الليدي ماري ورتلي مونتاگيو

ماري ورتلي مونتاگيو، بريشة تشارلز جرڤاس، بعد 1716
ماري ورتلي مونتاگيو مع ابنها إدوارد، بريشة جان-باتيست ڤان مور

الليدي ماري ورتلي مونتاگيو Lady Mary Wortley Montagu (عاشت 15 مايو 1689 - 21 أغسطس 1762) كانت أرستقراطية وكاتبة إنگليزية. وتـُذكر مونتاگيو اليوم في الأساس برسائلها وخصوصاً رسائلها من تركيا، كزوجة السفير البريطاني، والتي وصفها بيلي ملمان بأنها “أول مثال لعمل علماني لإمرأة عن الشرق المسلم”.[1]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

سيرتها

بهذا اللقب ألفت إنجلترا أن تلقب ألمع الإنجليزيات في جيلها، المرأة التي دخلت تاريخ الآداب والعادات بهجومها على التقاليد التي حبست جنسها، ودخلت تاريخ آداب اللغة بكتابتها رسائل تنافس رسائل مدم دسفينييه.

وقد حظيت بظروف مواتية للانطلاق؛ فهي حفيدة السر جون ايفلين، وابنه ايفلين بييربونت الذي انتخب عضواً بالبرلمان سنة مولدها (1689)، والذي ورث عقب ذلك ضيعة غنية ولقب ايرل كنجزتن، ومن هنا لقبت ابنته بـ "ليدي ماري" منذ طفولتها. أما أمها، الليدي ماري فيلدنج، كان أبوها ايرلاً، وابن عمها هو الروائي المعروف. وماتت الأم وبطلتنا لا تتجاوز الرابعة من عمرها. وأرسل الأب أطفاله إلى أمه لتكفلهم، فلما ماتت عادوا إلى مقره الريفي المترف، ثورزبي بارك، في مقاطعة نوتنجهامشير، وكانوا يعيشون أحياناً في منزله اللندني في بيكاديللي. وكان شديد التعلق بماري التي اختارها "نخباً" (أي شخصاً يشرب نخبه) للعام في نادي الكيت كات؛ هناك كانت تنتقل من حج إلى حجر، وتبدي ذكاءها في شيطنة. وقد علمت نفسها في مكتبة أبيها بمعاونة مربيتها، فكانتا تتفقان هناك أحياناً ثماني ساعات في اليوم، تستوعبان الرومانسيات الفرنسية، والتمثيليات الإنجليزية. والتقطت بعض الفرنسية والإيطالية، وعلمت نفسها اللاتينية بالاستعانة بـ "تحولات" الشاعر أوفيد.. وكان أديسون وستيل وكونجريف يختلفون إلى البيت، ويشجعونها على الدرس، ويحفزون ذهنها المتطلع. ونحن نعرف، من مصدر وحيد هو مصدرها هي، أن إلمامها بالآداب اللاتينية هو الذي جذب إليها اهتمام إدوارد ورتلي. وكان حفيداً لإدوارد مونتاجيو، أول ايرل لساندوتش، واتخذ أبوه سني مونتاجيو اسم ورتلي عند زواجه بوارثة ذلك اللقب. وكان إدوارد حين التقى بماري (1708)-وهو في الثلاثين-رجلاً ذا شأن وتطلعات كبيرة، تزود بتعليم جامعي، ودعي لاحتراف المحاماة في الحادية والعشرين، وظفر بكرسي في البرلمان وهو في السابعة والعشرين. وهو لا يدري كيف بدأ توددها إليه، ولكن هذا التودد أحرز شيئاً من التقدم، لأنها اكتتبت له في 28 مارس 1710 تقول:

"اسمح لي بأن أقول هذا (وأنا عليمة بأن قولي قد يبدو غروراً)، وهو أني أعرف كيف أسعد رجلاً معقولاً؛ ولكن على ذلك الرجل... أن يسهم هو نفسه بشيء في هذا... وهذه الرسالة... هي أولى رسالة كتبتها في حياتي لإنسان من جنسك، وستكون الأخيرة. فعليك ألا تتوقع رسالة أخرى على الإطلاق(117)".

وأفلحت استراتيجتها المتأنية. فلما مرضت بالحصبة أرسل إليها رسالة قصيرة كانت أحر مما ألف أن يرسل: "كان يفرحني كثيراً أن أسمع بن حسنك قد أوذي جداً لو كنت أسر بأي شيء يسوءك، لأن من شأن هذا أن يقلل عدد المعجبين بك(118)". ودفع جوابها حملتها خطوة أخرى "إنك تظن أنني-لو تزوجتني-سأهيم بحبك شهراً، ويحب آخر في الشهر التالي، ولكن لن يحدث هذا ولا ذاك. ففي استطاعتي أن أقدر إنساناً، وأن أكون صديقة لإنسان، ولكنني لا أدري أأستطيع أن أعشق(119)". ولعل هذه الصراحة جعلته يتريث، لأنها كتبت في نوفمبر "تقول إنك لم تستقر على رأي بعد، فدعني أقرر نيابة عنك، وأعفيك من مشقة الكتابة ثانية. وداعاً غلى الأبد! لا ترد(120)". وعادت تكتب في فبراير 1711 لتقول له "هذه آخر رسالة أبعث بها(121)". واستأنف تودده إليها، فتقهقرت، وأغرته بالمطاردة الحثيثة. وتدخلت الاعتبارات المالية واعتراض الأب، فدبرا الهرب، وإن كان معنى هذا ألا تتوقع مهراً من أبيها. وأنذرت ورتلي إنذاراً أميناً "فكر الآن لآخر مرة بأي طريقة يجب أن تأخذني. سأحضر إليك بقميص نومي وتنورتي، وذلك كل ما ستحصل عليه معي(122)" والتقيا في نزل، وتزوجا في أغسطس 1721، وبعدها لقبت بالليدي ماري ورتلي مونتاجيو، هذا الاسم الأخير اتخذته من نسب زوجها، ولكن لما كان ابناً لابن ثان للأسرة (غير البكر)، فقد ظل اسمه إدوارد ورتلي دون ألقاب شرف.

وما لبثت دواعي العمل والسياسة أن نقلته إلى درم ولندن، بينما تركها بدخل متواضع جداً في عدة بيوت في الريف انتظاراً لوصول وليدها. وفي أبريل لحقت بورتلي في لندن، وهناك وُلد طفلها الأول في شهر مايو. على أن سعادتها كانت قصيرة الأجل، فقد رحل زوجها سعياً لإعادة انتخابه في البرلمان، وما لبثت أن أخذت تشكو الوحدة؛ لقد تطلعت إلى شهر عسل حالم، وتطلع هو إلى مقعد في البرلمان جديد. وأخفقت حملته الغالية التكلفة، ولكنه عين عضو لجنة صغيراً. واستأجر بيتاً قرب قصر سانت جيمس، وهناك، في يناير 1715، بدأت الليدي ماري غزوها للندن.

وقد خبرت فيها دوامة الحياة الاجتماعية. فكانت تستضيف الأصحاب أيام الاثنين، وتختلف إلى الأوبرا أيام الأربعاء، وإلى المسرح أيام الخميس. وتزور وتزار، وترفرف حول بلاط جورج الأول، ومع ذلك ظفرت برضي الأميرة كارولين. وصادقت الشعراء، وتبادلت النكت الذكية مع بوب وجاي. وافتتن بوب ببديهتها الحاضرة، ونسي لحظة احتقاره للجنس الأنعم، وصفق لجهودها في تعليم البنات، وأهداها بعض قوافيه التي نظمها في هرولة:


"في الحسن أو الذكاء

لم يجرؤ بشر بعد

أن يشك في علو كعبك،

ولكن من الرجال ذوي الفطنة

من رأي أن التسليم لسيدة

في أمور العلم أمر عسير.

إن المدارس الوقحة،

بقواعدها الغبية البالية،

أنكرت التعليم على الإناث،

وكذلك ينكر البابويون

على الناس قراءة الكتاب المقدس

مخافة أن تغدو الرعية حكيمة كراعيها.

إن المرأة كانت أول

من ذاق لذة المعرفة

(رغم أنها لعنت)

ويجمع الحكماء

على أن القوانين يجب أن تقضي

بالحق لأول مالك.

إذن فاستأنفي أيتها السيدة الحسناء

في جرأة ذلك الحق القديم

الذي هو مطلب جنسك كله؛

واجعلي الرجال يتلقون

على يد حواء ثانية ذكية

معرفة الخير والشر.

ولكن إذا كانت حواء الأولى

قد عوقبت عقاباً صارماً

لأنها لم تقطف غير تفاحة واحدة،

فأي عقاب جديد

يقضي به عليك،

يا من سرقت الشجرة كلها بعد أن ذقت حلاوتها(123)؟"

وكتب جاي الآن نشيداً رعوياً سماه "التبرج" هجا فيه بعض أعلام لندن تحت أسماء زائفة شفافة. وشاركت الليدي ماري في هذه اللعبة. وبمساعدة بوب وجاي نظمت نشيدين رعويين نافست أبياتهما الزوجية البتارة أبيات الشاعرين رشاقة ولذعاً. ولم تنشر هاتين القصيدتين، ولكنها سمحت بتداول نسخ مخطوطة منهما بين الأصدقاء-واكتسبت الآن شهرة بأنها قريع بوب بين النساء، امرأة تحذق فنون القلم والقوافي والسخرية الموجعة.


تلقيح العثمانيين ضد الجدري

على أنها في ديسمبر 1715 كابدت لطمة أوجع من سهامها. ذلك أن الجدري الذي قتل من قبل أخاها هاجمها هجوماً قاسياً حتى شاع أنها ماتت. وقد نجت من الموت، ولكن وجهها تشوه ببثور الجدري، ورموشها سقطت، ولم يبق غير عينيها السوداوين النجلاوين أثراً من ذلك الجمال الذي اعتمدت عليه في دفع زوجها إلى الأمام. ومع ذلك ظفر ورتلي بالمكافأة، ففي أبريل 1716 عين "سفيراً فوق العادة" في البلاط العثماني، وابتهجت الليدي ماري، فلقد حلمت بالشرق مرتعاً للأحلام والشعر، وحتى وهي في صحبة زوجها قد تجد الرومانس في الآستانة أو في الطريق إليها. وكتب لها بوب وقد طاف هذا الحلم بخياله كذلك، في أول يوليو، رسالة أشرفت على شفا الغرام بأسلوب أنيق:

"لو خطر لي أنني لن أراك ثانية لقلت هنا أشياء ما كنت لأقولها لشخصك. فما أريد أن أتركك تموتين مخدوعة فيَّ، أي تذهبين إلى الآستانة دون علم بأنني، بشيء من المبالغة، وبغاية التعقل أيضاً، يا سيدتي".

ثم وقع بالتحية المنمقة المألوفة، تحية العبد الخاضع المطيع(124).

وفي أول أغسطس، عبر ورتلي وماري وابنهما البالغ ثلاث سنين ورهط من الخدم والحشم البحر إلى هولندا. ومروا بكولونيا إلى ريجنزبرج، حيث أبحروا على ذهبية يجدف فيها اثنا عشر ملاحاً مروراً بقمم جبلية تعلوها القلاع. وفي فيينا وجدت رسالة من بوب يقدم فيها قلبه ويؤكد لها:

"لا لأني أرى في كل إنسان متجرد مشهداً رائعاً مثلك أنت وقلة أخرى من الناس... في وسعك أن تتخيلي بسهولة مبلغ رغبتي في مراسلة شخص علمني منذ أمد بعيد أن الاحترام من أول نظرة محال كالحب، وأفسد عليَّ من ذلك الحين لذة كل حديث مع أحد الجنسين، وكل صداقة مع الجنس الآخر تقريباً.. لقد فقدت الكتب تأثيرها عليَّ، وآمنت منذ رأيتك أن هناك شيئاً أقوى من الفلسفة، وأن هناك، منذ سمعتك، إنساناً حياً هو أحكم من جميع الحكماء(125)".

ولكنه أضاف أمله بأن تكون سعيدة مع زوجها، وردت عليه قائلة:

"ربما ضحكت مني لشكري إياك بكل وقار عن اهتمامك المتفضل الذي أعربت عنه. ومن المؤكد أنه يحق لي، أن شئت أن أحمل الأشياء الجميلة التي قلتها لي على محمل الفكاهة والمزاج، وربما كان حملي لها على هذا المحمل صواباً. ولكنني لم أكن في حياتي ميالة ولو نصف ميلي الآن لتصديقك(126)".

وفي 3 فبراير 1717 بعث لها بوب بتصريح آخر يبوح فيه بحبه العميق، محتجاً على اعتباره إياه "صديقها فقط". واحتفظت ماري بهذه الرسائل لنفسها، سعيدة بأنها حركت حطام أحد الشعراء الأحياء. وبلغت الجماعة الآستانة في مايو. وهناك عكفت ماري على تعلم التركية بعزيمة ماضية، وبلغت من ذلك مبلغاً أتاح لها فهم الشعر التركي والإعجاب به، واتخذت الثياب التركية، وزارت النساء في الحريم، ووجدتهن أرقى من خليلات جورج الأول. ولاحظت ممارسة التطعيم في تركيا بشكل منتظم وناجح وقاية من الجدري، وطعم الدكتور ميتلاند الجراح الإنجليزي في الآستانة ولدها بناء على طلبها. ورسائلها من تلك المدينة لا تقل فتنة عن أي رسائل في هذا الجانب من جوانب مدام دسفنييه، أو هوراس ولبول، أو ملشيور جريم. ولم تنتظر حتى يخبرها إنسان بأنها أدب، فلقد كتبت بهذا التطلع، وقال لأصدقائها "أن أحدث اللذات التي صادفتها في طريقي هي رسائل مدام دسفنييه، جميلة جداً هذه الرسائل، ولكني أؤكد، دون أدنى غرور، أن رسائلي لن تقل عنها إمتاعاً بعد مضي أربعين سنة من الآن. لذلك أنصحكم بألا تقذفوا بأي منها في سلة المهملات(127)".

واتصلت رسائلها مع بوب. فتوسل إليها أن تأخذ تأكيداته مأخذ الجد، ولكن نبرته كانت مزيجاً محيراً من المزاح والحب. وقد تصور تركيا في خياله الشاطح "بلد الغيرة، حيث لا تتحدث النساء التعسات مع أحد إلا الخصيان، وحيث يؤتى لهن بالطعام،-حتى الخيار-مقطعاً". ثم أضاف وهو يفكر في تشوه جسده محزوناً "أنني شخصياً قادر على أن أتبع إنساناً أحببته، لا إلى الآستانة فحسب، بل إلى أرجاء الهند التي يقولون لنا أن النساء فيها يعظم حبهن لأقبح الرجال صورة،... ويرين في التشوهات دلائل الرضي الإلهي". ويقول إنه سيعتنق الإسلام إن اعتنقته ويصحبها إلى مكة، وأنه لو وجد التشجيع صدق(109)". وأقام عليه الأميرال دعوى القذف، فكابد سمولت الكافي لالتقى بها في لمباردية، "مسرح تلك الغراميات المشهورة بين الأميرة الجنية وقزمها(128)". فلما علك أنها عائدة إلى أرض الوطن هزه الطرب حتى كاد ينتش: "أكتب وكأنني ثمل، فاللذة التي أجدها في التفكير في عودتك تطريني فوق حدود التعقل واللياقة... تعالي بالله، تعالي يا ليدي ماري، تعالي سريعاً!(129)".

الليدي مونتاگيو بالزي التركي بريشة جان-إيتيان ليوتار، ح. 1756، القصر على الماء في وارسو

وأخفقت بعثة ورتلي، ودعي للعودة إلى لندن. ونحن نقرأ عينة من أسفار القرن الثامن عشر في رحيلهم من الآستانة في 5 يونيو 1718 ووصولهم إلى لندن في 12 أكتوبر. هناك عاودت الليدي ماري حياتها في البلاط ومع الأدباء والظرفاء، ولكن بوب الذي كان الآن عاكفاً على ترجمة هومر، كان مشغولاً في ستانتون هاركورت. على أنه انتقل في مارس 1719 إلى تويكنهام، وفي يونيو وجد ورتلي والليدي ماري بمعونته بيتاً هناك أيضاً باعه لهما السر جودفري نللر. وعقب ذلك دفع بوب لنللر عشرين جنيهاً ليرسم لها صورتها(130). وقد أجاد نللر رسمها مع أنه كان في الرابعة والسبعين. فاليدان رائعتان، والوجه يكاد يكون شرقياً كلباس الرأي التركي، والشفتان ممتلئتان امتلاءً شهوانياً، والعينان نجلاوان سوداوان لا تزالان تخلبان الألباب-وقد أشاد بهما جاي في أبيات في هذه الفترة. وعلق بوب اللوحة في حجرة نومه، وخلدها في قصيدة بعث بها إليها:

"البسمات اللعوب حول الفم المغمّز،

وسيماء الجلال والصدق السعيدة،

ونظير هذا من تألق في الذهن الرفيع

حيث اجتمعت كل المفاتن والفضائل،

علم في تواضع، وحكمة في اعتدال،

عظمة في غير تكلف، وذكاء في غير ادعاء(131)".

في ذلك العام بلغ نجمها أوجه، وبدأت الكوارث التي ابتليت بها. ذلك أن زائراً فرنسياً يدعى توسان ريمون أودع عندها ألفين من الجنيهات لتستثمرها على الوجه الذي تستصوبه. فاشترت بها أسهماً

من شركة بحر الجنوب بناء على نصيحة بوب، ولكن الأسهم هبطت هبوطاً مدمراً، فأصبح الألفان خمسمائة، فلما أنهت الأمر إلى ريمون اتهمهما بسرقة ماله (1721). وفي السنة نفسها هدد حياة ابنتها التي ولدتها في 1718 وباء جدري أصابها، فأرسلت في طلب الدكتور ميتلاند الذي كان قد عاد من الآستانة، فطعم الفتاة بناء على طلبها. وسنرى في مكان لاحق تأثير هذا المثل على الطب البريطاني قبل جنر. وفجأة، في 1722، انهارت صداقتها لبوب. كانا إلى شهر يوليو يلتقيان في كثرة أثارت القيل والقال في تويكنهام. ولكن في سبتمبر بدأ يكتب الرسائل الودية إلى جوديث كوبر، ذكر فيها على سبيل تعزيتها، أن هناك اضمحلالاً واضحاً في "ألمع ذكاء في العالم". وزعمت الليدي ماري أن بوب قد أباح لها بحبه في حرارة، وأنه لم يغتفر لها قط الاستخفاف التي قابلت به هذه المغامرة الجريئة(132). ولزم الصمت برهة، ولكنه كان بين الحين والحين يرهف شعره في مناسبات بسهام يستشفها القارئ بسهولة. ولما كتبت لصديق تذكر أن سويفت وبو وجاي هم الذين اشتركوا في كتابة قصيدة غنائية شعبية ظن الصديق أنها من نظمها، بعث إليها بوب بتوبيخ حاد؛ وفي قصائده "المنوعات" التي نشرها في 1728 أذاع هذا التوبيخ بوضوح صارخ:


"تلك ألاعيبك يا ليدي ماري،

ولكن ما دمت تفقسين، فاعترفي بأفراخك،

وكوني أكثر حذقاً في نقراتك،

فلا تنقري كبار ديوكك كما تفعلين بصغارها(133)".

وفي قصيدة سماها "التقليد" (1733) أشار إلى "سافو الهائجة.. .. التي ابتلاها حبها بمرض..." وهو يعني أن عشيقها أصابها بالزهري(134). ويقول هوراس ولبول أنها هددت بأن ترسل إليه من يضربه بالسوط.

وكانت هذه المشاحنة القبيحة ضربة أخرى أعانت على انهيار زواجها. ذلك أن ورتلي بعد أن استعاد مكانه في البرلمان تركها مهملة إهمالا واضحاً في تويكنهام. وقد جعلت موت أبيه (1727) رجلاً عريض الثراء، فزودها بحوائجها المادية، ولكنه تركها لمواردها الخاصة في شئون الحب. وأخذ ابنها يثبت أنه وغد كسول. أما ابنتها التي غدت امرأة ذكية مهذبة فكانت سلواها الوحيدة. وحاول اللورد هرفي أن يحتل مكان بوب في حياتها، ولكن كان في طبيعة جسمه ما جعله لا يستطيع أن يغتفر لها، ولا لزوجته، كونها امرأة. ولا بد أنه عرف بتقسيم الليدي ماري النوع الإنساني إلى رجال، ونساء، وهرفيين(135). وفي 1736 دخل نيزك إيطالي فلكها وغير مساره. ذلك هو فرانتشسكو الجاروتي، الذي ولد بالبندقية في 1712، وكان قد أثار بعض الضجة في دنيا العلم والأدب الخالص. وفي 1735 كان ضيفاً في بيت فولتير ومدام دشاتليه في سيريه حيث درس ثلاثتهم نيوتن. ثم قدم إلى لندن بخطابات تعريف من فولتير، واستقبل في البلاط، والتقى بهرفي وبالليدي ماري على طريقه. ووقعت في غرامه كما لم تقع قط في غرام ورتلي لأن قلبها كان خالياً، ولأنه كان جميلاً، ذكياً، شاباً. وكانت ترتعد حين يخطر لها أنها في السابعة والأربعين وأنه في الرابعة والعشرين. وبدا أن طريقها إلى الرومانس قد غدا ممهداً من زواج ابنتها بايرل بيوت (أغسطس 1736). فلما سعت أن الجاروتي عائد إلى إيطاليا أرسلت إليه خطاباً يفيض بعاطفة الصبايا المشبوبة:

"لم أعد أعرف بأي طريقة أكتب إليك. فمشاعري أقوى مما ينبغي، وليس في طاقتي أن أفسرها ولا أن أخفيها. فلكي تغتفر لي رسائلي يحب أن تجيش في صدرك حماسة كحماستي. وأنني لأرى كل ما في هذا من حماقة دون أي أمل في إصلاح نفسي. فمجرد فكرة مشاهدتك أعطتني نشوة تذيبني، فماذا جرى لتلك اللامبالاة الفلسفية التي صنعت مجد أيامي الماضية وهدوءها؟ لقد فقدتها غلى الأبد، ولو أن هذا الغرام المشبوب شفى لما رأيت أمامي غير الملل القاتل. فاغفر هذا الشطط الذي كنت السبب فيه، وتعال لتراني(136)".

وأتى، وتناول العشاء معها عشية رحيله. وكان هرفي قد دعاه أيضاً، فلم يلب دعوته. فجن من الغيرة، وكتب إلى الجاروتي طعناً مراً في الليدي ماري، منبهاً إياه إلى أنها كانت تذيع على لندن كلها غزوها الإيطالي بهذه العبارة المزهوة Vini, Vidi, Vici "جئت، ورأيت، وغلبت" ربما، ولكن رسائلها إلى الجاروتي لم تكن رسائل الغالب:

"ما أجبن الإنسان حين يحب" أخشى أن أسيء إليك بإرسالي هذا الخطاب حتى ولو كان قصدي أن أسرك. والحق أنني مجنونة في كل أمر يتصل بك حتى أنني لست واثقة من خواطري.. كل ما هو مؤكد هو أنني سأحبك ما حييت، برغم نزوتك وتعقلي(137)".

ولم يرد على هذه الرسالة، ولا على ثانية، ولا ثالثة، رغم تهديدها بالانتحار. أما الرابعة فقد انتزعت منه رداً جاء كما تقول "في وقت مناسب جداً لإنقاذ البقية الباقية من عقلي". فق عرضت أن تتبعه إلى إيطاليا، ولكنه ثناها عن الفكرة، وراحت تجتر غرامها في عزلتها ثلاث سنوات. ولكن في 1739 أقنعت زوجها بأنها في حاجة إلى رحلة لإيطاليا. وكان قد فقد حبه لها، فاستطاع أن يتصرف تصرف الإنسان المهذب. فودعها حين غادرت لندن، ووافق على أن يرسل لها راتباً ربع سنوي قدره 245 جنيهاً من دخله الخاص، وأن يحول إليها دخلها السنوي الذي أوصي به أبوها وقدره 150 جنيهاً. وسافرت بأسرع ما تستطيع غلى البندقية أملاً في أن تجد الجاروتي هناك، ولكنه كان قد ذهب إلى برلين (1740) ليعيش مع فردريك الثاني المتوج حديثاً، وكان يحبه حب اللوطيين. واتخذ ماري لها بيتاً على قناة البندقية الكبرى وقد استبد بها الحزن، وافتتحت فيه صالوناً، واستضافت الأباء والكبراء، وحظيت بالتودد اللطيف من نبلاء البندقية وحكامها.

ثم غادرت البندقية إلى فلورنسة بعد عام، وأقامت شهرين في قصر ريدولفي ضيفاً على اللورد والليدي بومفريت. ورآها هوراس ولبول هناك، وأرسل إلى هـ. س. كونواي وصفاً رقيقاً لها: "هل أنبأتك بأن الليدي ماري ورتلي هنا؟ إنها تضحك من الليدي ولبول (زوجة أخي هوراس)، وتقرع الليدي بومفريت، وتضحك منها المدينة كلها. ولا بد أن لباسها، وجشعها، ووقاحتها، تدهش أي إنسان لم يسمع باسمها. فهي ترتدي قبعة بشعة (تربط تحت الذقن) لا تخفي خصلاتها السوداء الدهنية القوام التي ترسلها دون تمشيط أو تجعيد، وأزاراً أزرق قديماً يفغر فاه ويكشف عن تنورة من التيل. وقد انتفخ وجهها انتفاخاً شديداً من أحد جانبيه بمخلفات-غطى بعضها بلزقة، وبعضها بالطلاء الأبيض.. وقد قامرت مرتين أو ثلاثاً في لعبة ورق (تسمى الفرعونية) في قصر الأميرة كراءون حيث تغش بكل وسيلة في اللعب. وهي في الحق مسلية، كنت أقرأ أعمالها التي تعيرها مخطوطة، ولكنها نسائية إلى حد مفرط، وأعجبني القليل من أعمالها(138)".

والواقع أن هذا الكاريكاتور كان له أساس، فقد جرى العرف في إيطاليا على أن ترتدي المرأة في بيتها الثياب الفضفاضة المهملة توخياً للراحة، وما من شك في أن وجه ماري منقراً جداً، ولكن ليس بالزهري بالتأكيد(139). وكان من عادات المؤلفين أن يعيروا الأصدقاء مخطوطاتهم. وقد أثارت الليدي ماري استياء ولبول الشاب بمصادقتها لمولي سكيريت، التي ساءه منها أنها أصبحت الزوجة الثانية لأبيه. ولعل الليدي ماري كانت أكثر إهمالاً لمظهرها مما اعتادت بعد أن ظنت أنها فقدت الجاروتي إلى الأبد.

ثم علمت أنه في تورين، فهرعت إليها، ولحقت به (مارس 1741)، وعاشت معه شهرين. ولكنه عاملها بخشونة وعدم مبالاة، وسرعان ما تشاجرا وافترقا، فمضي هو غلى برلين، وهي إلى جنوه. هناك رآها ولبول مرة أخرى، واستمتع بكرم ضيافتها، ووجه إلى مركبتها أبيات تنفث السم:

"إيه أيتها العربة، يا من حكم عليك بأن تحملي

جلد الليدي ماري العفن،

اذهبي بها إلى أقصى ركن في إيطاليا،

وأنزليها بالله حية،

ولا تعجني بهزاتك ولطماتك

نصف الأنف الذي ما زالت تحتفظ به(140)".


وفي 1760 أبهجها أن تعلم أن صهرها أصبح عضواً في المجلس الخاص لجورج الثالث. وفي 21 يناير 1761 مات زوجها تاركاً معظم ثروته لابنته، و1.200 جنيه في العام لأرملته. وعادت الليدي ماري إلى إنجلترا (يناير 1762) بعد غيبة امتدت إحدى وعشرين سنة، إما لأن موت زوجها أزال عقبة خفية في سبيل رجوعها، وإما لأن سطوع نجم صهرها في عالم السياسة قد اجتذبها إلى وطنها.

غير أن الأجل لم يمهلها أكثر من سبعة أشهر، ولم تكن بالأشهر السعيدة. ذلك أن مطاردتها لألجاروتي، وأنباء كتلك التي أشاعها عنها هوراس ولبول، كانت قد سوأت سمعتها؛ ثم أن ابنتها لم تسعد بحبة أمها رغم حرصها على صحتها وراحتها. وفي يونيو بدأت الليدي ماري تشكو ورماً في صدرها. وتقبلت في هدوء مصارحة طبيبها لها بأنها مصابة بالسرطان، وقالت إنها عاشت من العمر ما يكفي. وماتت بعد شهور من الألم (21 أغسطس 1762).

وكان من آخر طلباتها أن تنشر رسائلها لتعطي الفقراء جانبها من القصة، وتدعم حقها في تذكر الناس لها. ولكنها كانت قد عهدت بمخطوطاتها إلى ابنتها، فبذلت هذه الابنة (الليدي بيوت) التي غدت الآن زوجاً لرئيس الوزراء ما وسعها لتمنع نشرها. على أن الرسائل التي كتبتها من تركيا نسخت سراً قبل أن تسلم لابنتها، وصدرت في 1763. وسرعان ما نفدت عدة طبعات منها، وكان من قرائها الذين ابتهجوا بها جونسن وجبون. أما النقاد الذين قسوا على المؤلفة وهي حية، فقد أسرفوا الآن في إطراء رسائلها. وكتب سمولت يقول إن الرسائل "لم يكتب نظيرها أي كاتب رسائل من أي جنس، أو سن، أو أمة" وفضلها فولتير على رسائل مدام سفنييه(141). وقد أحرقت الليدي بيوت قبل أن تموت في 1794 يومية أمها الضخمة، ولكنها تركت الرسائل ليتصرف فيها ابنها البكر. فسمح بنشر بعضها في 1803، أما الرسائل التي كتبتها لألجاروتي فظلت طي الخفاء إلى أن أقنع بايرون جون مري بأن يشتريها من صاحبه الإيطالي(1817). ولم يكتمل نشرها إلا عام 1861، واعترف الناس بأن الليدي ماري تشارك بوب، وجراي، وجاي، ورتشاردسن، وسمولت، وهيوم، الفضل في جعل أدب إنجلترا أعظم آداب ذلك العصر الفحل تنوعاً وحيوية وتأثيراً.

المراجع

  •  Chisholm, Hugh, ed. (1911). "Montagu, Lady Mary Wortley" . دائرة المعارف البريطانية (eleventh ed.). Cambridge University Press. {{cite encyclopedia}}: Cite has empty unknown parameter: |coauthors= (help)
  • Lady Mary Wortley Montagu BBC Radio 4, Woman's Hour, History and science archive. 6 April 2007 . Accessed April 2007

ببليوگرافيا

  • Halsband, Robert (1956). The Life of Lady Mary Wortley Montagu (Illustrated ed.). Oxford: Clarendon Press.
  • The complete letters of Lady Mary Wortley Montagu, 3 vols, edited by Robert Halsband, Oxford: Clarendon Press, 1965-67.
  • Romance Writings, edited by Isobel Grundy, Oxford: Clarendon Press, 1996.
  • Essays and Poems and Simplicity, a Comedy, edited by Isobel Grundy, Oxford: Clarendon Press, 1977, revised 2nd 1993.
  • Lady Mary Wortley Montagu: Comet of the Enlightenment, Isobel Grundy, Oxford University Press, USA; New edition 2001 714 pp ISBN 0-19-818765-3
  • The Letters and Works of Lady Mary Wortley Montagu, Lord Wharncliffe and W. Moy Thomas, editors. London: Henry G. Bohn, 1861.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

استعراضات كتب

  • Prescott, Sarah. Lady Mary Wortley Montagu: Comet of the Enlightenment, Isobel Grundy 1999. Review of English Studies, New Series, Vol. 51, No. 202 (May, 2000), pp. 300–303

المصادر والهامش

  1. ^ Melman, Billie. Women's Orients: English Women and the Middle East, 1718-1918. University of Michigan Press. 1992.

وصلات خارجية

Wikiquote-logo.svg اقرأ اقتباسات ذات علاقة بالليدي ماري ورتلي مونتاگيو، في معرفة الاقتباس.