هيئة التنسيق والأمن

محمد السويسي
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أسباب تشكيلها

هيئة التنسيق الشمالية لعبت دوراً كبيراً في ضبط الأمن والدفاع عن طرابلس وتأمين حاجياتها الغذائية طوال فترة الحرب الأهلية التي اندلعت بين عامي 1975 و1977 .

وقد تشكلت بدءاً من الأحزاب والقوى الوطنية والإسلامية والبلدية وهيئات المجتمع المدني وبعض فعاليات المدينة بمشاركة وحضور حركة فتح الفلسطينية ، إلا أنها وجدت نفسها في مأزق مع صعوبات تأمين المواد الأساسية للمواطن من رغيف الخبز إلى المحروقات دون مساعدة الدولة ، وبذلك فشلت الدعوات بإقامة سلطة محلية أو حكم ذاتي لعدم إمكانية تأمين التمويل اللازم .

لذا كانت الدعوة من فعاليات المدينة الى ضرورة مشاركة الدولة بشخص المحافظ إلى المشاركة في هذه الإجتماعات لتفعيل دورها في خدمة المدينة . ولم يعترض المحافظ شرط أن يتولى رئاسة ألإجتماع بصفته ممثلاً لرئيس الجمهورية في مدينة طرابلس ومحافظة الشمال ، إلا أن الأحزاب رفضت إقتراحه بترأس الجلسة باعتبار أن الدولة منهارة وأن السلطة الفعلية لهم على الأرض ، خاصة وأن الجيش قد انهار وتشرذم وخلت الثكنات من الجنود ، إلى حين أن يعود الوطن الى وحدته ؟!

إلا أن الضرورة أجبرت الأحزاب بالقبول بحل وسط بأن يُمثَل المحافظ بموظف من مصلحة الإقتصاد نيابة عنه لتظل رئاسة الإجتماعات بقيادة الأحزاب ، التي هاجم بعضها السراي فيما بعد وحرق مكاتبها بما فيه مكتب المحافظ تعبيراً عن عدم إعترافها بالدولة ، إلا أن العلاقات مع الدولة لم تنقطع ليتخذ المحافظ مقراً لاجتماعاته في مبنى اتحاد بلديات الشمال وفي منزله لتسيير أمورالمدينة .

وكان هو المحافظ الجديد إلذي عين بعد أشهر من مقتل محافظ قبله ، الذي كان قد قضى صريعاً بعدة طلقات في رأسه وهو خارج من منزله مع بداية الأحداث دون أن يعرف الجهة القاتلة حتى الآن من اجل الإنسلاخ عن المدينة دون ان يدركوا تبعات ذلك ، إلا أن القصد الأساسي كان بث الفتنة وتصعيد الحرب لمزيد من الفوضى المتعمدة .

كانت الإجتماعات تتم في مقرات الأحزاب بالتداول ومن ثم في مقر أحدهم ، وذلك بحضور قيادة "فتح" الفلسطينية التي كانت تمد الأحزاب بالسلاح والذخيرة والمال وبعض التموين والمساندة العسكرية عند الضرورة من هجمات الأحزاب المسيحية اليمينية عند تخوم المدينة التي كان يقودها حزب الكتائب وحزب المردة الزغرتاوي الموالي للرئيس سليمان فرنجية.

عانت المدينة من أزمة خبز وغاز ، اما المحروقات فكانت متوفرة لوجود مصفاة للنفط فيها كانت لاتزال تعمل في حينه ، كما محطة للكهرباء بقوة 75 ميغاوات كافية لتغطية حاجة مدينة طرابلس وعكار وقضاء الضنية .

كان سعر قارورة الغاز رسمياً حوالي دولارين تقريباً ، ولكن مع فقدانها ارتفع ثمنها في السوق السوداء إلى عدة اضعاف ، فلجأت الناس إلى استعمال بابور الكاز الذي كان يجلب من سوريا إذ كان استعماله لازال قائماً في الريف لديها ، إلا أن الطلب لازال ملحاً على قارورة الغاز مما جعل اللجنة التموينية التي كانت هيئة التنسيق قد أنشأتها لتأمين المواد الغذائية للمدينة تتصل بتجارالمدينة لشراء باخرة غاز إلى ان تطوع أحدهم لاستيراد باخرة صغيرة اشترط رفع سعر القارورة الى مايعادل ثلاثة دولارات ، وتم الموافقة على عرضه ، إلا أنه عند وصول الباخرة وتفريغها بدأت تباع بإثني عشر دولاراً للقارورة مما أثار الإستغراب ليتبين أن معظم الفارق في السعر يعود للأحزاب أخذوه سلفاً كرشوة بمئات قوارير الغاز مجاناً ؟!

فإذا بانتقادهم للدولة هو مجرد مزايدة واستغفال للمواطنين ، إلا أنه تم ، مع اعتراض اللجنة التموينية ، إلى تخفيض سعر القارورة الى أربعة دولارات ومن ثم توزيعها بإشرافها المباشر مع فقدان الثقة بالمستورد والأحزاب .

كانت المدينة تقصف بشدة من مدرسة الكرملية الشبيهة بالقلعة لضخامتها وموقعها على رأس تلة مشرفة على مدينة طرابلس بالقرب من بلدة زغرتا ، فشنت الأحزاب بمساعدة الفلسطينيين هجوماً عليها إلا أنهم فشلوا مما زاد من أعمال القصف على المدينة .

عندها توجه رتل من الدبابات بقيادة احد ضباط جيش لبنان العربي ، الذي كان قد تكون بعد انحلال الجيش الرسمي وتشرذمه ، نحو مدرسة الكرملية ومحيطها دون ان يتمدد الى زغرتا بناء لتدخل سوري ، لأنها كانت مسقط رئيس الجمهورية سليمان فرنجية صديق سوريا الحميم ، إلا أن زغرتا خلت من كل سكانها وقتذاك إذ لجأوا الى الجبال في إهدن وبشري تخوفاً من اقتحام جيش لبنان العربي الذي كان يحاصرها بألآف المسلحين من أفراد العشائر القادمة من قضاء عكار المحاذي للحدود السورية .

تزامنت هذه الأحداث مع تصاعد الحرب بين المليشيات اليمينية واليسارية برئاسة كمال جنبلاط زعيم الحركة الوطنية في لبنان الذي كان يعد العدة لاقتحام جونية عاصمة الأحزاب المارونية ، واجتياح جبل لبنان بأكمله . هنا توجه زعماء الموارنة نحو دمشق ليطلبوا من الرئيس حافظ الأسد نجدتهم بعد أن كانوا يقتلون مواطنيه حيث يجدونهم ، ويضعونها في اكياس يسلمونها للصليب الأحمر وقد كتب على صدور القتلى "هدية لحافظ الأسد " .

ارسل الرئيس الأسد قواته الى جبل لبنان من الجهة الشرقية ليدحر تجمع القوى الوطنية برئاسة كمال جنبلاط التي كانت تتجمع استعداداً للدخول إلى جونية واحتلالها .

ولم يطل الوقت ليتم إغتيال كمال جنبلاط لوضع حد لانتقاده سوريا على نجدتها الأحزاب اليمينة لتحالفها مع إسرائيل وقتذاك .

دخول سوريا الى لبنان وضع حداً للحرب الأهلية كقوات ردع عربية بتفويض من جامعة الدول العربية ، لتنتشر في كل لبنان بدءاً ، ثم لتنسحب فيما بعد من المناطق المارونية إثر معركة مع القوات اللبنانية ، وليقتصر تواجدها على المناطق الإسلامية أو تلك المختلطة.

ومع دخولهم الى طرابلس منتصف عام 1977 ، حلوا محل الفلسطينيين في الإجتماع مع هيئة التنسيق في المدينة للمشاركة في دعم الإستقرار والأمن فيها ، إلا أنهم كانوا مستمعين ، أكثر منهم محاورين ، إلا عند الضرورة إذا طلب منهم ذلك .


تشكلت هيئة التنسيق الشمالية في مدينة طرابلس أثناء الحرب الأهلية بين عامي 1975و1977 . ومع غياب الدولة وانفراط عقد الجيش والقوى الأمنية مع سيطرة المليشيات على الأرض . فساب الأمن في المدينة والفوضى وأصبحت الغلبة للسلاح الذي استباح أصحابه المدينة فنهبت بيوت من غاب اصحابها عنها ، هرباً من الفوضى إلى الجبال أو إلى الخارج ، تحت دعاوى طائفية وأخرى إقطاعية . حيث بدأوا بنهب بيوت المسيحيين ومن ثم المسلمين بحجة أنهم أثرياء إقطاعيين ،مع تصاعد النقمة عليهم لاستهدافهم بيوت المسيحيين ، فتحججوا بالإقطاع المالي في نهب بيوت المسلمين وكل مقيم في المدينة غائب عن منزله ؟!

ولم يكن هؤلاء السارقين سوى مجموعات من اللصوص لجأت للأحزاب بسلاحها وانتسبت اليها لتنعم بالغطاء الملائم لسؤ أعمالها في السرقة والنهب . ولم تكن قيادات الأحزاب قادرة على ردع هؤلاء لأنهم اضحوا الغالبية من حملة السلاح في تنظيماتهم التي تكاثر أعداد أفرادها مع انفجار الحرب الأهلية إذ لم يكن لديها قبل ذلك أي مسلحين ، إذ كان نضالها بالكلمة وليس بالسلاح الى أن انفجر الوضع ، لينتشر السلاح والمليشيات والفوضى دون أي ضابط .

مع غياب الدولة وعجز الأحزاب عن الحلول محلها في ضبط الأمن ، إنتشرت حواجز المسلحين ليلاً للسلب والتعديات ، فكانوا ينصبون الحواجز عند منتصف الليل لإرهاب الناس وابتزازهم ونهبهم والإستيلاء على سياراتهم ، ومن كان يحاول الهرب كانوا يطلقون عليه النار ويردونه داخل سيارته . فضج الناس وعلت الصرخة ، وأضحى قادة الأحزاب خائفون على أنفسهم وعائلاتهم إن تأخروا ليلاً ، فانصاعوا للمحتجين من هيئات المجتمع االمدني وفعاليات المدينة بتشكيل قوة أمنية تتولى الحراسة ليلاً عند مقاطع الطرق الرئيسية مع تشكيل دوريات مشتركة جوّالة من الأحزاب وحركة فتح الفلسطينية وأخرى ثابتة عند مفترقات الطرق الرئيسية للقبض على أفراد الميلشيات الذين ينصبون الحواجز لاعتقالهم وسجنهم .

إلا أن المفاجأة انه عند إعداد قوة الحراسة الليلية امتنعت الأحزاب عن تزويدها بالعناصر اللازمة بحجة أنهم لايملكون السلاح ؟!أي رفضوا المشاركة فيها لأن معظم من كان يسرق هم من عناصرهم الذين كانوا يشكلون فرقاً اشبه بالعصابات للدخول الى البيوت المهجورة والمحلات وخلعها وسرقة محتوياتها بما فيه المفروشات ؟! إلا أن تشكيل هذه القوة المسلحة من المتطوعين من غير الحزبيين خفف كثيراً من التعديات ومن سرقة المنازل .

كان ثلاثون عنصرياً عدداً كافياً لبسط الأمن ومنع تهريب المواد الغذائية من المدينة على ندرتها ، منعاً لاختفائها والوقوع في المحظور. إذ اختفت عناصر الشرطة العسكرية والبلدية من المخافر لمعاداة الأحزاب لها وخوفاً من سلبها أسلحتها .

ولكن المشكلة الرئيسية التي واجهت هذه القوة هي تأمين تعويضاتها المالية الشهرية ، فلجأوا الى لجنة التموين التي دعت لإجتماع مع تجار المدينة وافقوا فيها على دفع ليرة واحدة يومياً عن كل شوال دقيق زنة مئة كلغ مع التعهد بعدم رفع اسعار الخبز ، وقد نجح الأمر .

وامام قطع الطريق الساحلي بين بيروت وطرابلس من قبل القوات اليمينية المسيحية من حزبي الكتائب والقوات فإنه تعذر على أهل مدينة طرابلس والشمال الإنتقال الى بيروت للتزود بالسلع الغذائية المختلفة خوفاً من أعمال القتل الطائفية . لذا فإن صغار تجار المدينة عمدت إلى إستيراد المواد الغذائية الضرورية من قبرص لقربها ، تضمنت المعكرونة والسمن والزيوت والحليب والقهوة ،ولكن ذلك لم يكن كافياً لعدم استيراد الدقيق والحبوب ولضآلة الكميات المستوردة .

أمام نشاط دائرة الإقتصاد في طرابلس وتواصلها مع الوزارة في العاصمة تم تخصيص مطحنة في طرطوس من أجل مدينة طرابلس فقط ، وهي مطحنة صغيرة جداً لاتزيد امكانياتها عن العشرة إلى خمسة عشرة طناً من الطحين يومياً ، بينما طرابلس وعكار والقضاء تحتاج الى سبعون طناً وفقاً لتعداد السكان وقتذاك .

لذا عمدت الوزارة الى استيراد الطحين الى مرفأ اللاذقية حيث كان ينقل بالشاحنات الى طرابلس و كل المدن اللبنانية باستثناء مناطق المليشيات العائدة للأحزاب اليمينية في جبل لبنان لعدم حاجتها ، إذ وضعت يدها على إهراءات القمح والمطاحن في المرفأ الواقع في منطقتها وصادرتها لحسابها مجاناً ، رافضة  السماح للوزارة بالسحب منه للتوزيع على المناطق الأخرى .

أما بالنسبة للمواد الغذائية فقد ذهب وفد كبير من أحزاب طرابلس في زيارة للرئيس حافظ الأسد وعرضوا عليه مشكلة معاناتهم من نقص المواد الغذائية فأحالهم بعد استقباله لهم الى نائب الرئيس عبد الحليم خدام الذي أظهر تعاوناً تاماً في تلبية حاجات طرابلس والشمال ، شرط أن يكون الأمر عن طريق مندوب من وزارة الإقتصاد في طرابلس استكمالاً للتعاون القائم بينهما على صعيد توريد الطحين وشحنه .

وبالفعل عمدت سوريا الى تزويد حاجة طرابلس بمعظم المواد الغذائية التي تحتاجها مقابل دفع ثمنها بحوالات مصرفية او شيكات مصدقة صادرة لصالح بنوك غربية محددة .

خلال هذه الأزمة الغذائية اتصلت حركة فتح بتعليمات من ياسر عرفات بأن هناك باخرة في عرض البحر ستصل الى طرابلس خلال ايام محملة بالمواد الغذائية لتوزع بين المخيمات الفلسطينية وسكان المدينة مجاناً كهدية دعماً صمود طرابلس .

وبالفعل وصلت باخرة ضخمة ، إلا أن القبطان سلم كمية قليلة منها لاتتعدى العشرون طناً من المعلبات مدعياً ان هذه هي كل الكميات المرسلة معه ، بينما يصر الفلسطينيون ان هناك أكثر من مئتي طن من المواد الغذائية المختلفة مستغلاً عدم معرفة الأحزاب بالبحث في حمولة الباخرة فلجأوا عندها إلى مندوب وزارة الإقتصاد في هيئة التنسيق للإستفهام من القبطان عن حمولة الباخرة ، وقد اعطاهم القبطان مانيفست الباخرة بعد أن نزع منه خريطة العنابر لسؤ نيته منكراً ان يكون لديه هذه الخريطة ، إذ كان ينوي بيعها في عرض البحر لبعض الجزر من المافيات في محيط البحر الواسع ثم يكتب تقريراً أنه تعرض للسلب في مرفأ طرابلس بسبب الحرب ؟! ولكن بعد التحقيق والضغط تبين ان هناك العديد من العنابر المملؤة بالمواد الغذائية من معلبات وحليب وجبن وأرز وسكر وخلافه وزعت بين الأحزاب والمخيمات الفلسطينية لتصبح معظم هذه الكميات عند التجار بعد أيام من توزيعها ، كما جرت العادة في كل إعانة غذائية مجانيّة لسؤ أمانة المشرفين .

وكما وأن حزب البعث العراقي برئاسة النائب الطرابلسي عبد المجيد الرافعي قدم هدية من الدولة العراقية عبارة عن شاحنات عديدة من الطحين خبزت ووزعت مجاناً على المواطنين كما عشرات الأطنان من التمور العراقية وصلت براً عن طريق سوريا ووزعت على الجمعيات والمواطنين مجاناً .

وبالإضافة لما كان يأتي إلى طرابلس من قبرص واليونان وتركيا لنشاط ابنائها في الإستيراد وشجاعتهم ، فإن المدينة لم تعان اي ضائقة غذائية وإن عانت بعض المصاعب والنقص لفترات عدة .