تاريخ البشانقة (كتاب)

يقال عادة أن حرب البوسنة كانت حرباً غير مسبوقة ليس بسبب "التطهير العرقي" وإنما بسبب "التطهير الثقافي" الموازي له، الذي كان يهدف إلى تدمير هوية شعب. ففي هذا الإطار تم تدمير المنشآت التاريخية (بما في ذلك الجسور ذات القيمة الأثرية) وحتى مراكز الوثائق والكتب (مثل معهد الاستشراق في سراييفو الذي كان يحتفظ بآلاف المخطوطات الشرقية، والمكتبة الوطنية الخ) حتى لا يبقى للطرف المستهدف ما يثبت به نفسه بعد الحرب.‏

وقد فهم البشانقة هذه الحرب المفروضة عليهم على حقيقتها، ولذلك لم يتوان المثقفون منهم على المشاركة في هذه الحرب على طريقتهم الخاصة: التأليف تحت القصف والقنص خلال حصار سراييفو 1992-1993 لإثبات وجودهم كشعب لـه تقاليده وثقافته وتاريخه الخاص به وذلك في مواجهة التشكيك به وتغييبه في العقود الأخيرة.‏


ومن نتاج هذه الحرب، إذا صح التعبير لدينا الكتاب المرجعي الضخم "تاريخ البشانقة" للمؤرخ مصطفى إماموفيتش الذي أُلّف خلال 1993-1996 وصدر في طبعته الأولى خلال 1996 وفي طبعته الثانية خلال 1998(1). وبهذا الكتاب (حوالي 630 صفحة من الحجم الكبير) يمكن القول أنه لدينا أول تاريخ شامل عن البشانقة منذ القرون الوسطى إلى السنوات الأخيرة التي سبقت الحرب.‏

ود. إماموفيتش من المؤرخين المعروفين في البوسنة، إذ برز مبكراً بكتابه المرجعي "الوضع القانوني للبوسنة وتطورها السياسي الداخلي خلال 1878-1914" في 1978 ونشر حتى الآن حوالي 350 دراسة ومقالة وملاحظة علمية في مختلف المجلات وترجمت بعضها إلى عدة لغات (الإنجليزية والألمانية والإسبانية الخ).‏

ويلاحظ في نتاجه السابق أنه كان يركز على الإطار التاريخي القانوني والدستوري للقضايا المختلفة المتعلقة بالتاريخ الحديث والمعاصر للبوسنة. أما في هذا الكتاب فلدينا نقلة كبيرة، تحت تأثير ظروف الحرب، تتمثل في تأليف تاريخ شامل للبشانقة.‏

والمقصود بالبشانقة هنا Bosnjaci الشعب الذي كان يشكل الأغلبية منذ بداية التاريخ الحديث للبوسنة، بعد أن اعتنق الإسلام ، والذي كان يعي نفسه باستمرار كشعب متميز لـه لغة وثقافة خاصة ولكنه أخذ يتعرض إلى تهديد وتطهير جسدي ونفسي وسياسي وثقافي منذ نهاية القرن الثامن عشر نتيجة للتطورات السياسية الجديدة في البلقان، وهو ما جعله ينكمش وينحصر في الدفاع عن وجوده.‏

وفي هذا الإطار لم تعترف الدولة الجديدة (يوغسلافيا) التي ضمت البوسنة في 1918 بهذا الشعب وحاولت قيادتها المستحيل لتذويبه وتغييبه، وهو ما استمر في بداية يوغسلافيا الجمهورية تحت حكم الحزب الشيوعي إلى أن تم الاعتراف بهذا الشعب باسم جديد "المسلمون" بالميم الكبيرة Muslimani تمييزاً لهم عن المسلمين بالميم الصغيرة muslimani التي كانت تشمل كل المؤمنين بالإسلام في يوغسلافيا السابقة. ومع حرب الاستقلال 1992-1995 استرد هذا الشعب اسمه التاريخي (البشناق). وهكذا في إطــار الدفاع عن وجوده وأرضه وهويته في أصعب اللحظـات (1993) بدأ إماموفيتش تلك المهمة الكبيرة بوضع تاريخ لهذا الشعب يمتد على حوالي 630 صفحة من الحجم الكبير.‏

ويؤكد المؤلف في المدخل على كون البشانقة شعباً أوروبياً من سلاف الجنوب، حيث كان هناك من يخلط بينهم وبين الأتراك، ويوضح منذ البداية (ص9) دور الإسلام الحاسم في تبلور هذا الشعب عن الشعوب المجاورة التي تتحدث اللغة ذاتها (الصرب والكروات وأهل الجبل الأسود/المونتغريون) ولكن تختلف فيما بينها بالخصائص الدينية والثقافية والسياسية. ويخلص المؤلف من هذا إلى تعريف البشانقة بأنهم الشعب ذي الأصل السلافي الجنوبي الذي تشكل في البوسنة بحدودها التاريخية (ص11).‏

في الفصل الافتتاحي من الكتاب "الموقع الجيوبوليتكي للبوسنة "يحلل المؤلف موقع البوسنة (التي اختلف العلماء كثيراً حول أصل اسمها) بين كرواتيا وصربيا ليخلص إلى أن الفرق بين الألبان والبشناق يكمن في أن الألبان استمدوا وحدتهم من اللغة (حيث أن اسمهم القومي يدل على التعبير في اللغة الألبانية) ولذلك لدينا بينهم مسلمون ومسيحيون ويهود، بينما لدى سلاف الجنوب (الصرب والكروات والبشانقة) جاء التمايز بين الشعوب الجديدة بالاستناد إلى الدين (الكاثوليكية والأرثوذكسية) وهو ما جعل البشناق يتميزون عن غيرهم باعتناقهم للإسلام (ص22).‏

في القسم الأول من الكتاب يستعرض المؤلف في سبعة فصول نشوء دولة البوسنة في القرون الوسطى حيث برز أول حاكم/بان ban لها باسم بوريتش خلال 1154-1164، وجاء بعده البان الكبير كولين الذي توسعت حدود البوسنة في عهده خلال 1180- 1204 وتميزت كدولة في المنطقة بنظامها الإقطاعي الذي ترسخ، مع التركيز على الديانة الجديدة (البوغوميلية) التي انتشرت فيها واعتبرت هرطقة سواء من قبل الكاثوليكية أو من الأرثوذكسية مما أدى إلى سلسلة حروب للقضاء على هذه "الهرطقة"، والوضع الاقتصادي الاجتماعي للدولة البوسنوية القروسطية حتى سقوطها أمام التوسع التوسع العثماني في البلقان.‏

في القسم الثاني "مرحلة الحكم العثماني" ينطلق المؤلف من التعريف بالدولة الإسلامية والحضارة الإسلامية ثم يتابع الفتح العثماني للبوسنة ليصل إلى الفصل الثالث المتعلق بـ"سيرورة قبول الإسلام في البوسنة"، الذي يعتبر من أهم فصول الكتاب. فنظراً لتأثيره المصيري يعتبر د. إماموفيتش أن اعتناق الإسلام من قبل غالبية السكان في البوسنة يشكل أهم حدث في التاريخ الحديث. وعلى الرغم من ذلك يلاحظ المؤلف (ص138) أن مثل هذا الموضوع المهم لم يبحث كما يجب في الدراسات التاريخية ولم يتضح بما فيه الكفاية. فهناك لدى المسلمين "روايات شعبية" عن الانتشار الفوري للإسلام خلال فتح السلطان محمد الثاني للبوسنة، وهو ما يناقشها هنا ويبيّن عدم صحتها، كما أن هناك "الروايات" الصربية والكرواتية التي تركز على نشر الإسلام بالقوة بين السكان وهو أيضاً يناقشها بكل موضوعية ويبيّن عدم صحتها. ويعتمد المؤلف على مختلف المصادر ليصل إلى أن الإسلام انتشر بدون عنف، مع وجود حالات استثنائية، وبشكل تدريجي احتاج معه إلى مئة وخمسين سنة (حتى الربع الأول للقرن السابع عشر) حتى يصبح ثلثي سكان البوسنة من المسلمين (ص175-180).‏

في الفصول التالية يرصد المؤلف التغيرات الكبرى التي حدثت خلال الحكم العثماني، كما في التطور الكبير للمدن والحياة الاقتصادية الاجتماعية في المدن التي تمخضت عن عادات وتقاليد وثقافة جديدة تميز البشناق عن الصرب والكروات. ومع أن الحكم العثماني استمر في البوسنة حتى 1878 إلا أن المؤلف يتعرض في الفصول الأخيرة من هذا القسم إلى ما يسميه "كفاح البشانقة للحفاظ على وجودهم"، حيث أخذ يتضح الارتباط بين مصير الدولة العثمانية ومصير البشانقة منذ نهاية القرن السابق عشر مع فشل الحصار العثماني الأخير لفيينا. فقد تحولت النمسا من الدفاع إلى الهجوم واجتاحت البوسنة عدة مرات خلال القرن الثامن عشر، وهو ما أخذ يهدد وجود البشانقة. ففي حرب 1737 أصدر الإمبراطور النمساوي كارل الرابع بياناً لسكان البوسنة طالب فيه السكان المسيحيين بالانضمام إلى الجيش النمساوي، بينما ترك للمسلمين خياراً واحداً فقط (التنصير) فيما لو أرادوا الاستمرار في العيش في البوسنة والحفاظ على أملاكهم فيها (ص301).‏

في مثل هذه الحالة أصبح البشانقة بين نارين، مما دفعهم ليخوضوا بدورهم في 1831 حرباً ضد الدولة العثمانية للمطالبة بالحكم الذاتي (على نمط ما حصلت عليه صربيا آنذاك خلال 1815-1830)، وهو ما يتناوله المؤلف في الفصل قبل الأخير من هذا الفصل (ص333-337). ومع أن الحركة فشلت إلا أن الإصلاحات العثمانية اللاحقة، وخاصة خلال 1850-1870، جعلت البوسنة تنفتح على العالم في الوقت الذي كان فيه الوضع الإقليمي يمور تحت تأثير الاختراق الروسي للبلقان الذي قلب الوضع رأساً على عقب إثر الحرب الروسية العثمانية 1877-1878 التي انتهت إلى هزيمة مذلة للدولة العثمانية.‏

فمع اجتياح روسيا للبلقان اختلت موازين القوى مما أدى إلى أزمة تهدد بحرب أوروبية جديدة، ولكن عقد مؤتمر برلين في صيف 1878 أنهت هذه الأزمة بروح الحل الوسط، وفي هذا الإطار تم تقليص التمدد الروسي وتفويض النمسا باحتلال البوسنة الذي قاومه البشانقة بقوة بعد أن تخلت عنهم الدولة العثمانية، وهو ما يخصص لـه المؤلف القسم الثالث بكامله.‏

في القسم الرابع "مرحلة الانتقال النمساوية المجرية" ينطلق المؤلف (ص361) من أن الاحتلال النمساوي المجري للبوسنة كان يمثل منعطفاً تاريخياً ومصيرياً للبشناق حيث كان يعني بالنسبة إليهم الانتقال من حضارة (عثمانية) إلى حضارة أخرى مختلفة تماماً (أوروبية). وفي الفصول التالية يستعرض المؤلف أهم ملامح هذه التغيرات في حياة البشانقة مثل تأسيس هرمية/مؤسسة دينية مستقلة عن استنبول (شيخ الإسلام) والهجرة الكبيرة إلى الدول العثمانية كرد فعل على الشعور بالغربة في دولة بغالبية كاثوليكية الخ. وفي الفصل الخاص بـ "السياسة القومية لإدارة الاحتلال" ينطلق المؤلف من أن دولة الاحتلال لم تكن لها رؤية/سياسة واضحة في البداية بينما أخذت هذه السياسة تتضح مع تعيين الوزير بنيامين كالاي (1882-1893) مسؤولاً عن إدارة البوسنة. ففي عهده، وهو الخبير بالبوسنة والبلقان، أخذت تبرز "سياسة قومية" تدعم وجود هوية/قومية بوسنوية واحدة بغض النظر عن الانتماء الديني. والمهم هنا أن المؤلف يوضح (ص375-376) أن كالاي ليس هو من ابتدع "البشنقة" بل يشير إلى محاولات سابقة جرت خلال القرن التاسع عشر.‏

وفي هذا الإطار بدأت تثمر هذه السياسة بين المثقفين المسلمين مع ظهور جيل جديد من المتعلمين (محمد بك قبطانوفيتش وغيره) يدعو إلى هوية/قومية بوسنوية واحدة بغض النظر عن الانتماء الديني وإلى البقاء في الإطار الغربي/النمساوي المجري. ولكن هذا الخط الذي مثلته جريدة "البوشناقي" منذ 1892، جاء متأخراً لأن بلغراد كانت قد استقطبت الأرثوذكس في البوسنة وكذلك زغرب مع الكاثوليك، ولذلك لم ينضم أحد من الأرثوذكس (الذين أصبحوا يعتبرون أنفسهم جزءاً من الشعب الصربي) ولا من الكاثوليك (الذين أصبحوا يعتبرون أنفسهم جزءاً من الشعب الكرواتي) إلى هذه الحركة الجديدة/البشنقة التي بقيت مقتصرة على المسلمين (ص382).‏

وحتى فيما يتعلق بالمسلمين فقد أخذ التفاوت يبرز بينهم فيما يتعلق بمصيرهم ومستقبلهم، إذ بقي بعضهم يحلم بعودة الحكم العثماني بينما كان بعضهم يفضل بعد أن لمس حسنات الحكم النمساوي المجري البقاء في الإطار الجديد مع الاختلاف حول مع أي طرف أفضل (مع النمسا أو مع المجر) يجب أن تكون البوسنة. وفي هذا الإطار جاء قرار ضم البوسنة إلى النمسا المجر في 1908 ليشكل ضربة نهائية لأحلام بعض المسلمين بعودة الحكم العثماني.‏

في القسم الخامس "الحرب العالمية الأولى وتشكيل الدولة اليوغسلافية 1918-1918" ينطلق المؤلف من حادثة اغتيال ولي العهد النمساوي في سراييفو التي أثارت أعمال عنف ضد الصرب، وهي ما دفعت بالزعماء البشانقة والكروات إلى المطالبة بحماية السكان الصرب. وفي هذا الإطار يذكر بالتقدير ما قام به رئيس علماء المسلمين في البوسنة جمال الدين تشاؤشفيتش. ومع تطورات الحرب الميدانية ، التي أصبحت فيها صربيا (العدوة اللدود للنمسا) في صف الحلفاء، تبنّت بلغراد رسمياً سياسة تشكيل دولة تضم سلاف الجنوب/اليوغسلاف الذين كان حوالي نصفهم ضمن النمسا المجر، وهو ما تطابق مع مصلحة الحلفاء الذين أرادوا تفكيك إمبراطورية آل هابسبرغ. ومع أنه برزت في نهاية الحرب العالمية الأولى دولتان يوغسلافيتان، الأولى مقرها زغرب وتجمع كرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والثانية مقرها بلغراد وتجمع صربيا وفويفودينا والجبل الأسود، إلا أن الظروف فرضت على دولة الشمال (زغرب) أن تقبل بالانضمام إلى دولة الجنوب (بلغراد) تحت حكم آل كاراجوفيتش الصرب.‏

وفي القسم السادس "مرحلة الدولة اليوغسلافية 1918-1941" يستعرض المؤلف التحديات التي واجهت البشانقة في الدولة الجديدة، فقد حملت الدولة الجديدة اسم "مملكة الصرب والكروات والسلوفين"، وبالتالي فقد قامت هذه الدولة على نفي هوية/قومية البشانقة منذ البداية وحتى على تهديد وجودهم الجسدي ووضعهم الاقتصادي والاجتماعي، وهي ما يسميها المؤلف "سياسة إفناء جماعي للبشانقة كمسلمين" (ص489). ففي السنوات الأولى من الدولة الجديدة، وفي شرق البوسنة فقط، قتل ما يزيد عن ثلاثة آلاف من البشانقة الأبرياء لكونهم مسلمين على يد عصابات صربية متطرفة (ص489). وقد أدى هذا الوضع إلى تناقص عدد البشانقة بسبب استمرار الهجرة وتحولهم إلى أقلية (588173 فقط من أصل 1.890460 نسمة) بينما أصبح الصرب هم الأغلبية في البوسنة (829360 من 1.890460 نسمة). ولم يتحسن هذا الوضع إلا بعد أن وصلت أخبار المجازر الجماعية إلى الصحف الأوروبية وبعد أن نجح زعماء البشانقة في تشكيل حزب سياسي واحد يمثلهم في البرلمان (منظمة المسلمين اليوغسلاف)، حيث دخل زعيم هذا الحزب د.محمد سياهو في ائتلاف مع المعارضة لتأمين نوع من الاستقرار للبشانقة والحفاظ على هويتهم المتميزة. ولكن هذا الدور انتهى مع موته الغامض في صيف 1939 ومع التوقيع على اتفاق صربي كرواتي لتقاسم البوسنة وإعطاء الكروات فقط الحق بحكم ذاتي واسع.‏

وعن حصيلة تلك السنوات الصعبة التي قضاها البشانقة في الدولة اليوغسلافية الأولى يصل المؤلف إلى نتيجة غير مألوفة ألا وهي أنه في البوسنة فقط (بالمقارنة مع بقية أوروبا) كان قطاع السكان المشتغل في الزراعة والرعي يزداد خلال 1921-1931 عوضاً عن أن ينخفض، إذ أنه ازداد من 80.1% إلى 84.1%. وعلى الرغم من التقدم الملحوظ للشعوب الأخرى في المجال الثقافي والإداري فإن حضور البشانقة كان هامشياً. فحتى نهاية الدولة اليوغسلافية الأولى كان عدد البشانقة الذين أنهوا دراستهم الجامعية لا يتجاوز الـ800، ومن يبن هؤلاء كان سبعة فقط يعملون أساتذة في الجامعات و 15 ضابطاً في الجيش لم يتجاوز اثنان منهم رتبة عقيد، مما كان يعكس التمييز الحاصل ضد البشانقة (ص524).‏

وقد خصص المؤلف القسم السابع لـ"حرب 1941-1945" أي لانهيار يوغسلافيا الأولى/الملكية في نيسان 1941 ونتائج ذلك. وكما أن البشانقة لم يؤخذ برأيهم في 1918 حول تشكيل الدولة اليوغسلافية الأولى فقد وجدوا أنفسهم فجأة الآن (دون أن يؤخذ برأيهم أيضاً) ضمن دولة جديدة ألا وهي "دولة كرواتيا المستقلة" التي أعلنت في 10/4/1941 برعاية ألمانيا. وبينما تركت الدولة الأولى الخيار للبشانقة كي يعبروا عن أنفسهم كصرب أو ككروات فإن الدولة الجديدة أعلنتهم منذ البداية "صفوة الشعب الكرواتي" وعاملتهم على أنهم "كروات مسلمين" ومارست الضغوط الشديدة على رئيس العلماء المسلمين لكي يقبل بذلك (ص533-534). وكما في 1914 فقد رفع زعماء المسلمين صوتهم ضد ملاحقة وتصفية الصرب في البوسنة. ومع أن عدداً محدوداً من الأئمة تعاون مع الدولة الجديدة إلا أن الأغلبية رفضت أو حتى انضمت إلى المقاومة المسلحة بقيادة الحزب الشيوعي اليوغسلافي التي كانت تسعى إلى تأسيس يوغسلافيا جديدة قائمة على المساواة والتعددية (ص536).‏

ولكن تلك الفترة 1941-1945 كانت فترة حرب أهلية بين أنصار الملكية من الصرب وأنصار الجمهورية الجديدة من مختلف الشعوب التي دارت رحاها بشكل خاص في البوسنة والتي كان البشانقة من أكبر ضحاياها. فقد كان البشانقة يتعرضون لضغوط القوى الثلاثة المتصارعة (قيادة كرواتيا المستقلة وأنصار الملكية وأنصار الجمهورية) مما جعلهم يقعون ضحية مجازر جماعية من حين إلى آخر. وبالاستناد إلى آخر المعطيات يذكر المؤلف ان عدد ضحايا البشناق من هذه المجازر الجماعية تجاوز المئة ألف أو 8.1% من عددهم الإجمالي في ذلك الوقت (ص537).‏

Legal tender coins from Bosnia-Herzegovina. (Missing: 5KM Coin and 5Kf coin)

في القسم الأخير من الكتاب "البشناق في مرحلة 1945-1990" يستعرض المؤلف المعاناة الجديدة للبشناق في سبيل الاعتراف بهويتهم/قوميتهم. فقد انطلقت الدولة اليوغسلافية الجديدة/الجمهورية بإنجاز كبير ألا وهو الاعتراف بالبوسنة كجمهورية فدرالية على قدم المساواة مع الجمهوريات الأخرى، ولكنها لم تعترف للبشناق بهويتهم/قوميتهم، وبالتالي لم تجعل البوسنة دولة قومية كما هي صربيا بالنسبة للصرب وكرواتيا بالنسبة للكروات. وفي النقاش حول الدستور الفدرالي الأول قال منظّر الحزب الشيوعي اليوغسلافي ميلوفان جيلاس أن الجمعية التأسيسية لا يمكن أن تبت في أن البشناق شعب مستقل لأن هذه "مسألة نظرية" (ص555). وطالما أنها مسألة نظرية بيد قادة الحزب فلم يبت فيها لأسباب سياسية حتى مطلع الستينات، حيث أعطى الرئيس تيتو الضوء الأخضر لذلك في 1963 وهو ما انتهى إلى قيادة الحزب الشيوعي في البوسنة التي أعلنت بجلاء في شباط 1968 أن "البشناق هم شعب متميز عن غيره" (ص565)، مع إطلاق اسم المسلمين (بالميم الكبيرة) Muslimani عليهم.‏

ولكن هذا الاعتراف أثار انزعاج المعارضة الصربية المتطرفة التي ازدادت وضوحاً بعد إقرار دستور 1974، الذي اعتبرته تجسيداً لتهميش الصرب في يوغسلافيا التيتوية. وقد تصاعدت هذه المعارضة بعد وفاة تيتو في 1980 وأصبحت تطالب علانية بإعادة تكوين يوغسلافيا بما يحقق للصرب مصالحهم أو تشكيل "صربيا الكبرى". وقد أدت الخلافات بين قيادات الجمهوريات إلى اللجوء للقوة لمنع استقلال سلوفينا وكرواتيا، وصولاً إلى التدخل العسكري لمنع استقلال البوسنة في اليوم (6 نيسان 1992) الذي اعترف فيه الاتحاد الأوروبي باستقلالها. ويخلص المؤلف إلى أنه خلال الحرب 1992-1995 جرى بشكل عفوي استعادة البشناق لاسمهم التاريخي، وهو ما أقره المؤتمر البشناقي الثاني الذي انعقد في سراييفو خلال خريف 1993 (ص569).‏

ويلاحظ هنا أن هذا القسم (ص547-569) يبدو صغيراً بالمقارنة مع السنوات التي يغطيها (1945-1990) ومع الأحداث المهمة التي يتناولها. وربما كان يبدو للمؤلف أن أحداث هذه المرحلة أقرب إلى القارئ بتفاصيلها، ولكنها ليست كذلك للقارئ خارج البوسنة ويوغسلافيا السابقة.‏

في خاتمة الكتاب (ص571-573) يصل المؤلف إلى أنه يمكن تلخيص تاريخ البشناق بأنه كفاح متواصل للحفاظ على وجودهم في أرضهم وسط محيط معاد لهم (ص572). ومن المفارقات التي يشير إليها المؤلف أن الهجوم على البشناق قد زاد بعد أن تم الاعتراف بهم كشعب مستقل في يوغسلافيا التيتوية (ص573). ومن ناحية أخرى ينتهي المؤلف إلى أن الغرب، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي، لم يكن معنياً كثيراً بالتدخل لإنقاد شعب أوربي مسلم من الإبادة الجماعية. وهكذا فقد وجد البشناق أنفسهم ضحية بين نارين، بين كرواتيا التي أرادت أن تتخلص من هيمنة صربيا في يوغسلافيا السابقة وبين صربيا التي أرادت تأكيد هيمنتها على يوغسلافيا السابقة (ص573).‏

وأخيراً يمكن القول مرة أخرى أنه مع كتاب د.إماموفيتش لدينا كتاب مرجعي وغني بالتفاصيل المستقاة من مختلف المصادر التي تجعلنا نتعرف على البشناق كشعب وعلى كفاحه المتواصل في سبيل الدفاع عن وجوده وإثبات حقه في هويته المستقلة.‏