تاريخ السويد

(تم التحويل من تاريخ السويد (1772–1809))
Homann's map of the Scandinavian Peninsula and Fennoscandia with their surrounding territories: northern Germany, northern Poland, the Baltic region, Livonia, Belarus, and parts of Northwest Russia. Johann Baptist Homann (1664–1724) was a German geographer and cartographer; map dated around 1730.
تاريخ السويد
Flag of Sweden.svg
اسكندنافيا ما قبل التاريخ (–800)
الڤايكنگ والعصور الوسطى (800–1521)
حقبة ڤاسا المبكر (1521–1611)
قوة عظمى صاعدة (1611–1648)
الإمبراطورية السويدية (1648–1718)
عصر الحرية (1718–1772)
مطلقية گوستاڤيوس الثالث (17721809)
الإتحاد مع النرويج (18141905)
العصر الاوسكاري (آخر القرن 19)
التصنيع (1870s–1930)
الحرب العالمية الثانية (1930s–1945)
الحرب الباردة (1945–1989)
ما بعد الحرب الباردة (1989–)
موضوعات
التاريخ العسكري
  1. تحويل قالب:ثقافة السويد

history of Sweden can be traced back to the melting of the Northern Polar Ice Caps. From as early as 12000 BC, humans have inhabited this area. Throughout the Stone Age, between 8000 BC and 6000 BC, early inhabitants used stone-crafting methods to make tools and weapons for hunting, gathering and fishing as means of survival.[1]

Written sources about Sweden before AD 1000 are rare and short, usually written by outsiders. It was not until the 14th century that longer historical texts were produced in Sweden. It is therefore usually accepted that Swedish recorded history, in contrast with pre-history, starts around the 11th century, when sources are common enough that they can be contrasted with each other.

The modern Swedish state was formed over a long period of unification and consolidation. Historians have set different standards for when it can be considered complete, resulting in dates from the 6th to 16th centuries. Some common laws were present from the second half of the 13th century. At this time, Sweden consisted of most of what is today the southern part of the country (except for Scania, Blekinge, Halland and Bohuslän), as well as parts of modern Finland. Over the following centuries, Swedish influence would expand into the North and East, even if borders were often ill-defined or nonexistent.

In the late 14th century, Sweden was becoming increasingly intertwined with Denmark and Norway, with the three eventually uniting in the Kalmar Union. During the following century, a series of rebellions lessened Sweden's ties to the union, sometimes even leading to the election of a separate Swedish king. The fighting reached a climax following the Stockholm Bloodbath in 1520, a mass execution of accused heretics orchestrated by Christian II of Denmark. One of the few members of the most powerful noble families not present, Gustav Vasa, was able to raise a new rebellion and eventually was crowned King in 1523. His reign proved lasting and marked the end of Sweden's participation in the Kalmar Union.

Gustav Vasa furthermore encouraged Protestant preachers, finally breaking with the papacy and establishing the Lutheran Church in Sweden, seizing Catholic Church property and wealth.

During the 17th century, after winning wars against Denmark-Norway, Russia, and the Polish-Lithuanian Commonwealth, Sweden emerged as a great power by taking direct control of the Baltic region. Sweden's role in the Thirty Years' War determined the political and religious balance of power in Europe. The Swedish state expanded enormously into the modern Estonia and Latvia, northern Germany, and several regions that to this day are part of Sweden.

Before the end of the 17th century, a secret alliance was formed between Denmark-Norway, Polish-Lithuanian Commonwealth, and Russia against Sweden. This coalition acted at the start of the 18th century when Denmark-Norway and the Polish–Lithuanian Commonwealth launched surprise attacks on Sweden. In 1721, Russia and its allies won the war against Sweden. As a result, Russia was able to annex the Swedish territories of Estonia, Livonia, Ingria, and Karelia. This effectively put an end to the Swedish Empire, and crippled her Baltic Sea power.

Sweden joined in the Enlightenment culture of the day in the arts, architecture, science, and learning. Between 1570 and 1800, Sweden experienced two periods of urban expansion. Finland was lost to Russia in a war in 1808–1809.

In the early 19th century, Finland and the remaining territories outside the Scandinavian Peninsula were lost. Sweden's last war was the Swedish–Norwegian War (1814). Sweden was victorious in this war, leading to the Danish king being forced to cede Norway to Sweden. Norway was then forced to enter into a personal union with Sweden that lasted until 1905. Since 1814, Sweden has been at peace, adopting a non-aligned foreign policy in peacetime and neutrality in wartime. During World War I, Sweden remained neutral, but let the Germans travel in the country. Post-war prosperity provided the foundations for the social welfare policies characteristic of modern Sweden. During World War II, Sweden once again remained neutral, avoiding the fate of occupied Norway.

The country attempted to stay out of alliances and remain officially neutral during the entire Cold War, and declined to join NATO. The social democratic party held government for 44 years (1932–1976). The 1976 parliamentary elections brought a liberal/right-wing coalition to power. During the Cold War, Sweden was suspicious of the superpowers, but this sentiment lessened as the situation progressed, and Sweden continued to remain neutral.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عصر ما قبل التاريخ: 9,000 ق.م 800 م

بدأ تاريخ السويد في فترة ما قبل التاريخ منذ 12,000 عام قبل الميلاد في أواخر العصر الحجري وقتذاك كانت هنالك مخيمات لاصطياد الرنة تعود لثقافة البروم والتي تقع الآن في أقصى الإقليم الجنوبي. تميزت هذه الفترة بوجود مجموعات صغيرة مكونة من صياديين الذين كانوا يستخدمون في صيدهم أسلحة مصنوعة من الحجر الصوان.

عرفت السويد الزراعة وتربية الحيوانات نحو سنة 4000 ق.م بالإضافة إلى الدفن التذكاري والفؤوس المصقولة الحادة والفخار المزخرف التي وصلت إليها من القارة الأوروبية عن طريق ثقافة فنلبيكر. كان ثلث السويد الجنوبي جزءاً من المنطقة الزراعية الشمالية في العصر البرونزي مؤلفاً من مراعي تربية المواشي، وكان معظمها يتبع الثقافة السائدة في الدنمارك حينها. في عام 1700 قبل الميلاد، كان الاعتماد على الواردات البرونزية من أوروبا. لم يكن هناك تنقيب عن النحاس محلياً أثناء هذه الفترة، كما لم تمتلك المنطقة الاسكندنافية خامات القصدير، لذلك تم استيراد جميع المعادن.

كانت بلدان الشمال الأوروبي أثناء العصر البرونزي لا تزال في أطوار الحياة البدائية، حيث عاش الناس في قرى صغيرة ومزارع ذات منازل طويلة خشبية من طابق واحد. في غياب أي استعمار روماني، فإن العصر الحديدي في السويد دام حتى وصول الطراز المعماري الحجري والرهباني في زهاء القرن الثاني عشر الميلادي. معظم هذه الفترة يعتبر قبل التاريخ المسجل، وذلك يعني أن هنالك مصادر كتابية مدونة ولكن مجملها ذات مصداقية متدنية. حيث أن القصاصات من المواد المكتوبة هي إما دونت في وقت لاحق للفترة المذكورة بأمد طويل، أو كتبت في أماكن بعيدة أو محلية لكنها قصيرة وموجزة.

بدأ المناخ ينعطف نحو الأسوأ، مما اضطر المزارعين للحفاظ على الماشية في منازلهم خلال فصل الشتاء، أدى ذلك إلى تخزين الروث سنويا، وهو الأمر الذي مكن السكان من استخدامه بصورة منتظمة لتخصيب التربة. فشلت محاولة رومانية لتوسيع حدود الامبراطورية من نهر الراين إلى الإلبه في العام التاسع الميلادي، وذلك عندما هاجمت قبائل جرمانية بقيادة ذات تدريب روماني الفيالق الرومانية بقيادة "فاروس" في كمين في معركة غابة تويتوبورگ. في ذلك الوقت أيضاً برزت معالم التحول الجذري في الثقافة الاسكندنافية منعكساً في زيادة الاتصال بالرومان.

في القرن الثاني الميلادي، جرى تقسيم معظم الأراضي الزراعية في جنوب السويد بواسطة جدران منخفضة إلى حقول خضراء دائمة ومروج لعلف الشتاء على أحد جانبي الجدار، وعلى الجانب الآخر من الجدار هنالك الأرض المسورة بالخشب حيث ترعى الماشية. هذا التنظيم ظل سائداً حتى القرن التاسع عشر الميلادي. شهدت الفترة الرومانية أول توسع للمستوطنات الزراعية حتى ساحل بحر البلطيق في ثلثي البلاد الشمالي.

ورد ذكر السويد في كتاب جرمانيا للمؤرخ تاكيتوس الذي كتب عام 98 ميلادي، وفيه ورد ذكر قبيلة (Suiones) السويدية بوصفها قبيلة قوية (ليست مجرد أسلحة ورجال، ولكن أيضاً بأساطيلها القوية) وسفنها مسننة الطرفين.

الملوك الذين حكموا هذه القبائل غير معروفين، ولكن الميثولوجيا النوردية تذكر سلسلة من الملوك الأسطوريين والشبه أسطوريين الذين يرجعون إلى القرون الأخيرة قبل الميلاد. أما بالنسبة للكتابة في السويد بعينها، فهناك الكتابة الرونية التي استخدمتها النخبة الاسكندنافية الجنوبية في القرن الثاني الميلادي، ولكن كل الذي وصل الينا من العهد الروماني هو نصوص وقطع أثرية تحتوي في معظمها على أسماء ذكور توضح أن الناس في جنوب اسكندنافيا تحدثوا اللغة النوردية القديمة وقتذاك وهي لغة سابقة للسويدية واللغات الجرمانية الشمالية.

في القرن السادس الميلادي، ذكر يوردانس قبيلتين هما "Suehans" و"Suetidi" الذين عاشا في اسكندنافيا القديمة. كلا الاسمين يعتبران يشيرا إلى نفس القبيلة.

الـ "Suehans" كما يقول عندهم خيول جيدة جداً كالتي عند قبيلة الثايرينجي. كتب سنوري سترلسون أن الملك السويدي أدليس كان يملك أجود الخيول في عصره. وكانت الـ "Suehans" الموردين لجلود الثعالب السوداء للسوق الرومانية. ثم ذكر يوردانس الـ "Suetidi" الذي يعتبر الاسم اللاتيني لـ "Svitjod"، وكتب أن الـ "Suetidi" هم أطول الرجال مع الدنمركيين الذين ينتمون إلى نفس العرق. كما ذكر في وقت لاحق أن غيرها من القبائل الاسكندنافية كانت من نفس الطول.

تحكي إحدى الأساطير الإسكندنافية القديمة، أن جماعة من القوط وهي قبائل يرجع أصلها إلي مدينة جوتلاند في السويد، عبروا بحر البلطيق قبل القرن الثاني الميلادي واصلين إلى اسكيثيا (التي كانت تضم كازاخستان وجنوب روسيا وأوكرانيا وأذربيجان وبيلاروسيا وأجزاء من بولندا وبلغاريا) على ساحل البحر الاسود في أوكرانيا الحديثة حيث تركوا آثارهم في ثقافة تشيرنياخوف. في القرن الخامس والسادس الميلاديين، انقسموا إلى القوط الشرقيين والقوط الغربيين، ثم أسسوا دول قوية خلفت الامبراطورية الرومانية في شبه جزيرة أيبيريا وإيطاليا. يبدو أن المجتمعات القوطية الجرمانية قد عاشت في شبه جزيرة القرم حتى أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.


تاريخ السويد المبكر: 800-1500

ليس في مقدور كائن من كان أن يجعلنا نتصور أعمال أهل اسكنديناوة في هذه الأيام الأولى اللهم إلا إن كان قصاصاً واسع الخيال، وحسبنا أن نقول عنها إنها جهود جبارة تبذل في سبيل الاستيلاء على هذه شبه الجزيرة الوعرة الخطرة يوماً بعد يوم وقدماً بعد قدم. لقد كانت الحياة لا تزال فيها بدائية؛ وكانت موارد الغذاء الأولية فيها هي صيد الحيوان والسمك والزراعة. وكان لابد من تقطيع أشجار الغابات المترامية الأطراف، واستئناس الحيوان البري، وجر الماء إلى مجار تمكن الأهلين من الإنتاج، وإنشاء المرافئ البحرية؛ وكان لابد من أن يعتاد الرجال الجلد وتحمل المشاق لمغالبة الطبيعة التي بدت وكأنها تغضب من تطفل الإنسان عليها وتدخله في شئونها. وكان للرهبان السسترسيين Cistercian شأن عظيم في هذا الكفاح الذي قضوا فيه حياتهم جيلاً بعد جيل، فكانوا يقطعون الأشجار، ويفلحون الأرض، ويعلمون الفلاحين أساليب الزرع الراقية. وكان من أبطال هذا الكفاح إيرل برگر Earl Birger رئيس وزراء السويد من 1248 إلى 1266. فهو الذي ألغي رق الأرض، وأقام حكم القانون، وأسس مدينة ستوكهولم Stokholm (حوالي عام 1255)، وأنشأ أسرة فولكونگ Folkung (1250-1363) بأن أجلس ابنه ولدمار على العرش. وأثرت مدينة برگن لأنها كانت منفذ تجارة النرويج، وأضحت مدينة ڤيسبي Visby القائمة على جزيرة گوتلاند Gotland مركز الاتصال بين بلاد السويد والعصبة الهانزية. وشيدت كنائس فخمة ممتازة، وتضاعف عدد الكنائس الكبرى والمدارس، وأخذ الشعراء يغنون قصائدهم.

الفايكينج والعصور الوسطى

دام عصر الڤايكنگ السويدي ما بين القرنين الثامن والحادي عشر. يعتقد أن السويديين خلال هذه الفترة قد توسعوا انطلاقاً من شرق السويد وضموا الجيتس جنوباً. كما يعتقد أن الفايكنج السويديين والجوتلانديين ارتحلوا شرقاً وجنوباً، إلى فنلندا ودول البلطيق وروسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا والبحر الأسود وأبعد من ذلك إلى بغداد. مرت طرقهم عبر نهر دنيبر جنوباً وصولاً إلى القسطنطينية وقاموا بغارات عديدة في تلك المناطق. لاحظ الإمبراطور البيزنطي ثيوفيلوس مهاراتهم الكبيرة في الحرب، ودعاهم ليكونوا بمثابة حراسه الشخصيين، والمعروفين باسم الحرس الفارانجي. كما يعتقد أن الفايكنغ السويديون الذي أطلق عليهم اسم روس "Rus"، أنهم أيضاً الآباء المؤسسون لمملكة "روس الكييڤية".

وصفهم الرحالة العربي "أحمد بن فضلان" على النحو التالي:

"لقد رأيت الروس عندما جاءوا في رحلاتهم التجارية ونزلوا عبر نهرالفولغا. لم أر في حياتي أجسادًاأكثر كمالا منهم، طوال القامة كالنخيل وهم شقر، لا يرتدون السترات ولا القفطان، غيرأنّ الرجال يرتدون ملابس تغطي جانبًا واحدًا من الجسم، وتترك يداً حرة. كل رجل لديه فأس وسيف وسكين، ويحتفظ بهم في جميع الأوقات. السيوف حادة مشطوفة، وهي نوع من سيوف الفرنجة."

دونت مغامرات الڤايكنگ السويديين على عدة أحجار بلغتهم الاسكندنافية مثل الأحجار اليونانية والأحجار الفارانجية. قامواً أيضا برحلات استكشافية غرباً كتلك المذكورة في أحجار إنجلترا التذكارية. آخر رحلات الفايكنغ السويديين الاستكشافية كانت سيئة الحظ وبقيادة انجفار إلى المنطقة الجنوبية الشرقية من بحر قزوين. دونت أسماء أعضائها أحجار انجفار التي لم تذكر نجاة أي منهم. لا يعرف حقاً ما حدث للطاقم، ولكن يقال أنهم ماتوا من المرض.

1- المشهد الإسكنديناوي (1470-1523)

ما أن حل عام 1500 حتى كانت تقوى الناس قد جعلت الكنيسة تسيطر على اقتصاد إسكنديناوة. وكانت الكنيسة تملك نصف الأرض في الدنمرك، وكان يفلحها مستأجرون في منزلة تقرب من الرق(1). وكانت كوبن هاجن نفسها إقطاعية للكنيسة، ورجال الأكليروس والنبلاء يتمتعون بالإعفاء من ضرائب الأرض. أما النبلاء فلأنهم اشتركوا في الحرب على نفقتهم الخاصة، وأما رجال الأكليروس فلأنهم نظموا العبادة والأخلاق والتعليم والبر.

وكانت الجامعات في كوبنهاجن وأبسالا بالطبع في أيدي رجال الكنيسة، وكانت الكنيسة تتقاضى سنوياً عشر كل ناتج أو دخل يُحَصَّل خارج مجال الكنيسة، وتقاضت رسماً صغيراً على كل بناء يقام وكل طفل يولد وكل اثنين يتزوجان وكل جثة تدفن، وطالبت بالتبرع بيوم عمل في السنة من كل فلاح. ولم يكن في وسع أحد أن يرث عقاراً، دون أن يقدم عنه حصة للكنيسة، باعتبارها محكمة إشهاد للتثبيت من صحة الوصايا(2). وكان يدافع عن هذه الضرائب بأنها تمول الخدمة الكهنوتية في الكنيسة، ولكن الشكاوى ارتفعت بأن الكثير من متحصلات المعاملات التجارية ذهبت لكي يعيش الأساقفة في أبهة ملكية. وأزعج تجار الدنمرك السيادة الهنزية في بحري الشمال والبلطيق، فتميزوا غيظاً من المنافسة الإضافية للنبلاء ورجال الأكليروس، الذين كانوا يصدرون فائض إنتاج ضياعهم في سفنهم الخاصة غالباً. وفي إسكنديناوة كما في غيرها من البلاد، تطلع النبلاء في شوق إلى أراضي الكنيسة. ولقد حدث هناك، كما حدث في كل موضع آخر صراع بين القومية، وبين الكنيسة التي تسمو على كل قومية، وأيدت الكنيسة في كل البلاد الثلاث اتحاد كلمار الإسكنديناوي، الذي كان كريستيان الأول ملك الدنمرك قد جدده (1457). ولكن حزباً قومياً يتألف من سكان المُدن والفلاحين رفض الاعتراف بالاتحاد، باعتباره في الحقيقة سيادة دنمركية، ونادوا بستن ستور الأصغر نائب ملك يحكم أمة مستقلة (1512). ودافع رئيس الأساقفة جوستاف ترول من أبسالا - وكانت وقتذاك عاصمة للسويد - عن الاتحاد، فأقاله ستن ستور الصغير وأمر البابا ليو العاشر بإعادته إلى وظيفته فرفض ستور. وحرم ليو تقديم الخدمات الدينية في السويد وفوض كريستيان الثاني ملك الدنمرك في غزو السويد ومعاقبة نائب الملك، وفشلت أول محاولة لكريستيان، واضطر إلى توقيع هدنة، ولكنه حمل معه عند العودة إلى كوبنهاجن عدة رهائن كضمان لالتزام السويديين بنصوص الهدنة، وكان جوستاف فازا أحد هذه الرهائن. وظفر كريستيان في حملة ثانية بنصر حاسم، ومات ستور متأثراً بالجروح، التي أصيب بها في المعركة. وأعدت أرملته على عجل جيشاً احتفظ بستكهولم لمدة خمسة شهور أمام حصار دنمركي، وأخيراً سلمت مقابل وعد قدمه قائد كريستيان بالحصول على عفو عام. وفي 4 نوفمبر توج كريستيان ملكاً على السويد على يد ترول الظافر الذي أعيد إلى وظيفته.

وفي السابع من نوفمبر استدعى كبار السويديين الذين أيدوا ستور للمثول أمام الملك في قلعة ستوكهولم. واتهمهم ممثل لترول بارتكاب جرائم عظمى بخلعهم كبير الأساقفة وتدمير قلعته، وطالب الملك بالانتقام منهم لهذه الأخطاء. وعلى الرغم من العفو العام الذي صدر فقد حكم على سبعين من كبار السويديين بالإعدام. وقطعت رؤوسهم في الثامن من نوفمبر في الميدان الكبير، وقبض على آخرين عديدين في التاسع من نوفمبر وأعدموا، وأضيف إلى مَن قتلوا في هذه المذبحة بعض المشاهدين الذين أعربوا عن تعاطفهم مع المحكوم عليهم، وصودرت أملاك الموتى لصالح الملك، وصرخ كل السويديين من الرعب، وقال الناس إن اتحاد كالمار أغرق في "حمّام الدم بستوكهولم" وانحطت مكانة الكنيسة كثيراً في نظر الجماهير لأنها بدأت المذبحة. وقد رأى كريستيان أن يجعل حكمه آمناً بالقضاء على عقول الحزب القومي. والحق أنه مهد طريق العرش للرهينة الشاب الذي قدر له أن يحرر السويد. واسمه جوستافوس أركسون، ولكن ذريته أطلقوا عليه اسم فازا، وهو مشتق من كلمة vasa السويدية و fascis. اللاتينية ومعناها حزمة من العصى ظهرت في شعار أسرته. وعندما بلغ الثالثة عشرة من عمره أرسل ليدرس في أبسالا، وعندما بلغ العشرين من عمره استدعي لبلاط ستور الصغير الذي تزوج أختاً غير شقيقة لجوستافوس من أمه، وهناك تلقى مزيداً من التعليم على يد رئيس الوزراء، الأسقف همينج جاد، وفي عام 1519 فر من المراقبة في الدنمرك واتخذ طريقه إلى لوبك، وأقنع أعضاء مجلس الشيوخ فيها (وكانوا في عداء دائم للدنمرك)، أن يقرضوه مالاً ويعيروه سفينة، وعاد إلى شواطئ بلاده (31 مايو سنة 1520)، وأخذ يضرب على غير هدى وهو متنكر أربعة شهور أو كان يختبئ في قرى مغمورة. وفي نوفمبر وصلت الأنباء إليه بأن ما يقرب من مائة من الوطنيين المخلصين، ومنهم أبوه، قتلوا في ستوكهولم، فامتطى صهوة أسرع جواد استطاع العثور عليه، وركب شمالاً إلى موطنه مقاطعة داليكارليا، وصمم على أن ينضم هناك من ملاّك الأراضي الجسورين طلائع جيش يمكن أن يحرر السويديين من الدنمركيين.

وكانت حياته وقتذاك ملحمة جديرة بأن يتغنى بها هوميروس. فقد مضى يسير في طرقات ثلجية، والتمس الراحة في بيت زميل سابق له في المدرسة. وقدم له هذا الصديق واجبات الضيافة ثم انطلق ليخطر الشرطة الموالية للدنمركيين أن الرهينة الهاربة يمكن القبض عليها وقتذاك، غير أن الزوجة أنذرت جوستافوس ليلوذ بالفرار. وبعد أن قطع راكباً عشرين ميلاً وجد ملجأ لدى قسيس أخفاه أسبوعاً. وسافر بعد ذلك ثلاثين ميلاً وحاول أن يحرض مدينة راتفيك على الثورة بيد أن أهلها لم يكونوا قد سمعوا بعد بقصة حمام الدم ولم يصدقوها. فركب فازا وسار في مروج متجمدة خمسة وعشرين ميلاً شمالاً إلى مورا، وتوسل مرة أخرى للفلاحين أن يقوموا بثورة، بيد أنهم أصغوا إليه متشككين في تبلد. ووجد نفسه منبوذاً وتملكه اليأس لحظة، فاستدار بفرسه نحو الغرب، وتخلى عن البحث عن ملجأ في النرويج. وقبل أن يصل إلى الحدود أدركه رسول من مورا، ورجاه أن يعود، وتعهد له بأنه سوف يجد وقتذاك أذناً صاغية بروح تفيض حماسة مثل روحه. فقد سمع الفلاحون أخيراً بأنباء الرعب في ستوكهولم، وعلاوة على هذا انتشرت شائعة بان الملك كان يفكر في القيام برحلة يخترق فيها السويد، وأنه أمر بإقامة المشانق في كل مدينة كبرى. وتقرر فرض مكوس جديدة على شعب كان يكافح من أجل الحياة أمام جشع السادة واستبداد المبادئ الأساسية. وعندما خاطب جوستافوس المواطنين في مورا مرة أخرى أعطوه حرساً مكوناً من ستة عشر من سكان المناطق الجبلية، وأقسموا أن يسلحوا أنفسهم، وينظموا صفوفهم، ويسيروا وراءه حيثما يقودهم لمقاتلة الدنمركيين.

ولم يعرفوا وقتها سوى الأقواس والسهام وفئوس الحرب، وعلمهم فازا كيف يصنعون الرماح والحراب برؤوس من حديد. ودربهم بكل حمية يطويها بين جوانحه شاب يحفزه حب الوطن والسلطة، وبهذه الحماسة استولوا على فستيريس ثن ابسالا، وفر كبير الأساقفة ترول مرة أخرى، وكسب الجيش النامي في صبر وتصميم مقاطعة إثر أخرى من الحاميات الدنمركية.

ولم يستطع كريستيان الثاني الحضور ليتولى بنفسه قيادة قواته لأنه واجه في بلده ذاتها حرباً أهلية إلا أن أسطوله أغار مراراً على الشواطئ السويدية، وبعث جوستافوس برسل إلى لوبك لكي يطلبوا سفناً حربية. وجهزت المدينة التجارية عشرة سفن صرفت نشاط الأسطول الدنمركي، وذلك مقابل وعد بالحصول على مبلغ كبير. وفي السابع من يونية سنة 1523 نادى الثوار المنتصرون، في ركسراد جديدة بقائدهم ملكاً باسم جوستافوس الأول، وفي العشرين من يونيه استسلمت ستوكهولم واتخذ فازا منها بعد ذلك عاصمة له. وفي غضون ذلك كان كريستيان الثاني قد خلع عن عرشه في الدنمرك، وتخلى خلفه فريدريك الأول عن كل المطالب الدنمركية في السيادة على السويد. وانتهى اتحاد كالمار (1397-1523) وبدأت أسرة فازا.


2- الإصلاح الديني السويدي

كان جوستافوس لا يزال شاباً في السابعة والعشرين من عمره. ولم يكن فارع الطول، كما نعهد في الرجال من أهل الشمال، ولكنه كان يتمتع بقوة بدنية مثل أي قرصان إسكنديناوي، وكان وجهه المستدير متورداً بحمرة الصحة، ولحيته الصفراء الطويلة تضفي عليه وقار الملك أكثر من دلالتها على سنه، وكانت أخلاقه رائعة بالنسبة إلى ملك، بل إن الكنيسة التي قدر له أن ينبذها بعد ذلك بوقت قصير لم تستطع أن تجادل في تقواه. ووقف نفسه على القيام بأعباء الحكم بنشاط لا يعرف الأناءة، جعله ينزلق أحياناً إلى التوسل بالعنف أو الاستبداد، بيد أن ظروف السويد عند ارتقائه العرش كانت تبرر أو تكاد طبعه وحكمه المطلق. وقد ترك آلاف الفلاحين، غمرة فوضى الحرب، حقولهم دون أن يزرعوها، وهجر عمال التعدين مناجمهم، ودمر الصراع المدن، وخفضت قيمة العملة وأفلست الخزانة العامة، وأزهقت أرواح أصحاب العقول المدبرة في البلاد في "حمّام الدم". واعتبر البارونات الإقطاعيون الباقون على قيد الحياة جوستافوس حديث النعمة، ونظروا باحتقار إلى ادعائه الحق في الحكم. ودبرت المؤامرات لخلعه فقضى عليها بيد من حديد. وكانت فنلندة، التي كانت جزءاً من السويد، لا تزال في أيدي الدنمركيين، وكان سورن نوربي أمير البحر الدنمركي يحتفظ بجزيرة جوتلاند الاستراتيجية، وضجت لوبك مطالبة بسداد قروضها.

وكانت أول حاجة ملحة استشعرتها الحكومة مال يدفع للقوات المسلحة التي تحميها، ثم للموظفين الذين يقومون على شؤونها، أو وعد بدفع هذا المال، ولكن الضرائب في السويد أيام فازا كانت تكاد تكلف في جبايتها أكثر من المتحصل منها لأن الذين كان في وسعهم وحدهم أن يدفعوها كانوا أقوياء جداً إلى الحد الذي يقاومون فيه جبايتها. وخضع جوستافوس لما اقتضته الحاجة الملحة من تخفيض قيمة العملة مرة أخرى، بيد أن العملات الرديئة سرعان ما هبطت إلى قيمتها الفعلية، وكانت إيرادات الدولة أسوأ مما كانت عليه من قبل، ولم تكن في السويد إلا جماعة واحدة غنية - هي طبقة رجال الأكليروس، فتحول جوستافوس اليهم، وطلب منهم المساعدة، واعتقد أن من العدل أن تخفف ثروة الكنيسة وطأة الفقر الذي يرزح تحته الشعب والحكومة. وكتب عام 1523 رسالة إلى الأسقف هانز براسك من لنكوبنج، يطلب فيها هبة قدرها 5.000 جيلدر للدولة. فاحتج الأسقف ثم أذعن. وأرسل فازا طلباً عاجلاً إلى كنائس السويد وأديارها بضرورة تسليم كل الأموال والمعادن الثمينة، التي ليست ضرورية لمواصلة خدماتها، إلى الحكومة بصفة قرض، ونشر قائمة بالمبالغ التي يتوقع الحصول عليها من كل مصدر. ولم تكن الاستجابة إليه كما توقع، وبدأ يتساءل: ما إذا كانت الحكمة تقضي منه أن يفعل كما كان يفعل الأمراء اللوثروين في ألمانيا - فيصادر ثروة الكنيسة تلبية لحاجات الدولة. ولم ينسَ أن أغلب كبار رجال الأكليروس قد عارضوا الثورة، وأنهم عضدوا حكم كريستيان الثاني في السويد.

وفي عام 1519 عاد أولاوس بترى، وهو ابن صاحب مصنع حديد سويدي بعد أن قضى بضع سنوات في الدراسة بفيتنبرج، وسمح لنفسه ببعض الهرطقات، وهو شماس في المدرسة الكاتدرائية في سترانجنارس وقال إن المطهر أسطورة، وإن الصلوات يجب أن يخاطب بها الله وحده وان الاعتراف يوجه إليه وحده، وإن الدعوة إلى ما ورد في الإنجيل من شعيرة القداس. وبدأ الناس يتداولون رسائل لوثر في السويد. فألح براسك على فازا أن يمنع بيعها، فأجاب الملك بأن "تعاليم لوثر عرضت على قضاة عدول فلم يجدوا فيها زيفاً(3)". ولعله رأى أن من حسن السياسة الاحتفاظ على سبيل الاحتياط بهرطيق يساوم الكنيسة عليه.

وأصبحت الأمور أشد إثارة عندما رفض البابا أدريان السادس أن يصادق على تعيين قاصده الرسولي جوهانس ماجنوس رئيساً لأساقفة أبسالا، واقترح إعادة جوستاف تروي عدو الثورة. فأرسل فازا إلى مجلس شورا الفاتيكان رسالة كان حرية وقتذاك (1523) بأن تفزع هنري الثامن وتسعده فيما بعد:

إذا كان عند أبينا المقدس أي اهتمام بسلام بلدنا فإنه يسرنا أن نراه يصادق على اختيار قاصده الرسولي... وسوف نستجيب لرغبات البابا فيما يختص بإصلاح الكنيسة والدين. ولكن إذا أيد قداسته أنصار كبير الأساقفة ترول الموصومين بالجريمة، مخالفاً بذلك كرامتنا وسلامة رعايانا، فإننا سوف نسمح لقاصده الرسولي بالعودة إلى روما، وسوف ندبر أمور الكنيسة في هذه البلاد بمقتضى السلطة المخولة لنا باعتبارنا ملكاً.

وأدت وفاة أدريان وانصراف كليمنت السابع بجهوده لمقاومة لوثر وشارل الخامس وفرانسيس الأول، إلى ترك فازا حراً في المضي قدماً بالإصلاح الديني السويدي، فعين أولاوس بترى في كنيسة سانت نيكولاس استكهولم، وعين لورانتيوس شقيق أولاس أستاذاً للاهوت في جامعة أبسالا، ورفع مصلحاً دينياً ثالثاً وهو لورانتيوس أندريا إلى رتبة رئيس شمامسة الكاتدرائية. ودافع أولاوس بترى عن اللوثرية في مناظرة دارت بينه وبين بيترجال (27 ديسمبر سنة 1524) في مقر الأسقفية بالكاتدرائية، برئاسة الملك وقضى فازا بفوز أولاوس، ولم ينزعج عندما اتخذ أولاس زوجة له (1525)، قبل زواج لوثر باربعة شهور، ومهما يكن من أمر فإن الأسقف براسك فزع بسبب هذه المخالفة لرهبانية رجال الأكليروس، وطلب من الملك أن يقضى على بترى بالحرمان. فأجاب جوستافوس بأن أولاوس يجب أن يعاقب إذا كان قد ارتكب خطأ، ولكن "يخيل إلي أن من العجب أن يعاقب المرء بسبب الزواج (وهو شعيرة لا يحرمها الله)، ولا يقع المرء تحت طائلة الحرمان بسبب الفسوق وغيره من الآثام(4)" وبدلاً من أن يحكم على بترى لأنه خالف القانون انتدبه هو وشقيقه لترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة السويدية. وساعدت النسخة المترجمة إلى اللغة الدارجة، كما حدث في كثير من البلاد الأخرى، على تكوين اللغة القومية وتحرير الدين القومي.وعد جوستافوس، مثل معظم الحكام، أي إجراء يقوم به لتدعيم مركز بلاده أو عرشه مسارياً للأخلاق، وحرص على ترقية الأساقفة الذين يذعنون لخططه إلى مرتبة المطرانيات السويدية ووجد أسباباً لا يستطيع دفعها لنزع ملكية أراضي الأديار، ولما كان قد تقاسم الأسلوب مع النبلاء فإنه فسر ذلك بأنه إنما كان يعيد إلى العلمانيين ما أغرى أجدادهم على أن يهبوه للكنيسة، وشكا البابا كليمنت السابع من أن القساوسة السويديين كانوا يتزوجون، ويقدمون القربان بالخبز والنبيذ، ويهملون شعيرة المسح الأخير ويغيرون شعيرة القداس وبعث بنداء للملك بأن يظل مخلصاً للكنيسة، ولكن جوستافوس كان قد قطع شوطاً بعيداً فلم يستطع أن يتراجع، وكانت العقيدة المحافظة حرية بأن تخرب خزائنه، ونادى في مجلس فستيريس (1527) بالإصلاح الديني علناً.

كان اجتماعاً تاريخياً في تكوينه ونتائجه معاً. فقد اجتمع أربعة أساقفة وأربعة من كبار القساوسة وخمسة عشر عضواً الركسراد Riksraad و129 نبيلاً واثنان وثلاثون من أوساط الناس وأربعة عشر نائباً لعمال المناجم و104 ممثلاً للفلاحين، وكان هذا مجلساً وطنياً يمثل أعرض قاعدة بين المجالس في القرن السادس عشر. وطرح كبير وزراء الملك اقتراحاً ثورياً أمام المجلس، فقال إن الدولة قد افتقرت إلى المال إلى حد عجزها عن القيام بتبعاتها لخير الشعب، وأن الكنيسة كانت غنية جداً إلى الحد الذي يسمح لها بأن تحول جانباً كبيراً من ثروتها إلى الحكومة، ويبقى لها مع ذلك ما يكفي لأن تقوم بجميع التزاماتها. وحارب الأسقف براسك لآخر لحظة من أجل مثله العليا وأملاكه العقارية، فأعلن أن البابا قد أمر رجال الأكليروس بالدفاع عن أملاكهم. وصوت المجلس في صف القائلين بإطاعة البابا. ورأى جوستافوس أن يقامر على كل شيء برمية واحدة، فأعلن أنه إذا كان هذا حكم المجلس والأمة فإنه سيستقيل ويرحل عن السويد، وظل المجلس في نقاش مستمر طوال ثلاثة أيام. ووقف الأوساط ورجال الفلاحين إلى جانب الملك، وكان لدى النبلاء سبب وجيه للتحرك في الاتجاه نفسه، واقتنع المجلس آخر الأمر بأن فازا أعظم قيمة للسويد من أي بابا، فوافق على رغبات الملك. وتحولت الأديار في فترة العطلة أو في ختام مجلس فستيريس إلى إقطاعيات للملك، وإن سمح للرهبان بالإفادة منها، وتقرر إعادة كل الأملاك التي منحها النبلاء للكنيسة منذ عام 1454 إلى ورثة الواهبين، وأن يسلم الأساقفة قصورهم إلى التاج، وحرم على الأساقفة أن يسعوا إلى الحصول على تأييد البابا لتعيينهم، وتقرر أن يسلم رجال الأكليروس إلى الدولة كل دخل ليست شعائرهم الدينية في حاجة إليه، ووضع حد للاعتراف السري، وتقرر أن تعتمد العظات كلها على الكتاب المقدس وحده. وكان الإصلاح الديني في السويد، بصورة قاطعة أكثر منه في أي مكان آخر، تأميماً للدين وانتصاراً للدولة على الكنيسة.

وعاش فازا بعد هذه الأزمة ثلاثاً وثلاثين عاماً، وظل حتى النهاية حاكماً مطلقاً... قوياً ولكنه يعمل لخير شعبه... وكان مقتنعاً بأن السلطة المركزية وحدها هي التي تستطيع أن تعيد النظام والرخاء إلى السويد، وأنه في مهمة معقدة كهذه لا يستطيع أن يتوقف عند كل خطوة ليستشر مجلساً متروياً. وبفضل تشجيعه وتنظيمه صبت مناجم الشمال حديدها في أدوات الحرب السويدية، واتسعت رقعة الصناعة، وأبرمت معاهدات تجارية مع إنجلترا وفرنسا والدنمرك وروسيا أوجدت أسواقاً للسلع السويدية، وجلبت إلى السويد منتجات من أثنى عشرة بلداً، وأضفت تهذيباً جديداً وثقة على حضارة كانت قبله معتقلة في سذاجة ريفية وأمية. وازدهرت السويد وقتذاك كما لم تزدهر من قبل.

واشتبك جوستافوس في عدة حروب، وقمع أربع ثورات وعقد قرانه على ثلاث زوجات على التعاقب، وأنجبت له الأولى ولداً أصبح فيما بعد أريك الرابع عشر، وأنجبت له الثانية خمسة أولاد وخمس بنات أما الثالثة التي كانت في السادسة عشرة من عمرها عندما تزوجها وهو في السادسة والخمسين فقد عمرت بعده ستين عاماً. وأغرى الرجسراد Rigsraad بأن يقبل أبناءه ورثة للعرش وأن يجعل وراثة العرش مقصورة على الذكور كقاعدة تتبع في الملكية السويدية.

وصفحت السويد عن حكمه المطلق لأنها أدركت أن النظام أصل الحرية وليس ثمرة لها. وعندما مات (29 سبتمبر سنة 1560)، بعد حكم دام سبعة وثلاثين عاماً دفن في كاتدرائية أبسالا في احتفال صدر عنه بالحب وتميز بالشرف وهو لم يمنح شعبه الحرية الشخصية التي كانوا يستحقونها بصفة خاصة فيما يبدو، ولكنه منحهم حرية جماعية من السيطرة الأجنبية في الدين أو الحكم، وقد هيأ الظروف التي استطاعت أمته في ظلها أن تصل إلى درجة النضج في مجالات الاقتصاد والأدب والفن. كان الأب الحقيقي للسويد الحديثة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السويد حديثا: 1523

تشكيل الامبراطورية السويدية، 1560-1660

السويد 1560 - 1654

المذاهب المتصارعة 1560 - 1611

فيما بين گوستاف ڤاسا مؤسس السويد الحديثة و جوستاف أدولف منقذ البروتستانتية ومخلصها، تلبد تاريخ السويد بسحب الصراع بين الشيع الدينية من أجل السلطة السياسية. وكان المليك (الفاسا) الأول قد حرر السويد من نير الدنمرك. ووحد البلاد تحت حكم ملكية وراثية قوية. على حين أن أوليجاركيات النبلاء ساعدت على ضعف الدنمرك وبولندة وعلى الإقطاع فيهما. وكان الفلاحون في السويد أحراراً، وكانوا يمثلون في مجلس الديت (الركسداج) مع النبلاء ورجال الدين وممثلي المدن. وكانت لفظة بوند Bonde التي كانت في الدنمرك الرقيق ، تعني السويد لقباً كريماً للرجل الحر الذي يفلح أرضه الخاصة به. ولكن المناخ كان يحد من موارد الأرض بشكل قاس، كما كان يحد منها قلة عدد السكان، وسيطرة الدنمرك على ثلاث مقاطعات في شبه الجزيرة الإسكنديناوية وعلى مياه السويد. وامتلأت قلوب النبلاء غيظاً بسبب خضوعهم من جديد للملك، وكانت الكنيسة قد جردت من أملاكها في السويد، فدأبوا على تدبير المؤامرات للاستحواذ على الشعب واسترداد أملاك الكنيسة والاستيلاء على العرش.

ولم يكن إريك الرابع عشر-ابن جوستاف فاسا-(1560-1568) مؤهلاً لمواجهة هذه المشاكل. لقد كان يتجلى بالشجاعة والمقدرة ولكن طبعه العنيف أفسد عليه دبلوماسيته، وأدى به إلى القتل والجنون. وأثار حفيظة النبلاء بقتل خمسة من زعمائهم، قتل هو أحدهم بيده. وواصل ضد الدنمرك حرب السنين السبع الشمالية (1563-1570). ومهد نغزو ليفونيا لحروب مقبلة. ونفر منه أخاه جون باعتراض سبيله في زيجة كان يمكن أن تجعل منه وريثاً لعرش بولندة، فلما تزوج جون، رغم أنف أخيه، من الأميرة كاترين ياگيلون ، احتجزه أريك في قلعة گريشولم. وجاءت كاترين لتشاطر جون ويلات السجن، وأغرته باعتناق المذهب الكاثوليكي. وفي 1568 أرغم أريك أخوته على التخلي عن العرش. وبعد ستة أعوام قضاها في السجن أعدم بأمر من الديت والملك الجديد.

وعقد جون الثالث (1568-1592) صلحاً مع الدنمرك ومع النبلاء، وأذكى نار الخلاف الديني من جديد. فإن زوجته كانت تغريه في الليل، أكثر منها بالنهار، باعتناق الكاثوليكية. وبإذن منه دخل الجزويت إلى السويد متنكرين، وأخذ أقدرهم، وهو أنطونيو بوسيفون ، على عاتقه تحويل الملك إليها، وكان وخز الضمير قاسياً كلما تذكر جون موافقته على قتل أخيه، وأن عذاب النار هو العقاب الذي لا مفر منه لخطيئة مثل هذه. ولكن بوسيفون أغراه بأنه لا منجاة من هذا الجحيم الذي ينتظره إلا بالاعتراف وطلب الغفران في الكنيسة التي يعتقد الناس جميعاً بأن السيد المسيح هو الذي أقامها. وأذعن جون وتناول القربان المقدس وفق الطقوس الكاثوليكية، ووعد بأن يجعل الكاثوليكية دين الدولة شريطة أن يرخص البابا لرجال الدين السويديين في الزواج، وأن يقام القداس باللغة الوطنية، وأن يقدم القربان المقدس بالنبيذ والخبز على السواء. وقصد بوسيفون إلى رومة ولكن البابا رفض الشروط، فعاد الجزويتي صفر اليدين. وأصدر أوامره إلى الجزويت بتناول القربان بكلا نوعيه وبتلاوة القداس باللغة السويدية فرفضوا ورحلوا. وماتت كاترين الكاثوليكية في 1584. وبعد ذلك بعام واحد تزوج جون من سيدة بروتستانتية ردته ثانية إلى المذهب اللوثري ، في الليل أكثر منها في النهار.

وفي أغسطس 1587 انتخب ابنه الكاثوليكي لعرش بولندا تحت اسم سگسمند الثالث. ووفقا لقانون كالمار اتفق الوالد والولد على أنه بعد وفاة جون يصبح سجسمند ملكاً على بولندا والسويد معاً. ولكن سجسمند آل على نفسه أن يحترم استقلال السويد السياسي والمذهب البروتستانتي. وعند وفاة جون (1592) انعقد الريكسداگ تحت رئاسة أخيه الدوق كارل في مدينة [اوپسالا] (25 فبراير 1593) وكان يضم 300 من رجال الدين و300 من العلمانيين-النبلاء وممثلو المدن وعمال المناجم والفلاحين ، واتخذ مذهب أوگزبورگ اللوثري 1540 مذهباً رسمياً للكنيسة والدولة في السويد. وأعلن هذا المجتمع التاريخي (مجمع أبسالا) أن الأمة لن تتقبل غير اللوثرية ولن تتسامح مع غيرها، وألا يعين في المناصب الكنسية أو السياسية إلا اللوثريون الأقداح وألا يتوج سجسمند في السويد إلا بعد قبوله لهذه المبادئ. وفي الوقت نفسه اعترفوا بالدوق كارل نائباً للملك عند غيابه عن العرش.

ولكن سجسمند الذي تلقى تعليمه على أيدي الجزويت ، كان يحلم بضم السويد وروسيا إلى حضير الكثلكة. ولما وطأت قدماه أرض ستوكهولم (سبتمبر 1593) وجد كل الزعماء السويديين تقريباً مجمعين على طلب أوثق ضمان لامتثاله لإعلان أوپسالا Uppsala Synod. وظل خمسة أشهر يبحث عن حل وسط، ولكن الزعماء بقوا على عنادهم، وجمع الدوق كارل جيشاً. وأخيراً أعطى سجسمند التعهد المطلوب، وتوجه أسقف لوثري في أبسالا (فبراير 1594). ولكن سرعان ما أصدر سجسمند بياناً احتج فيه بأنه أكره على هذا التعهد تحت الضغط والتهديد، وعين ستة من كبار الموظفين لحماية الكاثوليك الباقين في السويد، وفي أغسطس عاد أدراجه إلى بولندة.

وأعد الدوق كارل وأنجر مانوس رئيس أساقفة أبسالا العدة لتنفيذ قرارات المجمع. ودعا ريكسداگ سودركوپنگ (1595) إلى القضاء على كل عبادة كاثوليكية، ونفى كل الطوائف المعارضة للمذهب البروتستانتي، وأمر بأن يضرب بالعصا كل من يتخلف عن حضور الصلوات اللوثرية، ووقع هو العقوبة بنفسه عند زيارته للكنائس. وأغلق كل ما بقي من الأديار، وأزيلت كل الأضرحة الكاثوليكية.

وتوسل إلى سگسمند مستشاره أن يغزو السويد بجيش كبير. ورأى هو أن خمسة آلاف جندي تفي بالغرض. وحط رحاله بهم في السويد (1598) واشتبك معه كارل في ستجبرج فهزم. وفي اشتباك آخر في ستانگبرو Stångebro انتصر الدوق. ووافق سجسمند من جديد على إعلان أوپسالا وعاد إلى بولندة. وفي يولية 1599 خلعه الدايت السويدي، وأصبح الدوق كارل الذي ما زال نائباً للملك، الحاكم الفعلي للدولة. وأقر ريكسداگ (1604) قانون الوراثة الذي نص على ألا يتولى العرش إلا كل ذكر أو أنثى من أسرة فاسا يرتضي العقيدة اللوثرية المقررة وأن كل مخالف لها لا يحق له الإقامة أو التملك في السويد. "فكل أمير ينحرف عن مبادئ أوجزبرج لابد بطبيعة الحال أن يفقد تاجه " ومن ثم كان الطريق معبداً لاعتلاء جوستاف أدولف ابن كارل عرش السويد، ولتخلي حفيدته كريستينا. وفي 1607 توج كارل التاسع ملكاً.

وأصلح كارل الحكومة المختلة، ونهض بالتعليم والتجارة والصناعة، وأسس مدن كارلستاد مدن فيلبستاد و ماريستاد و گوتبورگ ، وهيأت هذه الأخيرة للسويد منفذاً طيباً إلى بحر الشمال ، متغلبة بذلك على سيطرة الدنمرك على المضايق. وأعلن كريستيان الرابع الحرب (أبريل 1611) وغزا السويد. وتحدى كارل، وهو في الحادية والستين من العمر، كريستيان لمبارزة فردية. فرفض هذا الأخير. ومات كارل في أكتوبر 1611 ، والقتال على أشده، ولكن قبل موته وضع يده على رأس ابنه وقال "أنت لها". وقد كان لها فعلاً.

جوستاف أدولف 1611 -1630

وكان أعظم شخصية رومانتيكية في تاريخ السويد ، وهو في سن السادسة عشر آنذاك. وكانت أمه ألمانية، ابنه الدوق أدولفس هولستاين جوتورب. ولقنه أبوه وأمه تعليماً صارماً في اللغتين السويدية والألمانية وفي المذهب البروتستانتي. وما أن بلغ الثانية عشرة حتى كان قد درس اللاتينية و الإيطالية و الهولندية. والتقط بعد ذلك شيئاً من الإنجليزية و الأسبانية ، بل حتى البولندية و الروسية ، وأضيف إلى هذا كله جرعة قوية من الأدب القديم انسجم مع تدريبه في الألعاب الرياضية والشؤون العامة وفنون الحرب وبدأ في سن التاسعة يشهد جلسات الديت، واستقبل السفراء في الثالثة عشرة وفي الخامسة عشرة حكم إحدى المقاطعات، وفي السادسة عشرة اشترك في القتال. وكان طويل القامة وسيماً دمثاً كريماً رحيماً ذكياً، باسلاً. وماذا يتطلب التاريخ أكثر من هذا في الرجل؟ وكانت له في السويد شعبية عارمة إلى حد أن أبناء النبلاء الذين أعدمهم شارل التاسع بتهمة الخيانة، وأسرعوا طائعين مختارين إلى خدمته.

ولم تبرز في جوستاف أدولف نزعة آل فاسا إلى المزاج الفردي والعنف ولكنها برزت في حبه للحرب. ولقد ورث عن أبيه حرب الكلمر ضد الدنمرك، فشن الحرب عليها في حماسة بالغة ولكنه أحس بأن هذه الحرب تسلك سبيلاً بعيداً عن الرشاد والسداد، فدفع للدنمرك في 1613 مليون طالير (عملة ألمانية قديمة-10 مليون دولار) مقابل السلام بينهما ومقابل حرية السفن السويدية عبر المضايق ومياه السوند. وفي هذه المرحلة من نشاطه كان مهتماً بإبعاد روسيا عن البلطيق، فكتب إلى أمه يقول: "إذا أدركت روسيا قوتها في أية لحظة، فإنها لا تستطيع اجتياح فنلندة (وكانت آنذاك جزءاً من السويد) من الجانبين فحسب، بل تستطيع كذلك حشد أسطول في البلطيق، يعرض أرض الأجداد للخطر فأرسل أعظم قواده دهاء-جاكوب دي لاجاري-ليغزو انجريا، وفي 1615 حاصر بنفسه بسكوف. وكانت المقاومة الروسية مرهقة ولكن بالتهديد بالتحالف مع بولندة، استطاع جوستاف أن يقنع القيصر ميكائيل رومانوف بعقد صلح (1617) يعترف بسيطرة السويد على ليفونيا واستونيا وشمالي غربي انجريا، بما في ذلك لننجراد الحالية. وسدت منافذ البلطيق أمام روسيا. وكان جوستاف يفخر بأن روسيا لا تستطيع تسيير سفينة واحدة في البحر دون إذن من السويد.

ثم ولى وجهه شطر بولندا حيث كان مليكها سجسمند الثالث لا يزال يطالب بعرش السويد. وكانت الكاثوليكية آنذاك منتصرة في بولندة، ومتلهفة على فرصة تسنح للسيطرة على السويد، وفوق ذلك كانت بولندة بما لها من ثغور قوية في دانزج وممل وليبو وريغا، منافساً أقوى من روسيا، في السيطرة على البلطيق والتحكم فيه. وفي 1621 قاد جوستاف 158 سفينة و19 ألف جندي لحصار ريفا التي كان يمر بها ثلث صادرات بولندة، وكانت غالبية سكانها من البروتستانت، وقد لا يستاءون من غزو سيد أجنبي لها. فلما استسلمت دون مقاومة، عاملها جوستاف في رفق ولين ليضمن وقوفها إلى جانبه، وفي أثناء الهدنة التي استمرت ثلاث سنوات مع بولندة، استطاع هو أن يقوي روح جيشه وضبطه ونظامه، وجعل-مثل معاصره كرومويل-من التقى والورع أداة للخلق العسكري. ودرس فن موريس ناسو العسكري، وتعلم كيف يمكن كسب المعارك بسرعة الحركة وبالاستراتيجية البعيدة النظر. واستقدم من هولندا خبراء فنيين ليعلموا رجاله تكتيك الحصار واستخدام المدفعية. وفي 1625 عبر البلطيق مرة ثانية واستولى على دوريات، وثبت سيطرة السويد على ليفونيا، وأوصد البلطيق تماماً في وجه لتوانيا. وبعد سنة أخرى أخضعت جيوشه بروسيا الشرقية والغربية، وكانتا خاضعتين للتاج البولندي. ولم تصمد سوى دانزج. وصارت الأقاليم المفتوحة مقاطعات سويدية، وطرد منها الجزويت، وجعلت اللوثرية المذهب الرسمي. وكانت أوربا البروتستانتية ترنو إلى جوستاف، على أنه منقذها المنتظر من الحرب الكبرى التي كانت تجتاح ألمانيا آنذاك.

وفي أوقات السلم واجه جوستاف مشكلات الإدارة الداخلية بذكاء وحنكة أقل منهما في الحرب. وكان أيام غيابه في المعارك يعهد بحكومة البلاد إلى النبلاء وكان يبيح لهم، ضماناً لولائهم، احتكار المناصب وشراء أراضي التاج الشاسعة لقاء ثمن زهيد. ولكنه وجد فسحة من الوقت لتثبيت دعائم الموارد المالية وإعادة تنظيم المحاكم والخدمات البريدية والمستشفيات وتحسين أحوال الفقراء. وأسس المدارس المجانية وجامعة دوربات، وأغدق بسخاء على جامعة أبسالا، ونهض بالتعدين وعلم المعادن. ولم يكن نجاحاً يسيراً، من بين ما حققه من نجاح في مجالات مختلفة، أن السويد توافرت فيها الموارد والخبرات والمهارة لصناعة الأسلحة. وشجع التجارة الأجنبية عن طريق منح الاحتكارات، ومنح شركة البحار الجنوبية السويدية امتيازاً. وروع وزيره أوكسنستيرنا، الذي عرف بهدوئه في مواجهة الأزمات، بطاقة مليكه ونشاطه فقال: "إن الملك يشرف على المناجم والتجارة، والصناعات والجمارك ويوجهها كما يدير موجه الدفة سفينته" وتوسل إلى جوستاف أن يخفف من نشاطه، فأجابه الملك بقوله: "لو كنا جميعاً في مثل برودتك لتجمدنا" فرد عليه الوزير بقوله "ولو كنا جميعاً في مثل حرارة جلالتكم لاحترقنا".

وكان الآن لزاماً أن تندس الحمى المدمرة التي تضطرم بين جنبي الفارس السويدي إلى "حرب الثلاثين"، فقد قال: "إن كل حروب أوربا يعلق بعضها ببعض(9)" وكان قد لحظ بقلق بالغ انتصارات ولنشتين وتقدم جيوشل هيسبرج في شمال ألمانيا وانهيار مقاومة الدنمرك، وتحالف بولندة مع النمسا، وهما كاثوليكيان، ومن ثم فسرعان ما قد تسعى قوات آل هيسبرج إلى السيطرة على البلطيق. وبذلك قد تصبح تجارة السويد وعقيدتها وحياتها تحت رحمة الإمبراطورية والبابوية. وفي مايو 1629 أرسل جوستاف إلى مجلس الديت السويدي تحذير من خطة ولنشتين في أن يجعل من البلطيق بحيرة يتحكم فيها آل هبسبرج. وأوصى بالهجوم على أنه خير وسيلة للدفاع، وأهاب بالأمة أن تهب لمساندته وتميل دخوله في معركة فاصلة (هرمجدون-سهلمجدو-العهد الجديد رؤيا يوحنا 16:16-معركة فاصلة بين الخير والشر) تحدد مصير المذاهب اللاهوتية. وكانت السويد مثقلة فعلاً بأعباء حملاته، ولكن مجلس الديت والشعب استجاباً لندائه وبمعونة ريشليو أقنع بولندة بعقد هدنة مدتها ست سنوات (سبتمبر 1629). وقضى تسعة شهور في جمع السفن والمؤن والجنود والحلفاء. وفي 30 مايو 1630 خطب في الديت خطبة وداع مؤثرة بليغة، وكأنما كان قلبه يحدثه بأنه لن يرى السويد ثاني, وفيما بين 26-28 يونية ألقت سفنه مراسيها على جزيرة على مسافة من شواطئ [پومرانيا] ، وأطلق جوستاف إلى ساحة المجد والموت معاً.

الملكة كريستينا 1632 - 1654

عين جوستاف ، عندما كانت ابنته وريثة عرشه طفلة في الرابعة-واحد من أقدر رجال الدولة والسياسة في هذا العصر الزاخر بالعباقرة. هو الكونت أكسل أو كسنسترنا، وصياً. وقد وصفته كريستينا فيما بعد بقولها: "لقد درس وتعلم كثيراً في شبابه، ودأب على الدرس في زحمة العمل. وكانت قدرته ومعرفته بشؤون العالم وأحواله عظيمتين جداً. وعرف مواطن القوة والضعف في كل دولة في أوربا. وكان طموحاً، ولكنه كان كذلك مخلصاً غير قابل للإفساد أو الرشوة، ومن ناحية أخرى بطئ متوان بارد المزاج لا يبالي، إلى حد كبير"(10). وعرف عن الكونت أنه-صموت، وأما عدم إفصاحه عن شيء، حتى وهو يتحدث، فهذا هو نصف في الدبلوماسية. وعلى مدى عامين حكم الكونت السديد حكماً صالحاً حين كان الملك جوستاف يخرج للحرب في أماكن بعيدة. ثم، بوصفه وصياً على كريستينا، وجه جيوش السويد في ألمانيا، كما أدار دفة الأمور في الداخل، ولم تنعم أية دولة في أوربا طيلة هذه الأعوام الاثني عشر بحكومة أفضل من حكومة السويد. وفي 1643 صاغ ما يعرف "بشكل الحكومة" حدد فيه تشكيل كل فرع في الإدارة وصلاحياته وواجباته. وهذا هو أقدم نموذج معروف لدستور مسطور.

وفي 1644 أحست كريستينا، وهي الآن في ربيعها الثامن عشر، أنها قادرة على حكم هذه الأمة الشديدة الحساسية النابضة بالحياة، والتي بلغ عدد سكانها المليون ونصف المليون من الأنفس. والحق أنها تحلت بكل قدرات ومواهب رجل ذكي مبكر النضج. وقالت هي عن نفسها: "خرجت إلى الحياة وكل سلاحي شعري، وكان صوتي قوياً خشناً، مما جعل النساء يفكرن أني صبي، وعبرن عن فرحتهن بهتافات ظللت الملك في أول الأمر(11)". وقابل جوستاف نبأ اكتشاف أنها أنثى في رجولة مهذبة، وأحبها حباً عميقاً حتى بدا أنه راض عن أن تكون هي وريثة سلطانه وعرشه. على حين أن أمها ماريا الينورا أوف براندنبرج لم تغفر لها قط كونها أنثى. وربما أسهم استياء الأم في أن كريستينا صارت أكثر شبهاً بالرجل قدر ما كان يسمح لها جسمها وتكوينها بذلك، فأهملت شخصها عن عمد، واحتقرت التزين، وأقسمت كما يقسم الرجال، وأحبت أن تتربى بزيهم، واعتادت على ألعابهم، وركبت منفرجة الساقين بأقصى سرعة، واصطادت في تهور واندفاع، وجندلت فريستها من أول طلقة. ولكنها كانت تقول: لم لأقتل مرة حيواناً إلا وأحسست بالشفقة نحوه".

وعلى الرغم من هذا كله، تجلت في كرستينا بعض مفاتن النساء. وفي 1653 كتب بيرهيوت الذي أصبح فيما بعد أسقف آفرانش يقول: "وجهها دقيق جميل، وشعرها ذهبي وعيناها براقتان...يرتسم التواضع على وجهها، ويبدو عندما تحمر وجنتاها خجلاً لدى سماعها أية لفظة نابية". وقال قسيس الاعتراف الجزويتي لدى السفير الأسباني: "ولم تكن تطيق فكرة الزواج، لأنها ولدت حرة طليقة، ولسوف تموت حرة طليقة كذلك(14)". ويبدو أنها كانت تحس أن الاتصال الجنسي ليس بالنسبة للمرأة إلا ضربا من المذلة والهوان. ولا ريب في أنها أدركت-كما أدركت اليزابث ملكة إنجلترا، أن زوجها لابد أن يطمع في أن يكون ملكاً. وكانت تعي أخطاءها بشمل بالغ الحساسية وتعترف بها في شجاعة وجرأة". كنت قليلة الثقة بالناس، شكاكة طموحة إلى حد الإفراط، حادة الطبع، فخورة مغرورة، مزدرية للناس، هجاءة، لم ارحم أحد، مفطورة على الشك، قليلة التعصب أو التحمس للدين(15)" ولكنها كانت كريمة إلى حد الإسراف، مخلصة في عملها. ويقول القسيس الجزويتي "كانت لا تنام أكثر من ثلاث أو أربع ساعات، فإذا استيقظت قضت خمس ساعات في القراءة. ولم تشرب قط إلا الماء القراح، ولم تسمع قط تتحدث عن طعامها أهو جيد أم رديء الطهي...وكانت تحضر إلى مجلسها بانتظام...وانتابتها الحمى مرة لمدة ثمانية وعشرين يوماً لم تهمل فيها قط شؤون الدولة...واتصل السفراء بها وتعاملوا معها مباشرةً، فلم يمروا قط يوماً على سكرتير أو وزير(16)".

ولم تتطلع إلى تنافس الشبان في ألعابهم ورياضتهم، ورجال البلاط في مجال السياسة فحسب، بل أنها أرادت كذلك أن تنافس العلماء في علمهم، لا في اللغات والآداب وحدها، بل في العلوم والفلسفة أيضاً. وما أن بلغت الرابعة عشرة حتى كانت قد درست الألمانية والفرنسية الإيطالية والأسبانية وفي الثامنة عشرة درست اللاتينية، وبعد ذلك بقليل اليونانية والعبرية والعربية، وقرأت للشعراء الفرنسيين والإيطاليين وأحبتهم، وحسدت فرنسا على مدينتها التي تفيض حيوية ونشاطاً ومرحاً. وراسلت في لهفة وحماسة، الباحثين، ورجال العلم والفلسفة في عدة بلاد، وجمعت مكتبة ضخمة تضم مخطوطات قديمة نادرة، هرع الطلبة للرجوع إليها والتزود منها من كل حدب وصوب. وعند وفاتها تأثر الخبراء بذوقها الرفيع الذي تجلى في اقتناء اللوحات والتماثيل والقطع الفنية المزخرفة بالمينا والمنقوشة على الخشب والمعدن، والتحف الأثرية. لقد جمعت العلماء، كما جمعت روائع الفن. وتاقت إلى رؤية العلماء والنقاد والمفكرين يحيطون بها، وجذبت إلى بلاطها كلوديوسي سالما سيوسي وايزاز فوسيوسي. وهوجو جروشيوس ونيقولا هنسيوس، وأجزلت لهم العطاء في سخاء, ومن لم يستطع منهم الحضور أرسلوا إليها كتبهم مع شكرهم وتقديرهم-مثل سكارون وگي دي بالزاك ومدموازيل دي سكود بري. أما ملتون الوقور فإنه-على حين كان يشن هجوماً عنيفاً على سالما سيوس سالف الذكر-صرح لحكم العالم بأسره، لا أوربا وحدها". وأرسل إليها باسكال آلته الحاسبة مع رسالة بالغة الرقة يهنئها ويمتدحها بأنها متربعة على عرش مملكة العقل والحكم معاً".

وكان غرامها شديداً بالفلسفة ، وراسلت جاسندي، الذي هنأها-كما هنأها مائة غيره، بأنها حققت حلم أفلاطون في وجود ملوك فلاسفة. وجاء فيلسوف العصر المشهور، رينيه ديكارت، ورأى، وعجب إذ سمعها تستنتج أفكاره الأثيرة لديه عن أفلاطون. فلما حاول أن يقنعها بأن كل الحيوانات آلات، ردت عليه بقولها أنها لم تر قط ساعة يدها تلد ساعات "أطفالاً" أي ساعات صغيرة. ومثل هذا كثير قيما بعد.

ولم تهمل كريستينا المواهب المحلية. فقد كانت السويد متعددة جوانب الثقافة الحقة. فكان جورج ستجر نهلم عالماً لغوياً. متضلعاً في القانون، من رجال العلوم، رياضياً، مؤرخاً، فيلسوفاً، أباً للشعر السويدي ومركزاً للحياة العقلية في هذا العصر. وأعجبت به جوستاف أدولف فرفعه إلى مرتبة النبلاء. وعينته كريستينا شاعر البلاط، حتى لحق بأعدائها.

وفتنت بنظريات جون كومنيوس في التربية، فاستقدمته إلى ستوكهلم ليصلح نظم التعليم في السويد. ومثلما فعلت إليزابيث بالنسبة لأكسفورد وكمبردج، زارت كريستينا جامعة أبسالا لتشجع بحضورها الأساتذة والطلبة، واستمعت إلى سترنهلم وغيره يحاضرون في النص العبري للتوراة. وشادت كلية في دوريات وأهدتها مكتبة، وأسست ست كليات أخرى. وطورت إلى جامعة، الكلية التي كان أبوها قد أسسها في آبو (توركو) في فنلندة. وأرسلت الطلبة للدراسة في الخارج، وبعثت بنفر منهم إلى شبه جزيرة العرب ليدرسوا علوم الشرق. واستقدمت بعض الهولنديين المشتغلين بالطباعة ليؤسسوا دار للنشر في ستوكهلم. وشجعت رجال العلم السويديين على الكتابة باللغة الوطنية، حتى ينتشر العلم بين أفراد الشعب. ولا نزاع في أنها كانت من أعظم الحكام المستنيرين في التاريخ.

وهل وهبت هذه الملكة عقلاً خاصاً بها، أم أنها كانت مجرد وعاء لا يميز تتدفق فيه كل التيارات العقلية والفكرية التي تدور حولها؟ لقد انعقد الإجماع عن أنها فيما يتعلق بالحكومة كانت تتصرف بمحض تفكيرها، وصنعت قراراتها بنفسها، وحكمت سواء بسواء. وسنرى في فصل لاحق كيف أنها اعترضت على سياسة أوكسنسترنا العسكرية، وكافحت من أجل السلام، وساعدت على إنهاء حرب الثلاثين عاماً. أن قصاصات مذكراتها فاتنة مفعمة بالحيوية، وليس في الحكم والأمثال التي تركتها بخط يدها شيء مبتذل، ومثال ذلك:

إن قيمة المرء على قدر ما يستطيع أن يحب.

ويجدر أن نخشى الحمقى والبلهاء أكثر مما نخشى الأوغاد.

إنك تسيء إلى الناس إذا لم تخدعهم.

المواهب الخارقة جريمة لا تغتفر.

هناك نجم يوحد بين الناس من الطراز الأول، رغم أن العصور والمسافات تفرق بينهم.

أن الزواج ليحتاج إلى شجاعة أكثر مما تحتاج الحرب.

إن المرء ليرتفع فوق كل شيء إذا لم يخشى شيئاً، ولم يحسب لأي شيء حساباً.

إن الذي يغضب من الدنيا أشبه بمن تعلم كل ما تعلم دون هدف أو غاية.

إن الفلسفة لا تغير الناس ولا تصلحهم.

وأخيراً، وبعد اختيار عدد من الفلسفات، وربما بعد أن امتنعت عن أن تكون مسيحية، أصبحت كريستينا كاثوليكية أنها متهمة بأنها رضعت لبان الإلحاد والكفر من طبيبها بورديلوت(24). وذهب مؤرخ سويدي-وكرر فولتير قوله-إلى أن تحولها إلى الكثلكة كان تمثيلية هزلية مقصودة، وبناء على هذه النظرية، تكون كريستينا قد انتهت إلى النتيجة التي تقول بأنها ما دامت الحقيقة شيئاً لا يمكن معرفته أو الوصول أليه، فللمرء أن يختار الديانة التي تستهوي قلبه وتتفق مع فكرة الجمال أكثر من غيرها(26)، وتوفر أكبر فد من الطمأنينة للناس. ولكن الارتداد إلى الكاثوليكية رد فعل صادق مخلص بعد التشكك المفرط، فقد يحفر التصوف جذوره في أعماق الشك. لقد كان في كريستينا عناصر صوفية خفية، فكل مذكراتها موجهة إلى الله في إخلاص بالغ. إن الإيمان ثوب واق. وإن التجرد الكامل منه ليترك الإنسان في حالة عرى فكري يتطلع إلى الكساء والدفء. وأي ثوب أدفأ من كاثوليكية فرنسا وإيطاليا الحسية النابضة بالحياة؟ وتساءلت الملكة: "كيف يكون المرء مسيحياً دون أن يكون كاثوليكياً؟"

وفكرت كرستينا ملياً في هذه المسألة وفي المضاعفات التي ينطوي عليها ارتدادها فإنها إن تركت اللوثرية، فلابد لها، بمقتضى قوانين مملكتها ووالدها الحبيب-أن تتخلى عن عرشها، وأن تغادر بلادها كذلك. وأية نكسة مروعة يكون هذا التحول في العقيدة لدفاع والدها البطولي عن أوربا البروتستانتية، ولكنها ضاقت ذرعاً ولاقت نصباً من واجباتها الرسمية ومن خطب الوعاظ والمستشارين الرنانة، ومن الثالوث المتحذلق من العلماء والأثريين والمؤرخين. وربما تعبت منها السويد وضاقت بها ذرعاً كذلك. وقد أفقرها وهبط بمواردها تخليها من أراضي التاج وهداياها وهباتها السخية لذوي الحظوة لديها والقريبين منها. وتكتلت أغلبية النبلاء ضد سياستها. وفي 1651 كان ثمة هبة توشك أن تكون ثورة. ولكن زعماءها أعدموا على عجل. ولكنها خلقت وراءها امتعاضاً شديداً، ولكن انتابها المرض آخر الأمر، لقد أضرت هي بصحتها. وربما كان السبب في ذلك كثرة العمل والدرس.

وكم من مرة أصابتها الحميات الخطيرة، مصحوبة بأعراض التهاب الرئتين. وكم من مرة غشيتها إغماءة، وظلت فاقدة الوعي لمدة ساعة. واشتد عليها المرض في 1648 فقالت أنها "أقسمت أن تتخلى عن كل شيء وتصبح كاثوليكية إذا برئت من سقامها وحفظ الله لها حياتها". إنها كانت ابنة البحر المتوسط فارتعدت فرائضها من برد الشمال القاسي في الشتاء، وتاقت نفسها إلى سماء إيطاليا ومنتديات فرنسا. فكم يكون جميلاً أن تلحق بالنساء المثقفات اللائى بدأن مهمتهن الفذة في رعاية الحياة الفكرية والعقلية في فرنسا، إذا استطاعت أن تحمل معها ثروة كافية!!

وفي 1652 بعثت سراً إلى روما بأحد الملحقين في سفارة البرتغال ليطلب قدوم بعض الجزويت ليناقشوا معها اللاهوت الكاثوليكي، فجاءوا متنكرين. ولكن فت في عضدهم وثبط من همتهم بعض الأسئلة التي وجهتها إليهم-هل يوجد إله حقاً، هل تبقى الروح بعد فناء الجسم، وهل ثمة تمييز بين الصواب والخطأ إلا عن طريق المنفعة. فلما أوشكوا على الرحيل-يأسا-هدأت من روعهم بقولها "ماذا ترون لو أني كنت أقرب إلى أن أصبح كاثوليكية مما تظنون؟" وقال أحد الجزويت تعقيباً على ذلك "فلما سمعنا هذا أحسسنا بأننا بعثنا من مرقدنا".

وكان اعتناق الكثلكة قبل التخلي عن العرش أمراً محظوراً قانوناً. ولكنها رغبت قبل التخلي عن العرش، في الحفاظ على الطابع الوراثي للملكية السويدية، عن طريق إقناع الديت بالتصديق على اعتبارها لأبن عمها شارل جوستاف. خلفاً لها. ولكن طول المفاوضات أجل نزولها عن العرش حتى 6 يونية 1654. وكان الاحتفال الأخير مؤثراً قدر ما كان تخلي شارل الخامس عن العرش مؤثراً قبل ذلك بتسعين عاماً. فإنها نزعت التاج عن رأسها، وطرحت كل الشارات الملكية، وخلعت العباءة الملكية، ووقفت أمام الديت في ثوب بسيط من الحرير الأبيض، وودعت بلدها وشعبها بخطاب فجر بالدموع عيون النبلاء العجائز الرابطي الجأش، وممثلي المدن القليلي الكلام ووفر لها المجلس الموارد للمستقبل. وأباح لها الاحتفاظ بحقوقها الملكية على حاشيتها.

وغادرت ستوكهلم عن الغسق، بعد خمسة أيام من تخليها عن العرش. وتوقفت في نبكوبنج لزيارة أخيرة لأمها. ثم مضت في طريقها، ولما لم تذق طعم النوم لمدة يومين، فإنها مرضت بذات الجنب، فلما برئت تابعت المسير إلى هامستاد. وهناك كتبت إلى جاسندي، بأنها تمنحه معاشاً وتبعث إليه بسلسلة ذهبية. وفي اللحظة الأخيرة تلقت عرضاً بالزواج من الملك شارل العاشر الذي توج حديثاً، فرفضت في عطف وكياسة وتنكرت في زي رجل تحت اسم كونت دونا، وركبت البحر إلى الدنمرك، دون أن تدري أنها لمدة خمس وثلاثين سنة أخرى ستلعب دوراً في التاريخ.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

السويد المغامرة 1648-1700

إن التاريخ شظية من البيولوجيا-إنه اللحظة البشرية في موكب الأنواع. وهو أيضاً وليد الجغرافيا-لأنه فعل الأرض والبحر والهواء، وأشكالها ونتاجها، وتأثيرها في رغبة الإنسان ومصيره. فلنتأمل هنا أيضاً تلك المواجهة بين الدول المحيطة بالبلطيق في القرن السابع عشر. فالسويد في شماله، واستونيا وليفونيا ولتوانيا في شرقه، ومن خلفها روسيا الباردة الجائعة، وفي جنوبه بروسيا الشرقية وبولنده وبروسيا الغربية وألمانيا، وفي غربه الدنمرك بموقعها الاستراتيجي على منافذ البلطيق الضيقة إلى بحر الشمال والأطلنطي. لقد كان هذا سجناً جغرافياً سيصطرع نزلاؤه على السيطرة على تلك المياه والمضايق، والشواطئ والثغور، ومسالك التجارة ودروب الهرب براً أو بحراً. هنا خلقت الجغرافيا التاريخ.

أما الدنمرك فقد لعبت الآن دوراً صغيراً في مسرحية البلطيق. ذلك أن نبلاءها الذين احتكروا الحرية لأنفسهم غلوا أيدي ملوكها وأرجلهم. وكانت قد نزلت عن سيطرتها على مضايق الاسكاجراك والكاتيجات (1645) وبقيت النرويج خاضعة لها، ولكنها في 1660 فقدت أقاليم السويد الجنوبية. وشعر فردريك الثالث (1648-70) بحاجته إلى سلطة ممركزة تتصدى للتحديات الخارجية، فأرغم النبلاء على أن ينزلوا له عن السلطة المطلقة والوراثية، مستعيناً على ذلك برجال الدين والطبقات الوسطى. وقد وجد ابنه كرستيان الخامس (1670-99) معيناً له في بيدر شوماخر، كونت جريفنفلد، الذي ظفر بثناء لويس الرابع عشر عليه وزيراً من أكفأ الوزراء في عصر الدبلوماسية الذهبي ذاك. أصلح مالية الدولة، ودفع التجارة والصناعة قدماً، وأعاد تنظيم الجيش والبحرية. واستن الكونت سياسة السلم، ولكن الملك الجديد كان تواقاً لاستعادة القوة والأقاليم التي كانت الدنمرك تملكها فيما مضي. ومن ثم ففي 1675 جدّد الحرب القديمة مع السويد، ولكنه هزم، وثبّتت من جديد سيادة السويد على اسكندناوة.

وقد تعاقب على عرش السويد في تلك الحقبة طائفة ممتازة من الملوك الأشداء، وظلوا نصف قرن أعجوبة زمانهم لا ينافسهم في ذلك منافس غير لويس الرابع عشر. ولو أتيح لهم سند أكبر من الموارد لبلغوا ببلدهم من القوة والمنعة مبلغ فرنسا، ولاستطاع الشعب السويدي-بوحي من منجزات الجوستافين، والكارلين الثلاثة، ووزرائهم العظام-أن يموّل ازدهاراً ثقافياً يتناسب مع انتصاراتهم وتطلعاتهم. غير أن الحروب التي عززت قوتهم استنزفت ثروتهم، فخرجت السويد من ذلك العهد مستنزفة القوى وإن تكللت بأمجاد البطولة. وإنه لما يثير الدهشة أن تحقق أمة من الأمم هذا القدر الكبير من المنجزات في الخارج على ما بها من ضعف شديد. فسكانها لم يجاوزوا مليوناً ونصفاً، ينقسمون طبقات لم تتعلم إلى ذلك الحين أن يعيش بعضها مع البعض في سلام. وكان النبلاء يتسلطون على الملك، ويقررون لأنفسهم شراء أراضي من أملاك التاج بشروط ميسرة، والصناعة مقيدة محددة بحاجات الحرب تحديداً أعجزها عن تغذية التجارة التي أطلقت الحرب عقالها، وكانت الأملاك الخارجية عبئاً لا تبرره غير العزة القومية. إن حنكة الوزراء المخلصين وحدها هي التي دفعت عن البلاد خطر الإفلاس الذي بدا أنه ثمن المجد.

كن شارل العاشر جوستافس ابن عم كرستينا الرهيبة، ورفيق لعبها وعشاقها، وخلفها بعد أن نزلت له عن العرش في 1654. وقد درأ خطر الإفلاس بإكراه النبلاء على رد بعض الضياع الملكية التي سطوا عليها. واستطاعت الدولة بفضل هذا "الاختزال" لأملاك الإقطاعيين أن تسترد ثلاثة آلاف مسكن بأراضيها وتستعيد قدرتها على الوفاء بديونها. ورغبة في استكمال النقص في العملة الفضية والذهبية، عهد شارل إلى يوهان بالمسترو بإنشاء مصرف قومي وإصدار نقود ورقية (1656)-وهي أول ما صدر منها في أوربا. وقد حفز ازدياد تداول العملة الورقية الاقتصاد حيناً، ولكن المصرف أصدر منها فوق ما يستطيع الوفاء بع نقداً عند الطلب، فأوقفت التجربة. ونقل الملك المقدام أثناء ذلك صناعة الحديد والصلب التي اختصت بها ريجا إلى السويد، فأرسي بذلك أسس قاعدة صناعية أقوى تستند إليها سياسته العسكرية.

أما هدفه الذي جاهر به فكان توسيع رقعة ملكه. فالإمارات التي كسبها جوستافس أدولفس على أرض القارة تهدد بالثورة، والحكومة البولندية تأبى أن تعترف بشارل العاشر ملكاً على السويد، ولكن بولنده أضعفها تمرد القوزاق، وقد خفت الروسيا لنجدة القوزاق، وكان الأمل ولا ريب يراودها في شق طريق لها إلى البلطيق. ثم أن للسويد جيشاً حسن التدريب خافت أن تسرحه، وخير سبيل إلى إعاشته أن يخوض حرباً ظافرة. ورأى شارل في هذه الظروف كلها ما يزكي الهجوم على بولندة. وعارض الفلاحون ورجال الدين، فاسترضاهم بالزعم بأن مشروعه ليس إلا حرباً مقدسة لحماية حركة الإصلاح البروتستنتي وتوسيع نطاقها (1655)(1).

ولكن تبين أن بولندة بلد يسهل غزوه، ويصعب إخضاعه، كانت مقاومتها في الغرب ضعيفة لما حاق بها في الشرق من خلل وما عانته من غارات العدو. ودخل شارل وارسو، وهدأ النبلاء البولنديين بوعده أن يبقى على امتيازاتهم الموروثة، وتلقى ولاء البروتستنت البولنديين، وعرض اللتوانيون أن يعترفوا بسيادته. ولما حاول فردريك وليم، ناخب براندنبورگ الأكبر الإفادة من انهيار بولندة بالاستيلاء على پروسيا الغربية (وكانت يومها إقطاعية بولندية)، سيّر شارل جيشه غرباً بسرعة نابليونية وحاصر الناخب في عاصمته، وأرغمه على توقيع معاهدة كونگزبرگ (يناير 1956). وأعلن الناخب ولاءه لشارل فيما يتصل بپروسيا الشرقية باعتبارها اقطاعة سويدية، ووافق على أن يؤدي للسويد نصف رسوم تلك الولاية وضرائبها، ووعد بأن يمد الجيش السوري بألف وخمسمائة مقاتل.

غير أن الخصومة الدينية التي أثارها شارل هزمته. ذلك أن البابا إسكندر السابع والإمبراطور فرديناند الثالث سخرا كل ما يملكان من نفوذ ليؤلفا حلفاً ضد السويد، لا بل إن الدنماركيين والهولنديين البروتستانت انضموا إلى الحلفاء في تصميمهم على كبح جماح الفاتح الشاب مخافة أن يعدو بعد ذلك على ممتلكاتهم أو تجارتهم. فهرع قافلاً إلى بولندة، وهزم قوة بولندية جديدة، واحتل وارسو من جديد (يوليو 1656). غير أن بولندة امتشقت الآن الحسام لقتاله بعد أن ثارت حماستها الدينية، وألفى شارل نفسه-وهو بلا صديق رغم انتصاره-وقد أحدق به الأعداء من كل حدب. وهجره ناخب براندنبورج وتعهد بتقديم العون لبولندة. أما شارل-الذي كان خبيراً بكسب المعارك فقط لا بدعم فتوحه بصلح عملي-فقد اكتسح البلاد غرباً في هجوم على الدنمرك، وعبر الكاتيجات فوق ثلاثة عشر ميلاً من الجليد (يناير 1657)، وهزم الدنمركيين، وأكره فردريك الثالث على توقيع صلح روسكيلدي (27 فبراير). وانسحبت الدنمارك كلية من شبه الجزيرة السويدية، ووافقت على أن تغلق مضيق الساوند في وجه أعداء السويد. فلما تباطأ الدنمركيون في تنفيذ هذه الشروط استأنف شارل الحرب، وحاصر كوبنهاجن. وعقد العزم الآن على خلع فردريك الثالث، وتوحيد الدنمرك والسويد والنرويج من جديد تحت تاج واحد.

ولكن القوة البحرية هزمته، ذلك أن إنجلترا والأقاليم المتحدة، وهما أعظم أمم العصر آنذاك، اتفقتا الآن-رغم ما بينهما عادة من عداء-على ألا تقبض أي دولة من الدول على مفتاح البلطيق بالهيمنة على الساوند بين الدنمرك والسويد. ففي أكتوبر اقتحمت قوة هولندية الساوند، ورفعت الحصار عن كوبنهاجن، وساقت أمامها الأسطول السويدي الصغير إلى ثغوره في أرض الوطن. وأقسم شارل أن يقاتل إلى النهاية. ولكن الشدائد التي عاناها في حملاته كانت قد فعلت فيه فعلها، فبينما كان يخطب الدايت السويدي في گوتبورگ أخذته الحمى. وما لبثت أن قضي نحبه في ربيع حياته (13 فبراير 1660).

وكان ابنه شارل الحادي عشر (1600-97) لا يزال في الخامسة، فاضطلع بالحكم مجلس وصاية أنهى الحرب بصلح أوليفا ومعاهدة كوبنهاجن (مايو، يونيو 1660). ونزلت الملكية البولندية عن دعواها في تاج السويد، وثبتت تبعية ليڤونيا للسويد، ونالت براندنبورج الحق الكامل في پروسيا الشرقية، واحتفظت السويد بمقاطعاتها الجنوبية (سكانيا) وأقاليمها على أرض القارة (بريمن، وفيردن، وپومرانيا)، ولكنها انضمت إلى الدنمارك في ضمان حق السفن الأجنبية في دخول البلطيق. وبعد عام وقعت السويد وبولنده في كارديس صلحاً فاتراً مع قيصر الروس. واستمر الصراع على البلطيق خمسة عشر عاماً بوسائل أخرى غير الحرب.

كانت هذه المعاهدات نصراً لا يستهان به للسويد، ولكن البلاد أشرفت مرة أخرى على الإفلاس. وكافح عضوان من مجلس الوصاية هما گوستاڤ بوندي وپر براهه الأصغر Per Brahe the Younger للحد من النفقات الحكومية، ولكن المستشار ماگنس دي لاگاردي Magnus Gabriel De la Gardie أضاف إلى الديون القديمة ديوناً جديدة، وأتاح للنبلاء ولأصدقائه ولنفسه جني المنافع على حساب الخزانة، وفي سبيل تلقي المعونة المالية ربط السويد بحلف مع فرنسا (1672) قبل أن ينقص لويس الرابع عشر على الأقاليم المتحدة، حليفة السويد، بأيام معدودات فقط. وما لبثت السويد أن وجدت نفسها تخوض حرباً ضد الدنمارك، وبراندنبورج، وهولندة. وهزمت على يد الناخب الأكبر في فيربيللن (18 يونيو 1675)، واجتاح أعداؤها أقاليمها القارية، وغزا جيش دنمركي "سكاني" من جديد ونكبت البحرية السويدية بكارثة تجاه أولاند "1 يونيو 1676).

وأنقذ السويد ملكها الشاب كارل الحادي عشر، الذي اضطلع الآن بزمام الأمر، وذلك بسلسلة من الحملات ألهمت فيها بسالته الشخصية جنوده، فدحروا الدنماركيين في لوند ولاندسكرونا. وبفضل هذين الانتصارين وتأييد لويس الرابع عشر استردت السويد كل ما فقدته. وتعاون بطل جديد من أبطال الدبلوماسية السويدية، هو الكونت يوهان گيلن‌شتييرنا Johan Göransson Gyllenstierna، مع الكونت گريفن‌فلد Peder Griffenfeld -لا في الترتيب لصلح بين السويد والدنمارك فحسب، بل في إبرام حلف عسكري وتجاري بينهما. واتفقت الدولتان على عملة مشتركة، وكانت الوحدة الإسكندناوية كلها قاب قوسين أو أدنى حين قطع هذا التطور موت جيلنشتييرنا وهو في الخامسة والأربعين (1680). وحافظت الأمتان على السلام عشرين عاماً.

وكان جيلنشتييرنا قد علم الملك الشاب أن السويد لا تستطيع الإبقاء على مكانتها بين الدول العظيمة إذا مضي نبلاؤها في التهام أراضي التاج، وهو أمر يهوي بالملكية إلى ذل الفقر وبالدولة إلى درك العجز. وفي 1682 اتخذ شارل الحادي عشر خطوة حاسمة. فاستأنف بتأييد رجال الدين والفلاحين وأهل المدن، في تدقيق وشمول يحفزهما السخط "اختزال" أراضي النبلاء، أي استرداد ما فقدته الملكية من ضياعها. ثم حقق في فساد الموظفين وعاقبه، وبلغت إيرادات الدولة النقطة التي أتاحت للسويد القدرة من جديد على الاحتفاظ بممتلكاتها والاضطلاع بتبعاتها. ولم يكن شارل الحادي عشر بالملك المحبب جداً إلى شعبه، ولكنه كان ملكاً عظيماً. فلقد آثر انتصارات السلام الأقل ضجيجاً على انتصارات الحرب، وذلك رغم ما خلف في الحرب من سجل يحسده عليه الكثيرون. وقد وطد حكم الملكية المطلق، ولكن هذا النظام كان يومها البديل لإقطاعية رجعية فوضوية.

وفي هدوء هذه الهدنة الصافية ازدهرت علوم السويد وآدابها وفنونها. وبلغت العمارة السويدية أوجهاً في القصر الملكي الفخم الضخم باستوكهولم، الذي صممه (1693-97) نيقوديموس تيسين. وكان لارس يوهانسون للسويد بمثابة ليوباردي (الإيطالي) ومارلو (الإنجليزي) مجتمعين، فهو يتغنى غناءً شجياً بكراهية الإنسان، ويلقى حتفه بطعنات السلاح في شجار بحانة قضي عليه وهو بعد في السادسة والثلاثين. وقد ألف گونو دال‌شتييرنا Gunno Dahlstierna ملحمة شعرية ببحر دانتي سماها Kunga Skald (1697) إشادة بمآثر شارل الحادي عشر. ومات الملك في تلك السنة، بعد أن أنقذ وعمر بلداً كان يدمره من بعده ابنه الأشهر منه.

وكان هذا الابن، كارل الثاني عشر، قد بلغ الخامسة عشرة. ولما كانت خريطة أوربا يعاد رسمها آنئذ بالدم والحديد، فقد دُرّب أولاً وقبل كل شيء على فنون القتال. فهيأته ألعابه كلها للأعمال العسكرية، وتعلم الرياضيات فرعاً من العلوم الحربية، وقرأ من اللاتينية ما يكفيه لأن يستوحي من سيرة الإسكندر التي كتبها كونتوس كورتيوس طموح التفوق في السلاح إن لم يكن الطموح لغزو العالم. وإذ كان فارع القامة وسيماً، قوياً، لا يثقل بدنه درهم زائد من لحم وشحم، فقد استمتع بحياة الجندي، وتجلد لما فيها من حرمان، وهزأ بالخطر والموت، وتطلب هذه الصلابة عينها في جنده. ولم يأبه كثيراً بالنساء، فلم يتزوج قط وإن خطبت وده الكثيرات. وكان يصيد الدببة وسلاحه شوكة خشبية ثقيلة لا أكثر، ويركب خيله بسرعة طائشة، ويسبح في مياه تغطي الثلوج نصفها، ويلتذ المعارك الزائفة التي كاد هو وأصدقاؤه يلقون حتفهم فيها غير مرة. وقد رافقت بسالته العنيدة وحيويته البدنية بعض فضائل الخلق والعقل: صراحة تزدري ألاعيب الدبلوماسية، وإحساس بالشرف تشوبه لحظات شاذة من القسوة الوحشية، وعقل يلتقط لب الأمور لتوّه، ولا يطيق المداخل الملتوية في التفكير أو التدبير، وكبرياء صموت لم يغب عنها قط محتده الملكي ولم تعترف قط بالهزيمة. وآية ذلك أنه في حفلة تتويجه توج نفسه بيده على طريقة نابليون، ولم يقطع لنفسه يميناً تحدّ من سلطته، فلما تشكك أحد رجال الدين في صواب خلع السلطة المطلقة على فتى لم يتجاوز الخامسة عشرة، حكم عليه شارل أولاً بالإعدام، ثم خفف الحكم إلى السجن المؤبد.

كانت السويد يوم ارتقى عرشها دولة قارية كبرى، تحكم فنلندة، واينجريا، وإستونيا، وليفونيا، وبومرانيا، وبريمن، وكانت تهيمن على البلطيق وتقوم سداً حائلاً بين روسيا وبين ذلك البحر. ورأت روسيا، وبولنده، وبراندنبورج، والدنمارك، في حداثة سن ملك السويد فرصة لمد حدودها دعماً لتجارتها ومواردها. وكان "العامل الهدّام" في هذا الحل الجغرافي فارساً ليفونياً يدعى يوهان پاتكول Johann Patkul، انخرط في سلك الجيش السويدي بوصفه من رعايا السويد، وارتقى إلى رتبة النقيب. وفي 1689 و1629 احتج بشده على "اختزال" كارل الحادي عشر لضياع النبلاء في ليفونيا، فاتهم بالخيانة، وفر غلى بولندة، ثم التمس من شارل الثاني عشر أن يعفو عنه فرفض، وفي 1689 اقترح على أوغسطس الثاني ملك بولندة وسكسونيا تأليف حلف ضد السويد من بولنده، وسكسونيا، وبراندنبورج، والدنمرك، وروسيا. ورأى أوغسطس أن الخطة جاءت في أوانها، فاتخذ الخطوة الأولى بالدخول في حلف مع ملك الدنمرك فردريك الرابع (25 سبتمبر 1699). وذهب باتكول إلى موسكو. وفي نوفمبر وقع بطرس الأكبر مع مبعوثي سكسونيا والدنمرك اتفاقاً لتقطيع أوصال السويد.

السويد 1718 - 1771

كانت حياة شارل الثاني عشر المثيرة مأساة للسويد. ذلك أن مراميه لم تسترشد بموارد وطنه بل بظمئه للمجد. وقد احتمله الشعب السويدي بشجاعة وهو يأتي على قوتهم البشرية وثروتهم، ولكنهم كانوا يدركون قبل موته بزمان أن مصيره الفشل المحقق. فقد نزلت السويد بمقتضى معاهدات ستوكهولم (1718-20) عن دزقيتي بريمن وفرمن لهانوفر، وعن الجزء الأكبر من بومرانيا لبروسيا. وبمقتضى صلح نيستاد (1721) نزلت عن ليفونيا واستونيا وامجرمانلاند وكاريليا الشرقية لروسيا. وقضى على سلطة السويد على أرض القارة، وأكرهت على التقهقر إلى شبه جزيرة غنية بالمعادن وصلابة الخلق القومي، متطلبة الجهد الشاق والمهارة المثابرة ثمناً للحياة.

وقد أضعفت خزيمة شارل شوكة الملكية، وأتاحت للنبلاء أن يستردوا سيطرتهم على الحكومة. فأعطى دستور 1720 السلطة الغالبة لمجلس نيابي أو "دايت" مؤلف من أربع "طبقات" أو مجالس. مجلس نبلاء "ريدارهوس" قوامه رؤساء الأسر النبيلة كلها؛ ومجلس قساوسة-من الأساقفة مضافاً إليهم نحو خمسين مندوباً ينتخبهم اكليروس الأبرشيات من بينهم؛ ومجلس سكان المدن، من نحو تسعين مندوباً يمثلون الموظفين الإداريين وأقطاب رجال الأعمال في المدن؛ ومجلس فلاحين، من مائة مندوب تقريباً يختارون بواسطة المزارعين من ملاك الأرض الأحرار ومن بينهم. وكانت كل طبقة تجلس منفصلة عن غيرها، ولا يمكن أن يصبح أي مشروع قانوناً ما لم توافق عليه ثلاث طبقات؛ ولم يكن لطبقة الفلاحين في حقيقة الأمر قوة تشريعية إلا بموافقة طبقتين أخريين. وخلال اجتماعات المجلس النيابي كانت "لجنة سرية" من خمسين نبيلاً، وخمسة وعشرين قسيساً، وخمسة وعشرين نائباً عن المدن تحضر مشروعات القوانين جميعها، وتختار الوزراء، وتهيمن على السياسة الخارجية. وقد أعفى النبلاء من الضرائب، واحتكروا حق شغل مناصب الدولة العليا(38). فإذا لم يكن المجلس منعقداً سير دفة الحكم "راد" (مجلس) من ستة عشر أو أربعة وعشرين رجلاً يختارهم المجلس النيابي ويسألون أمامه. وكان الملك يرأس هذا المجلس وله صوتان، وفيما عدا هذا لم يكن له سلطة التشريع. وتضافرت روسيا وبروسيا والدنمرك لتأييد هذا الدستور لأنه يحبذ سياسة السلام ويكبح النزعات الحربية للملوك الأقوياء.

ولم تعد الملكية وراثية بل أصبحت انتخابية. وبعد موت شارل الثاني عشر (30 نوفمبر 1718) كان مآل العرش بالوراثة إلى كارل فريدريش دوق هولشتين جوتورب، وهو ابن لأخت شارل الكبرى؛ ولكن الجلس النيابي المنعقد في يناير 1719 لأول مرة في عشرين سنة، أعطى التاج لأولريكا اليانورا وهي أخت لشارل، بعد أن وافقت على التخلي عن سياسة الاستبداد الملكي التي مارسها أخوها. ولكن حتى مع هذه الموفقة تبين أنها عسيرة القياد، وفي 1720 أقنعت بالنزول عن العرش لزوجها الحاكم فردريك الأول أمير هسي-كاسل الذي أصبح الآن فردريكاً الأول ملك السويد. وبفضل الإرشاد الحكيم الذي بذله الكونت آرفيد برنهارد هورن-وكان مستشاراً للدولة-أتيح للسويد ثمانية عشر عاماً من السلام لترأ فيها من جراح الحرب.

غير أن الأباة من السويديين سخروا من سياسته السلمية ولقبوا أشياعه "الطواقي" وهم يعنون بهذا اللقب أنهم خرفون نيام بينما تتراجع السويد إلى المؤخرة في ركب الدول. وقام ضد هؤلاء حزب "القبعات" الذي كونه الكونت كارل جيلنبورج.، وكارل تسين، وغيرهما. وتسلط هذا الحزب على المجلس النيابي في 1738، وحل جيلنبورج محل هورن. وإذ كان مصمماً على إعادة السويد إلى سابق مكانها بين الدول، فإنه جدد التحالف المتقادم مع فرنسا التي أرسلت معوناتها المالية للسويد لقاء معارضتها لمطامع روسيا؛ وفي 1741 أعلنت الحكومة الحرب على روسيا، أملاً في استرداد أقاليم البلطيق التي استولى عليها بطرس الأكبر، ولكن لا الجيش ولا البحرية كانا معدين الإعداد الكافي، وقد أعجز المرض رجال البحرية، وسلم الجيش فنلنده كلها أمام الزحف الروسي. على أن القيصرة اليزابث، الحريصة على كسب تأييد السويد، وافقت على رد معظم فنلنده إذا عين ابن عمها ادولفس فردريك أمير هولشتين-جوتورب للعرش السويدي. وبهذه الشروط أنهى صلح آبو الحرب (1743). فلما مات فردريك الأول (1751) ارتقى ادولفس فردريك العرش.

ولم يمض وقت طويل حتى علمه مجلس الطبقات أنه ملك بالاسم لا بالفعل. فقد نازعه حقه في تعيين النبلاء الجديد، أو اختيار أعضاء بلاطه، وهدد بالاستغناء عن توقيعه أنه اعترض على التوقيع على قوانين أو وثائق معينة. وكان الملك رجلاً لين العريكة، ولكن كان له زوجة متكبرة آمرة هي لويزة أولريكا أخت فردريك الأكبر. وحاول الملك والملكة الثورة على سلطة المجلس. ولكن الثورة أخفقت، وعذب عملاؤها وقطعت رءوسهم أما الملك فعفى عنه لأن الشعب كان يحبه. وأما لويزة فعزت نفسها بحب الأدب وبرزت في مضاره. وقد صادقت لينايوس وجمعت من حولها لفيفاً من الشعراء والفنانين نشرت خلالهم أفكار التنوير الفرنسي. وعين المجلس النيابي معلماً جديداً لابنها ذي الأعوام العشرة، وأصدر إليه تعليمات بأنه يحيط ملك المستقبل جوستافس الثالث بأن الملوك في الدول الحرة لا يحتفظون بعروشهم إلا إذا سمح لهم بشروط، وأنهم إنما تخلع عليهم الأبهة والجلال "لتشريف المملكة لا لأجل الشخص الذي يتفق أن يشغل المكان الأول في الموكب "وأنه" بما أن بريق البلاط ووهجه "قد يضللهم بأوهام العظمة، فإنهم يحسنون صنعاً أن هم تفقدوا أكواخ الفلاحين بين الحين والحين، ورأوا الفقر الذي يدفع تكاليف الأبهة الملكية"(39).

وفي 12 فبراير 1771 مات أدولفس فردريك ودعا المجلس جوستافس الثالث ليأتي من باريس ويتمثل لمراسم الملكية.

السويد في عصر نابليون

كان من الممكن أن ترحب السويد بالثورة الفرنسية على الأقل في مراحلها الأولى، لأنه خلال حركة التنوير السويدية في القرن الثامن عشر كان الفكر السويدي منسجماً مع الفكر الفرنسي، وكان الملك السويدي نفسه - گوستاڤ الثالث Gustavus III (حكم من 1771 إلى 1792) أحد أبناء التنوير الفرنسي وكان معجبا بڤولتير. لكن الملك جوستاف لم يكن يحترم الديمقراطية وإنما كان يرى في الملكية القوية الطريق الوحيد لحكم قوي تقبض على زمامه أرستقراطية ملاك الأراضي الحريصة حرصا شديدا على امتيازاتها التقليدية. لقد نظر إلى مجلس طبقات الأمة (مايو 1789) كاجتماع مرتبط بملاك الأراضي والعقارات وعندما تطور الصراع بين هذا المجلس ولويس السادس عشر شعر بتهديد قوي لكل الملوك وليس للويس السادس عشر وحده فعرض وهو الليبرالي المتنور أن يكون على رأس تحالف ضد الثورة الفرنسية، وبينما كان منشغلا بوضع الخطط لإنقاذ لويس السادس عشر دبر بعض النبلاء السويديين مؤامرة لاغتياله. وفي 16 مارس 1792، تم إطلاق النار عليه، ومات في 26 مارس وعمت الفوضى السياسية في السويد حتى سنة 1801.

وكان حكم جوستاف الرابع (1792- 1809) حكما تعساً. لقد انضم للتحالف الثالث ضد فرنسا (1805) مما أعطى نابليون مبررا للاستيلاء على پومرانيا Pomerania وسترالسوند Stralsund - وهي آخر الممتلكات السويدية على البر الأوروبي المقابل لها. وفي سنة 8081 عبر جيش روسي خليج بوثنيا Bothnia على الجليد وهدد ستوكهولم فاضطرت السويد إلى التخلي عن فنلندا مقابل السلام، وعزل الريكسداگ Riksdag، گوستاڤ الرابع وأعاد سلطان الأرستقراطية واختار عم الملك المعزول، وكان في الواحدة والستين من عمره سهلا طيعا. إنه شارل الثالث عشر Cherlex Xlll (حكم من 1809 - 1818)، ولأنه لم ينجب فكان لابد من اختيار وريث لعرشه، فطلب الريكسداج Riksdag من نابليون أن يسمح لأحد أبرز مارشالاته وهو جان-باتيست برنادوت Jean - Baptiste Bernadotte بقبول ولاية العهد. ووافق نابليون، ربما أملاً في أن يكون لزوجة برنادوت التي كانت ذات مرة خطيبة نابليون وكانت أخت جوزيف بونابرت - نفوذ في السويد. وعلى هذا أصبح برنادوت في سنة 1810 هو ولي عهد السويد وأصبح اسمه شارل جون Charles John.

وفي ظل حكومة هذا تكوينها واصل العقل السويدي جهوده في مضمار التعليم والعلم والأدب والفن، فكانت جامعات اوپسالا Uppsala وأبو Abo ولوند Lund من بين أفضل الجامعات في أوربا. وكان يونس ياكوب برزليوس Jons Jakob Berzelius (1779- 1848) أحد مؤسس الكيمياء المعاصرة. إذ استطاع بدراسته المتأنية الدقيقة لنحو ألفي مركب أن يصل إلى قائمة بالأوزان الذرية أكثر دقة بكثير من قائمة دالتون Dalton ولا تختلف إلا قليلا جدا من حيث دقتها عن القائمة التي استقر عليها العلم في سنة 1917. وعزل كثيرا من العناصر الكيميائية للمرة الأولى. وراجع نظام الرموز الكيميائية الذي وضعه لاڤوازييه Lavoisier وقام بدراسات كلاسية في الأثر الكيميائي للكهرباء وطور نظاما ثنائيا لدراسة عناصر في التفاعل الكيميائي كموجبة أو سالبة كهربيا. وأصبح كتابه الموجز الذي نشره في سنة 1808 وتقريره السنوي Jahresbericht الذي بدأ صدوره سنة 1810 إنجيلا للكيميائيين طوال جيل.

وكذلك كان في السويد كثير من الشعراء انقسموا إلى مدرستين شعريتين متنافستين: الفوسفوريون Phosphorists الذين ترجع تسميتهم بهذا الاسم إلى مجلتهم التي أصدروها بعنوان (الفوسفوري Phosphorous) وكانوا متأثرين بالرومانسية الألمانية الوافدة وتحوي أشعارهم الكثير من العناصر الباطنية (الصوفية) أكثر من سواهم من الشعراء، والقوطيون (المدرسة الشعرية القوطية) Gothics الذين راحوا يعزفون في أشعارهم على أنغام البطولة.

وبدأ إساياس تگنر Esaias Tegner كقوطي (من المدرسة الشعرية القوطية الآنف ذكرها) لكنه كان كلَّما سار قدما في مضمار الشعر راح يوسع مجالات تناوله الشعري حتى بدا وكأنه يضم بين جنبيه كل مدارس الشعر السويدية. ولد تگنر في سنة 1782 ولم يكن قد بلغ السابعة من عمره عندما نشرت الثورة الفرنسية - وكانت كأعظم الفوسفوريين - نورها وحرارتها خلال أوربا، وما كاد يبلغ الثالثة والثلاثين حتى نفي نابليون إلى سانت هيلانه. وعـاش تجنر إحـدى وثلاثين سنة أخرى لكنه كان قد حقق بالفعل تفوقه وشهرته عندما منحته الأكاديمية الملكية السويدية في سنة 1811 جائزة لقصيدته (Svea) التي وبّخ فيها كـل معاصريـه لفشلهم في الحفـاظ على عادات أسلافهم. وانضم (إلى الاتحاد القوطي Gothic Union) وسخر من الفوسفوريين (أتباع المدرسة الشعرية الفوسفورية الآنف ذكرها) متهما إياهم بالضعف الرومانسي. وأصبح وهو في الثلاثين من عمره أستاذا للغة اليونانية في جامعة لوند Lund وأصبح وهو في الثانية والأربعين (أسقف فيكسجو VaxJo) وفي الثالثة والأربعين (1825) نشر أشهر قصيدة في الأدب السويدي. لقد كانت هذه القصيدة الطويلة (Frithjofs Saga) سلسلة من الحكايات الأسطورية مستوحاة من التراث الشعري الاسكندنافي القديم وظن بعض النقاد أن الملحمة مغرقة جدا في الاتجاه الخطابي (ذات نبرة عالية) - فالشاعر لم يستطع استبعاد مزاجه الأسقفي، لكن بهاء قصائده وروحها الغنائية جعلتها تحظى بقبول حماسي حتى خارج السويد فبحلول عام 1888 ترجمت إلى الإنجليزية إحدى وعشرين مرة وإلى الألمانية تسع عشرة مرة.

وبدا وكأن تجنر قد استنفد قواه في عمله الشعري هذا فبعد أن أنهاه تدهورت صحته لكنه ظل يكتب الشعر في المناسبات وأهدى إحدى قصائده لامرأة متزوجة من ڤاكسيو Vaxjo. لقد كان ليبراليا في الأساس لكنه تحول إلى متحفظ متمسك بالاتجاه المحافظ ودخل في خلافات ساخنة مع الأقلية الليبرالية في الركسداج Riksdag. وأعقب اضطرابات 1840 اضطراب فكري لكن واصل كتابة شعره الجيد حتى مات في سنة 1846 في ڤاكسيو Vaxjo وفي هذه الأثناء أصبح الملك شارل الثالث عشر مريضا بشكل مستمر، فتولى ولي العهد شارل جون الوصاية على العرش وتولى مسئولية الحكم. وسرعان ما واجه خيارا صعباً بين ولائه لوطنه الأصلي (فرنسا) والبلاد التي احتضنته (السويد)، ومادامت الدول تكون مولعة بضم بلاد أخرى تماما كمواطنيها، فإنها ترسل زوائدها الكاذبة كزوائد الأميبا المعدة للإمساك - تلك الزوائد المسماة بالجيوش - للإمساك بما يعد وجبات شهية، فقد راحت الحكومة السويدية تتطلع بنهم لامتلاك جارتها النرويج التي كانت الدنمارك منذ سنة 1397 تدعي حق ملكيتها. واقترح ولي عهد السويد على نابليون أن تضم السويد النرويج إليها فبهذا تتوثق عرى العلاقات بين السويد وفرنسا فرفضه نابليون لأن الدنمارك كانت من أخلص حلفائه، وفي يناير سنة 1812 استولى نابليون مرة أخرى على پومرانيا Pomerania السويدية بحجة أنها سمحت باستيراد البضائع البريطانية وهذا إخلال بالحصار القاري الذي فرضه نابليون، فاتجه الأمير شارل جون إلى روسيا التي كانت هي بدورها تتجاهل الحصار القاري فوافقت روسيا على أن تبتلع السويد النرويج مقابل أن تؤيد السويد بما قامت به روسيا من ضم فنلندا إليها. وفي أبريل سنة 1812 وقعت السويد تحالفاً مع روسيا وفتحت موانئها للتجارة البريطانية. هذا هو الوضع في السويد عندما كان نابليون يحتفي بملوك أوربا في درسدن Dresden في طريقه إلى موسكو.

التاريخ الحديث

شهد القرنان الثامن عشر والتاسع عشر زيادة سكانية كبيرة، والتي عزاها الكاتب إيساياس تيجنر في عام 1833 إلى "السلام ولقاحالجدري والبطاطس". حيث تضاعف تعداد سكان البلاد بين عامي 1750 و 1850. وفقاً لبعض الباحثين، كانت الهجرة الجماعية إلى الولايات المتحدة الطريقة الوحيدة لمنع المجاعة والتمرد، حيث هاجر تقريباً 1% من السكان سنوياً خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر. ومع ذلك، ظلت السويد في فقر مدقع، معتمدة على الاقتصاد الزراعي بالكامل تقريباً، في الوقت الذي بدأت فيه الدنمارك ودول أوروبا الغربية في التصنيع. هاجر السويديون إلى أمريكا بحثاً عن حياة أفضل، ويعتقد أنه بين 1850 و 1910 هاجر أكثر من مليون سويدي إلى الولايات المتحدة. في أوائل القرن العشرين، كان عدد السويديين في شيكاغو أكثر منهم في غوتنبرغ (ثاني أكبر مدن السويد). انتقل معظم المهاجرين السويديين إلى ولايات الغرب الأوسط في الولايات المتحدة، بوجود عدد كبير من السكان في ولاية مينيسوتا. بينما انتقل البعض الآخر إلى الولايات الأخرى وإلى كندا.

على الرغم من بطء وتيرة التصنيع في القرن التاسع عشر، فإن العديد من التغييرات الهامة جرت في الاقتصاد الزراعي بسبب الابتكارات والنمو السكاني الكبير. شملت هذه الابتكارات برامج ترعاها الحكومة لمنع الاقطاع والاعتداء على الأراضي الزراعية، كما تم إدخال محاصيل جديدة مثل البطاطس. كما أن حقيقة أن طبقة المزارعين السويديين لم تدخل في القنانة كما كان الحال في أماكن أخرى في أوروبا، فإن الثقافة الزراعية السويدية بدأت تأخذ دورا حاسما في العملية السياسية السويدية، والتي استمرت عبر العصور الحديثة مع الحزب الزراعي الحديث (الذي أصبح الآن الحزب الوسط). بين 1870 و 1914، بدأت السويد في تطوير الاقتصاد الصناعي حتى أصبح على ما هو عليه الآن. نشأت حركات شعبية قوية في السويد خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر مثل (النقابات العمالية وجماعات مكافحة الكحوليات والجماعات الدينية المستقلة)، والتي خلقت بدورها قاعدة صلبة من المبادئ الديمقراطية. تأسس في عام 1889 الحزب الاشتراكي الديمقراطي السويدي. هذه الحركات عجلت انتقال السويد إلى الديمقراطية البرلمانية الحديثة، التي تحققت في فترة الحرب العالمية الأولى، وبما أن الثورة الصناعية تقدمت خلال القرن العشرين، بدأ الناس تدريجياً في الانتقال إلى المدن للعمل في المصانع، وشاركوا في النقابات الاشتراكية. تم تجنب ثورة شيوعية في عام 1917، في أعقاب إعادة إدخال الحياة البرلمانية، وبدأ التحول إلى الديموقراطية في البلاد.


الحربان العالميتان

جندي سويدي خلال الحرب العالمية الثانية.

كانت السويد رسمياً على الحياد خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، على الرغم من أن حيادها خلال الحرب العالمية الثانية كان محط جدل. وقعت السويد تحت النفوذ الألماني لفترة طويلة من الحرب، حيث انقطعت علاقاتها مع بقية العالم بسبب الحصار. رأت الحكومة السويدية أنها ليست في وضع يسمح لها بمقارعة ألمانيا، وبالتالي قدمت بعض التنازلات. كما قامت السويد أيضاً بتوريد الصلب وقطع الآلات لألمانيا طوال فترة الحرب. ومع ذلك، فإن السويد أيدت المقاومة النرويجية، وفي عام 1943 ساعدت في إنقاذ اليهود الدنماركيين من الترحيل إلى معسكرات الاعتقال. كما ساعدت السويد فنلندا خلال حرب الشتاء وحرب الاستمرار بالعتاد والمتطوعين. مع اقتراب نهاية الحرب، بدأت السويد تلعب دوراً في جهود الإغاثة الإنسانية، بقبولها للكثير من اللاجئين وبالأخص من اليهود من المناطق التي خضعت للاحتلال النازي. أنقذ الكثير من هؤلاء بسبب عمليات الإنقاذ التي أجرتها السويد في معسكرات الاعتقال ولأنها اعتبرت ملاذاً للاجئين ومعظمهم من دول الشمال ودول البلطيق. مع ذلك، فإن الكثير من النقاد الداخليين والخارجيين يعتقدون أنه كان بوسع السويد أن تفعل المزيد لمقاومة النازية أثناء الحرب، حتى ولو بالمخاطرة باستقلالها.


الحرب الباردة

رغم إعلان السويد بأنها دولة محايدة، ولكنها بشكل غير رسمي ترتبط بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة. في أعقاب الحرب، استغلت السويد قاعدتها الصناعية السليمة والاستقرار الاجتماعي ومواردها الطبيعية لتوسيع صناعتها وتمويل إعادة بناء أوروبا. كانت السويد جزءاً من مشروع مارشال وشاركت في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. خلال معظم فترة ما بعد الحرب، حكم البلاد حزب العمل الاجتماعي الديموقراطي، الذي فرض سياسات نقابوية أي مفضلاً الشركات الرأسمالية الكبرى والنقابات الكبرى، وخاصة اتحاد نقابات العمال السويدية، المشترك مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي. كما ارتفع عدد البروقراطيين في البلاد بين الستينيات والثمانينات من القرن الماضي بشكل واضح. انفتحت السويد على التجارة وسعت وراء المنافسة الدولية في قطاع الصناعة التحويلية. كان النمو جيداً حتى سبعينيات القرن الماضي.


شأنها شأن بلدان كثيرة، دخلت السويد فترة من التدهور الاقتصادي والاضطراب في أعقاب الحظر النفطي 1973-1974 و 1978-1979. في الثمانينيات، تمت إعادة هيكلة ركائز الصناعة السويدية بشكل كبير. توقف بناء السفن واستخدم لب الخشب في صناعة الورق الحديثة، كما تم التركيز على صناعة الصلب وأصبحت أكثر تخصصاً بينما أصبحت الصناعات الميكانيكية تدار آلياً. بين عامي 1970 و 1990، ارتفعت الضريبة العامة بنسبة تزيد على 10 %، وكانت معدلات النمو منخفضة جداً بالمقارنة مع معظم البلدان الأخرى في غرب أوروبا. بلغت ضريبة الدخل الهامشية على العمال أكثر من 80٪. وفي النهاية أنفقت الحكومة أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي. تراجعت السويد من قائمة أكبر خمس دول من حيث الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد. ومنذ أواخر السبعينيات أثارت السياسات الاقتصادية للسويد على نحو متزايد شكوك الاقتصاديين ومسؤولي وزارة المالية. تقلد كارل جوستاف السادس عشر عرش السويد وقيادة الدولة منذ عام 1973.


الفترة الحالية

انضمت السويد إلى الاتحاد الأوروبي عام 1995 ووقعت على معاهدة لشبونة في 2007.

أدت فقاعة ازدهار سوق العقارات بسبب القروض غير المدروسة بالإضافة إلى الركود الاقتصادي العالمي وسياسة التحول من سياسات مكافحة البطالة لسياسات مكافحة التضخم إلى أزمة مالية في أوائل التسعينات. انخفض ناتج السويد المحلي الإجمالي بحوالي 5 ٪ في عام 1992. كان هناك تشغيل للعملة حيث رفع البنك المركزي الفائدة لفترة وجيزة إلى 500٪. كانت استجابة الحكومة بخفض الانفاق وقامت بالعديد من الإصلاحات الرامية إلى تحسين قدرة البلاد على المنافسة ومن بينها الحد من الرفاهية الاجتماعية وخصخصة الخدمات والسلع العامة. روجت المؤسسة السياسية لصالح عضوية الاتحاد الأوروبي وجرى تمرير استفتاء انضمام السويد بنسبة 52٪ لصالح الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يوم 13 نوفمبر عام 1994. اضمت السويد إلى الاتحاد الأوروبي في 1 يناير عام 1995.


لا تزال السويد غير منحازة عسكرياً، رغم أنها تشارك في بعض المناورات العسكرية المشتركة مع منظمة حلف شمال الأطلسي وبعض البلدان الأخرى، بالإضافة إلى تكثيف التعاون مع البلدان الأوروبية الأخرى في مجال تقنية الدفاع والصناعات الدفاعية. من بين أمور أخرى، تصدر الشركات السويدية أسلحة يستخدمها الجيش الأميركي في العراق. كما تمتلك السويد أيضاً تاريخاً طويلاً من المشاركة في العمليات العسكرية الدولية، آخرها في أفغانستان، حيث القوات السويدية تحت قيادة حلف شمال الأطلسي، وهي تحت قيادة الاتحاد الأوروبي في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في كوسوفو والبوسنة والهرسك وقبرص. تولت السويد زعامة الاتحاد الأوروبي من 1 يوليو إلى 31 ديسمبر 2009.


التاريخ السياسي

مملكتا سفير (السويديين) والگوتار (القوط) في القرن الثاني عشر، بينما الحدود الحالية باللون الرمادي.

لا يزال العمر الحقيقي لمملكة السويد مجهولاً، حيث يعود ذلك إلى إشكالية اعتبار السويد أمة مع ظهور سفير وحكمهم لسفيلاند أو مع توحيد سفير وغوتار من غوتالاند تحت حكم تاج واحد. في الحالة الأولى أول ما ذكرت السويد تحت حكم قائد واحد كان في العام 98 من قبل تاسيتوس، لكنه من المستحيل معرفة كم المدة التي كانت بها البلاد على تلك الشاكلة. رغم ذلك عادة ما يبدأ المؤرخون تسلسل ملوك السويد منذ توحيد سفيلاند وگوتالاند تحت حكم إيريك المنتصر وابنه أولوف سكوتكونونغ في القرن العاشر. تعرف تلك الأحداث بتوحيد السويد رغم أن العديد من المناطق المشكلة للبلاد حالياً لم تكن جزءاً منها.

أما من سبق ذلك من الملوك فلا توجد حولهم مصادر تاريخية موثوقة، حيث يذكرون على نحو أسطوري أو شبه الأسطوري. كثير من هؤلاء الملوك مذكور في ساغات عديدة التي تمتزج مع الميثولوجيا الإسكندنافية. كان الملك غوستاف الأول آخر من استخدم لقب ملك السويد والقوط، حيث أصبح اللقب ملك السويد والقوط والوينديين في الوثائق الرسمية. حتى بدايات العقد الثاني من القرن العشرين، روست جميع القوانين في السويد بعبارة "نحن، ملك السويد والقوط والوينديين". استخدم هذا اللقب حتى عام 1973. الملك الحالي للسويد، كارل السادس عشر غوستاف، أول ملك يعلن رسمياً "ملك السويد" من دون ذكر شعوب أخرى في لقبه.

استخدم مصطلح ريكسداغ لأول مرة في أربعينيات القرن السادس عشر، على الرغم من أن أول الجلسات التي شارك فيها ممثلون من مختلف الفئات الاجتماعية لمناقشة وتحديد الشؤون التي تؤثر على البلاد ككل جرت في أوائل 1435، في بلدة أربوگغا. خلال الجمعيات في 1527 و 1544، في عهد الملك گوستاف ڤاسا، تم استدعاء ممثلي الشعب من الطبقات الأربعة (رجال الدين وطبقة النبلاء وسكان المدن والفلاحون) للمرة الأولى. أصبح النظام الملكي وراثياً عام 1544. كانت السلطة التنفيذية من الناحية التاريخية مشتركة بين الملك والمجلس الملكي من النبلاء حتى عام 1680، تلاها حكم ملكي مطلق أطلقته حالة البرلمان حينها. بعد الفشل في حرب الشمال العظمى تم عرض النظام البرلماني في 1719، تلاه ثلاث أنوعاع مختلفة من الملكية الدستورية في 1772 و 1789 و 1809. منحت الأخيرة العديد من الحريات المدنية. يبقى الملك رسمياً ولكن رمزياً قائداً للدولة مع واجبات احتفالية.

تألف ريكسداغ الطبقات من حجرتين. في عام 1866 أصبحت السويد ملكية دستوريةببرلمان من مجلسين، حيث ينتخب المجلس الأول بصورة غير مباشرة من قبل الحكومات المحلية، أما المجلس الثاني فينتخب انتخاباً مباشراً في انتخابات وطنية كل أربع سنوات. في عام 1971 أصبح الريكسداغ غرفة واحدة. كانت السلطة التشريعية (رمزياً) مشتركة بين الملك والبرلمان حتى عام 1975. الريكسداج (البرلمان) هو الذي يتحكم بالضرائب السويدية.

تمتلك السويد تاريخاً من المشاركة السياسية القوية لأناس عاديين من خلال "الحركات الشعبية" وأبرزها اتحادات النقابات والحركة المسيحية المستقلة وحركة الاعتدال والحركة النسائية ومؤخراً حركات قراصنة الملكية الفكرية والرياضية. تقود السويد حالياً الاتحاد الأوروبي في مجال الإحصاءات من حيث قياس المساواة في النظام السياسي وفي نظام التعليم. صنف تقرير الفجوة العالمية بين الجنسين السويد في عام 2006 بوصفها البلد رقم واحد من حيث المساواة بين الجنسين.

انظر أيضا

وصلات خارجية

للقراءة

  • A Concise History of Sweden. Kent, Neil (2008). Cambridge University Press. ISBN 978-0-521-01227-0

المصادر

  1. ^ "History of Sweden – more than Vikings | Official site of Sweden". sweden.se (in الإنجليزية البريطانية). 2015-12-03. Retrieved 2020-03-31.

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.