السلام الحقيقي

غلاف كتاب "السلام الحقيقي"، للرئيس ريتشارد نيكسون، طبعة مرور قرن على مولد نيكسون

Real Peace السلام الحقيقي هو كتاب من تأليف الرئيس الامريكي السابق ريتشارد نيكسون، صدر في عام 1983، وترجمه للعربية عام 1985، رياض الطباع، ونشر عن دار طلاس للنشر بدمشق.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أساطير السلام

يبداً يكسون الكتاب بفصل معنون بـ"أساطير السلام" وفيه يحاجج نيكسون بشكل نظري فذّ، ولغة مهاجمة وساخرة أحياناً، أسس النظرية الليبرالية، ويؤكد الاعتبار للنظرية الواقعية التي كان هو ووزير خارجيته، هنري كيسنجر، من أبرز من تبنوها نظرياً وعملياً.

ويشرح رؤيته للسلام الذي يجب السعي إليه والذي يكون قابلاً للحياة والاستمرار والنجاح، "فالسلام ليس نهاية نزاع، بل وسيلة للعيش مع النزاع وإذا ما أوجد لمرة فإنه يتطلب رعاية مستمرة، وإلا فلن يبقى على قيد الحياة. أن الخلط بين السلام الحقيقي والسلام الكامل مغالطة خطيرة إلا أنها شائعة". يؤكد بأن السلام التام يتحقق في موضعين فقط: القبر، وعلى الألة الكاتبة، ويزدهر بالطباعة! فالسلام الحقيقي يمكن تحقيقه إذا تمت المحافظة على حقيقتين رئيسيتين في عقولنا: الأولى، أن النزاع حالة طبيعية للأمور في العالم. والثانية، أن الأمم تلجأ للعدوان فقط عندما تكون لديها قناعة بأنها ستربح منه، وبالعكس، فإنها ستتجنب العدوان إذا ما بدا لها بأنه سيكلفها على المدى الطويل أكثر مما يفيد. وعليه يبني" بقصورنا عن تغيير الطبيعة الإنسانية، فإن الطريق الوحيد للتوصل الى سلام عملي وناجع يكون بنزع فكرة الربح من الحرب."

وبعد شرح رؤيته للسلام، يعود لنقد أصحاب الرؤى المثالية للعالم، إذ يرى بأن تعقيدات العالم المعاصر تحير من يبحثون عن عزائهم في الحلول المبسطة، وما يعجزون عن تمييزه هو أن هنالك دائما جوابا بسيطا لكل مشكلة معقدة -إلا أنه- عادةً خاطئ!

ويضيف" الأساطير هي حكايات خرافية يصيغها الناس حول أشياء ليس بمقدورهم فهمها، فقد اختلقها الأقدمون لشرح البرق وتوالي فصول السنة، أما اليوم فالعديد يُعدونها لشرح العلاقات الدولية، إلا أن هذه الأساطير خطيرة، لأنها تستطيع إلهاء الحكام والقادة وخدعاهم وسد اقنية صنع القرار، وهذا ما يسبب بترك الأمور للحظ، إذ أنه من الممكن أن تغدو -الأساطير- أحدا السياسات الرسمية بالفعل.

لكن ما هذه الأساطير، التي يسميها نيكسون "أساطير السلام" ؟ يفند بالكتاب أربعة أنواع أساسية من الأساطير وهي متداخلة ومتشابكة بشكل ما، إلا أنها تمتلك حدود فاصلة بينها، وهي


أسطورية نزع السلاح

يستعين الرئيس الأمريكي السابق هنا بالتاريخ، وتحديداً معاهدة الحد من التسلح التي ابرمت في عام 1922 في مؤتمر واشنطن البحري، ويوضح، بأن مطامع اليابان في الشرق الأقصى كانت أكثر أهمية بالنسبة لها من التزامها بالمعاهدات، وبأن الحرب العالمية الثانية لم تنجم عن تكديس السلاح، إنما عن المطامح الإقليمية لكل من اليابان وألمانيا، وكان تعزيز التسلح في كلا البلدين نتيجة لهذه المطامح وليس مسبباً لها.

وعلى ما سبق يبني بأن الدعوات لنزع السلاح النووي من العالم غير ممكنة، بسبب عدم توفر دولة خارقة القوة تضمن نزعة وعدم إعادة انتاجه، وثاني الأسباب بأن الأسس الفيزيائية التي تجعل صناعة هذا النوع من الأسلحة صار معروفاً جيداً للحكومات والإرهابين وحتى طلاب الجامعات. لذا "فالأسلحة النووية ستوجد على الدوام، وعلينا أن نتعلم العيش مع ما نعرفه عوضاً عن صرف طاقاتنا في الادعاء بعدم معرفتنا به. لكن إذا لم نستطع إزالة الأسلحة النووية، فيمكننا عمل الكثير لكي لا يتم استخدامها، ولن يتم هذا الأمر إلا إذا تعلمنا العيش بسلام مع خصومنا، حينئذ سنتعلم العيش مع الأسلحة النووية.

أسطورية الحكومة العالمية

كانت هذه الفكرة، برأي نيكسون، أكثر دوافع الإنسان مثالية، ولكن  بالنظر إلى أن الأمم المتحدة، وقبلها عصبة الأمم، لم تستطع إحباط حرب، أو إنهاء حرب حالما تبداً في معظم الحالات، إذ أنه من بين 93 نزاعاً بين عامي 1947 و 1977، نوقشت ضمن أروقة الأمم المتحدة 40 منها بشكل محدود، و53 نزاع لم يناقش إطلاقاً.

بالتالي فالأمم المتحدة تصلح لأن تقوم بعمل هام في مجالات كالصحة والإغاثة، وكما أن أفضل ما تقدمه في كونها منبراً لإبداء وجهات النظر المختلفة، وشكاوي الدول الصغيرة التي تتجاهلها الدول الكبرى. ومن جانب أخر، ساهمت الأمم المتحدة بتأجيج بعض النزاعات، عن طريق وقفها مع طرف ضد أخر، إذ أنه "وبالرغم من أن 160 علماً يرفرف على واجهة الأمم المتحدة، فإن العلم الذي يرفرف محلقاً هو علم الازدواجية.

أسطورية السلام من خلال التجارة

يستشهد هنا نيكسون، بأنه وبعد الثورة الشيوعية بخمس سنوات، قال دافيد لويد جورج : إن التجارة مع السوفييت سوف تضع حداً لضراوة البلشفية بأمان أكثر من كل الطرق الأخرى. ويوافق الكثيرون الآن مع هذه الفكرة، وفي ذلك الوقع تدافع رجال الاعمال للدخول في الأسواق السوفييتية، لكن ماذا حدث في النهاية؟ طردت شركات التصنيع جميعها، بعد أن درس المهندسون السوفييت ونسخوا تقنيات الصناعة الغربية. ويضيف رأي كونراد آدنآور الذي قال: "التجارة هي التجارة، فالدول تدخل في علاقات تجارة على أمل الربح، وإن كل أمة لديها مطامح عدوانية يمكن التوقع لها أن تستخدم هذه الأرباح لتحقيق طموحاتها. فقبل الحرب العالمية الثانية، كان لليابان روابط تجارية هامة مع الولايات المتحدة، كما أن ألمانيا تاجرت بشكل واسع مع كل الدول التي غزتها. لقد رأت كلتا الدولتين أن آمالهم الإقليمية أقوى بكثير من رغبتهم في البقاء في سلام، والارتباط بتجارة أمنة مع جيرانهم. حاربوا لأنهم اعتقدوا أن بمقدورهم الاستفادة من الحرب أكثر من السلم. فالتجارة تسهم بالسلام إذا كانت جزءاً من بنية أكبر مصممة لتخفيف الخلافات السياسية، وإلا فإن التجارة مع قوة عدائية توسعية هما أشبه بصب الزيت على النار.

أسطورية السلام من خلال الصداقة

وفي سبيل هدم هذه الأسطورة، يعود نيكسون لوليام جينينغس بريان، أول وزير خارجية لحكومة وودرو ويلسن، الذ اعتقد بإمكانية تجنب الحروب، إذا وافقت الدول على الاجتماع بشكل ودي لحال الخلافات، ووقع اتفاقيات مع 30 دولة للقيام بذلك. إلا الحرب العالمية الأولى جاءت مسرعة ودمرت اطروحته، فاليابان لم تمعنها المعاهدة من غزو منشوريا. وكمثال اخر فلم تمنع معاهدة 1941 هتلر من اجتياح الاتحاد السوفييتي بعد ذلك بعامين. "فالتاريخ هو مقبرة محزنة للمعاهدات المنتهكة" كما يستنتج نيكسون، ويضيف بأن وسائل الإعلام تحصي خلال لقاءات الزعماء السياسيين المصافحات والابتسامات، إلا أنه خلف الأبواب المغلقة، ينقلبون لذواتهم الحقيقية، معتدٍ وضحية، قطة وفأر، رابحين وخاسرين. ويوضح، بأن الاجتماعات وجهاً لوجه بين قادة الدول المتنافسة تكون مفيدة لسببين: أولاً تساعد القادة على تقييم بعضهم بعضاً، وبالتالي تساعد على تجنب الوقوع في أخطاء حسابية مدمرة لاحقاً. وثانياً، تخلق جواً للمراحل الدقيقة والصعبة في صياغة الاتفاقيات، التي تخدم الاهتمام بها مصالح كلا الطرفين. ويستنتج، بأن السلام الحقيقي يمكن بناؤه على فرضية أن أقصى ما باستطاعتنا فعله هو أن نتعلم أن نعيش مع اختلافاتنا بدلاً من أن نموت فوقها.


مفاتيح السلام الحقيقي

في الجزء الثاني من الكتاب، يعمل نيكسون على توضيح الألية التي يتم بها تحقيق السلام الحقيقي، فبعد نقده الشديد للمثاليين، يعود وينتقد "الصقور"، الذي يرون بضرورة قطع كل صلة أو اتصال مع الاتحاد السوفييتي وزيادة الضغوط عليه سبيل صده والتفوق عليه. يرد، على دعوات العزل، التي يعتقد أنصارها أنها ستضعف النظام السوفيتي، باستشهاده، بان القادة السوفييت، حسب اعتباره، "لم يربحوا أي انتخابات حرة، إلا أنهم سادة في مسك زمام السلطة والحفاظ عليها. فقد عصروا شعبهم بقسوة بسياسات تقشف اقتصادية في السابق وقد يفعلون ذلك ثانية إذا كان ذلك ضرورياً. وتستطيع المواجهة والعزلة أن تقويا الدكتاتورية، كما تستطيع المفاوضات العملية والاحتكاك بالعالم الخارجي أن يضعفانها".

ويؤكد أن الخلافات السياسية تقود الكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بعيداً عبن بعضهم البعض، إلا أن كلا البلدين مصلحة مشتركة يمكن أن ترب بينهما، أن كلتاهما ترغبان بتجنب حرب عظمى لن تبقى أحدهما. ومن الخوف المشترك من المحرقة النووية يحفز السعي للعمل من أجل سلام، الذي لا يقتضي السعي وراء ما لا يمكن تحصيله، على حساب ما يمكن الوصول إليه، إنما تركز الجهد للوصول لحل وسط.

معتبراً :"فإن أقصى ما نأمل في الوصول إليه هو اتفاقية تقيم قواعد ارتباط سلمية لصراعنا المستمر. إذا لم نستطع السير متكاتفين في الطريق باتجاه السلام، فيجب علينا محاولة السير جنباً الى جنب على الأقل".

إعادة التوازن العسكري

ينتقد نيكسون بشدة تخفيضات الكونغرس للدعم العسكري لفيتنام الجنوبية في عام 1947، كما هاجم كارتر لتطبيقه سياسة الوفاق دون ردع بين 1976 و1980، مما منح السوفييت الى موقع تفوق حاسم في الأسلحة النووية الأرضية. كما يمدح سياسة الردع، التي أحياها ريغا، ويرى أنها كانت ضرورية لإجبار السوفييت على الاقتناع بضرورة السلام، إذ يجب ن نتجنب الحرب ويجب أن نتجنب الهزيمة، ويمكن ان تأتي الهزيمة في الحرب، الا أن الخطر الأعظم هي ان تأتي دون حرب من خلال روح المغامرة السوفيتية والإكراه والابتزاز. ويؤكد، بأنه لكي نردع الحرب يجب أن نكون أقوياء بما فيه الكفاية بحيث يتوصل المعترضون الى نتيجة مفادها أن احتمالات الخسارة أكبر من احتمال الربح، ولذلك من الضروري أن إعادة توازن القدرات العسكرية، وهذا التوازن لا يجب أن يقتصر على الأسلحة النووي، إذ يجب أيضاً ان يحقق أي طرف تفوق بأي مجال من الأسلحة، فنحن بحاجة الي بحرية قوية، وجيش قوي، وقوة جوية قوية، ويجب أن يبقى هذا التعزيز بالقوة تحت المراقبة، ولا يتجاوز الحد الضروري، فالكونغرس ودافعي الضرائب يجب أن لا يدعموا الازدواجية غير الضرورية في المهمات والأنظمة السلاحية، إذ كما قال ايزنهاور: "يمكن لهذا الدولة أن تخنق نفسها حتى الموت بتكديس الإنفاق العسكري تماماً مثلما تستطيع أن تهزم نفسها إن لم تنفق كفاية للحماية".

الحد من التسلح

يعتبر فيه بأن والحد من التسلح، قد يساهم في تحقيق التوازن العسكري وتقليل فرص الحرب، والوصول لمثل هذه اتفاقية قد تساعد في تحقيق عدة أهداف أهمها، الغاء ميزة الضربة الأولى لكلتا الدولتين، والحد من اختبارات الأسلحة الجديدة، كما أنها ستؤدي لتخفيض كمية الترسانة النووية، مما سيساعد أكثر في منو وصول هذه الأسلحة لدول جديدة. ويستشهد بالأهمية التي حققتها اتفاقية سالت 1 عام 1972، من تقيد لانتشار الأسلحة النووية، ويرى أن كارتر أخطئ، وأعطى امتياز للسوفييت بالغاءه عدة مشاريع عسكرية منها الغاء القنبلة النيوتروجينية.

حوافز السلام

"الإنفراج يكون فعالاً فقط عندما يكون الردع مؤكدا" يعود ويؤكد نيكسون، من ناحية أخرى يجب العمل على نقاط ضعف السوفييت، والعمل على توسعة التجارة بالطرق التي تخدم مصالح الولايات المتحدة فقط، فلا يجب بيع أدوات تساعدهم بالتسلح، كما أن البيع يجب ان تكون دون أسعار مدعمة أو شروط دين سهلة، فيجب أن تكون القاعدة "التجارة وليس المساعدة" ويجب إفهام السوفييت بأن هنالك رابطاً حديدياً بين سلوكهم، واستعداد الغرب لعقد صفقات تجارية معهم. ويستدل، بأنه في عام 1973، ونتيجة ضغط أمريكي سري، ازدادت هجرة اليهود من الاتحاد السوفيتي من 400 في عام 1968 إلى 35000 في عام 1973. بالتالي وكما قال ايزنهاور "يجب علينا أن نبيع الروس أي شيء لا يستطيعون إعادة طرحه". فلكي يكون نفوذنا الاقتصادي فعلاً يجب أن يكون لدينا شيء ملحوظ لإعطائه ولسحبه أيضاً. إننا نحتاج الى كل من الجزرة والعصا. وللقيام بذلك بأكبر كفاءة واستغلاله كما ينبغي، يقترح نيكسون بأن الولايات المتحدة تحتاج "لإنشاء ((مجلس سياسة اقتصادية خارجية))، ينظم استعمال قوتنا الاقتصادية. ويجب أن يكون مسؤولا أمام الرئيس مباشرة لأنه هو الوحيد القادر على هزم كافة الرؤوس البيروقراطية في الولايات المختلفة، ويجب أن تنسيق السياسات التي تحكم التجارة والعون الخارجي والقروض لخدمة مصالح السياسة الخارجية الأمريكية، ويجب أيضاً انشاء عملية مرحلية لتدوين تعاون القطاع الخاص في خدمة هذه المصالح، إذ انه ن السخف ان تقطع الحكومة المساعدات عن الدول المناوئة بينما تواظب المصارف على منح القروض لها."

لقاءات القمة

القاءات المتبادلة والتواصل المباشر بين الزعماء، ضروري لبناء عملية السلام، إذ انها تسام بتبديد الأوهام، وتجميع الخيوط المختلفة للانفراج العملي. فرغم أن لقاءات القمة لا تستطيع صنع المعجزات، الا أن بمقدورها صنع تقدم. ويجب أن يكون جدول الأعمال واسعاً، وأن تقوم كل المحادثات على أساس من التبادلية الصارمة، "فلا نعطيهم شيئاً يريدونه إلا إذا أعطونا شيئاً نريده". وهدف بناء علاقة جديدة مع الخصوم، هو أن نتمكن من خلالها السيطرة عليهم في وقف عدائيتهم، فهذه اللقاءات، ستساعد بتقليل فرص الحرب وكبح جماح الخصوم، كما أنها تبين لهم عواقب المخاطرة بشكل صريح، إذ أن السوفييت وقبل لقاء القمة مع أمريكا عام 1971، عملوا بمساعدة الولايات المتحدة على وقف اطلاق النار بين الهند وباكستان، وكان دافعهم لذلك عدم رغبتهم بتسميم الجو قبل اللقاء، لأن ذلك كان سيصعب وصولهم للاتفاقيات التي يرودونها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشعب الروسي شعب عظيم والاتحاد السوفيتي قوة عظيمة

في الثلث الأخير من الكتاب يحلل نيكسون السوك الأمريكي الذي يجب اتباعه في مناطق العالم.

ويركز في البداية على المصالح السوفييتية: يبدأ تحليله العالمي بمحاولة معرفة ما هي محددات السياسة السوفيتية، ويذكر بأن الخلافات بين السوفييت والغرب كبيرة جداً، لكن لا يمكن التخلص منهم، وبالتالي فعليينا التعامل معهم، ولمعرفة أفضل طريقة للتعامل معهم هي معرفة ماذا يريدون، ويستشهد بونستون تشرشل اذي قال مرة " لا يمكنني أن أتوقع لكم أفعال روسيا. إنه لغز يلفه الغموض في داخل شخص غامض، لكن ربما يكون هنالك مفتاح. ذلك المفتاح هو المصلحة القومية الروسية". فالانفراج سيضع قادة الكرملين أمام خيارين، العدائية أو ضبط النفس. فإذا اختاروا الأولى فإن خطر الحرب سيتصاعد، وسيكون عبء السلاح أمر لا يمكن احتماله. وإذا اختاروا الثانية، نستطيع تقليل فرص الحرب وجني ثمار السلام الحقيقي. لكن اذا استمر كلل منا في العمل ضد الأخر فلن يكون للسلام أي نصيب.


الناتو واليابان

يوضح نيكسون رؤيته بقوله لقد كان الصراع العالمي بشكل كبير، صراعاً حول مصير أوروبا واسيا، ومنذ الحرب العالمية الثانية، كانت أوربا واليابان حلفاء مع الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين، تراجعت نسب قوة الاقتصاد الأمريكي، ويعود السبب جزئيا إلى أنه وبمساعدة ألمانيا واليابان، خصماها بالحرب، صارتا أقوى المنافسين لها بالسلام. كما ان السطوة العسكرية الأمريكية تراجعت بشكل واضح. "لقد لعبت الولايات المتحدة دو البطولة بالتحالف الغربي لفترة طويلة، بحيث أن حلفائنا يتصرفون كما لو أن كان الأمر عرضاً لرجل واحد. مراراً وعندما تنشب الأزمات، يتنحى حلفاؤنا وينتظرون الولايات المتحدة ان تتقدم وترد. لا يمكن لهذا أن يستمر، فالأوربيون واليابانيون يحتاجون للولايات المتحدة، كما هي بحاجة إليهم" ونحتاج الى المشاركة الكاملة من حلفائنا لبناء السلام الحقيقي. ورغم أن الناتو منذ تشكيله كان أنجح حلف عسكري في التاريخ المعاصر، إلا أن ما كان كافياً 1949، لم يعد كافياً للمواجهة تحديات 1983. وللناتو كحلف عسكري، حدود ضيقة، وعليه أن يتعاظم لكي تكتب له الحياة، وهذا التعاظم لا يعني إضافة أضاء أكثر، لكن بتوسيع أفاقه الجغرافية، وتعميق قوته العسكرية، ويجب أن يتآزر هذا في طريقة استخدامه لقوته الاقتصادية التي تشكل واحدة من أقوى اسلحته. "إن ضمان أمريكا لأمن أوربا أمر مشكوك به اليوم، وذلك لضياع تفوقنا الاستراتيجي، فقد قامت استراتيجية الحلف الأطلسي على أساس فرضية أن أي هجوم سوفيتي على أوروبا سيكون بلا معنى بسبب حتمية الرد النووي الأمريكي". لكن يعوزنا الان رادع ذو مصداقية أمام هجوم على الولايات المتحدة. فضعفنا الجوهري هو في القوات التقليدية، لأن التهديد السوفيتي قائم على المستويين النووي والتقليدي، ويجب مواجهة كلا المستويين بفعالية. فقد أدى اهمال الناتو لقواته التقليدية قد خفض العتبة النووية وزاد فرص حرب نووية بأوربة، وإبقاء مئتا الف جندي أمريكي في أوربا في الوقت الذي يكون فيه تفوقاً بالمستوى التقليدي للاتحاد السوفييتي، سيتركهم بشكل خطير عرضة للهجوم، وقد تجبر الولايات المتحدة على سحب قواتها من اوروبا، وبالتالي وبدون الجنود الأمريكيين قد يتفكك حلف الناتو. يجب على الحلفاء الغربيون أن يدركوا بأن الخطوات السوفييتية المتقدمة في العالم الثالث تهدد شريان حياة كل دولة صناعية غربية. عندما تشكل الناتو، كانت أوروبا ضعيفة في المركز لكن قوية في المحيط، إلا انها اليوم قوية في المركز إلا أنها غير حصينة في حدودها الخارجية، وفي حال سيطر السوفييت على متقدمة في اسيا او الخليج الفارسي أو افريقيا، الغنية بالثروات، فسيختنق الغرب الصناعي، بما فيه اليابان، إذا وقع النفط والمعادن الأساسية في أيادي معادية. وبالفعل، يعمل الروس مثل الاخطبوط لتطويق النحر النفطي، والوصول لإفريقيا وقطع تدفق المواد الخام لأوروبا، وهذا إن حدث سيكون إصابة قد تكون قاتلة مثل أي انقضاض عسكري مباشر.

ورغم ذلك لا تزال أوروبا تتوقع تحمل الولايات المتحدة أزمة تلو أخرى. وقد طورت الأخيرة مؤخراً مقدرتها على العمل بسرعة، بسبب برامج مثل قوات الانتشار السريع. وبما أن الأوربيين خبرة أجيال في التعامل مع أمم افريقيا والشرق الأوسط، فإنه إذا ما نشبت أزمة تهدد مصالح الحلف في الفناء الخلفي للأوربيين، فيجب عليهم أن يكونوا مستعدين للتصرف نيابة عن الحلف.

ففكرة انه بمقدرة الولايات المتحدة، أو يجب عليها، القيام ببدور الشرطي في العالم قد بطلت، فالسلام شغل الجميع، ولن يبنى السلام الحقيقي ما لم يقم كل بنصيبه في عملية البناء. ويختم بالتذكير بأنه بعد الحرب العالمية الثانية كان التفوق الاستراتيجي الأمريكي، مسلك الشرك، كافياً لردع السوفييت من مهاجمة أوروبا. لقد ولت تلك الأيام وعلى الناتو أن ينتعش من تكاسله".


الصين

العالم الثالث

ومن وجهة نظر نيكسون إن اكبر تهديد للسلام، ليس المواجهة المباشرة، إنما احتمال نشوب حرب صغيرة في العالم الثالث، تجّر القوى العظمى اليها وتتصاعد للحرب عالمية، وكما كاد أن يحدث هذا التصعيد في الأعوام: 1956 و 1958 و 11967 و 1973، فمن الواضح أنه إذا استجرت القوى العظمى إلى شفا النزاع المباشر نتيجة للتصرفات حلفائها، فإن مهد الحضارات ممكن أن يتحول لقبر لها. لذا يرى نيكسون بأن على الولايات المتحدة أن تكف عن مثاليتها، وأنها وحلفائها يجب أن يكونوا عدوانين بالشكل الكافي لردع التوسع السوفييتي في العالم الثالث عبر استغلال الثورات والإضرابات الداخلية فيه ،و يؤكد على دور وكالة المخابرات المركزية في المساعدة في ذلك، وذلك بهدف استغلال هذا الثورات والتأكد من أنها لن تعادي الولايات المتحدة، ويرشح رأيه بقوله: "يمكن أن تبدأ الثورات ببدون دعم خارجي، غير أنها لا تستطيع أن تبقى وتعم دون أسلحة، وخبرة سَوقية، وطعام وامدادات طبية، وأجهزة اتصال وتدريب، يجب أن تقدم هذه الأشياء من خارج البلد." وبالمقابل، يجب دعم الحكومات التي تهدد القوى الثورية المدعومة من السوفييت، لأن نظام ناقص، أو نظام سيء، أفضل من نظام ما بعد ثوري، ورغم هذا فالعنف المعارض البسيط لا يكفي ضد الشيوعية، يجب اقناع الناس بالمحاربة لصفنا، ليس خوفا من الشيوعية وحسب، انما أيضا من اجل عهدٍ من الحرية. وفي ظل تحليل الواقع بالعالم النامي، يفش الصقور والحمائم في إدراك حقيقة أساسية وهي أنه "ليس باستطاعتهم التقدم دون أمن، وليس باستطاعتهم تحقيق الأمن دون تقدم". لذلك، فإن أسوأ خطأ يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة، في دولة تتعرض لحرب عصابات ضد قوات مدعومة من السوفييت، هو تقديم مساعدة عسكرية تكفي لإعانتهم على القتال، لكنها غير كافية للنصر. إذا ما تكررت خذلان أمريكا لدولة أخرى بعد فيتنام، فقد يقرر العالم بأن الفشل مرض اميركا المستوطن، وكما استنتج رئيس باكستان، أيوب خان، "من الخطر أن تكون صديقاً للولايات المتحدة، فهي تدفع لتكون محايدة، وأحياناً لتكون عدوة". فالسياسة الأمريكية برأي نيكسون مصابة ببلاء "الانطلاقات والتوقفات المتشنجة". خنقت أمريكا العديد من الدول النامية بالشعارات، بينما كانت معظم الأموال التي ترسل لمساعدتها يمتصها الموظفون الفاسدون، لذلك علينا العمل على تحقيق اصلاح داخل تلك الدول، وذلك لقطع الطريق على السوفييت من استغلال الأوضاع الداخلية السيئة، وإزالة أعباء الفقر الفساد عن شعوب تلك البلدان. نحتاج نظام انذار مبكر لتحديد بؤر التوتر المحتملة في العالم الثالث، ويجب أن نجهزّ بديلاً علمياً وفعالاً للشيوعية، مع ضرورة التركيز على دول أمريكا اللاتينية. "يجب على الغرب أن يتعلم كيف يمارس مهنة الطب السياسي الوقائي، فمساعدات اقتصادية أكبر الآن تستطيع أن تقلل من الاحتمال اذي سنُطالب من أجله بمساعدة أكير فيما بعد." يجب أن نكون حلفاء جريئين وكرماء في مساعدة بلدان العالم الثالث لتسير على طريق التقدم الاقتصادي، كما ساعدنا ألمانيا واليابان. ولكن علينا الأخذ بعين الاعتبار، بأن الأوربيون كانوا ذوي خبرة في إدارة الاقتصاديات الصناعية المتطورة، أما البلدان النامية فليست كذلك، لذلك سيكلف أي برنامج مساعدات أمريكي اكثر بكثير وسيحتاج وقت أطول للوصول لذت النتائج. وعلى الغرب مراعاة أنه يستطيع تقديم النصائح وأنصاف الحلول للمشاكل الاقتصادية، إلا انه يجب أن يتحلى بالصبر كثيراً فيما يتعلق بالأنظمة السياسة، ففي العالم الثالث حيث أن التغيير حتمي، وجد الغرب نفسه في جانب الوضع الراهن، وهذا ما ساد السوفييت على توسعت نفوذهم بواسطة الانتهازية السوفيتية الذكية، يجب على الغرب أن يكون انتهازياً وأن يسعى بعدوانية لانتهاز الفرص لحصر التغيير الحتمي في العالم الثالث لصالحه.

التنافس السلمي

يشرح نيكسون معتبرا، بالحرب العالمية الأولى كانت تحت عنوان الحرب لأنهاء الحرب، ولكن مع الأسلحة النووية اليوم، ندرك أن الحرب العالمية القادمة لن تكون لإنهاء الحرف فقط، انما ستنهي الحضارة المدنية، لذلك علينا أن لا نتودد للحرب، ولا يعني ذلك أن تغوينا فكرة السلام. وقد عبر ماوتسي تونغ عن قلقه حول هذ الخطر في قاءه مع نيكسون 1976، بسؤاله، هل السلام هدفكم الوحيد؟ فأجاب نيكسون :"يجب أن يكون سلاماً مع العدل". على الغرب أن يطبق سياسته على الحقائق في العالم اليوم، وأن تضم سياساتنا الردع مع الانفراج. فالردع دون انفراج يؤدي لمجابهة غير ضرورية ويوهن إرادة الشعوب الغربية على تأييد الميزانيات العسكرية، أم الانفراج دون ردع يؤدي الى الاسترضاء. وبالتالي هنالك ضروري لتنسيق الاعمال على كافة الجبهات، وبسبب النية المغلق لدولة السوفييتية، يمكن للتجارة والاتصالات أن تقدم تغيراً سلمياً داخلياً، كما يجب مواكبة الحرب الإعلامية السوفيتية بأشد ضراوة ممكنة، والعمل على الانتصار بحرب الأفكار وكسب متعاطفين مع الغرب داخلها. ويمكن لخطابات الرؤساء باجتماعات القمة أن تترك أكبر تأثير ممكن في نفوس الناس. ومن الضروري تصحيح ميزان القوة على المستوى الاستراتيجي، وعلى المسرح التقليدي، بالإضافة لتدعيم القوة الاقتصادية، إذ علينا استخدام قوتنا بطرق فعالة دون أن تصل لدرجة الحرب. فنتيجة الصراع ستتحدد غالبا بالمنطقة الرمادية من العالم، وإذا لم نستطع النصر بدون حرب، ولا أن لا نخسر، فعلينا اشغال خصمنا ضمن تلك المنطقة. ويختتم نيكسون الكتاب بقوله:" عندما ننظر للمستقبل علينا أن نظر إليه بثقة. أنا لا اعتقد بأنه سيكون هناك حرب عالمية. اعتقد سيكون هنالك تقدم في بناء العلاقات السلمية أكثر، وأن التنافس الجغرافي سيستمر. لكن إذا استجمعنا ارادتنا، فليس هنالك حاجة لنكون متشائمين اتجاه النتائج. إذ سنبدأ برؤية عملية تغيير سلمي تحتل مواقعها في الكتلة الشرقية كما يحدث الان، بدرجة صغيرة، في هنغاريا والصين، ويكمن في هذا التغيير الحل النهائي للغز ((السلام)). سنفوز على المدى البعيد، وسنفوز دون حرب.

يجب علينا أن نتجنب المبالغة البلهاء بالثقة بالنفس، والتاريخ يخبرنا بأنه ليس كافياً أن نكون على صواب، فصفحات التاريخ مغطاة بحطام حضارات سادت واجتاحها همج لأنها استفاقت متأخرة جداً على التهديد، وكانت ردة فعلها في منتهى الجبن لأن تستنبط استراتيجية ما لمواجهة التهديد، ولأنها كانت تفتقر إلى الارادة في تقديم التضحيات اللازمة للفوز." " دونت خلال لقائي بريجينيف في القرم عام 1974 هذه الملاحظة "السلام مثل النبتة الرقيقة، يتطلب الرعاية والغذاء باستمرار إن كان يراد له البقاء حياً وإذا ما اهملناه سيجف ويموت.

المصادر

ريتشارد نيكسون، السلام الحقيقي، ترجمة رياض الطباع، دار طلاس، دمشق، 1985.