فائق العبودي

لوحة للفنان التشكيلي فائق العبودي.jpg
2 Faik AL ABOUDI.jpg

فائق العبودي' (ولِد في 31.August بغداد) فنان تشكيلي عراقي.

Cquote2.png إرتقي بمستوى حديثك ... لا بمستوى صوتك ..

إنه المطر الذي ينمي الأزهار وليس الرعد.

Cquote1.png

جلال الدين الرومي


أذا كانت عبارة فيلسوف المانيا الكبير (غوته) تنادي بالقول؛( لا تأريخ إلأ تاريخ الروح) فثمة مقولة للمفكر الانكليزي هربرت ج. ويلز تفيد (بأن التأريخ الإنساني في حقيقته ،ما هو إلأ تاريخ أفكار)على هدي ورؤى هاتين الإستنارتين، تتضح الكثير من محافل الإعتناء بتثمين منتخبات بصرية من حوافل تجربة الفنان التشكيلي (فائق العبودي)، بنتوء مقاصدها وبمراس إستدلالاتها الضمنية،وتناغم ولعها بالتأريخ القديم،على نحو ما تتيح الحروف والكتابات-التي يجترحها بخصوصية وعي وسبل تنظيم وتطويع لكل ممكنات ما يمكن أن تستوعبه لوحاته-من سمات وجود تحديثي يرغم قناعات المتلقي على قبول الفكرة-بل الأفكار-المتوالدة جراء براعة تصميم،وحرية تعميق يواز قيمة المعنى، ويتاخم روح ذلك التصور الحر،الذي تنتهجه لوحة(العبودي)على رهان قصدي يجعل منها منتجعا لتوافد عدة مواد وخامات،تسمو لتحرث مهابة حضورها، وعراقة وجودها،وفخامة أجواءها، دون أدنى مساس أو تزحيف أو خلل قد يقلل من شأن صدق الحداثة التي يتعامل معها (فائق) بروحية،تتسم بالهدوء والدعة، مثلما تتسم-أيضا،وعلى الجانب الآخر من ضفاف تجربته- بالتمرد وميول البحت وإغراءات التجريب،وبما يعزز من ثقة صلاته بالواقع الراهن،وبالتأريخ الغارق في لجج عراقة ونكهة عتق تلك الأزمنة الخالدة والعصية على النسيان أو الأفول،مهما تقادم عليها الزمن،ومهما تقادحت عليها الأحداث وتماهت فيها الظروف ،فثمة توافدات حسية،تعاضد الفكرة العامة التي يصبو إليها الفنان في تخليد ذواكر أشياء ومواقف وحالات تغلغلت في نسيج ذرات ذاكرته،وتسربت في قيعان روحه الهائمة والمحلقة،بحثا عن ملاذ أو سبيل خلاص يحفظ للجمال الخالص زهو مكانته و فرقد وجوده،في زمن لم يعد فيه مكانا صالحا للأحلام الجماعية على نحو ما كان قائما حتى نهايات عصر المحبة أيام عز وألق الرومانطيق.

حفريات البحث... تمردات الشكل

تمضي تطلعات أعمال الفنان(فائق العبودي)- في بعض مستوياتها التوليدية- قدما في بطون التأريخ القديم،لتحفر عميقا و تجترح مسارات تأويل قصدي يثير لوازم الشد والدهشة،حد التمرد والوثوب على مغايرة السائد في الكثير من الأحوال التي لا تقتصر-كثيرا- على ما توارثناه من منظومة ورحم ذلك النوع الذي يحادد المألوف أو المتوقع في قياس توريد معاملات إرتباط التجريد ونواتجه الحدسية البصرية،وفق إعتبار من يرغب في التجريد معبرا وفي أن يكون فضاءا حرا ومفتوحا بإتجاه تعميد مقاصد الشكل،مع حاصل قدرة الإحتفاظ بحيوية المضمون وبراعة تواجده الضمني والمعلن،في نهاية مطاف الوصول لجوهر نقاط تلك المقاصد الروحية،بنسقها المتمرد والمشحون بطاقة تحريضية،تسعى لآن تضيىء مسالك وعي الفنان،قبل أن تضيىء عتمة سبل البحث عما يميز ذاته المشرقة والمشرئبة في تقليد تلك الذات-المفكرة على الدوام- أوسمة إمتياز حدسي لما ستصل إليه عبر سيل مهارات ومساعي ومسالك تجريب،الزامت(فائق العبودي)من مد أواصر تواجده رساما ومصمما إنتقائيا شارك في الكثير من المحافل الدولية والبيانالات العالمية،ومعارض شخصية(تربو على 26معرض شخصي في عدد من الدول الأوربية و الآسيوية)،فيما تصدرت لوحة جدارية كبيرة أحدى واجهات مباني مدينة (جنيف) السويسرية،حملت عنوان(السلام) أتحفها(العبودي) عن طريق إستلهامه للكتابة المسمارية،تجسيدا عيانيا معززا برهان صدق عراقته وعنوان عراقيته الممتدة غرسا وجذورا في غرين حضارات سومر وبابل وأكد.

تتفتح أزهارالقصد في إبتهالات (العبودي) اللونية وتسابيح حروفه وفق تنامي أفعال يتتاخم فيها مناخ صوفي عام وملتزم من حيث توصيفاته التجريدية،مع قوادم وتحليات تصميمية باهرة القوة والحضور والأثر،وبما يواز من لغة تلاقي نسيج اللوحة بأسلوب التطريز-أحيانا- وجهود ترسيم حدود ومساحات لوحاته بفرض سمك- تشكيلي خاص(تكسجر) يوحي بتأثيث بلاغي ونفسي هو الآخر من حيث مقوماته التعبرية وفخامة قدسية اللحظة التي يركن الى تجسيدها بنوازع تصوف وتوحد تشي بروح عوالم ذات أبعاد متماثلة مع مقدرات ونواحي ذلك التلاقي الحي الذي يجلب للوحة موجبات قبولها تحفة(أنتيكا) لامجرد لعب وتبار فوق سطوح تصويرية لا تجيد مهمة الجذب وحكمة تجارب تزيد من ثراء مسرات تأويل المعنى،وفي أن تحافظ على سمة اللاشكلية-المقصودة والواعية-،بلوغا في الوصول الى نشوة ذلك التمرد الحي،الذي يماسك ما بين الفكرة،أو مجموعة الأفكار،وما بين الموضوع،أو المواضيع التي تقترحها تلك الذوات الإبداعية الباحثة-أبدا- عن صيغ أخرى تنوء بحمل حقائق الجمال الروحي في وعاء قداسة وبراءة الأشياء على سجيتها.

الكتابة وصوت الكلام

سعى (فائق العبودي) في مجمل حفرياته البصرية وأنساق إستنتاجاته التصميمة(درس التصميم الطباعي في سويسرا) إلى بث معان وضوح معلن،في طريقة بوح تقني،جهد ونجح في إستثمار كل ما متداول من مواد متاحة(خشب/جلد/حجر/قماش)وغيرها من متممات حسية ولمسية،أضحت توهم الرائي والمتابع للأعماله وتوجهاته في صلب إعتقاد مشكوك في إمكانية حكمة التفريق مابين الطباعة والرسم داخل اللوحة الواحدة،جراء تقصداته الراهنة في منح لوحاته سمة العتق ونكهة العراقة المتوحدة عبر تواليات الزمن وتنويعاته على وحدات ومساحات موضوعاته المرهونة بتحسسات وإنتباهات مدعومة بإنحياز طوعي لمعنى أهمية الزمن ووطأة تجلياته من خلال تماثل جلال وهيبة ذلك الماضي السحيق وسطوة آثاره الواضحة في تقريب مجسات للوازم تحريضية،حفلت تبارك أفعال التأويل،ولتخالف مدى الرؤية وطبيعة الإيهام المدروس الذي ينتهجه الفنان حين يتفرس بممكنات فيض تزهد حاذق وتبني شغف مهارات إيهام ضمني من خلال تفوق لحظات عفوية وحيوية بذات إستجابات تلقائية مكنت(العبودي)من براعة تطويع دفقاتها لصالح موصلات وحالات انهماك نوعي لمعنى إستثمار قيمة تلك اللحظات،التي يساندها ببث معادلات حروفية،تداني قيمة الغرف وتطويع هندسة الحرف العربي لصالح مرتسماته وخواص الخامة التي يشتغل عليها ،والتي قد يحتاج ان يحضرها بنفسه وحسه، لكي تلائم وتطاوع مديات الوصول الى مبتغاه،عبر عدة مراحل تجانب حيثيات تلك التحضرات الممهدة والممتدة لجوهر أفكاره،فضلا عن ملامسات تصديرية وتناغيات وجدانية أضحت مترعة بجوهر تلك القيمة التأريخية،العريقة التي تنشدها أعماله،وعلى مستويات وطبقات متعددة من حيث صلابة أو عراقة الملمس الذي يتهيأ لحمل مهابة الموضوع بتضافر جهود تواجدات الحرف حرا...طيعا...بليغا في فضاءات لوحات(فائق)على نحو تدفق واع لدواعي تفرد ذلك الوجود الحيوي للحروف التي يستلها(العبودي)بحرفية وعناية فائقة،لكي يواشج ما بين الرسم والخط والتصميم في تواصل إنفتاح مدهش على أكثر من مدى وأكثر من رؤيا وأبعد من قصد،لا يقبل الوقوف أو الإكتفاء مثولا أمام أية مثابة من ثوالث ذلك التداخل الملحمي-الدرامي الذي يسكن لوحاته عموما، وربما على شاكلة ما دعت إليه وصرحت به ناقدة سويسرية حيال موقفها النقدي في نهاية دراسة فاحصة لها تناولت تجربة هذا الفنان حين قالت؛(إذا كان فولتير قد أعتبر أن الكتابة هي صوت الكلام، فان فائق العبودي برسمه لحروف الكتابة القديمة أعطاها حقها في الصوت والكلام).

غياب الإنسان ... حضور تماهيه

تكرار الرمز يؤكد وجوده،والأشارة أكثر حضورا من الفرد نفسه،تلك دلالات وإستفهامات تعادل كثافة محتويات الأمكنةومتواليات الأزمنة،عبر حلقات وتداعيات ما يخلفه الإنسان بحتميات وجوده(الفيزيقي)وتناسل ذكرياته وجسارة تحدياته وفيوضات معاناته الأزلية في بؤر التفكير بمعضلة تدعى تجردا ب(الخلود)وتخريجاته الفكرية والسببية والقدرية،كلها تجتمع لتعطي للإنسان سمة إنسانيته المجردة من أغراضها المادية وغرائزها الأولية بحيواناتها المتوارثة من أجل توحيد فرص االتبرير للبقاء.

تلتزم معطيات(فائق العبودي)بجملة من تحذيرات خاصة،تلازم فكرة التفكير بمفهوم البعد الواحد- تلك التي أسس لها و رفع صولجانها،وسار على هديها الراحل الكبير الفنان(شاكر حسن آسعيد)- من حيث مصدات البحث وتوجهات حلولها الإجرائية من قبل من تقبل سطوة هذه الفكرة وأقتفى أثرها عدد كثير من التشكيليين العراقيين،ممن أغرتهم مهارة اللعب على السطح التصويري للوحة،بعيدا عن أي وجود تجسيدي للإنسان، مثلما سعى وألتزم(العبودي)بقواعد وأبعاد تبنيه لهذا النهج في خلق أمكنة أخرى لها(فيزيقيتها) الخاصة،ولزوميات فضاءاتها ومدياتها الروحية في رصد أفعال وسلوكيات ما يتركه الإنسان الى جانب ما يتركه الزمن،فقد لمسنا ذلك الدفق والتبني الحاذق في مخيلة وتفكير(فائق) من خلال تعامله المجرد للحدث ومقومات تواجده مع أشياء الطبيعة،ليس بوصفها(هي) كما(هي) بل بما آلت إليه بفعل عوامل التعرية وتثاقلات أثار الزمن عليها.

لذا يحيي الفنان-هنا- ذواكر ماضيه وتحليلاته الذهنية بنواتج ومسببات وخواطر تراتبيبة تزيد من شحنات التعويض وتعبيد سطوح لوحاته بطبقات من الألوان والمثبتات واللوازم المدروسة في نحت لوحاته القادمة من أصقاع ومرافىء بعيدة وعصور سحيقة،يكابدها حنين طاغي لحرارة ماضي مجيد تم أختبار صلاحيته بشفاعة وكفالة الزمن الذي راح يضمن سحرهذا البقاء المتفرد والمتماهي في مسامات ومساحات أعمال،تخفي تحت دثارها أسرارا وطلاسم ومحكيات بصرية،يدغمها اللون تارة بأجواء كابية-موحشة،وتارة تضاء بوجودها النوراني وألق أحتدامها المدهش،ما بين حضور وغياب،وما بين غياب مبهر ينوء بذلك النوع من الغموض الخلاب،موجودات بروائح معتقة من فرط طهارة الصدق،وسمو القصد في رصد ما يتركه الإنسان من حيرة ذكريات وأوشمة(جمع وشم) يعاند النسيان ويقاوم الزوال،عبر موحيات فهم وتساوقات وعي،يعيد للأشياء جواهر أصولها وبريق لمعانها وتوردات حدوسها الأزلية وترويجها لبقاء الفعل والروح،أمام فناء الجسد وتحلله،في غمار عودة ثانية لمقولة (غوته)الآنفه الذكر في أول سطر من سطور هذا المقال،لوحة(فائق العبودي)تعتني بهندامها وفق هذه المحصلات الصوفية، وفرض لحظات تأملها ومتعة وزهد تمليها بتعاضد تقنيات ملهمة لمواد أولية وبسيطة-كما قلنا ... متوفرة ومتاحة،بل مبذولة-مهدت لهذا الوعي والثبات،في رفع شأنها،بسواند ومقاصد سلكت طرق التماثل الروحي ما بين المادة وما بين الذات المفكرة،وهي تضيف وتحذف،تشيد وتهدم،لكي تتغلغل في ثنايا سكون ومفاصل حركة من خلال عمليات كسر و ثلم وتقويض،أو من خلال بلاغة شد و حواكم حث وتذيل،لينتج قوة سريان هذا النسغ الصاعد من توافدات (أكسير)المعرفة،بتنويعاتها الثقافية،وخواص التمهيد للخوض في مثل هذا المخاضات العنيدة والصعبة كالتي أختارها(العبودي فائق) بفائق دراية،وثقة وعي بقيمة جوهرة التفاني التي تسكن ذاته القلقة والباحثة عما يفردها ويميزها عن غيرها.




. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النقاد

لوحة للفنان فائق العبودي.jpg

فائق العبودي فنان اصيل جمع في فنه التشكيلي بين عراقة العلامات وحداثة الرؤية التشكيلية وهو بذلك ينتمي الي سلالة المبدعين الذين يؤمنون بان الحداثة ليست تقاس بالزمن الحديث بل هي النظرة الجديدة للكون ولو في الازمنة السحيقة هي الرؤية المؤسسة علي الاتيان باشياء ضد المألوف المبتذل. وللوصول الي هذه اللحظة الابداعية المتميزة. لديه نزوع نحو الكتابة فوق القماش .وكانه يصنع مخطوطات قديمة هذه القدامة نستشفها من الايهام باثر البلي والكشط والمحو والخربشات. لقد ارتقى العبودي باستلهام هذا الموروث الغني الي مستوى العالمية بحيث تستقبل اعماله بنوع من الحفاوة والتقدير شرقا وغربا. وهذا هو المطلوب من الفنان ان يغرق في المحلية ليصل الي العالمية. وان الحداثة ليست في تقليد التجارب الغربية بقدرما هي بحث عن الغريب والمدهش فينا واظهاره بلون العصر ليكتسب تداولا حقيقيا. فائق العبودي ولد وفي يده فرشاة واصباغ. يرسم بجدية الطفل الذي يلهو. الطفل هو الذي يشير دوما الي براءة النظرة الأولى والى عناصر الادهاش في الوجود الذي مايفتا ينكشف الينا باستمرار. فائق العبودي فنان لاينضب يفاجئك كل مرة بالجديد وهذا معلم على انشغاله الحقيفي بأسئلة الفن المعاصر.

د. محمد ايت لعميم


لوحات العبودي تذكرنا بالحقول الملونة للانطباعي التجريدي. Mark Rothko فمجموعة أعمال العبودي يستعمل فيها ألوانا غامقة وأكثر عضوية كالألوان الطينية والرمادية والتي تطرح فكرة الألواح القديمة للكتابة المسمارية. اللوحات كأنها قطع أثرية منقب عنها حديثا / وما زالت تحمل تراب وتآكل الزمن وتعاقبه. Laurence Faulkner sciboz قراءة نقدية للصحفية السويسرية


اللوحة عند العبودي تتكون من فسيفساء لعدة لوحات صغيرة، كل منها لوحة مكتملة بحد ذاتها، تحمل التوزان واللون والضوء بشكل يفي بحاجتها كلوحة، إلا أنها وبطريقة فريدة قطعة من لوحة كبيرة، فهي جزء من كل، وهي الكل أيضاً، مما يكسبها تنوعاً فريداً، وقراءة مختلفة في كل مرة تمر عين الناظر عليها، ليكتشف– ببصره أو ببصيرته – شيئاً لم يره في المشاهدات السابقة.

لبنى ياسين


وجد فائق العبودي ثمة علاقة بين بواكير الفن العراقي القديم، والرؤية المعاصرة له، إنه وجد بنية شديدة التماسك في العناصر والوحدات والاشكال والمناخ..لكنه بدافع حبه للطبيعة، وغنائيته الحزينة، أعطى للألوان هذا الطابع الأقرب إلى الموسيقى أو المقام العراقي بما يمتلكه من خصوصية تقنية ونفسية وجمالية متوازنة بين العالم الخارجي وما يختلجه في أعماق الفنان.

عادل كامل


العمل عند فائق العبودي اثر لا يغادر أزمنته إلا ليدل على تقادمه. فهو حينا يحاول التعتيم على مدوناته, وحينا آخر تغريه ملونتها الأثرية مسعى آخر للتغريب. ومن خلال كل ذلك, لا يود إلا أن يترك انطباعا, في العديد من أعماله, بكونها سطوح منسوخة بهاجس استشعار ما للأثر من مقدرة على البوح بما لا يستطيعه اللسان. أعماله, وضمن هذا التوصيف اعتقد أنها لا تمثل إلا اللسان بصرا, لا بصيرة, لغموض أو عتق زمنها الافصاحي بالنسبة للمتلقي. ميزتها البصرية. لا الدلالية الغامضة,

علي النجار


لم تكن أبجدية فائق استنساخ معظمها, بل هي من وحي هيئة وسطح الأثر سواء كان مسطحا أو مدورا أو كتلة صخرية. وان استعار لأعماله أو اقتبس بعض من المقاطع الحروفية الأثرية. فانه لا يفضل أن يتحول عمله مجرد استنساخ, لذلك استغل علامات وإشارات خطية هندسية. ودسها وسط مساحة مفتوحة أو مغلقة أو ممزقة أو متشظية من أعماله. في نية منه لكسر نمطية الأداء ألمسندي الذي يعتمد الشكل التقليدي للعمل الفني التشكيلي. وان كانت العتمة(ربما من اجل إضفاء مسحة عتق على العمل) في أعمال فائق تعيق الانفتاح على فضاءات أكثر إشراقا. كما هو الانفتاح على مناطق أداء الخامات المختلفة التي من الممكن استغلال طاقتها التعبيرية والجمالية والتغريبية لإنتاج أعمال توليفية تغني التجربة الفنية , وخاصة في أعمال كهذه, بتعداد مناطق اداءاتها, واختلافات مشهديتها. وما دام العمل الفني مفتوح دائما على فضاءاته التجريبية, من اجل ان يبقى متحركا طاردا لكل ثبات أو جمود يؤدي إلى التكرار الذي لا نهاية له.

علي النجار


الاستغراق في عوالم الرموز الحضارية هو السياق الموضوعي الذي يجمع بين عموم اعمال الفنان العبودي وفق استحداثات وتوليفات بنائية وايقاعية تحاول ان تعيش الحداثة واللحظة الراهنة دون قطعها عن حيوية الاستمرارية وحركة الزمن الذي لا يتوقف. ثمة قراءات واضحة المعالم يقوم بها الفنان لتراثه وموروثه الذي يحاول ان يضع منه عالما جديدا متداخل العناصر والمفردات,

حازم سليمان


الفنان فائق العبودي يرسم الواقع الذي يتخيله برمزية ذكية، والمعاني لهذه الرمزية قد تداخلت مع أحلامه، وتواصلت إلى مدلولاتها، وكشوفاتها، لتصل في النهاية إلى تأثيرات يعكسها الواقع التنفيذي على اللوحة، بمفهوم حسي مملوء بشغف الإنسانية، المتأثر بما تعرض له الفنان، ومجتمعه العراقي من ألم وفرح، وحب وتضحية، وحاجة واغتراب، وغيرها من العثرات لمركونة على طريق المفهوم الإنساني، لكن الفنان استطاع أن يستمر في الطريق الصحيح بمحرك وشعور الهمة القوية والإصرار لتحقيق هدفه الإبداعي لإغناء المفهوم الإنساني الذي التصق به كفنان.

مخلد المختار


تجربة الفنان فائق العبودي تأخذ أبعاداً تطورية مختلفة تتموضع بين التعبيرية، والواقعية التشخيصية فإنها تستخدم نوعاً من الإيقاع غير التمثيلي، الذي ينتقل فيه البصر بين أجزاء اللوحة دون محددات أو عوائق بصرية، ويحاول أن يخلق نوعاً من التكوينات في أجزاء معينة من اللوحة تنقاد العين لها لا إرادياً بفعل الإيقاع غير التمثيلي فيتحوّل هذا الجزء منها إلى موضوعة اللوحة الأصلي، وتصبح هذه الموضوعة هي الخلفية التي تنعكس عليها فعلية الجزء التالي والذي سيتّخذ ميزتها وهكذا تستمر المتوالية في التكوين والتأسيس المتعدد، وعندما يتأسس موضوع جديد في جزء جديد يصبح الجزء السابق أقل أهمية تاركاً للجزء الجديد أن يأخذ مساحته من اهتمام المتلقي دونما نهاية

د.حسن السوداني


يرسم الفنان العبودي كما لو كان يكتب نصاً مفتوحاً ، وبروحية مترعة بالحزن الشفيف، ومتباعدة عن القلق الذي لا طمأنينة فيه…وفي منطقة ما من أشياء ذاتهيتخطف مع اللون ويُصعق الرائي بلمسات بهيجة..كل شيء يدور في إطار الناموس الفني الخاص بالعراق الشقيق ..بلد الحضارات والأسئلة الكبرى..الحالة التشكيلية المتميزة في العالم العربي.

د. عمر عبد العزيز


لوحات الفنان العبودي رؤية جمالية، تعززها صنعة محبوكة تقوم على خلط الألوان الناصعة، واختيار الخامات المناسبة، وإثارة الموضوعات الجادة، “وما أكثرها القضايا التي ترمز إليها لوحات هذا العراقي، في زمن احترفت فيه مؤسسات إعلامية كبرى تشويه كل ما هو عربي وإسلامي

عبد الحفيظ العبدلي


يؤسس الفنان العبودي لوحاته بـ (ريليفات) الوانها نقية زاهية، التقطها من الواقع العياني واحالها إلى مفردات رمزية مسطحة بأسرار خفية تشبه الطلاسم، اشتغل على سطوح غير صقيلة، أغنى لوحاته بمفردات مكثفة ومشتغلة بعناية عالية، كل هذا يعود إلى تشبعه الثقافي والتقني، فرض نفسه بإبداعه في الساحات الفنية العالمية، بدأبه على مواكبة جديد المنظومات الفنية العالمية، فهو احتل الان حيزا كبيراً في الأوساط التشكيلية، انخرط في عالم التجريب والحداثة حيث أصبح لأعماله مغزى من نوع اخر، لعل فائق العبودي ساهم باستنهاض الفن العراقي المعاصر في العالم عبر رسالته التي لا تنتهي الى حد.

زياد جسام




الرموز والتمائم اللونية

Faik al aboudi.jpg

لبنى ياسين

-" إذا كان فولتير قد اعتبر أن الكتابة هي صوت الكلام، فإن العبودي برسمه لحروف الكتابة القديمة أعطاها حقها في الصوت والكلام".

Laurence Faulkner Sciboz


يقول دافنشي:" إنه لخير لك أن تدرس القديم لتستوعب منه منهجاً من أن تقفز طفرة إلى التجديد".

تمثل هذه المقولة بكل تأكيد منهج الفنان العراقي فائق العبودي في الفن، ومسيرته الفنية باتجاه التميز والتجريب المستمر، حيث تمثل اللوحة عنده جسراً جمالياً يربط التراث بالحداثة، والقديم بالحديث، فلوحاته التي يستلهمها من تاريخ ميزوبوتاميا، ومن اللغات القديمة العريقة التي كانت في تلك الرقعة من الأرض، تحمل رموز الخط المسماري التي كانت متداولة في جنوب ما بين النهرين خلال الألفية الثانية ما قبل الميلاد، وهو بذلك يقيم علاقة جمالية بين الماضي والحاضر، علاقة لا يستطيع الكل انشائها فهي تعتمد على موهبة الفنان وفطرته وذائقته الفنية وثقل الذاكرة الجمعية الموروثة له كعراقي.

إلا أن هذا الإقتباس الجمالي والحسي من اللغات التي لم تعد متداولة الآن، لم تلغِ حقيقة حداثة أعمال العبودي، وتفرده في المزج الساحر بين الغرب والشرق، وبين القديم والحديث في تمائمه اللونية والضوئية.

ويمكن فهم التجربة الفنية لدى الفنان باستقراء سيرته الإبداعية، حيث بدأ أعماله الفنية بالحروفيات، فهو يجمع بين الفن التشكيلي، وبين فن الكالوغرافي، أو فن الخط العربي، حيث يبدو أن هناك على مستوى اللا وعي عند العبودي الافتتان البصري باللغة المكتوبة سواء كانت العربية أو المسمارية، حيث أنه كفنان يدرك قيمة جمال الحروفيات، ولعل بيكاسو لم يبالغ حين قال:"إن أعظم ما أردت تحقيقه وجدت بأن الخط العربي قد سبقني إليه منذ زمن".

ألواح أثرية:

وفي تطور تجربته الإبداعية مر عمله بالمدرسة الواقعية، حيث احتلت الشناشيل أو "الحارات البغدادية القديمة"، حيزا زمنياً لا بأس به في مسيرته، ورغم أن موضوع الشناشيل هو موضوع لعمل الكثير من الفنانين العراقيين، إلا أن العبودي وجد لنفسه تقنية تميز شناشيله عن أعمال بقية الفنانين، باستخدام الألوان الترابية، وبتقنية خاصة تشبه الجرافيك في تلك اللوحات، لكنه بعد تلك المرحلة من رسم الشناشيل بدأ باختزال اللون والشكل-كما يقول الفنان عن تجربته- وبدأ بعملية التجريب في تركيب اللون ، وتغيير الخامة المشتغل عليها حتى وصلت أعماله إلى ما يحاكى الرقيمات الأثرية دون أن يقلدها، فيذكرك بالألواح الأثرية وأنت مدرك تماماً لطبيعة خصوصية أعماله الفنية، حيث يتعمد الإقتراب من تلك التكوينات القديمة بطريقة المعالجة، والمنمنمات، والتكنيك، وحبكة اللون، والحركة، وطبقات الألوان المستخدمة، ويحرص على إعطاء لوحاته عتقاً وقدماً تنسجم بشكل جميل مع الرموز التي يحصل عليها من المصادر التاريخية، ومن الذاكرة بما جمعته خلال سنوات من المشاهدة والتجريب والدراسة والخبرة، فتبدو كما لو أنها ألواح أثرية أخرجت للتو من حفريات التنقيب، لكن تنوعها اللوني يجعلها حداثية بشكل يثير الدهشة من جمالية تلك الثنائة "القديم والحديث".

ولا يخفى على المشاهد للوحات العبودي بطبيعة الحال، كمية الأسئلة التي تطرحها لوحاته بتكويناتها اللونية المدهشة، وما الفن إن لم يجبرنا على طرح الأسئلة؟! وإعادة صياغة ثوابتنا التي نظنها غير قابلة للتزعزع؟!.

عن الفكرة والولادة:

تولد الفكرة لدى العبودي – كما يصرح بنفسه- صغيرة من خلال حالة خاصة أشبه بالمخاض، تملؤه بالمشاعر والأحاسيس المتضاربة، فيجهزخامته ، ويبدأ في رحلة التأمل، متخيلاً الدهشة الجديدة التي عليه أن يختلقها على صدر اللوحة الفارغة التي تنتظره، وعلى هذا الأساس يبدأ بالعمل، وقد تتطور تلك الفكرة أثناء العمل، وقد تتلاشى في مرحلة ما ليحل غيرها محلها، وكأن الفكرة هي التي تحركه، تجعله يكمل، ويلغي، يمحو ويعيد، من خلال لعب تلك الفكرة بأحاسيس الفنان، كما لو كانت سيمفونية تتصاعد بهدوء، كما أنها- تلك الفكرة- قد تتوالد خلال سير العمل، فيصبح لديه أفكار للوحات أخرى قادمة، تجبره على الاعتزال والعمل لأيام أو أسابيع دون توقف.

فسيفساء الشكل واللون:

تتميز لوحات الفنان فائق العبودي بكونها عدة طبقات لونية، متراكبة بعضها فوق بعض بشكل ملموس، تغطي إحداها الأخرى، قد تصل تلك الطبقات حسب الفنان إلى عشرة طبقات أحياناً، كل طبقة أو جزء فيها عبارة عن لوحة صغيرة إن أنت حاولت تأطيرها في خيالك وعزلها عن بقية الأجزاء اللونية.

إلا أن هذا الجزء الذي يمكن أن يكون لوحة بمفرده هو جزء من لوحة كبيرة في نفس الوقت، وكأن ذلك تحدٍ لوني صارخ، فالجزء يمكن أن يصبح كلاً متجانساً مكتملاً بمفرده، دون أن يكون منفصلاً عن الكل عندما تنظر إليه على أنه جزء من هذا الكل، وهنا يكمن التحدي، فانتاج جزء فني مستقل بذاته، ثم جعله قطعة في فسيفساء كاملة بكل ذلك التناغم والتناسب أمر ليس بهين، يلزمه الخبرة والموهبة والإحساس والتوحد في كينونة اللوحة حتى لحظة توقيعها، وإطلاقها كعمل فني متكامل، حيث يسبب كل ذلك قلقاً كبيراً للفنان، منذ بداية مشروعه الفني المتمثل باللوحة في كل مرة، وحتى توقيعها وولادتها بشكلها النهائي.

بين النفر والحفر:

يقول الفنان الهولندي فان كوخ في رسالة لأحد أصدقائه:" إنك تعلم إنه إذا كان ثمة شيء جدير بالتقدير فما أنا بصدد انتاجه، وهو ليس وليد الصدفة، إنما هو ثمرة لقصد حقيقي".

إن المتابع لأعمال الفنان العبودي، بدءا من رسم الأزقة القديمة، حتى مرحلة التجريد والإختزال، سيدهشه كم التجريب الذي تتعرض إليه لوحاته، والتغيير الذي يعتريها، رغم أنها تمتلك تلك السلسلة الخفية التي تربطها معاً، وتجعل تمييزها كأعمال له واضحاً كما لو أن هناك توقيعاً خفياً تدركه بحواسك منذ اللحظة الأولى.

فعلى سبيل المثال، رغم أن غالبية أعماله تتميز بالطبقيات، وكونها سطوح متباينة، متنافرة بأبعادها أحياناً، إلا أن السطوح ذاتها تخضع لعمليات مختلفة تجعلها تسير في تطور مستمر، وتجعل من التغيير ثيمة يراها الملاحظ لتلك الأعمال.

فتغير الخامات، استخدام فن الجرافيك مع الألوان الأساسية والدافئة، واستخدام الخطوط النافرة التي تعاكس في المشهد البصري تقنية الجرافيك المحفورة باتجاه القاع، والتغيير في الباليت اللونية، يجعل من اللوحات سلسلة لا متناهية من أعمال التجريب الفنية التي تقدم إليك حاضراً منكهاً بماض سحيق، أو ماض ملوناً بألوان الحاضر، وهذا يمنح اللوحة بعداً ثالثاً خارجياً أو داخلياً ، نحو العمق أو نحو السطح، وفي كل الحالات تبقى بنية اللوحة متماسكة سواء في اللون أو في العناصر أو في الرموز والأشكال الطاغية على العمل، وتبقى الرسالة الجمالية بكل أبعادها حاضرة بقوة في كل تجريباته وتغييراته.

ولعل عمل الفنان في مجالي التصميم والديكور، جعله يدرك أهمية الإبتعاد عن النمطية في الأشكال والخامات، وأهمية التجديد والغرابة والبعد عن المألوف، فليست كل أعماله ذات حواف مستقيمة، بل أن منها ما قد تعرض للكي، والحرق، والقص، واللصق، وغيرها من العمليات الفيزيائية أو الكيميائية، لتصبح حوافاً غير مستقيمة، أو عشوائية، أو قديمة، أو متآكلة ، أو حتى دائرية وغير منتظمة.

ألوان حارة:

ويتبنى الفنان الألوان الحارة أكثر من غيرها، ربما جاء ذلك من جذوره العراقية، التي تحمله إرثاً ومخزوناً ثقافياً يطوعه من خلال أعماله، لكنه رغم ذلك يبقى متنوعاً في الباليت اللونية التي يستخدمها، خصوصاً وأنه يغير من تركيبة ألوانه كيميائياً ليطوعها تماماً لموضوع لوحته، هذا التدخل الكيميائي في تركيبة الألوان جاء أيضا كما هي تقنياته وأشكاله وطبقاته ورموزه، نتيجة أعمال البحث والتجربة المستمرة خلال سياق العمل.

توقيع لوحة:

يحتاج العبودي إلى مغادرة لوحته، والعودة إليها لاحقاً في اليوم التالي، لكي يستطيع أن يتخذ القرار بتوقيعها، أو إكمال العمل عليها، حيث يستطيع عند العودة لاحقاً اتخاذ القرار فوراً باكمال أو توقيع اللوحة، وقرار إنهاء اللوحة يعتبر معضلة صعبة تواجه كل فنان حقيقي، لأن اللوحة ليست لون، وضوء، وخطوط، وأشكال فحسب، بل هي عند أغلب الفنانين علاقة متبادلة لا تقف عند حدود اللون والضوء والشكل، إنما تذهب بعيداً إلى أعماق الروح والمشاعر، وهو يعلق على ذلك بقوله:" عندما تكتمل اللوحة أشعر بها تهمس لي :"اكتفيت".

في النهاية، فإن تجربة الفنان فائق العبودي تجربة تستحق الوقوف عندها، فضلاً عن احترامها، وبحسب ما كتبت الناقدة السويسرية لورانس فولكنر سيبوز عن الفنان :"إذا كان فولتير قد اعتبر أن الكتابة هي صوت الكلام، فإن العبودي برسمه لحروف الكتابة القديمة أعطاها حقها في الصوت والكلام". Laurence Faulkner Sciboz



جولة بين اللون والتكوين والضوء.. مع الفنان التشكيلي فائق العبودي

لوحة رموز قديمة .. للفنان فائق العبودي.jpg

من الأرض الجريحة أتى، وفي جعبته ألوان وأحلام، تنقل بين أرض وأخرى باحثاً عما يشبه الوطن ليسكنه، بعد أن ودع غربته في أرض بابل، حاملا منها إرثا غنياً من التراث والأساطير والحكايات والفن والتكوين والحروف، وعندما استقر به المقام أخيرا في سويسرا، أفرغ مقتنياته الحضارية في لوحات غنية باللون والشكل لفتت أنظار الغربيين، وشدتهم، فأقام ما يزيد عن عشرين معرضا في ربوع الغرب والشرق المختلفة، هو فنان عراقي ينحت اللون بين أصابعه..ويرسمه قصائد وطن،إنه الفنان فائق العبودي..فلنقترب قليلا من عوالمه السحرية:

كيف تعرف نفسك للقارئ؟

فائق العبودي من مواليد بغداد، منطقة الدورين، حي بغدادي قديم في جانب الكرخ يمتاز بالأزقة البغدادية القديمة (الشناشيل)، من عائلة جنوبية من مدينة العمارة أو مبسان ذات الطبيعة الساحرة والطيبة الخالصة، مقيم في مدينة لوزان السويسرية من 10 سنوات. بكالوريوس فنون من جامعة بغداد، شهادة من معهد فن التصميم في لوزان، عضو جمعية الفنانين التشكيلين العراقيين في بغداد، عضو نقابة الفنانين العراقيين، عضو جمعية الخطاطين العراقيين، عضو جمعية التصوير الفوتوغرافي في بغداد، عضو جمعية الفنانين التشكيلين في الشارقة، عضو الرابطة الدولية للفنون ايا في فرنسا، وعضو جمعية الفنانين التشكيلين العراقيين في بريطانيا، رسام وخطاط ومصور فوتوغرافي ومصمم طباعي ونجار وحلاق وخياط ومصمم ديكور داخلي، مدير عام ومؤسس مركز فضاء الشرق الثقافي في سويسرا ومجلة ألوان ثقافية.

كيف اكتشفت تلك الجذوة الجميلة التي في داخلك، وذلك الشغف باللون؟

في الواقع عندما كنت صغيراً كانت لدي مهارات فنية واضحة، كنت أصنع ألعابي بنفسي، وكنت مهتماً بالخط العربي، فكنت أقضي ساعات في تقليد الخطوط الصعبة، كالخط الكوفي، وخط الثلث، والديواني وغيرها، لا أنسى دهشتي وأنا أزور للمرة الأولى المتحف العراقي في بغداد، كنت في التاسعة من عمري عندما اصطحبني إليه والدي برفقة أخي, كنت أقف مذهولاً أمام المنحوتات التاريخية القديمة، كانت تلك الزيارة للمتحف قصيرة، ولم أرغب يومها بالخروج من ذلك المكان. وبعدها بدأت أجمع مصروفي البسيط الذي يصلني من والدي وأذهب إلى ذلك المتحف سراً رغم بعده عن مكان سكننا، في المتحف صاروا يمنحوني بطاقة دخول مجانية تشجيعاً لي، كانت سعادتي كبيرة بهذه المنحة التي مكنتني من تكرار الزيارة مرات ومرات، كنت أقضي أوقاتاً طويلة فيه مذهولاً بعبقرية الإنسان القديم، وبانجازه الفني المتميز، وكنت أخزن صور تلك القطع الأثرية في مخيلتي، وحاولت وقتها أن أقلدها بواسطة الطين الذي أعجنه بيدي مشكلاً منه تكوينات فطرية، أعلقها على جدران البيت، كما أنني كنت أرسم كل شيء أمامي في المدرسة، كنت أرسم الطلاب بحركاتهم المختلفة، و كم من مرة عوقبت على اقتراف الرسم أثناء الحصص.

حتى أنني منيت بخلل وصفير في أذني لازمني طويلاً، بسبب صفعة مؤلمة من أستاذ الرياضيات في الابتدائي، لأنه أمسكني متلبساً بالرسم بينما كان يشرح الدرس، كل هذه التفاصيل كانت بمثابة البذرة الأولى.

كطفل في مراحل الاكتشاف الأولى.. ما الحافز الحقيقي الذي دفعك للرسم؟

كما أسلفت منذ الطفولة كنت مهتماً بالفنون ومنها الرسم، والوحيد الذي شجعني معلم التربية الفنية الذي كان يتعامل معي بعناية، ويجلب لي بعض الرسومات ويطلب مني تقليدها, وفي سن العاشرة بعثت برسالة إلى تلفزيون العراق إلى برنامج الورشة الذي كانت تعده وتقدمه الفنانة الكبيرة شذى سالم، أستطيع أن أقول إنّ مخرج البرنامج الذي لن أذكر اسمه صنع مني فناناً بمعاملته السيئة لي، إذ عندما وصلت رسالتي للبرنامج الذي كنت أتابعه كل يوم أربعاء, تحدثت الفنانة شذى سالم وقالت وصلتنا رسالة جميلة من الصديق فائق، وندعوه أن يصطحب رسوماته إلى مبنى التلفزيون في يوم السبت للمشاركة في حلقة البرنامج، كنت في غاية السعادة وأنا أسمع اسمي بالتلفزيون، ويا لسعادة والدي الذي قرر أن يشتري لي ما أحتاجه لكي أرسم للمشاركة في البرنامج وفعلاً وفر لي مواد الرسم

وأنجزت عدداً من اللوحات، المشكلة أنني في ذلك السن الصغير كنت اعتقد أن الظهور على التلفزيون مشروط بارتداء طقم رسمي،وربطة عنق، طلبت من والدي أن يشتري لي طقماً رغم درجات الحرارة القاتلة التي تتجاوز الخمسين درجة في الظل، لكنه لم يوافق، وبقيت على إصراري.

لدي عم متزوج كنت معجب بطقم ارتداه في عرسه، ذهبت إليه طالباً منه طقم زواجه حاول إقناعي أنها لا تناسب قياسي لكن دون جدوى، فأعطاني الجاكيت فقط، وقررت أن أكوي جاكيت عمي وإذا بالمكواة تخرج أحشاءه لشدة حرارتها، فقمت بخلط لون من صبغ الأبواب مشابه للون القماش ولونت المكان المحروق، وذهبت إلى موعد البرنامج بجاكيت أكبر من حجمي بعشر مقاسات تقريباً، ومعي رسومي وكلي فرح أنني سأظهر في التلفزيون،دخلت الأستوديو للتصوير مع عدد من الأطفال الموهوبين، وإذا بالمخرج يطلب مني أن أغادر الأستوديو بدون أي سبب، حاولت البقاء وإذا به يجرني من يدي بقوة ليخرجني، حينها لمحت الفنان المرحوم راسم الجميلي وطلبت مساعدته ليرجعني، وحاول الرجل لكن دون جدوى، بعد أيام وأنا أشاهد الحلقة وإذا برسومي تعرض على الشاشة بتعليق جميل من الفنانة شذى سالم وهي تقول وصلتنا رسوم من الصديق فائق وهي جميلة ورائعة بألوانها، وأنا على ثقة أنه سيصبح فناناً كبيراً . هذه الكلمة كانت خير دعم لي، وما فعله المخرج كان تحديا كبيرا لنفسي، فقلت علي أن أثبت لهذا المخرج أنني فنان . فكما يقال رب ضارة نافعة.

هناك مراحل في لوحات الفنان العبودي من الحارات الى الوجوه الى التجريد، كيف تنتقل من مدرسة الى أخرى؟

البداية كانت الحروفيات كوني خطاطا ، ومن ثم المدرسة الواقعية التي اشتغلت فيها كثيراً، على بغداد القديمة بأزقتها وجدرانها العتيقة، في هذه المرحلة بدأت باختزال اللون، ومن ثم صار يختزل عندي الشكل أيضا، وعملي مر بمراحل كثيرة من ناحية اللون والخامة والشكل إلى أن وصل إلى ما هو عليه اليوم، بالتأكيد التجربة والبحث لهما الدور الأكبر في خصوصية تجربتي، أما الوجوه فقد رسمتها في فترة الحصار الاقتصادي الذي مر على الشعب العراقي بمرارة وقسوة لا توصف، وكوني عشت هذه المرحلة الصعبة جداً فقد قمت بترجمتها على شكل لوحات.

كيف تولد الفكرة لتصبح لوحة؟

الفكرة تولد صغيرة من خلال حالة خاصة أعيشها عندما أكون ممتلئاً بالمشاعر والأحاسيس، هذه الحالة تعطيني رغبة قوية جدا بالرسم.

فأجهز خامتي وألواني واسترخي بصفاء وهدوء عميق قبل أن أرسم، وأتخيل فكرتي على اللوحة، وأدخل في تلك الحالة بشكل عميق يجعلني أشاهد ملامحها, لحظات الاسترخاء والتأمل هذه بمثابة الإلهام. وعندما أشرع بعملي على أساس تلك الفكرة الصغيرة، أرى أن فكرتي تطورت أو تبددت لتولد مكانها أفكار جديدة تجعلني مجبراً للانصياع لها، كونها أثارت حساسية الإعجاب لدي. هذه الأفكار تتطور وتتطور على الخامة باللون والحركة والحساسية، وكأنها سيمفونية تبدأ بهدوء وتتصاعد إلى حد الانفعال الجميل والممتع للروح والحس. ومن خلال كل لوحة تتولد عندي أفكار لمشاريع لوحات جديدة بإحساس جديد.

كيف تقرر انهاء لوحتك؟

بسبب الخبرة والتجربة صارت هنالك لغة بيني وبين لوحتي، وهنالك حوار خفي بيني وبينها منذ بدايتها حتى نهايتها . اسمحي لي أن اشرح لك ببساطة. لوحتي تمتاز بعدة طبقات لونية, واحدة تغطي الأخرى تصل غالبا إلى عشر طبقات بدرجات لونية متفاوتة، وبلمسة وحركة حسية متناغمة، عندما تكتمل اللوحة أشعر بها تهمس لي :"اكتفيت". وبما أني واللوحة نتشارك الحوار يبقى قرارنا النهائي مشترك، عادة أترك لوحتي معلقة على جدران مرسمي وأغادر المكان، وفي اليوم التالي عندما أعود نواصل حوارنا من جديد، من النظرة الأولى أعرف إذا كانت اللوحة مكتملة أم بحاجة إلى شيء آخر. عندما تكون مكتملة تكون في غاية الأناقة، وعندما تكون غير مكتملة أو بحاجة إلى لمسة أخرى، يأتيني ضوء من المكان الذي يحتاج إلى لمسات أخرى، فأعود إليه بريشتي ثانية بغرض معالجته أو تكملته بالشكل المطلوب، بعدها أمنح اللوحة توقيعي لأؤكد لها إعجابي بها . ولقناعتي أنها قادرة أن تقيم حواراً ممتعاً مع المتلقي، وحواراً طويلا ًوممتعاً أيضا مع المقتني، فتجعله كل يوم يكتشف سراً جميلاً فيها دون ملل .

بين الضوء واللون من يشاهد لوحاتك يرى انك تتبني الالوان الحارة أكثر من غيرها..هل لازمتك تلك الالوان طيلة مشوارك الفني؟ وما سر تعلقك بها؟

نعم ملاحظة صائبة تماماً، أحب الألوان الحارة وألواني المفضلة الأحمر والبرتقالي، لكني استخدمت كل الألوان في لوحاتي، خاصة وأنني أركب ألواني بالدمج بينها حتى أجد غايتي في خصوصية الدرجة التي أحتاجها للوحتي، وكوني أتدخل على مكوناته كيماويا، ليكون عندي لون خاص بي، وهذا طبعا جاء بالتجربة والبحث الدائم، هذا يجعل من معارضي ولوحاتي مهرجاناً للألوان .

سر تعلقي بهذه الألوان ببساطة كوني عربيا وشرقيا تحديدا، أحمل في داخلي حرارة الشرق التي لم تستطع سنوات الغربة أن تطفئها .

متى تقرر ان عليك ان تغيير لونك او اسلوبك..هل هو قرار فعلا ام احساس يفرض تغييرا غير ارادي؟

الأمر ليس بهذه السهولة،أولا أن يجد الفنان لونه الخاص وأسلوبه الذي يميزه عن غيره و يشتهر به، أمر ليس سهلا إطلاقا وبحاجة إلى جهد وتجربة كبيرتين للوصول للخصوصية في التقنية والحبكة واللون وطريقة المعالجة . وهنا يحدث قرار التغيير فقط في حالة اكتشاف خامة، أو مادة تتناسب مع مشروعي الفني وتضيف إليه شيئاً جديداً و تطوره. ولا أخفيك دائماً يعيش في داخلي قلق كبير على عملي، وهو قلق مشروع كونه ينصب في جانب الحرص على تقديم الجميل والجيد الذي يصل بسهولة إلى المتلقي، ويلامس مشاعره .

كيف يمكنك أن ترى العلاقة بين المتلقي واللوحة. هل هي مرضية بالنسبة لك؟

بحكم إقامتي في أوربا هنا الموضوع مختلف تماماً، والفنون لها أهمية كبيرة لدى المجتمع الأوروبي، هنالك اهتمام بزيارة المعارض، ومشاهدة آخر الأفلام، وحضور الأمسيات الموسيقية، وغيرها من الفنون، ربما أيضا كل ذلك نتيجة لحالة الاستقرار لدى الشعوب الأوروبية، بالتأكيد هذه العلاقة مرضية بالنسبة لي، أما إن كنا نتحدث عن المتلقي العربي فالحالة تختلف تماماً، متاعب العيش وعدم الاستقرار وهموم الحياة الكبيرة تجعل الفنون رفاهية لا يقدر عليها المتلقي العربي، وهو معذور في ذلك، كونه بعيدا عن اللوحة وغيرها من الفنون بسبب الظروف والضغوط التي يعيشها يومياً، وهذا بالتأكيد له تأثير سلبي على الفنان ومنتجه الإبداعي.

كفنان عراقي..أين العراق وحضاراتها في لوحاتك..هل يمكن رؤيتها؟

بصراحة لا أود أن أكون سجين إقليمي ومنطقتي الجغرافية، مع حبي واحترامي الكبير لهما. طالما أنا أخاطب اليوم جمهورا عالميا علي أن أخاطبه باللغة التي يفهمها ، لن أستطيع الوصول إليه أو ملامسة دواخله لو خاطبته فقط بلغتي العراقية، بل علي أن أخاطبه باللغة التي يفهمها لأحدثه عن عراقي وحضاراته القديمة وأستطيع أن أتبادل معه حواراً ثقافياً وحضارياً عبر لوحة بإمكانها أن تصل إلى عمقه وتترك فيه أثراً.

أما هل يمكن رؤية شيء من الحضارات القديمة في لوحاتي؟ نعم أعتقد ذلك، فهنالك الرموز والإشارات واضحة جداً على أنها من حضارات بلاد ما بين النهرين القديمة .

ومن خلال تجربتي وجدت المتلقي الغربي مهتماً جداً بالتاريخ القديم، وما ينبع منه .

يشعر المتلقي ان بعض لوحاتك تذكره بتكوينات الكتابات المسمارية القديمة ..هل تتعمد الاقتراب منها.أم أنها محفورة في ذاكرة الانتماء لديك؟

نعم هذا صحيح جدا أتعمد الاقتراب من هذه التكوينات القديمة بطريقة المعالجة والتكنيك،وحبكة اللون، والحركة، وطبقات الصباغة المستخدمة، أحرص بكل ذلك على أن أعطي للوحة عتقا وقدما ينسجمان بشكل جميل مع الرموز والكتابة المستخدمة، والتي أحصل عليها من المصادر التاريخية، ومن متحفي الخاص المختبئ في ذاكرتي، والذي جمعت فيه الكثير من هذه الصور والرموز الجميلة منذ نعومة أظافري، لا أبالغ لو قلت أحيانا أن المتلقي يستطيع أن يشم رائحة العراقة والعتق في أغلب لوحاتي .

بين المحلية والعالمية كيف يمكن ان تلخص لنا تجربتك الابداعية؟

في رأيي أن التجربة المحلية كانت مهمة جداً بالنسبة لي، وخاصة وأن العراق فيه حركة فنية متفردة، وتجارب تشكيلية مهمة. استفدت كثيراً منها، حيث أعطتني القوة للدخول إلى الساحة العالمية بدون تردد أو خوف، وكوني عراقياً دائماً أنظر للعراق على أنه بوتقة حقيقية صهرت في داخلها الكثير من الفنون والإبداع، تلك البوتقة أعطتني المقومات اللازمة لعرض تجربتي في محافل فنية عالمية وبنجاح بفضل الله، فاستطعت من خلال لوحاتي أن أحاور المتلقي الغربي بسهولة.

من الغربة في الوطن،إلى الغربة خارج حدوده..أين كانت غربتك الحقيقية؟ واين تجد نفسك كفنان وكانسان؟

غربتي الحقيقية كانت في وطني للأسف، وتلك برأيي أصعب وأقسى أنواع الغربة . بينما وجدت نفسي كإنسان في بلاد الغُرب. هنا للإنسان قيمة، وله الحق في العيش بسلام وأمان وكرامة. ووجدت نفسي كفنان فهنا أيضا في بلاد الغُرب هنالك قيمة خاصة وحقيقية للفنان . وفي غربتي هذه تعلمت الكثير وطورت نفسي وفني كثيراً، وساعدتني غربتي بالانطلاق إلى العالم المفتوح دون حواجز وعراقيل .

في الحضارة الاسلامية تتواجد الرمز والاشكال الزخرفية والمنمنمات، هل هناك مسؤولية تقع على الفنان العربي والمسلم بتعريف العالم بالفن الاسلامي..خاصة في ظل ظروف سياسية يتهم فيها الاسلام بالارهاب؟

أعتقد أن العالم يعرف جيداً أهمية الفن الإسلامي وتأثيراته واضحة جداً على الحضارات الغربية، ولا زال الغرب يحتفظ بالكثير من التحف الإسلامية، فلا يخلو متحف كبيرا كان أم صغيرا من وجود الفن الإسلامي ضمن معروضاته، أما عن المسؤولية التي تقع على الفنان أرى أن المسؤولية تقع علينا جميعاً ليس على الفنان وحده أن يتحملها، بل هو إرث حضاري يخصنا جميعاً، وعلى كل واحد منا من موقعه خدمة هذا الإرث ونشره بشكل حضاري مشرف لتغيير الصورة النمطية عن العرب عموماً والمسلمين خصوصاً, فنحن بطريقة أو بأخرى مسؤولون ولو جزئياً عن هذه الصورة السيئة الموسومة بنا كعرب ومسلمين،والتي جاءت وللأسف نتيجة لأفعال البعض ممن يحسبون على المسلمين، أسألك بالله هل ديننا ونبينا عليه الصلاة والسلام حثنا على قتل الناس، وهو الدين الذي يوصينا بالرفق بالحيوان فكيف بالإنسان؟

العراق بلد معروف بتعاقب الحضارات القديمة على اراضيه..كيف اثرت تلك الحضارات في تكوين الفنان لديك..وفي رسوماته؟

بالتأكيد الحضارات القديمة أثرت بي كثيرا، وإن لم يكن بشكل مباشر فتأثيراتها نحملها في جينات الوراثة الجماعية التي تحمل تراث الأمة وحضارتها وشكلها ومميزاتها وتاريخها، و ربما في حالتي كانت التأثيرات وراثية ومباشرة في آن واحد .

وكما أسلفت عن زيارتي للمرة الأولى للمتحف العراقي وتأثيرها بي وأنا طفل صغير، بالتأكيد للفنان حساسية خاصة جداً، وطريقة مميزة للإحساس بالجمال وقراءته، وأسلوب في التعامل مع الفنون . وما كنت أطلع عليه آو أشاهده من القطع الأثرية والرقم الطينية والمنحوتات التي خلفها لنا أجدادنا القدماء، والتي توقفت أمامها مذهولا بعبقرية السومريين والبابليين والآشوريين، وما أنتجته أناملهم من جمال أوصلني حد البكاء أحيانا، كيوم وقفت أمام بوابة عشتار التي تشمخ في إحدى متاحف برلين. وليس خفياً أن حضارات بلاد ما بين النهرين استطاعت أن تؤثر على الحضارات الأخرى، وقدمت الكثير للإنسانية، وكوني حفيد هؤلاء العظام لي الفخر والحق في أن أغترف الكثير والكثير من هذا التاريخ العراقي القديم الحافل بالسحر والتمائم والرموز، وأقدمه بطريقة معاصرة .

اثناء معارضك..هل هناك موقف بقي في الذاكرة تحب مشاركتنا به؟

نعم هنالك مواقف حصلت. لكن أحدث هذه المواقف ما لامس قلبي وأفرحني كثيرا في معرضي الأخير في مدينة جنيف، جاء إلى المعرض كاتب سويسري بغية شراء لوحة من المعرض ليقدمها هدية لزوجته بعيد زواجهما الثلاثين, زوجته فنانة وأستاذة للموسيقى تحب عملي كثيراً، وعلى جدران منزلها علقت أكثر من 12 لوحة من لوحاتي ..

كان ذلك الموقف مؤثراً جداً، وربما ملفتاً أيضا، فكم من الأزواج يفكر في إهداء لوحة لزوجته؟! تلك لمسة في غاية الرقة..لا أستطيع نسيانها.

ما هي اهم المعارض التي اقمتها وشاركت فيها؟

قدمت أكثر من عشرين معرضاً شخصياً، توزعت في دول عربية وأوربية، وعدد كبير من المعارض الجماعية، ومنها العالمية توزعت بين أمريكا ولندن وايطاليا وفرنسا وسويسرا بلد الإقامة، واليابان وكوريا الجنوبية، ولوحاتي بفضل الله توزع في معظم دول العالم.

من الرسم الى التصوير الى الاخراج..كيف كانت حركة التنقل؟ وما هو الرابط بين الفنون المرئية الثلاثة؟

الرسم والتصوير هما تخصصان درستهما أكاديمياً، بالإضافة إلى شغفي بهما، أما الإخراج فهو هوايتي والرابط المشترك بين الثلاثة الحس والصورة المعبرة والتناغم البصري.

كيف انطلقت فكرة مركز فضاء الشرق الثقافي؟

فكرة فضاء الشرق الثقافي جاءت من خلال الأمسيات التي كنت أنظمها في مرسمي الخاص، فكرت في تطويرها لإقامة أنشطة ثقافية متنوعة. اقترحت الفكرة على أصدقائي المهندس نادر موسى والصديق المرحوم السينمائي نبيل نديم فرحبا بالفكرة وتعاونا معي. وعملنا كثيراً على تغيير ديكور المكان، وإعطائه مزيجاً متناغماً من الروح الشرقية حيث ننتمي، والروح الأوربية حيث نعيش.

كان عملاً ممتعاً ورائعاً.. يوم افتتاحه كان عرساً جميلاً حضره أكثر من مئة شخص من جنسيات مختلفة، لكن كالعادة هنالك من يقف لك بالمرصاد لأي نجاح ،تقدم شخص عربي أعرفه جيداً بشكوى إلى السلطات السويسرية مدعياً أن المركز وراءه جهات مشبوهة، مما أدخلني بإشكالات كبيرة ومتعبة جداً، خاصة أنه حينها كان العالم يعاني تداعيات أحداث 11 سبتمبر .. أدخلني ذلك المحكمة واستمرت التحقيقات أكثر من ثلاثة شهور وبعدها تبينت براءتي ، ولكن هذا سبب لي إحباطاً كبيراً، ولكنه لم يمنعني من عمل الكثير من الأنشطة الثقافية والمعارض الفنية في مرسمي.

ما الذي دفعك الى ابتكار طريقة الفيديو في عرض الفنون المتنوعة من رسم وشعر وادب؟

من طبيعتي أحب الفنون البصرية، ويعجبني العمل والإنتاج وفي موضوع الفيديو، فاستثمرت فيه وقت فراغي ابتدأت بعمل أشرطة للوحاتي مع إدخال أو مزج الموسيقى بالعرض، وبعدها ارتأيت أن يكون هذا الجهد من نشاط مركز فضاء الشرق الثقافي، وفعلاً قدمت عدداً من الفنانين والكتاب والشعراء من جنسيات عربية مختلفة ، ووصلت الأفلام التي أنجزتها إلى أكثر من 60 فيلماً، بين الفن التشكيلي، والشعر، والقصة، والموسيقى، والغناء، أستطيع أن أقول الدافع مشترك بين تقديم الجمال بطريقة بصرية معاصرة، وخدمة الآخرين، وتطوير مهاراتي الفنية .

مجلة الوان ثقافية ..كيف بدأت فكرتها؟

بدأت الفكرة بإنشاء مجلة الكترونية متخصصة بالفن التشكيلي، لكنني وجدت أنها محصورة ومحدودة،خاصة أنه تربطني علاقات طيبة ومهمة مع عدد من المبدعين العرب من كتاب وشعراء وفنانين في مجالات مختلفة، ففكرت لماذا لا أشرك كل هؤلاء المبدعين بمشروع أكبر وأكثر شمولية؟ فكتبت لهم شارحاً فكرتي ورحبوا بها وتعهدوا بالوقوف معي لإنجاحها، وبإصرار كبير، وإمكانيات مادية متواضعة جداً، استثمرت فيها إمكانياتي الفنية والتقنية، وأعطيتها وقتاً كبيراً، وجهداً استثنائياً، وصارت ألوان رائعة بشكلها ومضمونها وجميلة ومهمة بكتابها وقرائِها وحضورها، والجميل فيها أنها مجلة ثقافية اهتمت بكل المجالات الإبداعية والفنون بعيدة كل البعد عن التطرف والسياسة، وأنها تعتبر المجلة الأولى في أوربا كمجلة ثقافية عربية، كما أن أسرة المجلة لا تنتمي إلى بلد عربي محدد بل من كل بلد عربي زهرة ..

سُئلت مرة من أحد الكتاب الأردنيين عن المؤسسة التي تقف وراء مجلة ألوان ثقافية، كونه يراها بشكلها وإخراجها المتميز وكأنها من مؤسسة تمتلك ثروة، فأخبرته أنه جهدي أولاً، ومادياً أغطي تكاليفها من خلال ما أبيعه من لوحاتي، فاستغرب وقال :" هذا موجع..". لكنني أراه ممتعاً وليس موجعاً .

تعرضت مجلة الوان الى تخريب متعمد؟ من كان برأيك وراء ذلك وما السبب؟

نعم بتاريخ 11/11/2010 وفي ساعات الصباح الأولى كنت ساهراً على إخراج وإصدار العدد السادس عشر منها، عندما تعرضت المجلة للتخريب، في حينها اعتقدت أنه مجرد خلل في شبكة الانترنت، لكن في اليوم الثاني تأكدت أنه تخريب متعمد للأسف، آلمني ذلك كثيراً، ولم أستطع أن أستوعب فكرة أن يقوم شخص بتدمير عمل وجهد الآخرين دون مبرر، ولكن لا أحد يستطيع إنكار وجود أعداء النجاح أصحاب العقد النفسية والأمراض المستعصية.

رغم ذلك أعد من قام بتخريب المجلة بأنها ستعود أقوى من ذي قبل، وسأعيد أرشفة ما ذهب منها، ليبقى متعة لجمهورها الواسع.

أخبرنا عن علاقتك بالكاميرا وبالتصوير؟

لي عشق خاص للكاميرا في البداية تعلمت التصوير من الكتب والمعارف المتخصصين بالتصوير،وفي السادسة عشرة من عمري كنت أعمل في فترة العطلة المدرسية مصوراً متجولاً، أدور في الأحياء، ويطلبني الناس لتصوير مناسباتهم . ومن ثم تطورت الموهبة بالدراسة الأكاديمية، وظل التصوير هواية أحبها كثيراً، فلم أسعَ إلى الاحتراف، غير أنني استفدت منها لتوثيق لوحاتي الفنية، ورغم أنني عضو في جمعية التصوير العراقية لكنني للأسف لم أستثمر هذه العضوية بالمشاركة بنشاطات الجمعية الهامة التي كانت تقيمها في بغداد، ولكن من يدري ربما أقمت معرضاً ضوئيا ذات يوم، إن وجدت وقتاً ورغبة في ذلك.

الحوار للكاتبة لبنى ياسين





. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

في معرض التشكيلي فائق العبودي: بحث في خصوبة الذاكرة وتجسيد الموروثات الشعبية

المعرض الشخصي الثاني فائق العبودي.jpg

حازم سليمان 12 أكتوبر 1998 اطلالة جمعية الامارات للفنون التشكيلية الاولى لهذا الموسم جاءت مع الفنان العراقي فائق العبودي الذي افتتح معرضه الشخصي الثاني مساء امس الاول بمقر الجمعية بالشارقة, ويأتي هذا المعرض بالنسبة للفنان بعد تجربته الفردية الاولى عام 1996 ومجموعة من المعارض والمشاركات الجماعية . وعندما نقول ان هذا المعرض هو التجربة الفردية الثانية للفنان فهذا لا يعني اننا امام اعمال وتجارب عادية يمكن المرور امامها دون ان تلفت الانتباه وتقدم اشارات واضحة المعالم الا ان فائق العبودي فنان موهوب يحمل في تجاربه رؤية ابداعية ومناخات بصرية يسعى لتجسيدها والتعبير عنها وفق جملة من الاختزالات والمزاوجات الرمزية والخوض في غمار العوالم التجريدية والتعبيرية باستحياء المجرب والباحث عن خصوصية ما تمثل ما يدور في اعماقه. فائق العبودي من اولئك الفنانين الذين اسرهم التاريخ واستوقفتهم الخصوصيات الحضارية بكل مافيها من ابعاد واعماق واوجه متعددة يمكن التأمل فيها والخروج بنتائج مثيرة, ولذلك فان الاستغراق في عوالم الرموز الحضارية هو السياق الموضوعي الذي يجمع بين عموم اعمال الفنان وفق استحداثات وتوليفات بنائية وايقاعية تحاول ان تعيش الحداثة واللحظة الراهنة دون قطعها عن حيوية الاستمرارية وحركة الزمن الذي لا يتوقف. ثمة قراءات واضحة المعالم يقوم بها الفنان لتراثه وموروثه الذي يحاول ان يضع منه عالما جديدا متداخل العناصر والمفردات, ومن عالم الموروثات هذا تنهض اللوحة لديه متمسكة بخصوبة الرمز والايحاء مفتوحة على لعبة الدلالة التي يوظف فيها جملة من التفاصيل المتناغمة حينا والمتعارضة حينا آخر وتظل الغاية النهائية تجسيد بيئة العراق التي ينتمي اليها الفنان ويحاول ان يعيشها وان يتقمصها لونا وكتلة وفراغا. يركز الفنان في تجاربه على جملة من الصياغات الجديدة للمفردة التراثية التي يحاول رصدها والتعبير عنها, يؤسس لها خلفيات لونية صلبة, يبني عليها اشكاله العضوية والهندسية دون ان يجعل من اللوحة تصل الى حالة مستقرة او نهائية, وكأنه بذلك يريد ابراز كل مفردة على حدة ومنحها حالة من الخصوصية تمثل مرجعيتها الحضارية الاكادية البابلية وغيرها من الحضارات التي يستمد منها العبودي عوالمه. وبالرغم من ان اللوحة لديه توحي بوجود بنية شديدة التماسك الا ان هذا التماسك لا يقوم على التداخل اللوني والشكلي والموضوعي, بل من خلال ايقاعية واضحة وجدلية موسيقية تمنح التجربة ذلك التدفق والتجانس الذي يجمع الجرئيات المتعددة في سياق واحد, غير ان هذه الاعمال لا تخفي تلك الشحنات العاطفية العفوية التي يعيشها الفنان لحظة التجربة, ولا تغيب تكويناته البدائية التي يخضعها الفنان على مايبدو لرؤية واعية وطقوس تجعل من حيوية وجدلية عناصرها, دلالة على حيوية وخصوبة مرجعيات هذا الفنان التي تضع عينا على الآوابد التاريخية وعينا اخرى على عوالم الحداثة ومتعة التجربة والمغامرة. تطرح اعمال هذا الفنان سؤالا ملحا حول علاقة المبدع بالمكان ومايترتب عليه من تراكمات في الذاكرة الواعية التي لا تسقط في شرك الجماليات السطحية بل تمشي باحثة في كوامن الجمال ومواقع الادهاش البصري والدلالي, ولذلك نجد في اعمال العبودي حالة من الانتقائية المتصرفة التي تخضع مفردات المكان لسطوة الزمن المتجدد والمتغير والتي لابد ان تقضي الى حالة شبه عدائية بين الكتلة الثابتة والابعاد المحيطة بها التي تمثل بشكل من الاشكال الزمن والسياق المتحرك والمتجدد. احجام لوحات هذا الفنان صغيرة ومتوسطة, وقد تكون هذه الاحجام التي يعتمد عليها ساعدته كثيرا في ضبط عناصره ومستويات اللوحة بصورة عامة وجعلته قادرا على تحديد ابعاده اللونية والشكلية غير ان من يتملى في هذه التجارب لابد ان يلحظ مشكلة الضوء الذي لا يأخذ حقه بالتفاعل مع اللوحة, اضافة الى ذلك الزخم الرمزي غير المقنع في بعض المواقع الا ان التجربة بحد ذاتها مثيرة وتستحق التأمل مليا للاحاطة بها وبعوالمها. تجارب فائق العبودي غنية وخصبة تبحث وتتأمل, غير مسترضية لبساطة الايحاء, تزاوج بين العفوية والصرامة, التدفق والتحكم, تنظر في اللحظة تجردها من شوائبها وتعقد بينها وبين مرجعيتها التاريخية مقاربات جمالية وفكرية لتصبح اللوحة حالة بحثية لفنان لا تزال لديه الفرصة ان يتابع التجربة بكل مافيها من جرأة وخصوصية وصعوبة.




التشكيلي العراقي فائق العبودي ما بين الحضارة والحداثة

لوحات فائق العبودي.jpg

مخلّــد المختار استاذ فن وفنان تشكيلي


إن الحضارة بمفهوم شامل تعني كل ما يميز شعب أو أمة عن أمة وشعب آخر، من حيث العادات، والتقاليد، وأسلوب المعيشة، والأزياء، والتمسك بالقيم الدينية، والأخلاقية، وممارسة بعض الطقوس التي تتعلق بميراث الأجداد للأحفاد، ومقدرة الانسان في كل حضارة على الإبداع في الفنون والآداب والعلوم.

أما الحداثة: فيمكن أن تقدم نظرة ثاقبة للثقافة المعاصرة، وهي تشمل جميع الجوانب الحضارية المتوارثة عبر الأجيال، بوجود الانسان، والحيوان، والزمان، والمكان، والحداثة مسار مطلق،ومفتوح، لا يحدد بنهاية، وإنما يحدد هذا المسار بوقفات إبداعية في كافة مجالات الحياة.

وهنا نتحدث عن الفنان التشكيلي العراقي فائق العبودي كسمة متقدمة، وحالة متميزة ما بين الإرث الحضاري، والحداثة.

في نهاية القرن العشرين ظهر تيار من الفنانين الشباب في العراق، ويزخم كبير، هؤلاء الشباب ممتلؤون بالأفكار المتأثرة بالموروث الحضاري والشعبي، إضافة إلى تأثيرات المدارس والأساليب الفنية الحديثة، وبحرية التعبير والاختيار والتصرف، اختار كل شاب طريقه البحثي، نحو تجربة ذاتية، ومن هذا المخاض الواسع المتغير، استطاع عدد قليل من هؤلاء الشباب الدخول إلى حقيقة المفاهيم والتصوير للموروث الحضاري والشعبي والمحلي، " وهو موروث حضاري عميق وغني- إنه موروث حضارة وادي الرافدين "الغني بجوانبه الحياتية المختلفة عبر الحقب الزمنية المتراكمة منذ مهد الحضارة الأول - الحضارة السومرية، وهؤلاء الشباب على قلتهم كانوا يمتلكون احساس جمالي ، ورؤية متجددة للقيم الثقافية والفنية، وأخص في مجال الفنون التشكيلية العراقية منها والعالمية.

الفن التشكيلي العراقي المعاصر زاخر وثري، بما قدمه من فنانين عراقيين تشكيليين كبار على مدى أكثر من قرن ابتداء من عبد القادر رسام، مروراً بتأسيس معهد الفنون الجميلة عام 1936م، وافتتاح قسم الفنون التشكيلية في بداية الأربعينات من قبل الفنان التشكيلي جواد سليم، والفنان فائق حسن، بعد استكمال دراستهم في روما، ولندن بالنسبة لجواد سليم، ومن فرنسا بالنسبة للفنان فائق حسن، وامتدت الأعوام وكان ولا يزال التاريخ حافل بتطور الحركة التشكيلية العراقية بالرغم من الأحداث التي مرت على العراق، من ثورات، وحروب، وسياسات مختلفة، إلا أن الفن التشكيلي ، وكسائر الفنون الأخرى لم يتغير مسارها، لأن جذورها تاريخية، وحضارية عميقة.

ولنأتي ونختزل الزمن والحقب التاريخية، للوصول إلى بداية سنوات التسعينات من نهاية القرن العشرين.

ظهر الفنان التشكيلي فائق العبودي - وهو عراقي متجذر بالحضارة السومرية- في بداية التسعينات، واستطاع بمثابرة ذكية أن يتقدم ويصبح في الخط الأول للفنانين التشكيليين العراقيين الشباب، وبرز بأعماله الفنية التقليدية منها، والبحثية المخفية تحت المشاعر والأحاسيس نحو التجديد، واستطاع أن يقدم مشاركات متواضعة ضمن المعارض الجماعية التي كانت تقام على صالات وقاعات الفن التشكيلي في بغداد، مواصل ومتابع بروح متقدة وجادة، وبحيوية الباحث المتبصر ، وكان الطموح لا يفارقه، الذي تملك الفنان آنذاك للوصول إلى هدفه المنشود والصحيح، لكي يواصل مشواره البحثي الفني، وكان يصارع الواقع، ما بين وضعه الاجتماعي، وظروف الحياة، وما بين أحلامه ، ومصاحبة الزمن الصعب، والأفكار التي كانت تراوده في كل خطوة يتقدم بها، إلى أن وصل الحال به إلى أن يتخذالقرار بالهجرة إلى بلد أوروبي، ليعيش محيطاً أوسع من الحرية والانفتاح، لأنالسنوات التي ظهر فيها الفنان فائق العبودي، كنت سنوات عجاف، فهي سنوات الحصار القاسي على وطنه وشعبه، هذا الحصار الذي حرم العراقيين من التمتع ليس بالحياةوالعيش فقط، وانما من قدرتهم على اكمال بحوثهم العلمية والفكرية، زالفنية، وأشياء أخرى تدخل في صلب التطور والحداثة.

والكثير من أمثال الفنان العبودي، غادروا أرض الوطن، من فنانين شباب بمختلف الاختصاصات الأدبية والفنية، من أجل الطموح، لتوسيع دائرة مشاركاتهم الفنية والأدبية لاغناء تجاربهم نحو الابداع، وبعيداً عن أي تصور آخر، كان هدف الكثير منهم هو ممارسة الفن والأدب أولاً وأخيراً.

كان الفنان فائق العبودي من ضمن هؤلاء الشباب ، واستطاع وبأعوام الغربة وشظف العيش والمعاناة أن يثبت بصمته الإبداعية في الفن التشكيلي العالمي، بالرغم من قصر السنوات التي قضاها كمغترب يعيش في سويسرا "لوزان"، وهو يحمل هموم كثيرة، هموم الوطن والغربة، وبرفقة أطفاله الثلاث، بعد أن فقد زوجته التي كانت يد العون له في الوطن.

الفنان التشكيلي العراقي فائق العبودي تحمل عبء الكثير من المعاناة الحياتية، وبجهادية كبيرة، استطاع أن يجتاز الكثير من العثرات بحيث يقف الآن على بوابة تشرف على عالم متجدد بأعماله الفنية التي نشاهدها حالياً.

• الحديث عن الأعمال الفنية للفنان العبودي:

من الوهلة الأولى للنظروالاطلاع على لوحاته الفنية، ومن خلال النظرة الحسية التي تطلقها العين على كل جزء من أجزاء اللوحة، فإذا برموز ، وأشكال، وألوان تتهافت وتزدحم، وفق سلم موسيقي متفاعل، وبذبذباتها المتجاسة منها والمختلفة، وتأثيرها على أذن المشاهد بحيث أن اللوحة تعزف لحناً، يختلف عما نسمعه من أحان نغمية تقليدية، وعندما يتم التركيز والتفاعل مع العمل الفنيالمنتج للفنان العبودي، ينتابنا شعور التنقل ما بين الزمن الماضي والحاضر ، مروراً باللحظة التي تفسر لنا الفارق ما بين الفن القديم، والفن الحديث.

كما يرافقنا شعور نفسي وروحي، بمحاكاة المساحات اللونية، المتضادة منها، والمتآلفة والأشكال المختلفة، الغئرة منها، والبارزة، وعندما يتعمق المشاهد في النظر إلى اللوحة تنعكس الرؤية البصرية للاتصال بالتفكير، وهنا يبدأ الحوار والتساؤل عند المشاهد: ما هو السبب الذي أوقفني لمشاهدة اللوحة؟ ولماذا أفكر؟

فلا بد أن يكون هناك استجابة، أو جواب يفسر لنا مدى القيمة الفنية الابداعية التي يعكسها العمل الفني تجاه عين المشاهد، ولعبة التناغم ما بين الارتياح والانفعال، بحيث أن المشاهد يغادر العمل الفني وهو في حلم دافئ، ولا يسعفه الحال إلا أن يعود لمواصلة التفكير بما شاهده من أشياء، وأشكال، وألوان، دخلت على عالمنا الصاخب المبعثر، لتشارك الأعمال الابداعية، وتفيض عليها بعضاً من سمات الجمال، والتفكير، من أجل تنظيم السلوك الانساني، وانقاذنا من بعض الصخب الذي أصاب حياتنا، إن كان سياسياً، أو اقتصادياً أو فكرياً.

من يمتلك ثقافة غنية بالموروث الحضاري، والتراث الانساني، سيجد أن هذا الحوار مجدٍ، وايجابي في آن واحد، وصولاً إلى الاعجاب والتمتع بهذه الأشكال الإبداعية ، المستجدة من تراب أرض غنية بالكثير من فلسفة الحياة، منذ وجود الانسان وظهوره في أرض سومر، وبابل، وآشور وأكد.

لوحات الفنان العبودي سيمفةنية حضارية خالدة، هكذا يتصور المشاهد الذي يتصف بثقافته الفنية الواسعة، أما رؤية المشاهد الطبيعية، المحب للفن التشكيلي فإنه يتمتع باحساس مغاير ومختلف، وقد ترجح كفة الميزان نحو الجانب الجمالي، والايقاع المتفق مع احساسه وفق ذبذبات التناغم اللوني، والاشكال المنعكسة برموز طلسمية ،والتي لا تخلو أبداً من شاعرية المضمون المخفي.

تأخذنا هذه الوقفة ، وهذه الرؤية للتوسع في قراءة الجانب الرمزي والفلسفي، وحتى الميثيولوجي في أعمال الفنان العبودي، وهذه الرموز التي التقينا معها تشابه تلك الرموز التي استخدمت عبر حضارات مختلفة عاشتها البشرية منذ الخليقة الأولى ، منها ما اتفق عليها، والقليل ما اختلف حولها، هذه الرموزوالطلاسم استخدمها الانسان البدائي،كأثر يترك على الأماكن التي عاش فيها وسكنها، كالكهوف ، وأماكن أخرى، وهناك التصق الانسان بظواهر التعرية الطبيعية، التي أخذت أشكال ترمز إلى عوالم مختلفة، ظهرت في أماكن واسعة من هذا الكون المسكون، عبر آلاف السنين، كالتماثيل الصخرية التي ظهرت في جزيرة الماواي في "تشيلي".

إن متطلبات المعرفة حول هذه الظواهر ، لا يزال الانسان يبحث في مجالاتها، كأشكال فنية جمالية، فكرية، حسية، سحرية، ميتافيزيقية، وترتكزهذه البحوث على الأساس الهيكلي في العلوم الانسانية للوصول إلى نتائج علمية منها، وفلسفية أفقية البحث والمساحة المفتوحة، ما بين الانسان ، والطبيعة، والوجود.

الفنان فائق العبودي، عندما يريد أن نتلمس وجدانيته، نحسها في التشكيل الصوري، هذا التشكيل الذي امتلأت فيه المساحات المرئية في كل عمل فني قام بتنفيذه، من انغماس لوني، وعناصر جمالية وايقاعية، مسكونة بالإرث الحضاري العراقي، والفنان فائق هو ابن حضارة سومر، الذي انغمس في نسيجه الفطري، وفي تكوينه الجيني والفيزيولوجي، المتوارث عبر مئات السنين، وهو امتداد الأحفاد للأجداد، ويظهر هذا الموروث في أعمال الفنان العبودي بأشكال رمزية، وكأنها تتحدث عن أساطير سابقة، وحكايات لاحقة مستقبلية، تتواصل بسلسلة الابداع والرقي، ليحقق نسبة من الجمال الظاهر منه، والمخفي هو الأكثر، ليشكل توافق ذهني شفاف بين العمل الفني، والمتلقي "المشاهد"، وعندما نستمر في متابعة الأعمال الفنية المنتجة للفنان، سنكتشف الجديد من المواضيع، والدلالات، وما طرأ من متغيرات في انتاجه الفني، نحو تواصل الابداع لاغناء حياة الانسان في هذا العالم الصاخب.

إنه ليس من الغرابة لدى الفنان العبودي، أن يتحدث عن مكنونان يعيشها إن كانت ضمن العقل الباطني، أو حالة يمارسها بشكل طبيعي، من خلال تفاعله مع المحيط الذي عاش فيه سابقاً، والمحيطالجديد الذي يعيشه حالياً، ولكن الفنان يبقى في مساحة التداعيات والتطلعات للبحث عن رؤى جديدة، وعن إبراز ما يخفيه من مشاعر داخلية معفرة بنمط حضاري وتراثي أصيل، ولديه مخيلة واسعة، تظهر عبر الرموز والأشكال التي يستخدمها بألوان ذكية تتفق مع السلم الإبداع الفني، وهذه الرمزية تساعد الفنان على انصرافه الكلي في تنوع لغته، وتوافق هذه اللغة مع مختلف لغات العالم.

وهي لغة مستمدة من الخطوط المسمارية، والنقوش البابلية، والآشورية، والأكدية، لكن باختيار مستحدث معاصر، متوهج بالحيوية، باخراج لوني متنوع، وتقنية متوازنة مع بقية العناصر الفنية التي استخدمت في اظهار ونتاج اللوحة لدى الفنان العبودي.

الفنان فائق العبودي يرسم الواقع الذي يتخيله برمزية ذكية، والمعاني لهذه الرمزية قد تداخلت مع أحلامه، وتواصلت إلى مدلولاتها، وكشوفاتها، لتصل في النهاية إلى تأثيرات يعكسها الواقع التنفيذي على اللوحة، بمفهوم حسي مملوء بشغف الإنسانية، المتأثر بما تعرض له الفنان، ومجتمعه العراقي من ألم وفرح، وحب وتضحية، وحاجة واغتراب، وغيرها من العثرات لمركونة على طريق المفهوم الإنساني، لكن الفنان استطاع أن يستمر في الطريق الصحيح بمحرك وشعور الهمة القوية والإصرار لتحقيق هدفه الإبداعي لإغناء المفهوم الإنساني الذي التصق به كفنان.

لا بد أن أختم هذا المدخل البحثي، وليس النقدي، بالحديث عن الفنان العبودي، على أنه مدخل ارشادي ليغير، ويبين لنا أهمية البحث والمتابعة لأعمال الفنان الموجودة حالياً، واللاحقة منها مستقبلاً من نواحي وجوانب مختلفة في المسميات والمواضيع والأشكال، وما هي معاني هذه الأشكال؟

ولاستكمال هذا المدخل البحثي، لا بد وأن نضع التساؤلات التالية:

• ما هي معاني الأشكال والرسوم المستخدمة في أعماله الفنية؟ وأصولها وتجذرها؟

• ما هو مضمون العمل الفني وأبعاده الفكرية والحسية؟

• السمة الجمالية الكامنة منها والظاهرة في أعماله الفنية؟

• مدى تفاعل المتلقي كمشاهد للأعمال الفنية التي يعرضها الفنان العبودي، وما هي ردود الأفعال؟

• الجانب الفكري والفلسفي في أعمال الفنان؟ وهذا الجانب مهم جداً، وقد يتوسع على مدى حياة الفنان، مادام الفنان يسعى لتقديم نتاجه الفني المتعاقب عبر المعارض الفنية الشخصية، أو المشاركات في معارض ومهرجانات تشكيلية العربية منها والدولية؟

• مجموعة الظروف والظواهر الجديدة المحيطة بالفنان، وتأثيراتها؟

• البيئة الطبيعية التي تحيط بالفنان، من شمس وغيوم وجبال وسهول وأمطار وغابات وبحار؟

لقد أصبح تطور العمل الفني بتطور الفنان، وهذه بديهية ، فكلما زادت خلايا المعرفة لدى الفنان، كلما اغتنت الوحدات المستخدمة في عمله الفني ، وبتجاوز الفنان نطاق الحركة الساكنة إلى المتحركة، في ارتباط تكاملي مع التقدم الحضاري المعاصر، يحدث التفاعل الايجابي في تطوير العمل الفني.




. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

قراءة في تجربة الفنان فائق العبودي

تجربة فائق العبودي.jpg

د. حسن السوداني


ترى الدراسات الجمالية إن الميزة الأساسية للفضاء في اللوحة هي إمكانية تنظيم مرجعي لأجزاءها المتفاعلة وعليه فإن لهذه الأجزاء قيماً متساوية من الناحية البنيوية وأن جمعها في فضاء واحد يجانسها أو يباينها على اعتبار الحقيقة الجشطلتية (الكل يمثل الجزء والجزء لا يمثل الكل) فإن حدث التجانس فذلك مدعى مريح بصريا ينتج استجابة غير متوترة،

أما إن حدث التباين فإنه سينتج نوعاً من التوتر يجب أن يتبدد بـاستخدام البعد الثالث ولا ينتج هذا البعد إلا من خلال الحقل المرجعي للمنتج الفني والذي يتيح للمشاهد أن يربط بين الأجزاء المتشابهة والمختلفة ومن ثم قدرته على إدراك هذه الترابطات, وهو ما انتبه إليه الفنان فائق العبودي من خلال استخدامه المدلول الميثولوجي على اعتباره مرتعاً خصباً للمتلقي من ناحية، ويكشف اهتمامه الخاص بالأسطورة ومفرداتها من ناحية أخرى ففي العديد من لوحاته تظهر لنا الأسطورة بثياب مختلفة، فهي أحيانا تأتي بشكل ثنائية الخير والشر وتتجسد بشخوص اسطورية استدعاها من الملاحم والاساطير العراقية القديمة واحيانا تاخذ شكلا رمزيا من خلال رموز عراقية محددة كالحروف المسمارية مما يخلق عالماً مختلفاً تماماً وفي هذا النوع من التعبير نجد أشكال لـ( فكرات) توحي بالبشاعة أو الخوف أو عوالم من السحر البدائي، وأحيانا يظهر على شكل مفردات اخرى ذات مدلولات متعارف عليها في الدراسات الاسطورية.

اختيار الأسطورة لدى الفنان فائق العبودي هي محاولة لادراك سرها المخبوء تحت طبقات من السنوات السابرة في القدم فهناك كثير من الأشياء ندركها و نعرفها و لكننا عندما نريد الحديث عنها لا ندري ماذا نقول و من أين نبدأ و إلى اين ننتهي . فلهذا يقول " يونغ " ( كل المحاولات الذي بذلت لتفسير الاسطورة لم تساهم في فهمها بل على العكس زادت في الابتعاد عن جوهرها ) . في حين يحاول " ستراوس " ان يحدد معالمها بالقول : ( الاسطورة هي حكاية تقليدية تلعب الكائنات الماورائية ادوارها الرئيسية ) . فما هي وفقا لهذا التعريف كائنات العبودي الماورائية؟

يؤكد الفنان العبودي من خلال منجزه التشكيلي على هذا الجانب معتبرا أن الأسطورة حالة ذهنية أو عقلية مكملة للفكر العلمي من حيث أنها تنبع من الرغبة في الإيمان الذي يساعد الإنسان على مواجهة الأزمات الكبرى وكما هو معروف أن للقوة المقدسة في الأسطورة شقان متضادان إذ كان الخطر يهدد السلم والرخاء اللذين أرتبط بقاؤهما بكبح القوى التي تهددهما ومن هنا فإن استخدام الأسطورة في ملئ الفضاء داخل اللوحة، مكن المتلقي من أن ينتج علاقة محددة بين الأجزاء المتفاعلة ويمكن أن نستدل من هذا الأمر سلفاً من خلال تحكم الفضاء الدال بجميع العمليات التي تحدث ضمن الحقل المرجعي لوجهة النظر المتنقلة في أجزاء اللوحة وهنا نصل إلى النقطة الأكثر أهمية في استخدامات الفضاء ألا وهي ربط الأجزاء وتأسيس العلاقات المحدد بحيث يتشكل حقل مرجعي يكون لحظة قراءة معينة،

وهو ما يتعارف عليه نفسياً بلحظة اتخاذ القرار وهذا التشكل يكون بنية قابلة للإدراك وهو ما عبر عنه ارنهايم (الفضاء هو الوحدة التنظيمية الدنيا في عمليات الاستيعاب كلها) ولكون تجربة الفنان فائق العبودي تاخذ ابعادا تطورية مختلفة تتموضع بين التعبيرية والواقعية التشخيصية فإنها تستخدم نوعا من الإيقاع غير التمثيلي الذي ينتقل فيه البصر بين أجزاء اللوحة دون محددات أو عوائق بصرية، ويحاول أن يخلق نوعاً من التكوينات في أجزاء معينة من اللوحة تنقاد العين لها لا إرادياً بفعل الإيقاع غير التمثيلي فيتحوّل هذا الجزء منها إلى موضوعة اللوحة الأصلية، وتصبح هذه الموضوعة هي الخلفية التي تنعكس عليها فعلية الجزء التالي والذي سيتّخذ ميزتها وهكذا تستمر المتوالية في التكوين والتأسيس المتعدد، وعندما يتأسس موضوع جديد في جزء جديد يصبح الجزء السابق أقل أهمية تاركاً للجزء الجديد أن يأخذ مساحته من اهتمام المتلقي دونما نهاية.

ولعل من بين الإجابات المحتملة أن هذه الاستخدامات داخل اللوحات يعطيها بعدا حياتيا, خاصة إذا ما كانت لهذ الاستخدامات علاقة مباشرة بالثيمة داخل اللوحة لكنها ستأخذ مدلول أخر يبتعد كثيرا عن الفهم البسيط والمباشر لذلك الاستخدام وكذلك تاخذ معان وموضوعات متشضية ومغايرة لاستخداماتها الطبيعية فربما يحيلك إلى بشاعة المستحدثات الذي اجتاحت حياتنا بطريقة تكاد تقطع أنفاس اللاهثين وراء جديده دون جدوى وهي استخدامات تساعد على بلورة الحدس الشخصي للمشاهد وبالتالي تخلق الحميمية أو التعاطف الذي يؤكد عليه المنهج, وإذا كانت هذه العملية تدفعك كمشاهد إلى نوع من افتراض البعد الثالث وهو بعد يفترضه الفنان كجزء من عمليات التأثير المباشر على مدركات المشاهد الحسية فهي في واقع الأمر نوعا من ربط الفجوات الناتجة من افتراضات الحدس نفسه والباحثة في نفس الوقت على معززات بصرية معينة يحاول الفنان هنا أن يوفرها من خلال تدرجات مختلفة تشغل حيزا من الفراغ داخل اللوحة يصل أحيانا إلى درجة كبيرة من المساحة القياسية لها وإذا عدنا لوظيفة الفراغ في اللوحة الفنية وفقا للمنهج السبتزري فأنه يتحدد في إمكانية تنظيم الأجزاء المتفاعلة داخل المنتج الفني أي أنه يلعب دور الإطار الذي يمارس تحكما قصديا للعمليات البصرية التي تبثها اللوحة التشكيلية وهي تشبه إلى حد كبير عملية المونتاج السينمائي أو التلفزيوني ففي اللقطة القريبة أو القريبة جدا يعمل المخرج الحاذق إلى توجيه المشاهد بشكل قصري إلى الصورة التي يريد ولا يترك للمشاهد أي خيار أخر سواها وهي عملية مشابهة لاستخدامات الإضاءة المسرحية التي تستخدم مبدأ العزل داخل العلبة المسرحية لتوجيه عملية المشاهدة إلى بؤرة بصرية محددة ومن هنا فأن الطريقة التي يستخدمها الفنان لتحديد مراكز الاهتمام وإبراز الفكرة فضلا عن إثارة الاهتمام وإسناد الحدس وإقامة نوع من العلاقات الحميمية وبالتالي لم يكن استخداما كماليا بغية التغريب في التوظيف وهو ما يدعونا لإعادة تساؤلنا الذي بدأنا حول وظيفة الفن الحقيقية ويؤكد أيضا على جدية الفن التشكيلي الحديث في الانتقال من الجانب الكمالي إلى الضفة الفاعلة التأثير في الإنتلجسيات المعاصرة و قدرتها على التمازج بين التقنية الغربية والمخزون الحضاري العميق للفنان فائق العبودي.



دلالة العلامات والرموز في منجز التشكيلي العراقي فائق العبودي

الرقم اللونية عند فائق العبودي.jpg

محمد البندوري


تتبدى الأسس الجمالية، وتظهر مختلف العلامات والرموز في المنجز التشكيلي للفنان فائق العبودي بشكل لافت، وبمظهر ساحر. فالاستعمالات الرمزية ومختلف التعابير تغذي مجال التجريد بحرفية ودقة في الأداء. وتكمن سرية التطور والرقي الفني في أعمال الفنان فائق العبودي في موسوعيته الثقافية والمعرفية والعلمية، فهو يقارب بين هذه المفردات والعناصر، وبين المادة التشكيلية في عمقها الفني. عن طريق تدجيج الفضاء الناعم بعدد من الرموز الإيحائية، والعلامات الأيقونية الدالة على عدد من المعاني المولدة لجملة من الدلالات.

وهو في الإطار النقدي يعبد الطريق للتأصيل لثقافة تجريدية فنية، تمتح مقوماتها من المجال المعرفي والعلمي والتقني والسميولوجي، ومن الثقافة المحلية المنفتحة على مختلف العوالم. وهو ما يخصب المادة التجريدية لديه، ويمنحها تأصيلا ذاتيا في نطاق أسلوب تشكيلي معاصر. إنه يتخذ من هذا النسيج الإبداعي أداة لابتكار تدفقات رمزية جديدة وعلامات فريدة وأشكال متنوعة، يمزجها بالألوان المنتقاة بدقة وعناية، وهي في جوهرها مغايرة للأساليب الكائنة، فيستنطقها وفق ميولاته الفنية، ووفق البنيات الأساسية للتشكيل المعاصر. ولعل الكثافة الرمزية والعلاماتية والأشكال المتداخلة والتوظيف المتقن؛ تفصح عن روح الحوار الفني، وعن مختلف العلاقات التشكيلية والروابط التي تجمع بين مختلف المفردات والمكونات التي تغطي الفضاء بأكمله، وتدعم قاعدة الحجب الفنية. إنها العمليات الوجدانية التي تسكب مختلف التأثيرات الواقعية في قوالب فنية، بتوازن في الأداء وبتوليف بين مختلف العناصر، ما يسهل عمليات التفاعل مع الأشكال الغامضة، ويحرر الأعمال التجريدية من كل القيود. وهو مسلك قويم ونهج معاصر رائق، يسلكه الفنان فائق، بل إنه يعد إضافة نوعية جديرة بالدراسة والبحث في المجال التشكيلي الآني، إنه فلسفة قيمية تحمل مضامين مليئة بالدلالات العميقة، التي تنبثق من جوهر التجريد المعاصر، الذي يستجيب لضرورات الأعمال الفنية، ويتفاعل مع الثقافة المحلية والكونية.

وهو كذلك نهج معاصر يبرر حرية الروح التعبيرية الصرفة، والأسلوب التشكيلي المعاصر. وهذا في المجال النقدي يرسل انطباعا بأن الفنان فائق العبودي يضمر في حجب أعماله قضايا متنوعة، يوظفها تشكيليا بدقة وتنظيم لوني جذاب، يحافظ على قيم السطح ويربط جوهريا الشكل بالمضامين بأسلوب فني متفرد، وتوظيف جمالي معاصر، يخلد به الفنان بصمته الفنية ومسلكه الإبداعي المعاصر الذي يشكل في عمقه تعبيرا تجريديا معاصرا جديدا. إن الشحنات اللونية الدقيقة الوضع، والأشكال المتنوعة في علاقاتها مع الخطوط المتداخلة، ومع الألوان، ومع الشحنات الضوئية وما تحمله من معان شكلية، وما تحدثه من جذب للرؤية البصرية؛ كل ذلك يشكل توظيفا فنيا مغايرا للمألوف في إطار صيغ فنية تتجدد وفق سمات ومسالك تجريدية معاصرة. وهي تعكس التوجه الصريح والمنحى القويم، والأسلوب المائز للفنان فائق العبودي. فهي تجربة فريدة ذات مصادر فنية أساسية متجددة تحقق المسلك التشكيلي الرائد، وتنتج المادة التجريدية الجديدة المعاصرة. وإن للتقنيات العالية، والمؤهلات الكبيرة والقدرات الفائقة دور كبير في توظيف مختلف المفردات الفنية، وتثبيت مختلف التصورات والرؤى، والاشتغال بمنهجية فنية محكمة، مما ينزاح بالأعمال عن كل ما هو معتاد وينزهها عن كل ما هو مألوف، بل يجعلها تشكل قوة تشكيلية حقيقية في صناعة الجمال التجريدي برؤى جديدة تتبدى فيها أهم الإبداعات الفنية التي تروم التجديد والعصرنة والتطور على شتى المستويات. فإنتاج الجماليات عن طريق التجريد المعاصر، وإبداء سماتها في نطاق مسلك تجريدي يخضع لأشراط التفاعل الباطني وإزالة الحجب، وهو تفاعل يؤكد قطعا المسالك الجمالية التي تُكشَف بوسائط فنية تُلبِس القارئ عشق التجريد ليتفحصها ويكشف عن محتوى المادة الباطنية. إنه توجه جديد، وخطاب فريد يطبعان التجربة المميزة للفنان فائق العبودي.

وإنه كذلك منشأ مليء بالتحولات الفنية الإيجابية، ومتموضع على أسس معرفية، ومتشبع بقيم لونية تجسد المخفي، من خلال مفردات إبداعية وعناصر تشكيلية مرتبطة أساسا بصرامة العلامات والرموز التي تملأ كل أرجاء الفضاء، والتي تشكل أيقونة دالة على معاني كثيرة، ودلالات متنوعة غزيرة، تتجاوز حدود المكان والزمان، لتطرح مختلف المضامين في لمسات إبداعية وتركيبات تجريدية جديدة، تتلاءم فنيا مع تكوينات المادة التشكيلية المعاصرة، وتتجاوب مع الصناعة الفنية التي تعتمد التجربة المعرفية، وتستند إلى الأسس العلمية، لبسط مجال الإبداع بمعرفة عالمة ووعي بحيثيات التجريد، وهو ما يؤهل الفنان فائق العبودي ليطرق هذا الأسلوب الجذاب والمعاصر، المتصل بجديد التصورات، والمرسخ لخاصيات التشكيل المعاصر.

إن التجربة التشكيلية لهذا الفنان العراقي المميز، تأخذ بعين الاعتبار خاصية التعدد العلاماتي والرمزي والإيحائي والإشارات والتلميحات التشكيلية، وهو ملمس في منجزه التشكيلي، الشيء الذي يمنح مادته التجريدية لحنا فنيا جديدا، وينحى بها نحو تعددية القراءة، وإنه أيضا يُصيغ معجما تجريديا مليئا بالرموز والعلامات يمنح القارئ فرصة ثقافية وفنية حول التجريد المعاصر ليجول به في عمق المادة التجريدية بصيغ رمزية وعلاماتية وجمالية متعددة، تُظهر المادة التشكيلية عموما لديه في شكل كوني يُشرك حس وبصر القارئ في العملية الابداعية، إنها المهارة الكبيرة، والتوظيف التقني الدقيق الذي يتوفر عليه الفنان التشكيلي فائق، وإنها كذلك التجربة العراقية الرائدة في مجال التشكيل.



فائق العبودي..عراقي غريب في موطنه، سعيد في مهجره

حروف من سومر فائق العبودي.jpg

عبد الحفيظ العبدلي


في لوحاته التشكيلية، يستوحي فائق العبودي ألوانه وأفكاره من تاريخ العراق القديم، ويعتبر نفسه حفيد السومريين والبابليين، لكنه لا ينفصل عن واقعه، ويظل مفعما بهموم عراق جريح "يغتاله العنف، وينهبه الغرباء". ويعيد هذا الفنان التشكيلي الذي لا يخفي سعادته بإقامته في مدينة لوزان، على بعد أمتار من المتحف الأولمبي، وبحيرة ليمان الساحرة، صياغة الماضي العراقي برؤية معاصرة تمزج بين عمق وأصالة.

ويقول في لحظة صفاء: "أحب عملي كثيرا وأحترم جمهوري، وأنجز لوحاتي بحساسية عالية، مفعمة بالحياة والحيوية". وليس في هذا القول أي اصطناع، "فاللوحة الخالية من الإحساس خالية من الجمال، غير قادرة على محاورة المتلقي، وتظل مجرد قطعة خشبية، أو معدن، أو ورق مقوى معلق على الجدران"، مثلما يشدّد السيد العبّودي.

جمالية شفافة وصادقة هذا الأمر لا يقتصر على الرسم التشكيلي فقط، بل يشمل أيضا كل الفنون من كتابة وشعر وموسيقى وغناء، ومقياس النجاح الفني بالنسبة لهذا الرسام "هو وصول أثر القطعة الفنية إلى قلب المتلقي، ونجاحها في دغدغة مشاعره".

أما السبيل إلى ذلك، فهي رؤية جمالية، تعززها صنعة محبوكة تقوم على خلط الألوان الناصعة، واختيار الخامات المناسبة، وإثارة الموضوعات الجادة، "وما أكثرها القضايا التي ترمز إليها لوحات هذا العراقي، في زمن احترفت فيه مؤسسات إعلامية كبرى تشويه كل ما هو عربي وإسلامي، وقصّرت فيه الجهات العربية الرسمية والشعبية عن القيام بدورها في إيصال صورة صادقة عن أوطانها".

ولا يقبل فائق العبّودي أي تبرير لهذا القصور، أو تفسير العجز بكثرة العراقيل والمصاعب. ومن لديه شك في ذلك، فهو مدعو إلى تأمل تجربته الشخصية، "أوظّف معاناتي الشخصية وأحوّلها إلى طاقة إبداعية، وعند فقدان الشعور بالتحدي، أفتقد القدرة على العمل". وليس هذا حال فائق العبودي بمفرده، بل إن من يقرأ سير المبدعين والمشاهير، "يجد أنهم قد انحدروا من عائلات فقيرة، ومروا في مشوارهم بمنعرجات صعبة".

عراقي حتى النخاع هذا الإحساس بالتحدي ومقارعة الصعاب سمة لها جذورها في السياق العراقي الذي يفخر فائق العبودي بالإنتماء إليه. فمن وسط أتون الحروب المتتالية، ومن تحت رماد الحرائق المتكررة، ورغم ظروف الغزو الخارجي القاسية، تنهض نخبة من الفنانين والمبدعين العراقيين تتعدد محاولاتها للخروج من المأزق الحالي، وتكثر مبادراتها على المستويين السياسي والثقافي داخل العراق وفي الشتات.

وعند الاستفسار عن سبب هذا الحركية العراقية، وعن منبع هذا القلق المتوهّج المتطلع باستمرار إلى النهوض والتغيير، يجيب فائق العبودي بفخر واعتزاز: "في العراق رسم أوّل حرف هجائي على يد السومريين، ووضعت أولى الشرائع على يد البابليين، وفي بغداد، عاصمة الخلافتين الأموية والعباسية نسجت خيوط الحضارة الإسلامية العظيمة".

هذا التاريخ العراقي الضارب في القدم، وهذا التنوع الذي تزخر به الحياة الثقافية العراقية حاضر بقوة في لوحات فائق العبّودي، الذي يقول: "أوظّف المفردات العراقية القديمة والحديثة، فتبدو لوحاتي كأنها قادمة من زمان بعيد"، بل إن اختياره للألوان محكوم أيضا بانتمائه العراقي، فلوحاته موسومة بحزن أبدي، وهذا الأمر طبيعي على حد عبارة هذا الرسام: "ليس قصدي أن أجعل لوحاتي حزينة، لكن اللوحة في النهاية هي عبارة عن إسقاطات داخلية، ويتوقف دوري على تنظيم تلك الإسقاطات، فأخرجها على شكل لوحة جميلة".

ويضيف فائق العبودي، في اطمئنان الخبير بموضوعه: "الحزن شعور ملازم للشخصية العراقية، يتوقف دور الرسام أو الفنان، أو الموسيقي في جعل هذا الشعور جميلا وشفافا، مخلوطا بالتفاؤل والحياة".

"أعشق مدينتي لوزان" "هروب من الحزن إلى التفاؤل، ومن الموت إلى الحياة"، هو عنوان انتقال فائق العبّودي من بلده الأصلي إلى سويسرا منذ عشر سنوات. ويقول معترفا بجميل هذا البلد عليه: "وجدت سويسرا كامرأة حنون، احتضنتني في زمن الشدة، ورعتني عبر هذه السنين الطوال. أعشق مدينة لوزان التي يسحرني هدوءها، وتأسرني دروبها القديمة".

ولمن يدعو إلى حب الأوطان، وينتهك حرمة أهلها وحقوقهم، يقول فائق العبوّدي: "أحببت سويسرا لأنني شعرت بالاحترام فيها، وأحسست فيها بإنسانيتي، ووجدت أن القوانين تحميني، ولا أحد يتجرأ على الاعتداء عليك أو إهانتك. أما إذا كنت صاحب حرفة وإبداع، فأنت مكرّم مبجّل".

وفي لحظة صدق، يقول هذا المهاجر العراقي الذي لم تطأ قدماه العراق منذ خرج منه سنة 1999: "غربتي وأنا في سويسرا، لا تساوي شيئا أمام ما كنت أشعر به من غربة وأنا في العراق". ولا يقول ذلك نكرانا أو تشفيا، بل في يأس وحسرة: "يحزّ في نفسي أن أقول هذا، ويحزّ في نفس كل مهاجر عربي آخر أن يكون هذا واقعنا".

وترتبط سويسرا في ذهن العبودي بالنجاح وانطلاق تجربته في آفاق العالمية، وبامتلاك القدرة على إيصال أعماله إلى جمهور كوني يمتد من اليابان إلى الولايات المتحدة ومن كوريا الجنوبية إلى كندا.

آخر معرض نظمه العبودي كان قبل بضعة أشهر بمدينة إيفيان الفرنسية، وخلال شهريْن، ستحتضن مدينة فيرناي فولتار، الفرنسية المحاذية لجنيف معرضه المقبل. ويبدو العبودي سعيدا جدا لكون قاعة العرض، ستكون بمبنى قصر الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتار. ومن دون أدني شك أو ريب، يضيف فائق العبودي: "لو كنت لا أزال حبيس العراق، ما كنت لأحقق ما حققته اليوم".

ولا يتوقف فضل سويسرا على هذا المهاجر، كما يقر هو نفسه على توفير الهدوء والسكينة وحرية التنقل والقرب من مراكز الثقافة المعاصرة، بل وصل التأثير إلى حد تهذيب الذوق الفني وترشيد اختيار الألوان والأشكال والصور الجمالية "الألوان التي أستخدمها اليوم ليست هي التي كنت استخدمها من قبل. إنها مسألة سليقة فنية، وليست مسالة مصطنعة أو حركة مجاملة".

ربما هذا ما جعل لوحات هذا الرسام العراقي تجد قبولا وإقبالا في سويسرا، وللمفارقة وصلت لوحات العبّودي إلى السوق السويسرية قبل قدومه شخصيا إلى هذا البلد.

الفن التشكيلي جسر مثالي للتواصل ينظر الرسام إلى العلاقة بين لوحاته وجمهوره على أنها علاقة حية تفاعلية، لا تقوم على التلقي السلبي بل هي علاقة حوارية. هذه العلاقة لا تقتصر على لغة أو قوم بعينه، وذلك لأن "الرسم التجريدي يتحدث بلغة عالمية مفرداتها اللون، والحرف، والحفر، والزخرفة، والنتوءات، ومن هنا يمكن الإدعاء بان هذا الفن جسر مثالي للوصل بين الثقافات والحضارات".

لكن، لكل قاعدة استثناء، إذ يمكن ان يتحوّل فن الرسم إلى طريقة لإشاعة الكراهية بين الثقافات، إذا لم يلتزم الرسام بروح المسؤولية، أو استخدم ريشته وقلمه بدافع تحقيق الشهرة، وفي مخالفة صريحة لأخلاقيات الفنون الجميلة وقيمها النبيلة.

هذه الأخلاقية الفنية، يرى السيد العبّودي أن الحضارة الإسلامية قد أعلت من شانها "فلم تهتم الحضارة الإسلامية بالمجسمات، بل طوّرت الفنون التجريدية، فنجد فيها اهتماما بالغا بالكتابة والزخرفة والمنمنمات، وقد امتد تأثير ذلك إلى العديد من القارات".

ومن المثير للأسف حسب السيد العبّودي هو أن "هذا الطابع الفني لم يترافق اليوم بخطط جماعية تستثمره في الامتداد به إلى الآخر، وفي تحسين صورة العرب والمسلمين".

ويختتم محاورنا بالقول: "إن اليد الواحدة لا تصفّق، وما دامت عمليات تشويه العرب والافتراء عليهم تتم بإشراف رسمي ومباشر من عدة جهات دولية نافذة، فإن الرد عليها يجب ان يكون أيضا بشكل رسمي وجماعي".





الفنان التشكيلي فائق العبودي أنا فنان قلق الطبع

مجلة ننار حوار الدكتورة اسيل العامري

Art faik al aboudi.jpg

في مرسمه الخاص حيث تنتشر مفردات ايقونية تسفر عن حركة تلف المكان ربماتنقلك فجاة الى عالم سحيق من التصورات والخيالات الاسطورية ثم مالم تلبث ان تعيدك للواقع اجترح نوعا من التقنيات للوحته فما عادت سطوحها ذات بعد واحد,احفوريات وغوائر وثمة بوارز هنا وهناك تستد عن تأملا قصديا لمشاهدتها والغور في عوالمهاأنه الفنان فائق العبودي الذي أستوطن الجمال السويسري ولم يغادره الجمال الرافديني.


١- فائق العبودي بعد عقدين ونيف من الاغتراب كيف يقرأ وظيفة اللوحة التشكيلية؟

سأجزئ السؤال إلى ثلاثة ، زمن، وقراءة، ووظيفة،فمن حيث الزمن: سنوات الاغتراب أعطتني خبرة مهمة لعملي الفني، حيث طورتُ من تقنياتي وأفكاري للوحاتي، بالمقابل تطورعندي جانب قراءة الأعمال الفنية التي أشاهدها، مع سهولة تمييز العمل الإحترافي الذي يستحق التوقف عنده، والتأمل فيه بمتعة وإعجاب.

أما القراءة ؛ فأعتقدأنه يوجد بعض التشابه بين قراءة كتاب وقراءة لوحة، ففي الكتاب تتم القراءة بواسطة الحروف، والكلمات, التي تساعد على تخيل المشهد، أما في اللوحة فتكون هي المشهد ذاته، وبخصوص اللوحة التجريدية تتم القراءة بواسطة اللون، وضربة الفرشاة التي تحفز الأحاسيس، والإنفعالات والتي بدورها تنقلنا إلى صور وحكايات تترجمها خبراتنا، ومعارفنا، وذكرياتنا. والفرق بين اللوحة والكتاب هنا أن اللوحة مساحتها الخامة، وحدودها الإطار، أما الكتاب فهو بلا حواجز، ولا حدود.

وأحياناً تشترك الحروف مع الألوان لتخلق عملاً فنياً رائعاً ، على سبيل المثال لوحة تُخلق وهي مُستوحاة من نصٍ أدبي ، أوالعكس نص أدبي يكتب بوحي من لوحة فنية ، ولي تجربة شخصية بذلك مع مبدعتين، الأولى المبدعة لبنى ياسين كتبت نصاً جميلاً عن لوحة لي، والثانية هي المبدعة المغربية سعدية أسلايلي كتبت مجموعة شعرية كاملة عن عدد من اللوحات، خلقت حواراً شعرياً مع اللوحة .

أما الوظيفة ؛

يبقى للعمل الفني رسالة يضعها الفنان على خامة اللوحة، ويوظف في إيصالها مهاراته الإبداعية ،وحسه ،وخياله من خلال اللون وشفافيته، ليتقاسم مع الآخرين فكرة نقش، أو رمز تاريخي، أو عاطفة، أو حالة إنسانية أو شعورية، يروم الفنان إيصالها من خلال الصورة والحس .

٢- بين اتجاهات الفن للفن ومناقضاتها في الاتجاه انشغلت فلسفة الفن دهرا من النقاشات، هل السجال قد انتهى ام للفن فلسفة اخرى فرضتها التطورات التكنولوجية ؟

أعتقد أن هذا السجال أو الجدل لم ينته بعد، ومن خلال البحث نكتشف أن الدراسات الفلسفية الجمالية، تضعنا في حيرة أمام عدد من الإشكالات، حيث الجدل قائم بين عالم المثل، وعالم الحس، جدل حول القيم الجمالية التي تقوم على الطبيعي، والفني، والفن للفن، والفن الملتزم، والمفيد، والجميل، وحول دور الخبرة والصنعة، بالتأكيد للمتلقي والمجتمع دور مهم في النقاشات الجمالية، ولهذه التجربة التي تناقش الفن والجمال إشكالات واضحة في وجهات نظر المذاهب الفلسفية، أما ما تفرضه التطورات التكنولوجية على ذلك المشهد فهي ستزيد من حجم هذه الإشكالات .

٢- علاقة البيئة الاغترابية بالفنان المهاجر هل هي علاقة تفاعلية، تاثيرية، مفاهيمية ام شيئا اخر؟

هذا الموضوع يختلف من فنان لأخر، وحسب حجم التأثر بالبيئة، وطبيعة العلاقة مع بيئة الإغتراب ، شخصياً حاولتُ أن أنصهر أنا ومتحفي الفني الخاص مع البيئة الجديدة، أستطيع القول تفاعلتُ معها كيميائياً، وهذا ساعدني كثيراً بعملية الإتصال، والتواصل مع المتلقي ، نعم إنها عملية متصل، ومتلقي، أو مستقبل، لكي يتم الحوار، أونحوخلق تفاعل مشترك بين الفنان والجمهور، وهذا التفاعل يحفز النشاط الإبداعي لدى الفنان .

كذلك تأثرت كثيراً بالبيئة: الوطن الجديد الذي احتضنني، وقدم لي الكثير الكثير، عين الفنان تتأثر بالمحيط ، جمال سويسرا وألوان طبيعتها الخلابة أثرتْ كثيراً على خلطات ألواني، وتفاعلها مع الخامة، والموضوع، وعلى نفسيتي بالدرجة الأولى.

أنا مع فكرة التفاعل والتأثر، من خلالهما نستطيع أن نجري حواراًمع الآخر.

٣- انشغلت كثيرا بايجاد اكثر من بعد في اللوحة ، هل ترى ذلك مغايرة ام قصور في اللوحة التقليدية؟

أقولها دائماً أنا فنان قلق الطبع، وهذا القلق الذي أشعر به مفيد جداً، أستطيع أن أسميه قلقاً صحياً، كونه يجعلني دائم البحث والتجريب، ولا يصيبني الضجر بذلك، بغية الوصول إلى متعة الاكتشاف، لذلك أحرص كثيراً على أن تحمل كل مجموعة جديدة أشتغل عليها شيئاً يميزها عما سبقها، ولذلك أقوم باستخدام خامات جديدة، أو تقنيات جديدة، بالطبع الاستخدام يكون مدروساً جيداً ليتناسب مع مشروعي الفني، ورداً على سؤالكم بشكل: مختصر نعم أميل إلى فكرة المغايرة في العمل، وفكرة الإشتغال على أكثر من بعْـد، أنجزتُ عدداً من اللوحات مجسمة الشكل باستخدام الخشب‘ أو مواد أخرى صلبة .

ومن خلال ذلك العمل تولدت عندي فكرة لصنع لوحات من القماش، وكأنها منحوتات أثرية قديمة مجسمة، لكون مشروعي الذي أشتغل عليه هو الأثر، بمعنى (نحت على القماش ) ونجحتُ من المحاولة الأولى، ويبدو لي الموضوع غير مطروق سابقاً، سأحاول أن أقدم هذه التجربة في معرض شخصي في مكان هام مثل "معهد العالم العربي في باريس"، هذا ما أتمناه، وسوف أشتغل على ذلك الموضوع إن شاء الله .

٤- حركة الفن التشكلي العراقي في المغترب هي حركة تواصلية مع جذورها ام مستقلة ولها

اسلوبا مغايرا عن االحاضنة الاولى؟

الموضوع يعتمد على اختيار الفنان للمشروع الذي يشتغل عليه، في الغالب هي حركة تواصلية كما أسميتموها، يغترف الفنان الكثير من تاريخه القديم، والإرث الحضاري، وذكريات الطفولة ....

وهنالك فنانون يشتغلون على المغايرة، أو الخلط بين الإثنين لأيجاد طريق، أو فرصة للحوار مع الآخر الذي يحمل ثقافة مختلفة، شخصياً انتمي لهذا النوع (تواصلي ومغاير )

أما النفس، والروحية تبقى عراقية واضحة البصمة .

٥- هناك سعي دؤوب لديك لاستحضار الرموز التاريخية في اعمالك ، هل هو نوع من استجلاب الهوية الثقافية في مجتمع مغاير الثقافة؟

الرموز التاريخية بالنسبة لي شلال من الأفكار لأعمال فنية كثيرة، وفي خزائن متحف ذاكرتي العديد من الصور والرموز والرقم الأثرية، خزنتها منذ أيام الطفولة، يوم كنتُ طفلاً لم أتجاوز العاشرة من العمر، وأنا أذهب خلسة عن عائلتي لأزور المتحف العراقي في بغداد، بعد أن اكتشفته بفضل والدي أعطاه الله الصحة والعافية، وهذا الاكتشاف جعلني مدمناً على الزيارة، وخاصة بعد التشجيع الذي لمسته من العاملين في المتحف الذين تكرموا بإعفائي من رسوم الدخول .

مشاهداتي هذه أثارت في داخلي أسئلة كثيرة منذ طفولتي، حاولتُ أن اقلد ما أشاهده من خلال الطين، الذي أصنع منه تمثالاً، أو رقماً طينياً .

أجد أنه تقع على عاتقي مسؤولية تقديم ذلك التاريخ بطريقة معاصرة لمجتمع مختلف الثقافة، لكن لديه معرفه ممتازة بتاريخ العراق، وكيف لا وآثار العراق في كل متاحف العالم، عسى أن أستطيع أن أعطي صورة مغايرة عن قبح السياسة، والسياسيين والحروب التي يعاني منها العراق .

بعد قرن من بدايات الحركة التشكيلية العراقية كيف تقرا موقعها اليوم في الخارطة التشكيلية العربية والعالمية؟

لا أتفق معكم على عمر الحركة التشكيلية العراقية بوصفه قرناً من الزمان، فهي تمتد إلى السومرين والبابليين، وما نحن إلا امتداد لها، الفرق هنا في حالة التطور، ووجود خامات مختلفة عن الصلصال الذي كان يعتبر المادة الرئيسية في صناعة الرقم والمنحوتات، هذا الإمتداد التاريخي الكبير أعطى للحركة التشكيلية العراقية أهمية، وغنى كبيرين جداً، في الساحة العربية أولاً، والعالمية ثانياً بعد مواسم الهجرة، وقد حقق الفنانون العراقيون نجاحاتٍ مهمةً نفتخر بها.

نستطيع القول أن أرض، وتاريخ، وظروف العراق جعلت منه مصنعاً كبيراً للمبدعين في جميع مجالات الإبداع .

٧-هل ترى ان جيلك الفني قد كان فريسة مغامرات سلطوية ؟ام ان تلك المغامرات ولدت جيلا عجنته التحديات؟

(من رحم المعاناة يولد الأبداع)، و (المعاناة تولد الأبداع)

في القولين أعلاه نجد رابطاً مشتركاً بين الإبداع والمعاناة،

نجد أغلب المبدعين جاءوا من ظروف أو بيئة قاسية، والأمثلة كثيرة , لنأخذ مثلاً رهين المحبسين الأديب والفيلسوف أبو علا المعري، الذي ظل حبيس فقد البصر، وحبيس عزلته عن الناس، بتهوفن عانى من الصمم، طه حسين، ستيفن هوكيج. والأسماء كثيرة .

عودة إلى سؤالكم نحن في العراق مررنا بظروف في غاية القسوة، وخاصة في فترة الحصار الإقتصادي الذي دام ثلاثة عشر عاماً، لقد دفع الإنسان العراقي ثمناً كبيراً، والفنان أكثر حساسية وتاثراً بهذه المعاناة، على صعيد العمل الفني كان الفنان العراقي يصنع لوحاته بيده من تحضير اللوحة، إلى صناعة فرش الرسم من شعر الحيوانات، وهذا منحنا خبرة وتحدٍ للوصول إلى النجاح، لذلك صنعنا من المعاناة نجاحاً، وهذا يسجله التاريخ لنا كعراقيين.

وصرنا أكثر صلابة لمواجهة الظروف الصعبة، وللأسف يبدو أن اللعنة مستمرة على بلدنا وشعبنا، حيث معاناة اليوم أكثر قسوة من معاناة الماضي، حيث داعش الإرهابي، وداعش السياسي .


 == معرض صور لأعمال الفنان ==

https://www.flickr.com/photos/faikart/

 == وصلات خارجية ==