الرقيق القيرواني

قطب السرور في أوصاف الخمور، لقراءة الكتاب اضغط على الصورة.

أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم، المعروف بالرقيق القيراوني ( و.؟ – ت. 1026)، هو مؤرخ، أديب، كاتب أخباري، مؤرخ، وشاعر، من أهل القيروان. كان كاتب الدولة الصنهاجية زهاء نصف قرن، ورحل إلى مصر عام 388هـ يحمل هدية من باديس بن زيْري إلى الحاكم الفاطمي، وعاد إلى وطنه فتوفي فيه على الأرجح. وصفه ابن رشيق القيرواني في كتابه أنموذج الزمان في شعراء القيروان بأنه: شاعر سهل الكلام محكمه، لطيف الطبع، غلب عليه اسم الكتابة وعلم التاريخ وتأليف الأخبار وهو بذلك أحذق الناس. وقال عنه ابن خُلدون في المقدمة: ابن الرقيق، مؤرخ إفريقيا والدول التي كانت بالقيروان. ولم يأت بعده إلا مقلد. ونعته ياقوت في معجم الأدباء بالكاتب، وأورد أسماء كتبه، ومنها: تاريخ إفريقيا والمغرب من عدة مجلدات؛ وكتاب النساء ونظم السلوك في مسامرة الملوك؛ وله كتب مخطوطة.[1]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التسمية

طرحت إشكالية اسم مؤرخ القيروان منذ مدة، وخصوصاً منذ اعتماد محمد الطالبي لاسم »ابن الرقيق« في دائرة معارف الاستشراق الرسمية، أي "دائرة المعارف الإسلامية"([34])، وهذا اعتماداً على ابن خلدون. إن قراءتنا للمصادر التاريخية، مغربية أو مشرقية، أوحت لنا أن هناك خلطاً في اللقب بين »الرقيق« و»ابن الرقيق«. فالمصادر المشرقية تكاد تجمع على أن »الرقيق« هو لقب مؤرخ القيروان، ما عدا المقريزي([35]) والسخاوي([36]) اللذين كتباه »ابن الرقيق«، اعتماداً ربما على ابن خلدون، الذي كان أستاذ الأول.

الإجماع الثاني حول لقب الرقيق أتى من مؤلفي المغرب الأقصى والأندلس ، وابن سعيد الأندلسي([37]) وابن عذاري المراكشي([38]) وابن الحاج النميري([39]) والمقري التلمساني([40]) ـ كلهم ذكروه بلقب »الرقيق«. كما أن بعض مؤلفي إفريقية، مثل الرحالة التجاني، كتبوه كذلك »الرقيق« في مؤلفاتهم([41]).

وبالمقابل، فإن مؤلِّفي المغرب الأوسط اعتمدوا، في أغلب الظن، على نسخة الخزانة السلطانية ببجاية والتي جعلت ابن حماد الصنهاجي (ت 628 هـ/ 1232 م)([42]) والذين جاءوا من بعده كابن خلدون([43]) والونشريسي([44]) يطلقون لقب ابن الرقيق على إبراهيم بن القاسم القيرواني. وحصل الأمر نفسه للمتأخرين أمثال الحسن بن محمد بن الوزان الفاسي المعروف بليون الإفريقي (Léon L’Africain) ([45]) ومحمود مقديش (ت 1228 هـ/ 1813 م) ([46]).

نعود إلى المصادر المشرقية لنقول إنها الوحيدة التي احتفظت لنا بترجمات مفيدة عن حياة مؤرخ القيروان. وتكمن قيمة هذه الترجمات في أنها نقلت عن أحد مرافقي الرقيق القيرواني في البلاط الباديسي بصبرة المنصورية، وأحد ألدِّ أعدائه في الوقت نفسه، ألا وهو الشاعر والناقد الشهير أبو الحسن بن رشيق المسيلي القيرواني، الذي ولد بالمسيلة سنة 390 هـ/ 999 ـ 1000 م وانتقل إلى القيروان سنة 406 هـ/ 1015 ـ 1016 م، بعد أن استدعاه الأمير المعز بن باديس إلى البلاط، حيث تعرَّف إلى الرقيق القيرواني في هذه السنة ([47]).[2]

وقد احتفظت لنا المصادر المشرقية بالترجمة التي كتبها ابن رشيق القيرواني عن الرقيق في مؤلفه المعنون بـ"أنموذج الزمان في شعراء القيروان" والذي أعاد تصميمه محمد العروسي المطوي والبشير البكوش([48]) اعتماداً على ما جاء في "كتاب الأبصار وممالك الأمصار" لابن فضل الله العمري (749 هـ/ 1349 م) و"الوافي بالوفيات" لصلاح الدين بن أيبك الصفدي ( ت 764 هـ/ 1362 م) و"عيون التواريخ" لابن شاكر الكتبي (ت 764 هـ/ 1362 م). لكن ما تم أخذه من هذه الكتب لإعادة تشكيل كتاب "أنموذج الزمان" أخل بجوانب كثيرة من الكتاب الأصلي، لأن المقتطفات التي نقلت عن ابن رشيق تؤكد أن المؤلف قد عدل من النسخة الأصلية بإضافته إلى ترجمات جديدة كما فعل مع الرقيق القيرواني، عندما تحدث في ترجمته عن شغله لمنصب الكتابة عند تحرير "أنموذج الزمان"، ثم الحديث عن مقتله في موضع آخر ألحق بالكتاب.

ويعتبر ياقوت الحموي (ت 626 هـ/ 1228 م) أول المشارقة الذين نقلوا الترجمة التي كتبها ابن رشيق حول الرقيق القيرواني، وهذا نظراً لنشاطه في نسخ الكتب والمتاجرة فيها والتي جعلت منه أحد أشهر أدباء عصره([49]). كما أن ابن شاكر الكتبي([50]) وصلاح الدين بن أيبك الصفدي([51]) نقلا من كتاب ابن رشيق وأضافا معلومات مهمة حول حياة الرقيق القيرواني. واقد استغل المادة نفسها تقريباً ابن فضل الله العمري والمقريزي في كتابه "المقفى الكبير"([52]) مع تعديل طفيف في الأسماء ربما بفعل التأثير الخلدوني.

فالرواية المشرقية المأخوذة عن ابن رشيق القيرواني هي الأكثر دقة. وعليه فمؤرخنا هو »إبراهيم بن القاسم الكاتب، يعرف بالرقيق القيرواني، والرقيق لقب له«([53]). ويضيف ابن شاكر الكتبي: »النديم« (الرقيق النديم)، نسبةً إلى مهنته التي سنعود إليها([54]). والسؤال المطروح هو: لماذا لُقِّبَ بـ»الرقيق«؟ هل لأن أصله من الرق أو لأمر آخر؟ يزعم الصفدي أن لقب الرقيق مصدره من الرقة([55]) التي تعني ضد القسوة والشدة. إذا كان لكلمة الرقيق عدة معان كاللين والرقة، فإن الراجح أنه لا يدل على الأصول المملوكية لأبي إسحاق بن إبراهيم بن القاسم الكاتب. أما ابن منظور، فيجعل من »المملوك« أهم معاني كلمة »رق« ومدلولاتها([56]). وإنه لمدهش، فعلاً، أن تغيب النسبة القبلية عن الاسم الكامل لمؤرخ القيروان، عكس ما هو سائد في بيئته حيث كانت النسبة القبلية حاضرة بقوة في ترجمات كتاب "أنموذج الزمان في شعراء القيروان" لابن رشيق. أما ياقوت الحموي، فوضَّح في كتابه أن »الرقيق« لقب له. فهل معنى هذا أن إبراهيم بن القاسم الكاتب كان رقيق الجسم أو رقيق الدين أو ماذا؟ وهي أسئلة تظل مطروحة في غياب نصوص كافية لتوضيحها.


النشأة

يسود الغموض ولادة الرقيق القيرواني ونشأته. فالمصادر اكتفت في غالب الأحيان ببعض العبارات المتفاوتة الأهمية دون توضيح: »إبراهيم بن القاسم القيرواني، يعرف بالرقيق القيرواني، والرقيق لقب له، رجل فاضل أديب له تصانيف كثيرة في علم الأخبار...« ([57])؛ »إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق أصله من القيروان، رجل فاضل له تصانيف كثيرة في علم الأخبار...« ([58])؛ »إبراهيم بن القاسم الكاتب المعروف بالرقيق ـ بقافين بينهما ياء آخر الحروف فعيل من الرقة ـ القيرواني، رجل فاضل له تصانيف كثيرة« ([59])؛

ابراهيم بن القاسم بن الرقيق القيرواني، قدم للقاهرة سنة ثمان وثمانين وثلاثمئة صحبة القائد جعفر بن حبيب بهدية بعث بها نصير الدولة أبو مناد باديس بن عدة العزيز بالله أبي الفتح منصور بن سيف العزيز بالله أبي الفتوح يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي أمير الغرب إلى أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور ابن العزيز بالله... ([60]).

هذه الترجمات أخذت عن أصل واحد كما ذكرنا، وهي "أنموذج" ابن رشيق القيرواني. لكن النص المنشـور في كتاب "أنموذج الزمان" لم يلم ـ ويا للأسف ـ! بكل جوانب هذه الترجمات المشرقية([61]).

يسمح لنا التمعن في الأربعة النصوص المشرقية بتغطية أو بمعرفة خمسة »خيوط« على الأقل من حياة الرقيق القيرواني: فهو قيرواني الأصل أديب ومؤرخ ونديم وكاتب وسفير للأمير الباديسي.

الأصل القيرواني الذي أشار إليه ابن شاكر الكتبي لا يدعو للتفكير كثيراً، طالما أنه استنبطه من نسبة الرقيق الجغرافية. فغياب تاريخ ولادته يَطرح كثيراً من التساؤلات، لأن كاتب الترجمة الأصلية للرقيق هو ابن رشيق، زميله في القصر الأميري. فهل هذا راجع إلى عدم معرفة ابن رشيق بتاريخ ولادة الرقيق، لأنه لم يستقر بالقيروان إلاَّ سنة 406 هـ/ 1015 م أو أن الرقيق ولد في مكان آخر؟ سؤالان يصعب الإجابة عنهما. لقد أشار بعض الدارسين مثل حسن حسني عبد الوهاب، إلى أنه ولد بالقيروان في منتصف القرن الرابع للهجرة، تقريباً في الوقت الذي انتقل فيه الفاطميون من إفريقية إلى مصر عقب تأسيس القاهرة([62])، أي سنة 362 هـ. لكن هذا التاريخ يفتقد إلى دليل تاريخي، لأنه ليس سوى فرضية. وما نستطيع التأكد منه هو نسبته القيروانية، لأن المصادر لا تجعل له أي نسبة أخرى.

ذكرت النصوص مع لقب »الرقيق«، اسماً آخر هو »النديم«، إذ أن صاحبنا كان نديماً في البلاط الزيري. فكلمة »النديم« مصدرها من المنادمة التي هي مقلوبة من المدامنة، ومعناها أنه مدمن على شرب الخمر مع نديمه([63]). ونجد المعنى نفسه عند صاحب "لسان العرب": »النديم: الشريب الذي ينادمه، وهو ندمان أيضاً«([64]). لكن هذا المعنى الحرفي للكلمة لا يعطينا صورة واسعة عن وظيفة النديم. لذا يجب النظر في كتب "مرآة الملوك". فأبو منصور عبد المالك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي (ت 429 هـ/ 1038 م) يقدِّم لنا تعريفاً أكثر شمولية:

ندماء الملوك: مصابيح مجلسه ومفاتيح أنسه وثمار قلبه ورياحين روحه. فينبغي أن يكونوا من علية الناس، ومن أخصِّ الخواص، جامعين بين أدب النفس أولاً وأدب الدرس ثانياً وأدب الخدمة ثالثاً عارفين بحقوق المنادمة وشروط المعاشرة، ضاربين في الجد والهزل بالسهام الفائزة، متقدي الأقدام في المحاضرة والمكاثرة، ينصتون إلاَّ إذا وجب القول ولا ينبسطون إلاَّ إذا خرج الأمر([65]).

فجلساء الملوك يحملون إذن اسم النديم لمعاشرتهم ومنادمتهم لهم. ذكر الثعالبي مثالاً عن المعتز بن حمدون النديم الذي قال عن وظيفته إنها ريحانة الخلفاء وشمامة الظرفاء([66]). تكون الندامة مرتبطة بالشراب في غالب الأحيان. ذكر الرقيق القيرواني في كتابه "قطب السرور" في معرض حديثه عن أخلاق الملوك على الشراب أن الملوك لا يزالون في قديم الدهر وحديثه تصطفي لنفسها الندامى، وتتخير لنفسها الجلساء الفضلاء. وقدّم هذا المؤلِّف نفسه تعريفاً إضافياً للنديم، فقال:

وإنما قيل لمشارب الرجل نديمه من المنادمة، لأن معاقر الكأس إذا سكر تكلم بما يندم عليه، وفعل ما يندم عليه، فقيل لمن شاربه نادمه، لأنه فعل مثل فعله والمفاعلة تكون من اثنين، كما تقول: »ضاربه وشاتمه«، ثم اشتق من ذلك »نديم«([67]). وارتباط أغلب الندماء بالشراب ينطبق على الرقيق القيرواني الذي كان هو أيضاً مدمناً عليه قبل أن ينقطع عنه([68]). لكن ليس معنى هذا أن الشراب هو الذي جعل منه نادماً للأمراء الزيريين، وإنما تكوينه الشخصي كما يشهد له بذلك ابن رشيق القيرواني:

هو شاعر سهل الكلام محكمه، لطيف الطبع قويه، تلوح الكتابة على ألفاظه، قليل صنعة الشعر، غلب عليه اسم الكتابة وعلم التاريخ وتأليف الأخبار، وهو بذلك أحذق الناس([69]). تدل المؤلفات والمؤلِّفون الذين ورد اسمهم في كتاب "قطب السرور في وصف الأنبذة والخمور" على الثقافة الأدبية والتاريخية للرقيق القيرواني. ونستطيع أن نذكر من هؤلاء المؤلفين ابن الأعرابي وإسحاق بن إبراهيم الموصلي (ت 235 هـ/ 850 م) وابن شبرمة والأعشى وأبا نواس (ت 200 هـ/ 816 م) وعنترة وزهير بن أبي سلمى والأصمعي (ت 213 هـ/ 828 م) وابن الرومي والحجازي، وكذلك مؤلفين يونانيين كجالينوس وأفلاطون([70]). إنها ببساطة ثقافة عربية كلاسيَّة تعود إلى العهود الإسلامية الأولى وإلى أيام الجاهلية، إضافة إلى فترة التوجهات الكبرى في العهد العباسي الأول. هذا التكوين الأدبي ـ التاريخي جعل الرقيق القيرواني يحظى بمكانة مرموقة في البلاط الأفريقي، ليصبح أشهر ندماء إفريقية ما بعد الفاطميين.

واشتهر الرقيق القيرواني بالكتابة الأميرية إلى جانب كونه نديماً. فقد شغل هذا المنصب لمدة طويلة كما ذكر ابن رشيق: »وكاتب الحضرة منذ نيف وعشرين سنة إلى الآن«([71]). ولا تسمح لنا كلمة »الآن« الواردة في هذا النص بتحديد الزمن، ما دمنا نجهل تاريخ كتابة ابن رشيق لـ"أنموذجـ"ــه. والظاهر أنه ظل بمنصب الكتابة هذا فترة طويلة تسايرت مع تعاقب ثلاثة أمراء صنهاجيين على حكم إفريقيتهم: المنصور (374 ـ 386 هـ/ 984 ـ 986 م) وباديس (386 ـ 406 هـ/ 996 ـ 1016 م) والمعز (بداية من 406 هـ/ 1015 م)، لكنه لم يكمل فترة حكم هذا الأخير كما سنرى.

وصوله إلى مصر

وفي سنة 388هـ قدم الرقيق القيرواني مصر حاملاً هدية من نصير الدولة، باديس بن زيري، إلى الحاكم بأمر الله الفاطمي. وهذا يدل على ما كان يتمتع به من مكانة مرموقة، في الدولة الصنهاجية، ومقام رفيع بين رجالها، وأمضى في ربوع مصر أياماً جميلة لا يعدّ سواها من عمره، ثم عاد إلى موطنه القيروان حيث أمضى بقية حياته يحن إلى مصر، ويذكر عهده بها متشوقاً إلى إخوانه فيها، كقوله من قصيدة له:[3]

هل الريحُ إن سارت مشرّقة تسري

تـؤدي تحياتي إلى ساكني مصر

فما خطـرتْ إلا بكيـتُ صبابـةً

وحمّلتها ما ضاق عن حمله صدري

ليـالٍ أنِسْنـاها على غِرّة الصبا

فطابت لنا إذ وافـقتْ غُـرّة الدهر

لعمري، لئن كانت قصاراً أعـدّها

فلسـتُ بمعتـدٍّ سواها من العمـر

كان الرقيق القيرواني في شبابه من أصحاب اللهو والمجون ينادم أهل الشراب في المجالس، ويسمر مع السامرين من الأدباء والعلماء. ثم انقطع عن ذلك وتاب. وفي ذلك يقول من أبيات كتبها إلى أحد أصحابه:

جفـوتُ الراح عن سـبب وكـان لجفْـوتي سـبَبا
فصِرْتُ لوحـدتي كَـلاًّ على الإخـوان مجـتَنَبا
وذاك لـتـوبـة أمّـلـ ت أن أقضـي بهـا أرَبـا
فهـا أنـا تـائب منـها فزرني تُبصرِ العجبـا

الرقيق القيرواني وبلورة الفكر التاريخي ببلاد المغرب

كل من حاول تعرُّف تاريخ إفريقية والمغرب استفاد من الكتاب الذي تركه الرقيق القيرواني أو استفسر عنه أو أشار إلى أهميته. فابن الحاج النميري (ق 8 هـ/ 14 م) ربط رحلته التاريخية إلى إفريقية ودخوله بجاية أيام السلطان المريني أبي عنان بتاريخ الرقيق([2])، وشمس الدين السخاوي (ت 902 هـ/ 1496 م) أشار إلى قيمة "تاريخ الرقيق" في وصفه لأهم كتب تاريخ المغرب الإسلامي: »و"إفريقية" (تاريخ) لإبراهيم بن القاسم بن الرقيق القيرواني الكاتب في عدة مجلدات«([3]). فحاجي خليفة (ت 1027 هـ/ 1618 م) بقراءته المتمعنة لعدة مصادر واطلاعه على مكتبات إسطنبول، أشار في موضعين إلى المؤلف بوصفه صاحب "تاريخ القيروان" و"قطب السرور في وصف الأنبذة والخمور"، وقال إنه كان حيّاً في سنة 340 هـ([4]).

وقد بدأت أولى الاهتمامات الحديثة مع الاستعمار وظهور طائفة من المستشرقين ممن اهتموا بتاريخ المغرب. ففي منتصف القرن التاسع عشر الميلاديّ، قام البارون دو سلان (Le Baron de Slane)، مترجم الجيش الفرنسي بالجزائر، بترجمة الجزءين السادس والسابع من كتاب "العبر" لابن خلدون؛ وقام بوضع ترجمة قصيرة للرقيق القيرواني على هامش الكتاب المترجم([5]). ثم أشار إليه ثانية في إحدى رسائله المنشورة بـ"الجريدة الآسيوية" (Journal Asiatique) ([6])، حيث وضح أن الرقيق القيرواني كان حيّاً سنة 377 هـ وأن مخطوطة كتابه "قطب السرور" كانت محفوظة بالمكتبة الوطنية بباريس. وأشار لوي ماسينيون كذلك إلى الرقيق القيرواني في مقاله »المغرب في السنوات الأولى من القرن السادس عشر«، مبيناً أن المؤلف عاش في النصف الثاني من القرن الثالث عشر([7]). وبعد ذلك صدرت للمستشرق الإيطالي ميخائيل أماري (Michele Amari) ترجمة قصيرة للرقيق في كتابه "تاريخ مسلمي صقلية"، وهذا اعتماداً على دوسلان([8]).

كتب كارل بروكلمان، المستشرق الألماني المعروف، ترجمة قصيرة للرقيق في كتابه "تاريخ الأدب العربي" مبيناً أن مؤرخ القيروان قد أرسله في سفارةٍ الأمير باديس بن زيري إلى الخليفة الفاطمي الحاكم سنة 388 هـ/ 998 م([9]). ووضع الهادي روجي إدريس (Hady Roger Idris) المؤرخ الفرنسي ذو النزعة الاستعمارية من جهته، ترجمة قصيرة للرقيق في كتابه "بلاد البربر في العهد الزيري" موضحاً لأول مرة أن المؤلف قد يكون توفي بعد سنة 418 هـ/ 1027 ـ 1028 م وأنه شغل منصب كاتب الدولة الباديسية بالقيران([10]). وخلال الفترة نفسها، تطرق مستشرق روسيا كارتشكوفسكي (Ignati Karachkovski) إلى تحليل مصادر ليون الأفريقي، مشيراً إلى اقتباس هذا الأخير من الرقيق القيرواني ليتأسف في الأخير على عدم إمكان تعرُّف هوية مؤرخ القيروان، في إشارة إلى الغموض الذي يكتنف ما كتبه لوي ماسنيون([11]). وتندرج محاولة فؤاد سيزكين (Fouat Sezgin) في موسوعته المعنونة بـ"تاريخ الأدب العربي" في السياق نفسه، جاعلاً من بروكلمان مرجعاً له، وأن الرقيق كان حياً سنة 417 هـ/ 1026 ـ 1027 م من خلال ما نقله عن ابن خلدون([12]). وقس على ذلك ما كتبه المستشرق الألماني فرانز روزنثال (Franz Rozenthal) الذي أشار إلى أهمية تاريخ الرقيق في إطار محور التواريخ المحلية، دون الخوض في الجوانب المفصلة لحياة المؤلف([13]).

واهتم المؤلفون العرب من جهتهم بوضع ترجمة للرقيق القيرواني على غرار ما فعله رموز الاستشراق. ففي عام 1927 م تم نشر كتاب "الأعلام" لخير الدين الزركلي، وبه ترجمة قصيرة للرقيق اعتماداً على "معجم الأدباء" لياقوت الحموي وكارل بروكلمان([14]). أما عبد السلام بن عبد القادر بن سودة، فقد أشار إلى تاريخ الرقيق، دون التطرق لحياة المؤلف، موضحاً أن صاحب "زهرة الآس" نقل عنه([15]). كما أشار عثمان الكعاك إلى الرقيق القيرواني وإلى مؤلفاته في مقاله »تاريخ الأدب التونسي«، الصادر بمجلة "الثريا"، وهذا اعتماداً على كارل بروكلمان([16]). ولم يضف عمر رضا كحالة أي جديد إلى ما كتبه خير الدين الزركلي، وهذا لاعتماده على بروكلمان([17]). أمّا العلامة حسن حسني عبد الوهاب، عمدة المؤرخين التونسيين، فقد ترك لنا مخطوطة لكتابه "العمر في المؤلفات التونسية" كتب فيها الترجمة الأكثر أهمية إلى غاية عهده، عن حياة الرقيق القيرواني ومؤلفاته. هذه الترجمة أدرجها عبد الحفيظ منصور في مقدمة كتاب "قطب السرور في وصف الأنبذة والخمور" الذي قام بنشره سنة 1976 م([18]). وقد ختم حسن حسني عبد الوهاب تعريفه ببعض جوانب حياة الرقيق وتآليفه، مرجحاً أن يكون هذا المؤرخ قد توفي سنة 425 هـ أو بعدها بقليل.

باكتشاف محمد المنوني لقطعة من مخطوطة حول تاريخ المغرب الوسيط في الخزانة العامة برباط الفتح سنة 1965 م، عاد الاهتمام من جديد بحياة الرقيق القيرواني وتآليفه. فقد نشر محمد المنوني مقالاً في مجلة "المغرب" سنة 1965 م حول المخطوط الذي عثر عليه، ورجح أن يكون قطعة من كتاب "تاريخ إفريقية والمغرب" للرقيق القيرواني([19]). بعده بعامين، قام المنجي الكعبي بنشر القطعة التي عثر عليها المنوني ونسبها، كسابقه، للرقيق القيرواني، وهذا اعتماداً على تشابه ستة نصوص مع ما ورد في "البيان المغرب" لابن عذاري المراكشي([20]).

بعد نشر هذه القطعة المخطوطة، ظهرت سلسلة من المقالات حول النص المنشور من تأليف عيسى المعموري في "يومية العمل" (1968) ([21])، والشاذلي بويحيى في "حوليات الجامعة التونسية" (1968) ([22])، وموسى لقبال في "المجاهد الثقافي" (1968) ([23]) والهادي روجي إدريس في مجلة "الدراسات الإسلامية" (1969) ([24]). هذه المقالات القصيرة لم تطرح بحدة صحة نسبة القطعة المنشورة إلى الرقيق القيرواني. لكن في سنة 1971 م، نشر محمد الطالبي مقالاً انتقد فيه المنجي الكعبي ونفى نسبة النص المنشور إلى الرقيق، اعتماداً على مقارنة مجموعة من النصوص الواردة في الكتاب المنشور والمتعلقة بمقاومة كاهنة الأوراس للفاتحين المسلمين مع ما ورد في "رياض النفوس" لأبي بكر المالكي و"ترتيب المدارك" للقاضي عياض، متوصلاً إلى أن القطعة التي نشرها المنجي الكعبي ليست للرقيق وإنما لمؤلف عاش في فترة متأخرة([25]).

وعلى الرغم من التحفظات التي طرحت حول نسبة القطعة التي نشرها المنجي الكعبي للرقيق القيرواني، فإن الكتاب تم اعتماده في أغلب الدراسات الجامعية. في سنة 1990 م صدرت طبعة جديدة من الكتاب، بتحقيق علي الزيدان وعز الدين أحمد موسى، لتؤكد نسبة تاريخ إفريقية والمغرب([26]) للرقيق القيرواني.

لم ينقص الاهتمام بالكتاب المنشور من مجهودات الباحثين في حياة الرقيق القيرواني. فقد كتب محمد الطالبي ترجمة قصيرة له في "دائرة المعارف الإسلامية" بعنوان »ابن الرقيق«([27]). وفي هذه الترجمة القصيرة، أخذ محمد الطالبي عن سابقيه، موضحاً أن المؤرخ يكون قد توفي بعد سنة 418 هـ/ 1027 ـ 1028 م وأنه شيعي، كما ذكر عدد من المؤلفين الذين أخذوا عنه. ولم يفرق الطالبي، بخصوص هذه النقطة الأخيرة، بين "تاريخ الرقيق" و"تاريخ ابن شداد". وفور نشر هذه الترجمة، ردَّ الهادي روجي إدريس على محمد الطالبي حول نقطتين أساسيتين: شيعية الرقيق، ونسبة النص المنشور إليه. فقد أوضح أنه ليس من الممكن الجزم بشيعية الرقيق لغياب الأدلة الكافية، لكنه أكد أن عدة شواهد تؤكد أنه من غير الممكن الجزم بشرعية نسبة النص المنشور للمؤلف([28]). تواصلت الحرب الكلامية بين الطالبي وإدريس مع ردّ الأول على الثاني في مقال صدر بمجلة "أربيكا" (Arbica) سنة 1972 م. فقد تطرق الطالبي إلى مذبحة الشيعة بالقيروان، وإلى الميول الشيعية للرقيق القيرواني من خلال ما نقل عنه المتأخرون([29]).

لم تنحصر الكتابة حول الرقيق القيرواني في مقالات الطالبي وإدريس، بل تعدَّت إلى باحثين آخرين. فقد تطرق إلى الرقيق الشاذلي بويحيى في بعض الأسطر في كتابه "الحياة الأدبية بإفريقية الزيرية"، ناقلاً عما سبقوه دون توضيح لحياة المؤلف([30]). وكتب محمد محفوظ في كتابه "تراجم المؤلفين التونسيين" أهم ترجمة للرقيق القيرواني بعد التي كتبها حسن حسني عبد الوهاب: فقد ذكَر أنه توفي حوالي سنة 424 هـ/ 1034 م؛ كما أشار إلى توليته للكتابة في الدولة البادسية، وذهابه إلى القاهرة في سفارة، ثم ذكر معظم مؤلفات الرقيق([31]). هذه الترجمة جمعت أهم ما كتب عن الرقيق إلى حد سنة 1982 م، وما جاء بعدها لم يكن إلاَّ نقلاً عنها. فمحققو كتاب "إفريقية والمغرب"، في طبعته الثانية، نقلوا عنها أغلب ما كتبوه في مقدمة التحقيق؛ كما أن تقديم المصادر في الأطروحات الجامعية راعى ما كتبه حسن حسني عبد الوهاب ومحمد محفوظ، كما فعله مثلاً عبده عبد العزيز قليقلة([32]) وفتحي بحري([33]). وكما لاحظنا، فهذه الدراسات التي قدمناها لم تعط ما فيه الكفاية عن حياة الرقيق القيرواني، ولا عن منهجه التاريخي. لذا فإننا اعتمدنا إعطاء نظرة أكثر شمولية بداية من دراسة لقب المؤلف.

اعدامه

منذ حوالي ثلاثة وثلاثين سنة دار نقاش حاد بين محمد الطالبي والهادي روجي إدريس حول الميول الشيعية للرقيق القيرواني من خلال كتاباته التاريخية. فتبنَّى محمد الطالبي رأي العلامة حسن حسني عبد الوهاب الذي يؤكد الميول الشيعية لكتابات المؤرخ([75])، بينما ذهب الهادي روجي إدريس إلى القول إن الرقيق القيرواني تميز بنزعة مناهضة للشيعة الفواطم، نظراً لوجوده في البلاط الزيري المعادي للفاطميين وخدمته لهذا البلاط. فالمؤرخ ـ حسب هذا الرأي ـ أيد النخبة الصنهاجية المعادية للشيعة، مما جعله يكتب عبارات مدح في حق مذبحة الشيخ بالقيروان([76]).

لدراسة هذه الإشكالية، لدينا أكثر من دليل يثبت شيعية الرقيق القيرواني. الدليل الأول هو عبارة عن شهادة كتبها ابن رشيق في "الأنموذج"، ونقلها عنه الصفدي في الترجمة رقم 3840 من قاموسه. هذه الترجمة هي الثانية للرقيق في الكتاب الضخم نفسه، لكنها وقعت في الجزء الثامن تحت عنوان »المغربي الرافضي«، مما جعل الباحثين لا يعرفونها:

إسحاق بن إبراهيم ذكره ابن رشيق في "الأنموذج"، وقال كان رافضياً سباباً، عليه لعنة الله. وقتله سيدنا ـ أطال الله بقاءه ـ سنة عشرين وأربعمئة احتساباً. وكان اعتماده في الشعر على أبي القاسم ابن هانئ المغربي وله كان يتعصب، وإن جانب طريقته فلم يسلكها. جمعني وإياه مجلس طيب، وكان ممقوتاً، فعزمت على خلافه مضايقة له وإهواناً إلى ما يأتي به. والجماعة قد فطنوا لي فاستدرجوه، ذكر بعضهم أبا الطيب وأثنى عليه إسحاق: وقال به وبأبي القاسم ختم الشعر، فقلت: ليس إليه ولا منه في شيء، ذاك صاحب معان، وهذا طالب لفظ على تفاوت ما بين الكوفة والأندلس([77]).

يعد هذا النص الأكثر أهمية حول ما كتب عن حياة الرقيق القيرواني، إذ يبين لنا بوضوح أنه كان شيعياً (رافضيّاً) وأنه قتله المعز بن باديس، ذو التوجه المالكي. كما نعرف الآن أنه توفي سنة 420 هـ/ 1029 م، بدلاً عن التواريخ الافتراضية التي وضعها المحدثون حول وفاته. ونحاول الآن دراسة التوجه الشيعي للمؤلف ومراحل خلافه مع السلطة الجديدة بالقيروان التي شنَّت حرباً على التشيع.

أكد لنا النص سابقُ الذكر أن شيعية الرقيق لا شك فيها: فهو المتعصب لأبي القاسم بن هانئ المغربي الأندلسي (ت 361 هـ/ 972 م)، شاعر بلاط المعز لدين الله. والراجح جداً أنه أخذ عنه قبل أن يرحل إلى مصر ويقتل في الطريق. وتعاطف الرقيق مع الشيعة الفواطم على عهد باديس بن المنصور تؤكده الأبيات الشعرية التي نقلها المقريزي، مشيراً إلى تشوق إخوانه بمصر، ومنها([78]):

هل الريح إن سارت مشرقة تسري تؤدي تحياتي إلى ساكني مصر؟
فما خطرت إلاَّ بكيت صبابة وحملتها ما ضاق عن حمله صدري
لأني إذا هبت قبولاً بنشرهم شممت نسيم المسك من ذلك النشر
فكم لي بالأهرام أو دير نهية مصائد غزلان المكابد والقفر
إلى جيزة الدنيا بما قد تضمنت جزيرتها ذات المواخير والجسر
وبالمقس والبستان للعين منظر أنيق إلى شاطي الخليج إلى القصر
وفي سردوس مستزاد وملعب إلى دير مرحنا إلى ساحل البحر
فكم بين بستان الأمير وقصره إلى البركة النضراء من زهر نضر
تراها كمرآة بدت في رفارف من السندس الموشي ينشر للتجر
وكم ليلة لي بالقرافة خلتها لما نلت من لذاتها ليلة القدر

تترجم رحلة الرقيق إلى مقر الخلافة تعاطفه مع الشيعة. وقد بلغ الرقيق في هذه الفترة مكانة مرموقة في بلاط باديس، لكون هذا الأخير ظلَّ متمسكاً بالميثاق الفاطمي. هذه العلاقة الحسنة بين الرقيق وأمير إفريقية صورتها تلك الأبيات الشعرية التي نقلها لنا ياقوت الحموي([79]):

وما مثل باديس ظهير خلافة إذا اختير يوماً للظهيرة موضع
نصير لها من دولة حاتمية إذا ناب خطب أو تفاقم مطمع
حسام أمير المؤمنين وسهمه وسم زعاف في أعاديه منقع

كانت مكانة الرقيق مرموقة في الأوساط الأخرى للحكم بإفريقية، كما تدل على ذلك القصيدة التي كتبها في مدح محمد بن أبي العرب (ت 396 هـ/ 1002 م)، رجل إفريقية القوي وكاتب القصر الأميري([80]).

يتضح التوجه الشيعي للرقيق كذلك من خلال كتاباته التي وصلتنا. مثالنا على ذلك ما كتبه في "قطب السرور في وصف الأنبذة والخمور"، حيث أظهر نزعة معادية للأمويين، مع بعض التحيز لآل البيت: »يزيد بن معاوية: كانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر. فقد قتل الإمام الحسين في زمنه. فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم، وكان أول من جمع بين الشراب والغنى« ([81]).

تمثل فترة حكم باديس بن المنصور إذن فترة تألق الرقيق في أوساط السلطة إلى غاية مجيء المعز بن باديس، الذي اشتهر ـ كما نعرف ـ بتوجهاته السنية، وبداية عمليات قتل الشيعة. احتفظ الرقيق بمنصبه كاتباً للبلاط، لكنه ركن إلى السكوت، ثم إلى الكتابة التاريخية. ففي سنة 417 هـ، نجده يدون الحملات العسكرية التي تشنها سلطة القيروان بناحية طرابلس([82])، وهي السنة التي توقف فيها تدوين تاريخه، لأن الثلاث السنوات الأخيرة من عمره كانت شديدة القسوة عليه بسبب غضب النظام عليه. فقد واجه مؤرخ النظام الحاكم وكاتبُه حملة شديدة قادتها الحاشية الجديدة للأمير، وفيها ابن رشيق. ويوضح النص الذي نقله لنا الصفدي نماذج من الصراع الفكري الذي شنَّ على هذا المؤرخ الشيعي. وهذا ما يدل عليه قول ابن رشيق نفسه: »فعزمت على خلافه، مضايقة له وإهواناً إلى ما يأتي به« ([83]). فسلوكه لطريقة ابن هانئ الشيعي في الشعر كلفته الكثير وألصقت به تهمة لا تُغْتَفَر في وسط مالكي غاضب ميَّال إلى الانتقام. كل هذا جعل المعز بن باديس يقرر إعدام المؤرخ ـ الكاتب، لا لشيء إلاّ لميولاته الشيعية. وهذا، بالرغم من أنه كان خماراً، ثم انقطع عنه. فالحسبة التي صورها لنا ابن رشيق تعبر عن التحالف بين النخب العلمية المالكية ونظام الحكم ضد الروافض.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مؤلفاته

تاريخ أفريقية والمغرب، لقراءة الكتاب اضغط على الصورة.

من المعلوم أن مؤلفات الرقيق القيرواني لم تصلنا في معظمها، لكن قوائم الكتب التي نسبت إليه تدل على أنه برع في ثلاثة مجالات ثقافية: التاريخ والشعر وآداب الملوك.


كتب مرآة الملوك

لما كان الرقيق القيروانيّ نديماً وكاتباً في البلاط القيرواني، اهتم بتصنيف كتب لها علاقة بالمنادمة وبمصاحبة الملوك. ولذلك فإن كتاب "نظم السلوك في مسامرة الملوك" (أربعة مجلدات) وكتاب "الراح والارتياح" في الأدب، وكتاب "النساء"، وكتاب "الأغاني"، و"كتاب المتيمين"، وكتاب "قطب السرور في وصف الأنبذة والخمور"، كلها تندرج في هذا السياق([87]). وقد ضاعت هذه العناوين كلها، ما عدا الكتاب الأخير الذي وصلنا وكذلك جزء من كتاب "الراح والارتياح"([88]). لكن، حسب محمد محفوظ، توجد بعض القطع من كتاب "نظم السلوك في مسامرة الملوك" بالمكتبة الوطنية بتونس، وقد عثر عليها بمكتبة الشيخ علي النوري بصفاقس([89]).

الشعر والنثر

قال عنه ابن رشيق إنه »شاعر سهل الكلام محكمه، لطيف الطبع قويه، تلوح الكتابة على ألفاظه، قليل صنعة الشعر« ([90]). وبالرغم من هذا الحكم على الرقيق من طرف أحد معاصريه، فإن الأبيات التي حفظتها لنا الكتب تدل على قدرة المؤلف الشعرية. ومن أهم القصائد التي ألفها نذكر الأبيات التي كتبها إلى عمار بن جليل وقصيدة »ذكر المناهل« وقصيدة »مدح الكاتب محمد بن أبي العرب«، وله كذلك قصائد في الغزل والرثاء ([91]). وهذه المؤلفات الأدبية والشعرية ما هي في الحقيقة إلاّ نافذة ثقافية للمؤرخ الذي اشتهر بعلم التاريخ وتأليف الأخبار ([92]).

كتب التاريخ

للرقيق القيرواني عدة مؤلفات في التاريخ والأخبار([84]) التي لا نعرف منها ـ ويا للأسف! ـ إلاَّ ثلاثة عناوين. الكتاب الأول والمهم هو كتاب "إفريقية والمغرب"، في عدة مجلدات والذي سنعود للحديث عنه. الكتاب الثاني هو كتاب "الاختصار البارع للتاريخ الجامع" في عشرة مجلدات([85]) والذي ربما اختصر فيه "تاريخ الطبري"، كما يدل على ذلك ما اقتبسه في "قطب السرور". والكتاب الثالث نجهل عنوانه، لكن نعرف أنه ذكر فيه أخبار زيري بن مناد الصنهاجي وابنه بلكين وابنه المنصور. نقل ابن عذاري المراكشي عن الرقيق قائلاً: »قال الرقيق: "وقد ذكرت سيرته وحروبه وعطاياه لأخبار جده وأبيه وأخباره"«([86]). هذه العبارة قالها الرقيق في معرض حديثه عن المنصور بن بلكين في كتاب مفرد، مما يدل على أنه كان المؤرخ الرسمي لهذا الأمير، ويدل كذلك على أن هذا الكتاب الصغير كان قد ألفه قبل كتاب "تاريخ إفريقية والمغرب".


في مقدمة كتاب "العبر"، أكد ابن خلدون قائلاً: »أبو حيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها، وابن الرقيق مؤرخ إفريقية والدول التي كانت بها؛ ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلاّ مقلد« ([93]). هذه الملاحظة المهمة التي أبداها ابن خلدون تحتاج إلى تحليل.

فإذا كان ابن حيان القرطبي (ت 469 هـ)، مؤرخ الأندلس، معروفاً بابتكاره لما يسمى بإضفاء الطابع الأدبي على التاريخ (la littéralisation de l’histoire)([94])، فإن منهج الرقيق القيرواني يكتنفه بعض الغموض. فتاريخ الرقيق القيرواني نجده مذكوراً في كتب التاريخ المغربية منها والمشرقية، ولكن هذه الكتب لا تشير إلى وجود منهج إبداعي في كتابة التاريخ لدى مؤرخ القيروان. فما الذي جعل ابن خلدون يعتبره واضع أساس »تاريخ إفريقية«؟ ولماذا قلَّده كل من جاءوا بعده ولم يكتبوا أحسن منه؟

لقد جاء ذكر كتاب "تاريخ إفريقية والمغرب" بعناوين مختلفة: فنجده باسم "كتاب تاريخ إفريقية والمغرب" عند ياقوت والصفدي([95])، وباسم "تاريخ إفريقية والقيروان" عند ابن شاكر الكتبي([96])، وكتاب "تاريخ إفريقية" عند المقريزي([97])؛ كما نجده باسم "تاريخ القيروان" في مقدمة كتاب الصفدي([98])، و"تاريخ إفريقية" عند السخاوي([99]). هذه العناوين المختلفة ما هي إلا اختصارات لكتاب واحد، والراجح أن العنوان الأول هو الأصح، أي "تاريخ إفريقية والمغرب". وقد أضيفت »القيروان« إلى العنوان، لأنها من جهة هي محور الكتاب، ومن جهة ثانية نظراً لما خلَّفه كتاب "الجمع والبيان في أخبار القيروان" لابن شداد الصنهاجي من تأثير في المشرق([100]). لكن كتاب "تاريخ إفريقية والمغرب" اشتهر ببلاد المغرب باسم مؤلفه كما يدل على ذلك ما ورد في الكتب التي اعتمدت عليه([101]).

قائمة مؤلفاته

أما مؤلفاته فهي كثيرة، وقد غلب عليها الأدب والتاريخ والأخبار، ومنها:

نقد

وصفه ابن خلدون بقوله: «مؤرخ إفريقية والدول التي كانت بالقيروان. ولم يأت من بعده إلا مقلِّد».

كما وصفه ابن رشيق صاحب كتاب «العمدة» بأنه: «شاعر سهل الكلام، مُحْكَمُه، لطيف الطبع قويُّه، تلوح الكتابة على ألفاظه، قليل صنعة الشعر. غلب عليه اسم الكتابة، وعلم التاريخ، وتأليف الأخبار، وهو بذلك أحذقُ الناس».

على أنه شاعر مقلّ، ومعظم شعره في مدح بعض أعيان عصره، كنصير الدولة باديس بن زيري، ومحمد بن أبي العرب. وله شعر قليل في الغزل والرثاء.

المصادر

  1. ^ "الرقيق القيرواني". الموسوعة المعرفية الشاملة. Retrieved 2011-10-18.
  2. ^ د. علاوة عمارة، جامعة باريس الأول، السوربون، فرنسا. "الرقيق القيرواني وبلورة الفكر التاريخي ببلاد المغرب". التاريخ العربي. Retrieved 2011-10-18.
  3. ^ محمود فاخوري. "الرقيق القيرواني". الموسوعة العربية. Retrieved 2011-10-18.

المراجع

  • ياقوت الحموي، معجم الأدباء (بيروت، الطبعة المصورة. بلا تاريخ).
  • عمر رضا كحالة، معجم المؤلفين (دمشق 1957م).
  • صلاح الدين الصفدي، الوافي بالوفيات، تحقيق. س. ديدرينغ (ألمانية 1972م).