الطائفية المتوترة في الجبل، التي تحوّلت إلى سلسلة من الحروب والصراعات لا سابق لها في المنطقة.

استحال الجبل اللبناني ساحة من ساحات الصراع الدولي في المنطقة، بفعل تطوّر المسألة الشرقية في ذلك الزمن. فقد ضعفت الدولة العثمانية إلى حدّ طرح مصيرها ووراثة مستعمراتها على نطاق واسع في كواليس السياسات الدولية. كانت روسيا تطمح إلى السيطرة على مناطق أساسية في قلب السلطنة بما يسمح لها بالوصول إلى البحر الأبيض المتوسّط. وهذا الكابوس كان أحد الأسباب الرئيسية التي حدت ببريطانيا إلى الاعتراض على تقسيم السلطنة وتأجيله إلى الوقت الذي يلائمها. بموازاة ذلك، ووسط الاعتراض البريطاني نفسه، كانت فرنسا مستعجلة بدورها لتقسيم السلطنة ونيل حصّتها من الميراث، وعينها خصوصا على سوريا، حيث لها علاقات تاريخية نسجتها عبر العصور مع كاثوليك الشرق، وفي طليعتهم الموارنة.

في البداية، تعاطفت فرنسا مع حليفها محمد علي، الذي أرسل جيوشه إلى بلاد الشام بقيادة نجله ابراهيم باشا، فاحتلها وكاد أن يصل إلى الآستانة لولا تدخل الدول الأوروبية في الوقت المناسب. سعى محد علي خلال مباحثاته المكثفة مع الدول الغربية إلى إبقاء سيطرته على سوريا وجعلها تحت سلطان أسرته أسوة بمصر، وهو أوّل مشروع للوحدة العربية في العصر الحديث، ولكن بريطانيا رفضت هذا المقترح المدعوم فرنسياً، لأنها كانت تخشى تحوّل المتوسّط إلى بحيرة فرنسية من الجزائر إلى سوريا، مرورا بمصر.

العلاقات الفرنسية المارونية ترقى إلى عهد الملك لويس التاسع. وقد استمرّت وتطوّرت عبر العصور بالتعاون مع الكنيسة الكاثوليكية الأمّ. ففيما سعت فرنسا إلى إرساء وترسيخ قاعدة لها في المشرق، كان هدف الفاتيكان تعزيز وتوسيع الإيمان الكاثوليكي، ولتينة الكنيسة المارونية على وجه الخصوص، لكي تتبع النسق اللاتيني الكاثوليكي في الإيمان والطقوس. وهكذا تعاون الطرفان على توثيق الصلة بالموارنة والسعي إلى تطويرهم الثقافي والاجتماعي، وتحضيرهم لإقامة كيان سياسي وطني خاص بهم، عندما تسمح الظروف بذلك. وقد وجدت فرنسا منذ بداية القرن التاسع عشر، بعد استشعارها بالقوّة الصاعدة للكنيسة المارونية، أن وقت إنشاء الكيان الماروني قد حان، بسبب ضعف السلطنة وبدء انحطاطها، فشجعت ودعمت مشروع الكيان القومي الماروني المستقلّ بقيادة الكنيسة، مما أسّس للحرب الأهلية في الجبل.

أما السلطنة المستضعفة فلم تجد أمامها إلا استعمال الشدّة، خصوصا بعدما طردها ابراهيم باشا من كل سوريا، ولم تستطع العودة إليها إلا بمساعدة البريطانيين والدول الغربية. لقد صمّمت على ضرب المشروع التقسيمي الفرنسي والانتقام من الأمير الشهابي والموارنة، بسبب نواياهم الانفصالية ولتعاونهم مع الحكم المصري ودعمهم له، فكان لولاتها وعملائها الدور الأساسي في النكبة التي حلت بالمسيحيين في الجبل والبقاع ووادي التيم، وصولا إلى دمشق.

بدءا من مقدّمة الكتاب، وعلى مدى فصوله، لاسيما الأخيرة، يبدي الدكتور رياض اهتمامه بمعالجة وتفحّص مسؤولية سعيد بك جنبلاط في الحرب الأهلية، نظرا للسمعة «الدموية» التي لحقت به واستقرّت في أذهان المهتمّين بتاريخ الجبل في تلك الحقبة السوداء. لقد تضمّن الكتاب نوعا من إعادة المحاكمة لسعيد جنبلاط، وقراءة جديدة لخلفيات حكم المحكمة العثمانية التي أدارها فؤاد باشا ومناقشات اللجنة الدولية التي تفحّصت الأحكام.

ولا أخفي اعتقادي بأن المؤلف، برغم نزاهته وتجرّده، أظهر نوعا من الانحياز في هذا المجال، فلم ينف كليا احتمال مشاركة سعيد بك في الأحداث الدموية ولكنه توسّع في إظهار صورته المضادة، فأضاء على مساعيه لتلافي الحرب والمجازر ودعوته جماعته إلى الهدوء، وركز على حمايته لمئات من المسيحيين وتوفير المأوى الآمن لهم. وهذه الصورة لا تتلاءم مع الصورة المناقضة التي روّجها العديدون، ومن بينهم القناصل والعملاء الانكليز، حلفاء الزعيم الجنبلاطي وأصدقاؤه الثابتون. هؤلاء، وفي مقدّمهم ضابط المخابرات البريطانية تشارلز تشرشل، الذي عرف في الجبل باسم شرشر بك، والذي أقام في لبنان طيلة حقبة الحروب الأهلية، كانوا واضحين وحاسمين في تحميل مسؤولية النكبة التي حلت بالموارنة إلى البطريرك الماروني والقنصل الفرنسي، ولكنهم أشاروا إلى دور سعيد بك في الأحداث الدموية. من المستبعد أن تدور أحداث جسيمة في الجبل، بمستوى أحداث 1860، بمعزل عن اطلاع الزعيم الدرزي الأوّل وتعليماته. ولكن الإنصاف لهذه الشخصية التي أثرت في تاريخ الجبل يقتضي إبداء بعض الملاحظات: لقد جرت معظم المذابح بقرار وإشراف وتحريض من العثمانيين، لجعل الموارنة يدفعون ثمن مشروعهم الانفصالي وعلاقتهم مع الحكم المصري. والسلطة العثمانية التي تلوثت يدها بدماء أهل الجبل، هي نفسها التي حاكمت سعيد جنبلاط وحكمت عليه بالإعدام.

وإذا كان سعيد جنبلاط مسؤولا عن بعض الأحداث الطائفية فهو لم يخترع الطائفية في جبل لبنان، بل هي ولدت وترعرعت وتحوّلت إلى مشكلة مستعصية قبل ولادته. إنها وليدة مشروع الكيان السياسي الماروني الذي سعت إليه ثلاثة أطراف هي فرنسا والكنيسة والأمير الشهابي، والذي قاد إلى الانقلاب الكبير في الجبل عبر الإطاحة بنفوذ الإقطاع الدرزي لإقامة سلطة بديلة منه، على رأسها الاكليروس والأمير. وقد عدّد المؤلف في كتابه الأحداث التي عرفها الجبل قبل سعيد جنبلاط والتي اتسمت بطابع الانقسام الطائفي الصرف، وأبرزها: حملة نابليون بونابرت على بلاد الشام، الحركات الفلاحية، الصراع بين بشير الشهابي وبشير جنبلاط ومرحلة الاحتلال المصري لبلاد الشام.

وهناك ملاحظة لا أودّ التوسّع فيها، بل أفضّل أن يعالجها بشكل أشمل كتّاب موضوعيون مسيحيون. يبدو أن الإصلاحات التي سعى الفاتيكان إلى إدخالها على نظام ومبادئ الكنيسة المارونية في العام 1736 لم تأت بكل نتائجها المرجوة حتى نهاية القرن التاسع عشر، فلم تتحوّل الكنيسة قبل ذلك إلى مؤسّسة تتمتع بالمزايا الأخلاقية والروحية وبعد النظر. لقد اتخذ الاكليروس في منتصف القرن التاسع عشر دور المحفّز والمحرّض على الاقتتال والداعي صراحة إلى اقتلاع الدروز من أرضهم. قادة الكنيسة وقتذاك، جيّشوا الجيوش واستقدموا المقاتلين من كل حدب وصوب، وشاركوا حتى في القتال الطائفي. ولن أستعيد التصريحات والوقائع التي ذكرها الكتاب عن هذه الممارسات لاسيما في عهد البطريرك بولس مسعد ومطران بيروت طوبيا عون. لقد اتصفت الكنيسة قبل الإصلاح بأن عددا من كبار رجال الإكليروس كانوا يعانون من عيوب ومثالب الناس الزمنيين، ويبدو أن هذه الصفات استمرّت طويلا بعد إقرار الإصلاحات في النصف الأوّل من القرن الثامن عشر. ولكن بعد العقود الأولى من القرن العشرين، برز على رأس الكنيسة المارونية آباء عرفوا بالحلم والرويّة وبعد النظر، وانفتحوا على باقي الشركاء في الوطن.

البطريرك الثالث والسبعون للطائفة المارونية أنطون بطرس عريضة كان مناضلا في سبيل الاستقلال ومناهضا للانتداب وراعيا للميثاق الوطني، وكانت التظاهرات المناهضة للانتداب في دمشق وطرابلس تهتف: «لا إله إلا الله، البطرك عريضة حبيب الله». واستمرّ البطريرك بولس بطرس المعوشي على النهج الوطني نفسه، وعارض سياسة الرئيس كميل شمعون برغم انحياز معظم الموارنة لها، وأقام أوثق الصلات مع المعارضة. وتربّع البطريرك انطونيوس بطرس خريش على السدة البطريركية منذ بداية الحرب الأهلية، فتميز بنهج الاعتدال والحرص على التقارب بين اللبنانيين ونبذ الاقتتال، لاسيما خلال حرب الجبل.

والبطريرك نصر الله بطرس صفير عارض الوجود السوري في لبنان معارضة شديدة، ولكنه حرص على إقامة أوثق العلاقات مع الشركاء المسلمين في الوطن. فغطى بجبّته اتفاق الطائف، ورعى مصالحة الجبل وأقام تحالفا مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري والزعيم وليد جنبلاط.

التاريخ غنيّ بالدروس. والمجتمع الذي يفهم مغازيها ويستفيد من عبرها، يتجنب شرّ الوقوع في التجارب المريرة. وكتاب «سعيد بك جنبلاط»، بالأسلوب البليغ والواضح الذي اعتمده الدكتور رياض غنام، يحمل الدروس والعبر المفيدة، إذا ما قرأ بعيون الأجيال الحاضرة من اللبنانيين، وانطلاقا من واقعهم السياسي. البغض الطائفي يستجرّ الكوارث على كل الطوائف، ولا يخرج أحد من آتونه رابحا. الاقتتال الطائفي خسارة صافية لكل أبناء البلد، يتوارثها الناس جيلا بعد جيل الدول الأجنبية لا تسعى إلا إلى مصالحها، ومن يتعاون معها ويرتهن لها قد يكون كبش المحرقة عندما تقضي المصالح الأجنبية بعقد الصفقات والتسويات.

الفدرالية الطائفية المرتجلة في مجتمع يختلط أبناؤه في مناطقه هي انتحار. إن أوضاع المناطق المختلطة في نظام القائمقاميتين كانت سببا في استمرار الحساسيات والمنازعات الطائفية حتى انفجرت في العام 1860 على نحو لا سابق له.

«سعيد بك جنبلاط 1813 ـ 1861» تأليف الدكتور رياض غنـّام. الناشر «دار معن». كانون الثاني 2015.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عائلته


المصادر

  • غسان العياش (2015-08-10). "مسؤولية سعيد جنبلاط في فتنة الجبل". صحيفة السفير اللبنانية.