رصد (جارية)

رصد هي جارية نوبية سوداء مـن السودان أو مـن (بـلاد النوبة)، وعاشت في القرن الخامس الهجري (القرن الحادي عشر الميلادي) إذ اشتهر الفاطميون آنذاك بعادتهم بشـراء النسـاء النوبيـات اللـواتي أشـتهرن بالحسـن والجمـال وذلـك بموجـب معاهدة البقط، واشتراى رصد تاجر يهودي يدعى أبا سعد التستري، ومن ثم اشتراها منه الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله. ومن حينها أصبحت حينها من أشهر سيدات البلاط الفاطمي في مصر وأكثرهن نفوذاً آنذاك.


حياتها

بجمالها اللافت وبشعلة ذكائها المُتقدة استطاعت رصد أن تكون الجارية المفضلة لدى الخليفة، وتحولت من جارية إلى سيدة لا ينازعها على مكانتها أحد، وبشكلٍ خاص بعد أن أنجبت للخليفة ولي عهده الذي أصبح يعرف فيما بعد بـ المستنصر بالله الفاطمي.

وأقامت السيدة في "قصر اللؤلؤة" الذي بناه زوجها الظاهر لإعزاز دين الله، والذي كان من أجمل القصور في مدينة القاهرة آنذاك؛ إذ يتميز بحدائقه الخلابة وإطلالته على نهر النيل، وكانت تمتلك عشاري زورقاً فريداً مصنوعاً من الفضة بالكامل خاصاً بها، الذي أهداها أياه سيدها القديم أبو سعد التستري بعد أن حازت على مكانة عالية لدى الخليفة. ولكن ذلك النعيم لم يكن سوى البدايات فقط، فقد توفي الخليفة عام 1036 عن عمر لا يتجاوز الـ30، تاركاً الدولة لابنه الذي لم يبلغ سن الرشد بعد، ولأمه التي لا حدود لطموحها.

توليها الحكم

لحسن حظ السيدة رصد وابنها المستنصر بالله أنه لم يمتلك أشقاء يكبروه سنً ليتنازعوا على الحكم، لذلك تولى الخلافة وهو لا يزال صبياً يبلغ من العمر سبع سنوات، وكانت تلك فرصةعلى طبقٍ من ذهب للسيدة رصد لتحكم الدولة الفاطمية وتدير شؤونها بنفسها بصفتها وصية على ابنها، ومنذ ذلك الحين، أصبح رجال الدولة يخاطبونها بـألقابٍ كـ "مولاتنا" أو "الجهة الجليلة" أو "الستر الرفيع" أو "الملكة".

كانت ألقاب رصد المتنوعة تلك انعكاساً لنفوذها في الدولة، فكانت تعين من تشاء من الوزراء وتعزل من تشاء، وأنشأت ديواناً خاصاً بها لإدارة شؤونها المالية وتحكمت بمقدرات البلاد من خلال تأثيرها على الوزراء وقادة الجند وأصحاب رؤوس الأموال من التجار والولاة.

الصراع على الخلافة

لم تستطِع السيدة رصد الإمساك بزمام الأمور بشكلٍ مباشر، فقد كان الوزير الجرجراني ذو قوة ونفوذ في الدولة وكان يعمل جاهداً على الحد من تدخلاتها رغم أنها الوصية على الخليفة، لكن الساحة خلت للسيدة بعد موته عام 1044. تولى منصب الوزير الجديد من بعده أبوعلي الأنباري، وأيضاً لم يكن راضياً عن تدخلاتها في شؤون الحكم فسرعان ما ناله غضبها، ولم تكتفِ بتحريض ولدها على عزله بل اتهمته بسرقة الأموال ووضعته في السجن بضعة أعوام قبل أن يُقتل.

ومن بعد الأنباري أصبحت الوزارة بالكامل بيد السيدة التي تعين الوزراء وتعزلهم على هواها بالتعاون والتشاور مع رئيس ديوانها وسيدها القديم أبوسعيد التستري.

الحمد لله ولي كل نعمة

وكعادة الخلفاء، اتخذت رصد لنفسها علامة خاصة للتوقيع على الأوراق الرسمية، وقد اختارت عبارة "الحمد لله ولي كل نعمة"، لتكون توقيعاً لها.

وبالفعل فقد كانت النعم التي امتلكتها رصد كثيرة للغاية، فبعيداً عن كونها المتحكمة في شؤون دولة ابنها، امتلكت "السيدة" أموالاً هائلة مستقلة وخاصة بها، وظفتها في شراء الولاءات واستخدام الأعوان، لذلك وصفها بعض المؤرخين بأنها "على جانب كبير من الذكاء والفهم وبُعد النظر"، ووصفها آخرون بأنها "من ربات النفوذ والسلطان".

الاحتقان بين السود والترك

وظفت جزء كبير من أموالها الخاصة لشراء أكبر عدد من العبيد السود حتى بلغ عددهم في عهد ابنها المستنصر قرابة خمسين ألفاً فتحولوا بهذا العدد الضخم إلى كتيبة كاملة من كتائب الجيش الفاطمي.

وقد عمدت إلى تلك الاستراتيجية بشكلٍ خاص، بهدف تقليص نفوذ الترك في الدولة الأمر الذي أدى إلى احتقان شديد في عهد ابنها الذي تميز بأنه عهد اضطرابات (436 _ 463 هـ / 1044 _1071 مـ)، و لا سيما أن الدولة كانت تدار عن طريق وسطاء لا تهمهم سوى مصالحهم الشخصية.

وبالفعل شهدت فترة حكم المستنصر العديد من الخلافات والمواجهات المسلحة بين الأتراك والعبيد في الجيش الفاطمي، في حين كانت السيدة رصد تدعم العبيد باستمرار بـ المال والعتاد، وقد أدت هذه الخلافات بين الطرفين إلى الارتباك السياسي والضعف الاقتصادي في فترة حكم المستنصر.

سياستها الداخلية

تجاه الوزراء

كان لرئيس الديوان التستري مكانة خاصة لدى السيدة رصد، ومن ذلك المنطلق حاز على نفوذ واسع في الدولة الفاطمية مخلفاً لنفسه الكثير من الأعداء.

فقد نقم عليه الوزير أبوصدقة الفلاحي، لتدخله الدائم في شؤون الوزارة، فتآمر ضده مع الأتراك، ففيما كان متوجهاً إلى القصر اعترضه ثلاثة جنود من الترك وضربوه حتى الموت.

وقد بلغ من كره المسلمين للتستري أن جميع الجنود اعترفوا بأنهم قتلوه فلم يستطع الخليفة معاقبة أي منهم.

ولم يكن حال الفلاحي أحسن حالاً من التستري فقد راح يستأثر بالسلطة لنفسه ويمنع أي أحد من التقرب إلى الخليفة، وقد كان يجد في السيدة رصد منافساً له، لذلك راح يثير الفتن بين طوائف الجيش المختلفة فيزيد من رواتب الجنود المغاربة و السودانيين على حساب البقية بحجة أنها رغبة السيدة أم الخليفة. وبالرغم من ذلك، فازت رصد بالحرب التي شنها عليها الفلاحي عن طريق إقناع الخليفة بعزله من منصبه وسجنته ثم قتلته كما فعلت بالأنباري من قبله. ووفقاً لبعض المؤرخين، من بعد الفلاحي راح الوزراء يتساقطون كأوراق الخريف، فما أن يتم الأمر لوزير ما حتى يطاح به ويؤتى بغيره، الأمر الذي ترك أثراً سلبياً واضحاً على دولة المستنصر.

دور الخليفة المستنصر بالله

حتى بعد أن بلغ الخليفة سن الرشد لم يكن الحاكم الفعلي للبلاد، فقد كانت أمه ووزراؤها يتحكمون في جميع الشؤون الداخلية والخارجية، أما الخليفة فقد كان أشبه بالمسيطر عليه.

والمرة الوحيدة التي ذُكرت أنه تدخل فيها بأعمال والدته كانت عندما أمر بمحاسبة أحد رجال الدولة، وهو الوزير القاضي ابن أبي كدينة، وذلك بسبب أخذه لأموال من الخزينة، فضربه الخليفة وأمر بوضعه على آلة المعصار للتعذيب، ولكن تدخلت السيدة ومنعت الخليفة من قتل القاضي، وكانت هذه الحادثة التي أدت إلى اتخاذ الخليفة قراراً بالاعتكاف والتنحي عن شؤون الحكم.

ولكن بسبب أصرار والدته وحاشيتها تراجع عن قراره، ويذكر كتاب "السيدة رصد ودورها في الحياة السياسية للدولة الفاطمية" لمؤلفه د.وسن محمد أمين، أن الخليفة قال وقتها: "أنا مغلوب على أمري ومدفوع عن أغراضي وقد تركت الأمر لمن غلبني".


تدهور الدولة الفاطمية

لم يُعرف تاريخ وفاة السيدة رصد على وجه التحديد، لكنها حكمت الدولة الفاطمية طوال فترة حياتها. وعلى ما يبدو لم يستأثر ابنها الخليفة المستنصر بالحكم بأي فترة من فترات حياته، رغم أنه بقي خليفة حتى وفاته عام 1094، فقد عانت الدولة الفاطمية في عهده الكثير من الاضطرابات الداخلية، كما أدى نقصان منسوب مياه النيل إلى ما عُرف تاريخياً بإسم "الشدة المستنصرية" أو "الشدة العظمى"؛ إذ انتشرت المجاعة في البلاد وامتدت لسبع سنواتٍ عجاف.

وبدأت الدولة الفاطمية التي قد كانت بلغت أشدها في عهد الظاهر بالتدهور والسقوط في عهد المستنصر، فخرجت كثير من البلاد عن سلطته فعادت بغداد إلى الخلافة العباسية، وقُطعت الخطبة للمستنصر في مكة والمدينة وخُطب للخليفة العباسي عبد الله القائم بأمر الله في سنة، وغزاها النورمان صقلية واستولوا عليها فخرجت عن حكم الفاطميين عام 1071. وتداعى حُكم المستنصر في بلاد الشام، فاستقل قاضي صور بمدينته عام 1070 وخرجت طرابلس من سلطان الفاطميين، وفي عام 1071، استقلت حلب و بيت المقدس والرملة ومن ثم تبعتهم دمشق في العام التالي.

كل تلك الأحداث دعت المستنصر لاستدعاء الوزير بدر الدين الجمالي، واليه على عكا، لتخليص البلاد من أزماتها وإعادة الهدوء والاستقرار إلى الدولة التي مزقتها الفتن وثورات الجند.

وبالفعل استطاع الجمالي إعادة الاستقرار للبلاد، لكنه في المقابل استولى بشكل تام على السلطة، حتى أنه عيّن ولده وزيراً من بعده ليبدأ عهد جديد في الدولة الفاطمية عُرف باسم "عصر نفوذ الوزراء".

المراجع

https://www.iasj.net/iasj/download/2a2756bd73bcc1b6