الصراع القيسي اليمني في الأندلس

علاء اللامي
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الجزء الأول:

ماذا نعرف عن الصراع العنيف بين القيسية واليمنية في التاريخ العربي قبل وبعد الإسلام؟ ثمة صفحة مهمة من صفحات التاريخ العربي تكاد تكون مجهولة لدى الأجيال العربية المعاصرة. إنها صفحة الصراع القبلي الواسع والعنيف في التاريخ العربي وهو الصراع القيسي اليمني، الذي انقسم فيه العرب إلى ما يشبه شعبين متقاتلين ومتعاديين بحدة هما الشعب القيسي والشعب اليمني. وكان لهذا الانقسام دور كبير ومهم وفاعل في الأحداث قبل وبعد الإسلام وصولا إلى العصر الحديث الذي تطامن وهدأ فيه هذا الصراع لمصلحة استعار أشكال أخرى من الصراعات الداخلية ذات الطابع الطائفي الديني كذاك الذي أججه الاحتلال الأميركي للعراق المترافق والمتكامل مع الظاهرة التكفيرية الفاشية.

لقد ملأ صراع القيسية واليمنية، أي بين عرب الشمال (بمختلف أسمائهم المتداخلة والمتوالدة كالعدنانيين، القيسيين والمضريين) وعرب الجنوب (اليمنيين أو القحطانيين) صفحات مهمة وكثيرة ومريرة من صفحات التاريخ ومن الضروري والمفيد التعرف عليها كجزء وطيد من تاريخنا.

إن القيسية والمضرية والعدنانية تسميات متعددة لتنسيب سلالي قبلي واحد يعني "العرب المستعربة"، وهم الذين ينسبون، وفق علم التنسيب التقليدي ذي الجذور التوراتية، إلى النبي إسماعيل بن النبي إبراهيم، وهو تنسيب موروث عبر الذاكرة مشافهة غالبا وغير موَّثق ومسنود بأدوات علم الإناسة "الانثروبولوجيا" والعلوم الأخرى ذات العلاقة. والعرب المستعربة هم الأقوام التي لم تكن تتكلم العربية وهاجرت إلى الحجاز وأقاليم "العربيا" الأخرى، وتعربت بالتدريج. وقد نجد هنا أصداء لهجرة أبي الأنبياء التوراتيين إبراهيم من جنوب العراق إلى الحجاز وفق بعض السرديات التاريخية. حيث نقرأ في مشجرة القبائل المضرية الآتي (القيسية هي مجموعة كبيرة جداً من القبائل العربية يقال لهم مضر السوداء، وينتسبون لقيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ومنهم تنحدر القبائل القيسية، (انظر مشجرة القبائل المضرية).

أما القحطانية أواليمنية فهم العرب العاربة، ذوو الأصول العربية الأصيلة، وكانوا يتكلمون العربية وأصلهم من اليمن. والمقصود يقينا اللغة العربية الجنوبية القديمة والمختلفة عن اللغة العربية الحديثة كما يعتقد بعض المتخصصين، رغم صعوبة الحسم العلمي في هذا الميدان.

إذن (العرب العاربة هم -اليمنيون - القحطانيون، أبناء قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، كما يذكر ذلك أكثر النسابين التقليديين) ولكن هناك خلاف كبير حولهم فثمة من يعتبر أن بعض قبائهم تنتهي نسبا الى إسماعيل أيضا، ويعتبر قحطان شخصية مختلَفا عليها وعلى وجودها الحقيقي. ويذهب بعض الباحثين إلى أن (قحطان هو جد العرب السبئيين، استناداً على ورود اسم "يقطان" في التوراة، واعتماداً على ظهور نقش حجري معناه "قحطن". علماً أنه ظهرت النقوش أسماء أخرى منها أزد، كندة وغيرهما، وهذا يؤكد أن سكان جنوب الجزيرة العربية لم يكونوا ينسبون أنفسهم لرجل واحد اسمه "قحطان"، بل كان "قحطان" أسم قرية أو قبيلة من القبائل في ذلك). وجد الانقسام القبلي بين القيسية واليمانية أو بين العدنانية والقحطانية قبل الإسلام، ومن أبرز وقائعه حادثة استيلاء شيخ قبيلة قريش العدنانية، قصي بن كلاب، على كهانة وإدارة الكعبة في مدينة مكة وأخذها من شيخ قبيلة خزاعة اليمنية حليل الخزاعي بعد أن سقى نائبه، أبا غبشان الخزاعي، خمراً؛ وحين سكر هذا الأخير وطلب المزيد من الشراب، عرض عليه قصي أن يشتري منه الكعبة بزق خمر، فوافق أبو غبشان على ذلك وباع كهانة الكعبة لقصي بزق خمر، وذهبت هذه الحادثة مثلا سائر بين العرب فقيل "أخسرُ من صفقة أبي غبشان"!

أما بعد الإسلام وحتى اغتيال الخليفة الرابع الإمام علي بن أبي طالب، فقد ظل الحال على ما هو عليه من الهدوء بين القيسيين واليمنيين، ولم تسجل حروب وصراعات كبيرة ورئيسية بينهم آنذاك، رغم استمرار فعالية الظاهرة القبلية، فقد سجل المؤرخون تقسيم الخليفة الراشدي الرابع، الإمام علي بن أبي طالب، جيشه في خطة معركة صفين ضد جيش التمرد الأموي على هيئة فرق مقاتلة قبلية، فعين لكل قبيلة شامية في جيش بني أمية ما يقابلها من قبائل العراق في جيشه، وهكذا كان مقاتلو طي العراقية مثلا يقابلون أبناء عمومتكم من مقاتلي طي الشامية، وتميم العراقية تقابل تميم الشامية، وهكذا دواليك، في جيشين يتقاتلان على أسس جيوسياسية وعقائدية وليس على أساس الولاء القيسي أو اليمني.

فماذا بخصوص هذا الصراع في العهد الأموي؟ هذا ما سنتوقف عنده في الجزء الثاني من هذا المبحث، إلى اللقاء وشكرا لكم ولكن على المتابعة.


دولة بني أمية تنحاز لليمنية وتضطهد أهلها القيسية بسيوف اليمن

برز هذا العداء بين القبائل القيسية واليمنية واستعر بقوة مع قيام الدولة الأموية في بلاد الشام وتحول إلى أحد محركات ودوافع الصراع المسلح الذي كان انعكاسا لحالة الصراع الاجتماعي السائدة في المجتمع العربي الإسلامي السائر نحو النضج والخروج من اقتصاديات الغزو والكر والفر نحو التراتبية والتمركز الاجتماعي المختلف والمتفاقم مع اتساع الدولة وكثرة وارداتها من غنائم الحرب أو إدارة الخراج الزراعي والنشاط التجاري الداخلي ما أحدث تراكما نقديا مهما آنذاك.

لقد انحاز بنو أمية وهم من قريش العدنانية القيسية الى اليمنية، لأسباب شتى منها العداء المبكر لبني أمية الذي تكنه القبائل القيسية التي ينتمون إليها، ومنها وجودهم القديم والذي يعود لزمن طويل قبل الإسلام في بلاد الشام. ولكل هذه الأسباب صاهر الأمويون اليمنية وجعلوا منهم قواعد حزبهم وعصبيتهم وقادة جيوشهم وغالبية ولاتهم فأثاروا حنق وعصبية القيسية الذين عادوا بدورهم الدولة الأموية وساندوا الثورات والانتفاضات ضدهم ( وقد ظهر الصراع بين القيسية واليمنية أثناء الحرب بين بني أمية وابن الزبير حيث أيد القيسية ابن الزبير الحجازي الأصل، وأيد اليمنيون الأمويين أصهارهم، ويبدو ان الخلاف أقدم من ذلك فالمعروف ان بلاد الشام كانت تنزلها سلالات هاجرت أصولها القديمة من اليمن قبل الاسلام بعهود طويلة فطال استيطانها ثم ما لبثت ان طرأت عليها مع الفتح قبائل حجازية شاركتها الاستيطان وقد عرفوا باسم العدنانيين أو النزاريين ثم غلب عليهم اسم القيسية وقد تكاثر اليمنيون والقيسيون فعموا بلاد الشام بما فيها فلسطين والأردن. وعاشوا بين السكان الفلسطينيين الأصليين من الكنعانيين واليبوسيين وأقلية صغيرة من بقايا اليهود الناجين من الحروب والسبي الروماني قبل هزيمة الرومان امام العرب المسلمين في معركة اليرموك.

كان اليمنيون يتباهون على القيسية بأصولهم، فهم من العرب العاربة، وكانوا هم حكام مكة قبل قريش. كما كان الأوس والخزرج في المدينة المنورة من اليمنية أيضا وهم من ناصر النبي العربي الكريم محمد بن عبد الله، بينما كان القيسية يباهونهم بأنهم (هم هداة هذه البلاد ومنهم النبي وخلفاؤه) فكان لهذه المفاخرة أثر في التحيز للعصبية التي نهى عنها الاسلام وحد منها كثيرا ولكن الدولة الأموية وجدت من مصلحتها تأجيج هذه العداء والاستفادة منه في صراعها ضد مناهضيها وأعدائها.

ومن صفحات هذا الصراع المرير بين القيسية واليمانية نعلم الآتي:

كانت قبيلة بني هلال، القيسية العدنانية في نزاع دائم مع العرب القحطانية بحكم مجاورتهم لها بنجد وسط الجزيرة العربية، مما جعل عصبيتهم متأججة على الدوام. ويرى الباحث عبد المجيد مزيان أن القيسية (دخلوا الحياة السياسية بمشاركتهم في ثورة القرامطة بشمال شرق الجزيرة ضد الخلافة العباسية، ولجأوا إلى الفاطميين طمعاً في النصرة وتقويضاً لدعائم الإقطاعية العباسية التركية، وطمعا في إقطاعهم أرضاً في مصر). أما سليم حميش فيعتقد أن مشاركتهم في تلك الثورة ألحقت ضررا بالدعوة الإسماعيلية بتجاوزاتها وفوضاها، أدّى بالفاطميين إلى تجميع تلك القبائل بمنطقة الصعيد مخضعيهم للإقامة الجبرية).

وتشير بعض المصادر التاريخية كابن الخطيب في "أعمال الأعلام" إلى أنّ الوجود الهلالي بالشمال الأفريقي (هو عقوبة من قبل الخليفة الفاطمي المستنصر بالله لأمير بنو زيري المعز بن باديس بعد تمرد هذا الأخير على الخلافة الفاطمية. وأباح المسؤولون الفاطميون للعرب - الهلاليين - عبور النيل، الأمر الذي كان ممنوعاً في السابق، فشجعوهم بـ"فروة ودينار" لمن جاز النهر نحو الغرب)

وقد لجأ أمراء دول المغرب الأقصى وأفريقية، من مرابطين وموحدين ومرينيين وزيانيين وحفصيين وغيرهم، انطلاقا من أواسط القرن الخامس الهجري/الحادي عشر ميلادي، إلى بني هلال ليتكلفوا بالحماية والجباية، وكان يوجد إطار قانوني لهذا الغرض، منذ أن أقطع الخليفة الفاطمي سنة 441 هـ 1049م أرض أفريقيا لرؤساء الهلاليين. في الجزء القادم من هذه المقالة سنتوقف عند الصراع القيسي اليمني في الأندلس والبالغ ذروته في مقولة ابن حريث لو أن دماء القيسية من أهل الشام سقيت لشربتها في كأس! يتبع، وشكرا لكم على المتابعة والتفاعل.

الصراع القيسي اليمني في الأندلس وآثاره

الصراع القيسي اليمني في الأندلس وفي المشرق حتى القرن التاسع عشر الميلادي.

في بلاد الأندلس، وقبل سقوط الدولة الأموية في المشرق بعامين، بلغ الصراع القيسي اليمني أعلى درجاته دموية وعنفاً، وقد حدثت معارك وفتن كثيرة بين الفريقين وسنتوقف عند واحدة من أكبرها وأكثرها دموية:

Cquote2.png كان الصميل بن حاتم، وبعد مقتل جده الشمر في ثورة المختار الثقفي ارتحل والده من الكوفة إلى الأندلس، وبرز منهم هناك الصميل واشتهر، وأصبح ذا نفوذ كبير، فاغتم أبو الخطار به وكان أبو الخطار واليًا للأندلس وكان من اليمنية؛ فدخل الصميل على أبو الخطار يوماً، وعنده الجند؛ فأحب -أبو الخطار - كسرَهُ فأمر عليه، فشُتِمَ ولُكِزَ فخرج الصميل مغضباً وأتى داره ثم بعث إلى خيار قومه من القيسية؛ فشكا إليهم ما لقى؛ فقالوا: نحن تَبَعٌ لك! فقال: والله ما أحب أن أعرضكم لليمانية! ولكني سأتلطف، وأدعو إلى مرج راهط (في بلاد الشام) وأدعو قبيلتي بنو لخم و جذام، وتقدمُ -لنا - رجلًا يكون له الاسم ولنا الحظ، فكتبوا إلى ثوابة بن سلامة الجذامي من أهل فلسطين؛ ثم وفدوا عليه فأجابهم، وأجابتهم لخم وجذام. فبلغ ذلك أبا الخطار فغزاهم؛ فلقيه ثوابة، وأسره، وسار ثوابة حتى دخل قصر قرطبة، وأبو الخطار معه في قيوده، ثم إن أبا الخطار أفلت - هرب من أسره-. ثم ولي ثوابة سنتين. ولما ولي ثوابة سنة 128 هـ، استجاش أبو الخطار اليمانية، ودعاهم للنصرة على المضرية؛ فاجتمع له آنذاك حفل وعسكر ضخم، وأقبل إلى قرطبة؛ فخرج ثوابة بن سلامة إلى لقائه. فافترق الناس عن أبي الخطار، ونفروا عن تلقائه. وتوفي إثر ذلك ثوابة في السنة المذكورة. فلما توفي ثوابة، عادت الحرب إلى ما كانت عليه؛ فأرادت اليمن أن تعيد أبا الخطار؛ فأبت ذلك قيس ومضر مع الصميل؛ وتشاكس الفريقان. وأقامت الأندلس أربعة أشهر من غير والٍ، إلا أنهم قدموا عبد الرحمن بن كثير اللخمي للنظر في الأحكام. وكان يحيى بن حُريث الجذامي يقول: "لو أن دماء القيسية من أهل الشام تسقى، لشربتها في قدح!" فلما استخرج من تحت الرحى ليقتل، قال له أبو الخطار: "يابن السوداء! هل بقي في قدحك شيء لم تشربه؟"، ثم قتله وأتى بالأسرى؛ فقعد لهم الصميل حفيد الشمر بن ذي الجوشن، وضرب أعناقهم جميعا. Cquote1.png

أما في العصر الحديث، وبعد انتهاء الحكم المصري لفلسطين عام 1840 وسيطرة الترك العثمانيين بمعونة بريطانية أوربية عليها، وخلال ذلك لم يستطع العثمانيون السيطرة على ريف جبال وسط وجنوب فلسطين (جبال الخليل ونابلس والقدس)، واستمرت النزاعات القبلية (بين اليمنية والقيسية) وكان من أبرز الزعماء مصطفى أبو غوش وهو من منطقة بني مالك وكان من زعماء اليمنية ومركزهم قرية العنب، ويسيطر على 20 قرية واعترف به العثمانيون زعيما في منطقة نفوذه القبلي.

بينما كان عبد الرحمن عمرو شيخ القيسية الفوقا، ومصلح العزة شيخ القيسية التحتا، وكان أبوغوش يجند المقاتلين من بني مالك وجبل القدس وجبال نابلس والمساعيد وغيرهم للاستيلاء على قرى دير جرير ورمون وكفر مالك وكان سكانها من فروع القيسية واليمنية معا. ولكن زعماء القيسية (آل سمحان) عارضوه وأيدهم حلفاؤهم من بني مرة وأنصارهم في رام الله والبيرة وحدث اصطدام بين الفريقين ووقع القتال عند قرية (الوسطية) غربي الطيبة حيث هزم اليمنيون وزعامتهم أبو غوش ثم عقد الصلح بينهما، وكانت علاقتهما قتال فهدنة فصلح ثم دورة جديدة، بسبب غياب السلطة العثمانية). في الجزء القادم والأخير نستكمل قراءتنا لوقائع الصراع القيسي اليمني ونلقى نظرة على واقع الانقسام القيسي اليمني في العراق.