لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة (رواية)

لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة
غلاف كتاب لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة.jpg
المؤلفخالد خليفة
البلدمصر
اللغةالعربية
الناشردار العين للنشر
الإصدار2013

لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة هو كتاب من تأليف خالد خليفة، نشرته دار العين للنشر في 2013.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إستعراض الرواية

رواية لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة. للقراءة، اضغط على الصورة.

يحكي خالد خليفة في روايته لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة تاريخ مدينة حلب الحديث، الذي يشكل انقلاب البعث سنة 1963 المنطلق نحو الماضي والمستقبل فيه، وكيف أسهم ذاك الانقلاب في تشويه معالم المدينة ونسف بناها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وخلف شروخا عميقة بين الناس الذين انقسموا بين مؤيد خائف من إرهاب السلطة الجديدة، وآخر معارض أُودِي به بالتقادم وتمّت تصفيته وضرب مجاله الحيويّ أيضاً، في مسعى لنسف أيّ نشاط أو إحياء لاحق محتمَل.

في الفصول الخمسة لروايته: "حقول الخسّ"، و"جثث متفسّخة"، و"عنق ملوكي وحذاء أحمر"، و"الأم الميتة"، و"طرق غامضة"، لا يكتفي صاحب "مديح الكراهية" بتوصيف التقسيم المجتمعي الذي رسمه النظام وخطط له واشتغل عليه، بل يعود إلى جذور النوازل التي حلت بالشعب، وكيف كانت البداية الخاطئة التي جرت خطايا لاحقة تناسلت من بعضها وأبقت نهر الخديعة والفساد والتآمر جاريا في الحلقة نفسها من الاستنقاع والتأسن.


ضفاف وتفاصيل

يصف الراوي العليم -الذي تتزامن ولادته مع الانقلاب- سيرته التي تختصر سيرة بلد عاش الخيبات والهزائم بدءا بتسلط "القائد الخالد" الذي يستهل بخبر موته وجنازته الرواية ولحين اشتعال النيران في جسد البلد المنكوب.[1]

الراوي المتواري خلف مآسي أهله ومعارفه يحكي عن تقسيم المدينة إلى شطرين مفترضين، وكيف انقسم كل شطر بدوره على نفسه، لدرجة أصبح التفرّق سمة طاغية، وبين الشطرين تناثرت الهموم والفجائع التي ظلت سمة عامة طيلة عقود، ذلك أن التضحية بأهل البلد في سبيل شعارات عريضة تخفي عورات المستبد أربكت المدينة التي كانت تحلم بتحقيق إنجازات على مختلف الأصعدة، لاسيّما أنّها كانت تعرَف بالعاصمة الاقتصادية للبلد.

ضفاف التفتيت تُلقي بظلالها وتأثيراتها على الشخصيات، ذلك أن التغريب يظل السمة الأكثر طغيانا وتسيدا، فكل الشخصيات مغتربة عن ذاتها، بعيدة عن التصالح مع نفسها، هاربة من لعنات تلاحقها، ترنو إلى لحظات تستمتع فيها ببهجة الماضي ولذة الحلم، لكن الوقائع والممارسات المتتالية تفرض على الجميع سلوكيات بعينها، فمَن لم يختر ضفّة النظام والدوران في فلك الفساد والإفساد الممنهجَين يظل مطحونا بإجرام الأجهزة القمعية التي تسلب منه إنسانيته وأمواله تحت ذرائع شتى، وتبالغ في إيذائه والتنكيل به.

العار بدوره أحد المفاهيم التي يخصص لها خليفة تفاصيل مهمة من عمله، فتراه يستعيد التذكير بالعار بين الفصل والآخر، ويكون العار بدوره مجتاحا تفاصيل الحياة الجديدة، ويشير إلى اختلاف توصيفه والتعاطي معه وتعريفه، فما يفترض بأنه عار قد يبدو بحكم الترقيع والتجميل والاستبداد أمرا طبيعيا، وبالتالي تنقلب المعايير والأحكام والقيم وتتداعى الأولويات.

فالعار الأكبر المتجسد في تدمير البلد يوصَف بأنه تشييد لتاريخ جديد، ثم العار التالي المتمثل في تشويه الناس وتجريمهم يوصَف بأنه تطهير، كما يتجلى العار في التكتم على الموبقات التي ينشرها مَن يفترض بأنهم حماة المدينة والحريصون على سلامتها وأمنها.

يحمل بعض الشخصيات عار الآخرين، كحالة المعلّمة "هبة" التي يتم نزع ثيابها عنها وتعريتها في الشارع بتهمة معاداتها الحزب والدولة، فتكون بعريها عار الناظرين إليها المنكسين رؤوسهم خوفا وخجلاً مما يجري على مرأى ومسمع منهم، بينما لا يستطيعون المبادرة للقيام بأي فعل أو الحؤول دون إيذاء امرأة بريئة تتّهم انتقاما من موقفها ورأيها، في حين أن العار الحقيقي يظل ملتصقا بأولئك الذين يحاولون تمييع قيم المجتمع وخلق مجتمع يتقولب تبعا لرغباتهم وأهوائهم وأوهامهم بالهيمنة والاستغلال.

التيه والجنون

يحتل الانشغال على التقاط بوادر البدء وبذوره بترييف المدن جانبا مهما في رواية خليفة، ذلك أن الترييف الذي تم بشكل مدروس ومخطط من قبل سلطة الانقلاب التي ينحدر معظم قادتها من الريف أربك المدن -ومثاله حلب- التي وجدت نفسها تغرب عن ماضيها وعراقتها وإرثها، لتزرَع فيها طقوس وعادات غريبة عنها، وبنوع من التزاوج القسري الذي ينتج التشوه، بدأت تلك المدن تفقد هويتها وملامحها لصالح هوية غائمة ضبابية تائهة.

لا تكون المدينة والحياة المدنية فيها من ضحايا الترييف، بل يحضر جانب من التضحية بأبناء الريف أنفسهم -كحالة الراوي نفسه- وهو واحد من أولئك الذين تلتهمهم المدينة، وتعيد تشكيلهم وتصديرهم، يفقدون ملامحهم وبراءتهم، يقفون على العتبات، يتوهون في البحث عن ذواتهم، يحارون في انتمائهم، يرجون الاستدلال إلى نافذة تنقذهم من أنفسهم وأهوال الحكايات والمآسي التي كانوا شهودا عليها أو حلقة من سلسلة الضحايا المتواترة فيها.

النقمة والغضب والتيه والجنون بعض مما يقود شخصيات خليفة في رحلتها نحو الغد، وفي رحلتها المعكوسة نحو ماضيها الذي يشكل أساس الحكاية وبؤرتها، وهي تمضي محمولة بمحنها المتعاظمة، تكشف عن خرائط أصبحت متاهات بحكم التشويه المستمر. ويكون البحث عن سكاكين مفقودة لقتل الأسرة والأولاد والأهل انتقاما من الذات وثأرا لها مما هي فيه من فظاعة وبؤس، وصرخة القاتل الذي هو قتيل بفعلته.

مصائر فجائعية مؤلمة يختارها الروائي لشخصياته، تعكس عمق الفجيعة التي تحياها، الجدّ يقضي في محطة القطار التي يحلم بتحديثها ويبالغ في تشبّثه بحلمه بها، وهو الذي يحمل وسام التميّز عن عمله السابق فيها، والأب الهارب إلى أميركا مع عشيقته يعكس التنكر والوفاء لأبنائه، وتركه لهم في مهبّ رياح هوجاء عاصفة، فيما الأم غارقة في أحزانها وهموم أولادها الأربعة، والخال نزار بجنونه وموسيقاه و"مثليّته" يرمز إلى حالة تبديد الجنس فضلا عن الهوية نفسها، كما أن سوسن ترمز بدورها إلى تماهي الضحية مع الجلاد وتقاطع الحلم السلطوي بالعهر واستغلال الجسد، فيما تكون الفتاة البسيطة عار الأسرة من وجهة نظر بعض أفرادها، وخاصة الأم الناقمة عليها وعلى نفسها وتاريخها ومدينتها وزوجها وأبنائها.

خطاب الرواية

يمزج خليفة بعض فصول روايته بحكايات قد تبدو للقارئ أنها من باب التخييل والفانتازيا، لا سيما أن واقع المراحل التي يحكي عنها يحفل بكثير من المفارقة السوداء والمرارة المؤلمة، تراه يعود بشخصياته إلى عالم الحلم والطفولة.

يسهب في الانتقال بها بين حقول الخس ومزارع الزيتون وكروم العنب، وتظل متشبثة بتلك البراءة برغم ما تعانيه من تأثيم وتشويه وتغريب طيلة عقود من حكم نظام يوقف البلد ومقدّراته للاستمرار في حكمه لا غير.

يحمل خطاب الروائي كثيرا من الإسقاطات الواقعية، وخاصة في ظل الثورة المستمرة التي جهد النظام على إخراجها من سكتها السلمية وتحويلها إلى مسلحة وإبرازها على أنها حرب بين مكونات أهلية وطائفية، في حين أن إشارات ذلك كله كانت جمرا متقداً منذ عقود تحت رماد المجتمع الذي سعى إلى تقييده والتنكيل به بوسائله المتعددة.

ممهّدات المجريات الحالية في سوريا -وفي حلب خاصة- حاضرة في رواية خالد خليفة الذي يعود إلى التاريخ ليقف على بعض الأمور التي قد تستغلق على البعض، أو قد تستعصي على الفهم في الراهن، حيث إن العنف الذي يتجلى واقعا يحضر كأحد الوسائل المعاصرة لسلطة دأبت على التعامل بها مع المواطنين.

وتكون أحداث الثمانينيات النقطة المركزية التي يعود إليها ليبرز تجلياتها الجديدة على أيدي النظام بأدواته المتلونة نفسها، وبشعاراته المعمقة لشروخ المجتمع نفسها أيضا.

وكأن الروائي يشير إلى قارئه ألا يتفاجأ بما يشاهده من عنف في الواقع السوري، ومن حقد على المدن وتاريخها، لأن ما كان متكتما عليه لم يكن بأقل فظاعة مما يظهر للعلن.

مقتطفات من الرواية

معلّمة حلبية، أُغرمت بشاب ريفي، تزوجته، وانتقلت للعيش معه بجوار أهله في القرية، هجرها إلى أميركا مع امرأة أجنبية تكبره بثلاثة عقود، وهي لا تزال في الثلاثين، عادت بقلب محطّم إلى مسقط رأسها مع أولادها الأربعة، وعاشت “حياة موازية مع الحزب الذي صادر ما تبقى من حريات، أوقف تراخيص الصحف ومنع صدورها، عطّل البرلمان، وفرض دستورا جديدا، يمنح الرئيس المفدّى صلاحيات مطلقة، الرئيس الذي لم تصدّق موته في حزيران 2000″، على الرغم من حالة الحداد التي فُرضت على البلاد لأربعين يوما، ظلت تعتقد أنه لا يزال حيا، يقرأ تقارير المخّبرين عنها وعن أمثالها من ضحاياه، إلى أن تعفّن جسدها من الخوف، وقضت نحّبها من نقص الأوكسجين، قبل أن تبلغ الخامسة والستين.[2]

والسيرة المرّعبة للمرأة المهجورة، التي تتماهى مع سيرة الوطن المُروّع بالقمع، هي إحداثيات البدء التي يضعها خالد خليفة في الصفحات الأولى من روايته الجديدة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة”، إحداثيات تنمو وتتفرع في خمسة فصول، تصف مرايا الذّل الذي تقاسمه السوريون على كافة المستويات، طوال أربعة عقود من حكم البعثيين: “يُخّرجون الطلاب من قاعات الدروس، ويقودهم في مناسبات الحزب بمسيرات تأييد، تنتهي بكتابة رسالة بالدم، وإرسالها إلى القائد المسترخي في قصره، بعد إسكات أي صوت معارض، وتدمير مدينة حماه، واعتقال عشرات الآلاف من الطلبة اليساريين والمتدينين” (ص71)، و”في استفتاء الرئاسة الجديد عام 2000…خرج الحزبيون مستعيدين سيرة عمرها أكثر من ثلاثين عاما، نشروا الذل نفسه في كل مكان من البلاد، أطباء ومحاميون وصحافيون وتجار ونواب وطلاب جامعات ومدارس، يجري إجبارهم جميعا على الرقص في دبكات وسط زعيق مكبّرات صوت رديئة، تصنع صورة جديدة للديكتاتور” (232)، “تسعون بالمئة من السوريين عاشوا حياة موازية مع الحزب والنظام الذي حكم بكل هذا البطش، ولم يلتقوا، انقسمت البلد إلى ضفتين، على الضفة الأولى مرتزقة لا يعرفون الضفة الأخرى، التي تتناسل فيها الحياة، تجري بهدوء وبطء، وتعرف كل شيء عن ضفة أهل النظام” (ص116).

هي سيرة العار بكل معانيه العامة والخاصة، التي بدأت بعسّكرة المجتمع واغتصاب الحريات السياسية، وانتهت بخوف المواطنين وصمتهم المطبق، مرورا بتسييد المخابرات على أجهزة الدولة، نهب الثروات، إفساد الإدارة والاقتصاد، ترييف المدن، تراجع الأخلاق وتفشي الجريمة، انحدار الثقافة والفن، وظهور الأصوليات… عار بكل وجوهه المعّلنة والخفية، التي بدأت تجتاح البلاد والعباد بالتدريج، منذ انقلاب الثامن من آذار 1963، الموافق ليوم ميلاد سارد السيرة، والإبن الأصغر في عائلة الأم المهجورة، شاهد عيان يعيش في قلب المعركة من أجل البقاء، لم تتلوث يداه، ولا يتذمر من فقره وهشاشته، يسرد قصص من عرفهم والتقاهم، كمن يحدّث صديقا له، ويأتمنه على أسراره. يسرد بنبرة حميمة، ولغة تلقائية متدفقة، تحاول جذب القارئ بكل الأساليب، من شعرية التعبير إلى ضراوة اللفظ عند اللزوم. تقوده تداعيات الذاكرة، ولا يكترث لترتيب الأحداث أو تسلسلها، يقطع السيرة حيث يشاء، يبدأ أخرى، يعاود إلى الأولى، لكنه لا يتدخل أبدا في سياق الحدث، ولا يعلي صوته على صوت الشخصيات، جلُ غايته أن يروي بأمانة ما كان شاهدا عليه وما سمعه، أن يجمع أخباره في صورة حقيقية لمدينته حلب، بطبيعتها وناسها، تاريخها وتراثها، طقوس عيشها ومطبخها، مثقفيها وحثالتها، حلتها العثمانية، ثم الفرنسية، وصولا إلى زيّها العسكري، الذي قضم حقول الخس من حولها، وأتى بعشوائيات البؤس والموالاة.


يبدأ بسيرة أمه، ينتقل إلى أجداده وأقاربه وأخوته وجيرانه، أصدقاؤه وأصدقاء أهله، قائمة مطوّلة من الأسماء، لا تظهر بوصفها شخصيات متكاملة، بقدر ما هي مفاتيح وحلقات للعبور، تتحرك في مدى قرن ونصف من الزمان، وتقف قبيل اندلاع الثورة السورية، تبني شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية، تنكشف من خلالها آفات الحزب القائد على كلا الضفتين المتوازيتين: زبانيته من المخبرين والضباط والتجار ورجال الدين، ومعارضيه من الفارين أو الغارقين بيأسهم المطلق، وسوف تكون أخت السارد سوسن حلقة الوصل بين الضفتين، شخصية متحوّلة باستمرار، صدامية، منفتحة على الحياة، تحمل في سيرتها كل التقلبات النفسية الحادة والمتطرفة، التي يمكن أن يحدثها الكبت بمعناه السياسي والاجتماعي.

كرهت الفتاة الجميلة الرومانسية ضعفها، واستضعاف جارها الضابط فواز لها ولأهلها، فانتسبت إلى صفوف البعث ودورة المظّليات، تهادت ببنطالها المبّرقع، حملت المسدس، كتبت التقارير بزميلاتها في المدرسة ثم الجامعة، أغوت قائدها منذر، ويوم تخرجها من الدورة، انتشرت مع زميلاتها في الطرقات “يوقفن السيارات، ينزعن الأغطية عن رؤوس النساء، ويتحرشّن بالرجال، يبصقّن على أي أحد يعترضهن، دب الذعر في المدينة، وفي الأيام التالية أصبحت العاصمة مكانا شبه مهجور” (ص78). سوسن التي سوف تتوب إلى الله، بعد ان هجرها منذر، تنسحب من الحزب، ترتدي الحجاب، وترّقع بكارتها، ثم تعود ثانية إلى سفورها وشبقها في الأربعين، تحبل من حبها العذري القديم جان عبد المسيح، تتزوج ميشيل المثلي، وتغادر معه إلى باريس.

سيرة مثلى للتحدي الماجن، وعدم الرغبة في الرضوخ، يقابلها نقيضها على الضفة الأخرى، أخاها رشيد، عازف الكمان الموهوب، الذي تعلّم العزف على يد خاله المثلي نزار، ورافق جوقته في ملاهي الليل، خوفا أن يبصر خراب النهار، ثار على جبنه، والتحق بالأصوليين من جماعة أبي قتادة، غادر معهم إلى العراق أثناء غزوه، نجا من الموت، ولم ينجُ من سجن الأميركيين، أدعى أنه عازف موسيقي مسيحي، وشى برفاقه، خرج من السجن، وانتهى بالانتحار. أما شخصية الخال نزار، فهي مفتاح الدخول إلى عالم الأغنياء والفنانين، في طفولته، يرتدي ملابس أخته الداخلية، يضع زينتها، ويبكي أنوثته المكبوتة. دخل السجن بتهمة اللواط، اغتُصب، ولم يعرف الفرح الحقيقي ونشوة الحب، إلا في السنة التي قضاها ببيروت.

و”مثل ألف ليلة وليلة” تلد السيرة بنتها، قبل أن تكتمل، وتتناسل الشخصيات الواحدة بعد الأخرى، تارة تسكن الماضي، وأخرى تعيش في الحاضر، تنتمي إلى كل الشرائح والمشارب، كل الأديان والطوائف، السكان والوافدون والمهاجرون، الأقليات من الأرمن والكرد والمستشرقون، مؤيدون وناقمون ويائسون، أنقياء وعملاء، مجرمون وأفاقون وعاهرات، مثّليون ومثّليات، يفتحون كل أقفال حلب، يدخلون القصور وبيوت الطين، القلاع والسجون، المقاهي والملاهي، يكشفون أستارها وأسرارها، مدينة شبقة، جعلها القمع والكبت تحجب وجهها الجميل في وضح النهار، وتمارس فجورها في الخفاء، شأنها في ذلك شأن كل المدن السورية.

وبطبيعة الحال فإن مقترح الرواية، بأبعاده الذهنية والنفسية، يجعل الجنس حاضرا على صفحات الكتاب، بإيروتيكية من كل الأصناف والأنواع، تصف بلا أدنى مواربة هياج السكان، الذي يفرغونه في أجسادهم، حمّى اغتصابهم لبعضهم البعض: “تنصب له شراك الرغبة، وعلى مدرج مسرح النبي هوري الروماني المدمر، تركع على قدميها، بجرأة تفك أزرار بنطاله الجينز، وتداعب عضوه بشفتيها، تتركه هائجا، ولا تمنحه شفتيها أبدا” (36)، وفي السجن يدهن الشيخ جمعة جسد نزار بعطور المشايخ “ويقوده إلى زاوية قريبة من المرحاض، يعري مؤخرته، ويضاجعه ككلب أجرب، لا يجرؤ على رفع صوت بكائه” (ص97). على لسان الراوي يتخطى الجسد حدود حياته الطبيعية، يصبح سجنا، مرتعا لأشباح الخوف وكوابيس الليل، يصير حاملا لأزمة الوجود وهدف القمع، وتجربته في الزود عن كينونته، تكتب تاريخا آخر من العنف، ماثلا في شهوة الاغتصاب، والشبق الذي لا ينضب، أو في الاستسلام الكامل للزهد، وهاجس الموت الذي يتراءى للكثير من اليائسين، خلاصا يحمله الانتحار أو العمليات الانتحارية.


جوائز

المصادر