دور النظام الغذائي في التطور البشري

أيام السَّلَطةَ: هذه الصورة تمثل أوسترالوپيثيكَس عفارنسز Australopithecus afarensis، أحد أسلاف البشر، وهو يقتات أطعمة نباتية في غابة إفريقية قبل نحو 3.5 مليون سنة.

إننا، نحن البشر، رئيسات(1) غريبة. إننا نمشي على رجلين، ونحمل أدمغة كبيرة، وقد استعمرنا كل زاوية من الكرة الأرضية. لطالما سعى المختصون في علم الإنسان (الأنثروپولوجيون) وعلماء الأحياء (البيولوجيون) إلى فهم الكيفية التي جعلت خطَّنا التطوري lineage يختلف بصورة عميقة عن الشكل المعياري للرئيسات في هذه النواحي. وعلى مر السنين قُدمت جميع أشكال الفرضيات الهادفة إلى تفسير كل من هذه الغرائب. ولكن هناك كما متزايدا من الأدلة يشير إلى أن هذه الخصوصيات المتنوعة للبشرية تتشاطر في الحقيقة خيطا مشتركا يتمثل في كونها نتائج انتقاء (انتخاب) طبيعي يعمل على زيادة الجودة الغذائية وكفاءة البحث عن الطعام إلى أقصى حد. ويبدو أن التغيرات في تيسر الطعام عبر الزمن قد أثرت بشكل قوي في أسلافنا من الأناسي(2). وبهذا، فإننا (بالمعنى التطوري) نمثل إلى حد بعيد ما كنا قد أكلنا what we ate. [1]

وفقا لذلك، فإن ما نأكله يشكِّل كذلك ناحية أخرى نختلف فيها عن أقربائنا من الرئيسات. فالجماعات البشرية المعاصرة حول العالم ذات أقوات أغنى بكالورياتها(3) ومغذياتها nutrients من أقوات أبناء عمومتنا القردة العليا الكبار great apes. وهنا نتساءل: متى ابتعدت عادات أكل أسلافنا عن عادات أكل الرئيسات الأخرى؟ وكيف؟ وكذلك نتساءل: إلى أي حد ابتعد الناس الحاليون عن النمط الغذائي لأجدادنا؟

إن الاهتمام العلمي بتطور المتطلبات الغذائية البشرية له تاريخ طويل. بيد أن الأبحاث الوثيقة الصلة بالموضوع بدأت تحرز زخما عقب عام 1985، حين نشر B .S. إيتون و J .M. كونر من جامعة إيموري موضوعا علميا مهما في مجلة نيوإنگلند الطبية بعنوان «التغذية في العصر الحجري» Paleolithic Nutrition جادلا فيها بأن انتشار العديد من الأمراض المزمنة في المجتمعات الحديثة ـ مثل البدانة وارتفاع (فرط) ضغط الدم والمرض القلبي الإكليلي (التاجي) ومرض السكري ـ ما هو إلا نتيجة لعدم التناغم بين الأنماط الغذائية الحديثة ونمط القوت الذي طوره نوعنا البيولوجي للأكل، حينما كان يعتمد على الصيد وجمع الغذاء في مرحلة ما قبل التاريخ. ولكن بعدئذ، أحرز فهمنا للحاجات الغذائية البشرية تقدما كبيرا. ويعود جزء كبير من ذلك إلى تحاليل مقارِنة جديدة تناولت جماعات بشرية مازالت تحيا حياة تقليدية، كما تناولت رئيسات أخرى غيرها، مما أدى إلى ظهور صور دقيقة الفروق. ونحن نعلم اليوم أن البشر تطوروا على نحو لا يعولون فيه على غذاء وحيد من العصر الحجري، بل غدوا على قدر من المرونة في أكلهم؛ وهذا يعد نفاذ بصيرة ذا تضمينات مهمة للحوار القائم حاليا حول ما ينبغي أن يأكله الناس اليوم كيما يكونوا أصحاء.

ولتقدير دور الغذاء في التطور البشري، يجب أن نتذكر أن البحث عن الطعام، واستهلاكه، وكيفية توظيفه في نهاية المطاف لصالح العمليات البيولوجية، تعد جميعها نواحي حدية في إكولوجية الكائن (المتعضي) الحي. فَدَيْنَمِيّة الطاقة energy dynamic بين الكائنات الحية وبيئاتها (أي، الطاقة المصروفة بالنسبة إلى الطاقة المكتسبة) لها تبعات تكيفية على البُقْيا survival والتكاثر. وينعكس هذان المكونان من مكونات الأهلية (الصلاحية) الداروينية Darwinian fitness على الطريقة التي نوزع بها ميزانية الطاقة لحيوان ما، حيث تمثل طاقة الصيانة maintenance energy الطاقة التي تُبقي الحيوان حيا على أساس يومي، في حين ترتبط طاقة التكاثر reproduction energy، بالمقابل، بإنجاب النسل وتنشئته لصالح الجيل التالي. وهذه الطاقة بالنسبة إلى الثدييات، التي إليها ننتمي، يجب أن تغطي التكاليف الزائدة التي تتجشمها الأمهات في أثناء الحمل والإرضاع.

هذا ويؤثر نمط البيئة التي يسكنها مخلوق ما في توزيع الطاقة بين هذين المكونين، بحيث تستدعي ظروفها القاسية متطلبات صيانة أكبر مقدارا. وعلى الرغم من ذلك يبقى هدف جميع الكائنات الحية واحدا؛ ألا وهو تخصيص موارد كافية لغرض التكاثر من أجل ضمان نجاح طويل الأمد للنوع. وهكذا، فإننا من خلال النظر إلى طريقة سعي الحيوانات من أجل الحصول على طاقة الطعام، ومن ثم تحْصيصها، نستطيع أن نتبين الكيفية التي يولِّد بها الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي التغير التطوري.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كيف أصبح البشر ذوي قدمين

بدون استثناء، عندما تكون الرئيسات الحية الحالية غير البشرية على الأرض، فإنها تتنقل بشكل اعتيادي مستخدمة أطرافها الأربعة (بمعنى أنها رباعية الأقدام). ولذا يفترض العلماء بشكل عام أن السلف المشترك الأخير للبشر والشمپانزات (التي هي أقرب قريب حي لنا) كان رباعي الأقدام كذلك. ولئن كنا لا نعرف بالضبط متى عاش هذا السلف المشترك الأخير، فإن الدلائل الواضحة حول ثنائية الأقدام bipedalism (التي تعتبر صفة تميز البشر القدامى من سائر القردة العليا) تتجلى عند أقدم نوع معروف حمل اسم أوسترالوپيثيكَس Australopithecus، وهو الذي عاش في إفريقيا قبل نحو أربعة ملايين سنة. وتكثر في الأدبيات الپاليوأنثروپولوجية paleoanthropological (الخاصة بعلم الإنسان القديم) الأفكار حول سببية نشوء ثنائية الأقدام هذه. ففي عام 1981 اقترح O .C. لڤچوي من جامعة ولاية كِنت أن التنقل الثنائي الرجلين حرر الذراعين من أجل حمل الأطفال وجمع الأطعمة. ومؤخرا، افترض D .K. هانت من جامعة إندياناأن ثنائية الأقدام انبثقت عن وضع اغتذاء مكّن من الوصول إلى أطعمة كانت في السابق خارج إمكانية الوصول إليها. أما P. ويلر من جامعة جون مورز في ليڤرپول بإنكلترا فيسلم بأن التحرك بشكل منتصب أتاح للبشر الأوائل تنظيما أفضل لحرارة أجسامهم، وذلك عبر تقليص مساحة التعرض السطحي لشمس إفريقيا المحرقة.

وتتواصل قائمة الأفكار هذه. وفي الحقيقة، ربما اشتركت عدة عوامل في انتقاء هذا النمط من التنقل locomotion. ويوحي بحثي الخاص الذي أجريته بالتعاون مع زوجتي M روبرتسون بأن صفة ثنائية الأقدام إنما نشأت عند أجدادنا، ولو جزئيا على الأقل، لكونها أقل كلفة طاقية من صفة رباعية الأقدام؛ إذ أظهرت تحاليلنا لتكاليف طاقة الحركة في حيوانات حية من جميع الحجوم أن أقوى مستدعيات الكلفة تتمثل، بوجه عام، في وزن الحيوان وفي سرعة مشيته. وأكثر ما يلفت النظر حول التحرك الثنائي الأقدام لدى البشر أنه أكثر اقتصادا بشكل ملموس من التحرك الرباعي الأقدام، عند المدى المألوف لمعدلات المشي.


تشير البقايا الهيكلية إلى أن أسلافنا القُدامى (الأوسترالوپيثيسينات) كان لهم قدمان منذ نحو أربعة ملايين سنة. وفي حالة أوسترالوپيثيكَس عفارنسز (في اليمين)، الذي يعد أحد أقدم الأناسي، تضمنت ملامحه الدلالية كلا من التقوس في القدم، وإبهام القدم غير المتقابلة مع سائر الأصابع، وصفات معينة للركبة والحوض. ولكن هؤلاء الأناسي كانوا يحتفظون ببعض سِمات القردة العليا، من بينها الرجلان القصيرتان والذراعان الطويلتان وأصابع القدم المنحنية، مما يوحي بأنهم ربما لم يكونوا يمشون كما نمشي بالضبط، وبأنهم قضوا بعض الوقت على الأشجار. ولم تتطور النسب الحديثة للرجل والقدم، وكذلك الشكل الحديث لعظم الحوض الذي يتطلبه المشي المنتصب على النحو التام الذي نعرفه الآن، إلا حينما نشأ جنسنا البيولوجي (الإنسان Homo)، الذي هو الممثل المعاصر لما يظهر هنا في الشكل الأيسر.

وعلى النقيض من ذلك، لا تكون القردة العليا اقتصادية حين تتحرك على الأرض. وعلى سبيل المثال، فإن الشمپانزات، التي تستخدم شكلا غريبا من المشي الرباعي الأقدام يعرف باسم المشية البرجمية(4) knuckle walking، تصرف من الكالوريات في أثناء المشي ما يفوق نحو 35 في المئة ما يصرفه حيوان ثديي نموذجي رباعي الأقدام من نفس الحجم (كلب كبير مثلا). وقد تفيد فروق الأوضاع التي تَطور عبرها البشر والقردة العليا في تفسير الاختلاف في تكاليف الحركة لديهما. فالشمپانزات والغوريلات والأورانگوتانات نشأت في الغابات الكثيفة وواصلت العيش في هذه الغابات، حيث لا يلزمها أكثر من ميل أو نحو ذلك من التجوال في مشوار النهار حتى تصيب ما يكفيها لتأكله. وبالمقابل، حدث الكثير من التطور الباكر للأناسي في أراض حرجية ومروج مكشوفة كانت فيها الحياة والأقوات أقسى منالا. وفي الحقيقة، إن البشر الحديثين الذين يعيشون على الصيد وجمع الغذاء في هذه البيئات، والذين يزودوننا بأفضل نموذج متاح عن أنماط المعيشة البشرية القديمة، غالبا ما يجوبون خمسة إلى ثمانية أميال يوميا سعيا وراء الطعام.

إن لهذه الفروق في رقعة التجوال اليومي مضامين تحركية مهمة. فبالنظر إلى أن القردة العليا لا تقطع إلا مسافات قصيرة كل يوم، فإن الفوائد التنشيطية(5) المحتملة لتحرُّكٍ بكفاءة أكبر تكون صغيرة جدا. أما بالنسبة إلى من يتجول لمسافات بعيدة بحثا عن الطعام، فإن المشي المقتصد التكاليف cost-effective يوفر كالوريات كثيرة في متطلبات طاقة الصيانة (بمعنى إمكانية توجيه مزيد من الكالوريات، بدلا من ذلك، إلى التكاثر). ولذلك فإن الانتقاء (الانتخاب) لصالح تحرك ناجع من الناحية الطاقية يرجح أن يكون أكثر شدة لدى حيوانات التجوال البعيد، لأن لديها الكثير لتكسبه. أما بالنسبة إلى أنواع الفصيلة الإنسية التي عاشت ما بين 5 ملايين و 1.8 مليون سنة خلت (أثناء العصر الپليوسيني Pliocene epoch)، فقد دفع تبدل المناخ تلك الثورة المورفولوجية قُدُمًا. فبينما ازدادت القارة الإفريقية جفافا تحولت الغابات إلى مروج، وهذا جعل مصادر الطعام موزعة بشكل رقع هنا وهناك. وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى ثنائية الأقدام على أنها واحدة من الاستراتيجيات الأولى في التطور الاغتذائي البشري، باعتبارها نمطا من الحركة يفضي بشكل ملموس إلى تخفيض عدد الكالوريات المصروفة في الوصول إلى مصادر الغذاء التي يتزايد تبعثرها.


أدمغة كبيرة وأناسي جائعة

لم يكد البشر يتقنون مشيتهم حتى بدأ الحدث الحيوي الثاني في التطور البشري، المتمثل في التوسع المثير للدماغ. فوفقا للسجل الأحفوري (المستحاثي) لم يحدث إطلاقا أن أصبحت الأوسترالوپيثيسينات australopithecines أكثر ذكاء من القردة العليا الحالية، بل أبدت زيادة متواضعة فقط في حجم الدماغ، إذ ازداد ذلك الحجم من نحو 400 سنتيمتر مكعب قبل أربعة ملايين سنة إلى 500 سنتيمتر مكعب بعد مليوني سنة من ذلك التاريخ. أما حجم دماغ الإنسان Homo، فقد قفز من 600 سنتيمتر مكعب في الإنسان الصانع (أو الماهر) H. habilis قبل مليوني سنة، إلى 900 سنتيمتر مكعب في الإنسان المنتصب H. erectus بعد 000 300 سنة من ذلك التاريخ. صحيح إن دماغ الإنسان المنتصب لم يبلغ حجم دماغ الإنسان الحديث (1350 سنتيمترا مكعبا في المتوسط)، ولكنه فاق حجم دماغ الرئيسات غير البشرية الحية الحالية.

نظرة إجمالية/ القوت والتطور البشري

▪ إن أكثر الخصائص تمييزا للبشر عن الرئيسات الأخرى هي على الأغلب نتائج فعل الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي لتحسين جودة القوت البشري والكفاءة التي كان أجدادنا يحصلون بها على الطعام. وقد ارتأى بعض العلماء أن المشكلات الصحية التي تواجهها المجتمعات الحديثة هي نتائج تناقض بين ما نأكل وما كان أسلافنا يأكلونه في العصر الحجري القديم.

▪ ولكن الدراسات التي أجريت على الجماعات السكانية المعاصرة التي تحيا حياة تقليدية تبين أن البشر الحديثين قادرون على تلبية احتياجاتهم الغذائية باستخدام تشكيلة منوعة واسعة من الاستراتيجيات الغذائية. فقد تطورنا لنكون أكلة مرنين. أما الهموم الصحية للعالم الصناعي، حيث تتيسر الأغذية الغنية بالكالوريات، فإنها لا تنبثق من انحرافات عن قوت نوعي ما، بل من عدم توازن بين الطاقة التي نتناولها والطاقة التي نصرفها.

ومن منظور غذائي، إن ما هو استثنائي فيما يخص دماغنا الكبير إنما يتمثل في كمية الطاقة التي يستهلكها والتي تعادل ما يقرب من 16 ضعف ما يستهلكه النسيج العضلي لكل وحدة وزن. ولكن على الرغم من أن البشر يمتلكون أدمغة تفوق كثيرا في كبرها (بالنسبة إلى وزن الجسم) كبر أدمغة الرئيسات الأخرى (البالغ ثلاثة أضعاف ما هو متوقع)، فإن المتطلبات الإجمالية لطاقة الراحة للجسم البشري لا تفوق نظيرتها لدى أي حيوان ثديي آخر له نفس الحجم. ولهذا فإننا نستخدم من موازنة الطاقة اليومية لدينا نصيبا يفوق كثيرا نظيره لدى الثدييات الأخرى من أجل «إطعام» أدمغتنا الشرهة. وفي الحقيقة، يصرف استقلاب (أيض) الدماغ في وقت الراحة مقدارا ضخما يبلغ20-25 في المئة من الاحتياج البشري من الطاقة، وهذا رقم يفوق كثيرا ما يلاحظ لدى الرئيسات غير البشرية والبالغ 8-10 في المئة، مثلما يفوق بقدر أكبر الرقم 3-5 في المئة الذي تخصصه الثدييات الأخرى للدماغ.

وباستخدام تقديرات لحجم جسم الأناسي سبق أن جمعها <H. مكهنري> [من جامعة كاليفورنيا في ديڤيز] قمتُ مع روبرتسون بإعادة بناء نسب احتياجات طاقة الراحة التي كان يمكن أن تكون مطلوبة لتشغيل أدمغة أجدادنا القدامى. فأوحت حساباتنا أن الإنسان الأوسترالوپيثيسيني الذي تراوح وزنه بين 80 و 85 رطلا وبلغ حجم دماغه 450 سنتيمترا مكعبا، كان يخصص 11 في المئة من طاقة راحته للدماغ. أما الإنسان المنتصب الذي تراوح وزنه بين 125 و 130 رطلا وبلغ حجم دماغه 900 سنتيمتر مكعب، فقد كان يخصص نحو 17 في المئة من طاقة راحته (أي نحو 260 كيلوكالوري من أصل 1500 كيلو كالوري) لهذا العضو.

وهنا نتساءل: كيف نشأ مثل هذا الدماغ ذي الكلفة العالية طاقيا؟ هناك نظرية، وضعها <D. فوك> [من جامعة ولاية فلوريدا] ترى أن ثنائية الأقدام مكَّنت الأناسي من تبريد دم جماجمهم ومن ثم تحرير الدماغ الحساس للحرارة من قيود درجات الحرارة التي كانت أبقت حجمه محدودا. وإنني أشك، كما هي الحال بالنسبة إلى ثنائية الأقدام، بأن عددا من العوامل الانتقائية selective factors ربما يكون قد تضافر في العمل معا. ولكن من المؤكد تقريبا أن توسع الدماغ لم يكن ليحدث إلا حين اعتمدت الأناسي قوتا غنيا بالكالوريات وبالمغذيات بقدر يكفي لتلبية التكاليف المرتبطة بذلك.

إن الدراسات المقارنة على الحيوانات الحية الحالية تدعم ذلك التوكيد. فعلى امتداد الرئيسات جميعها، تتغذى الأنواع ذات الأدمغة الكبيرة بأطعمة غنية. ويشكل البشر المثال الأقصى في هذا التلازم، إذ يزهو البشر بأكبر حجم دماغ نسبي وبأفخر قوت [انظر: «الغذاء وتطور الرئيسيات(6)»،مجلة العلوم، العددان 3/4(1994)، ص 82]. ووفقا لتحاليل حديثة أجراها <L. كوردين> [من جامعة ولاية كولورادو] يستمد الصيادون الجمّاعون المعاصرون 40-60 في المئة من طاقتهم الغذائية من أطعمة حيوانية (لحم ولبن (حليب) ومنتجات أخرى). ومن باب المقارنة، لا تحصل الشمپانزات الحديثة إلا على 5 - 7 في المئة فقط من كالورياتها من هذه المأكولات. ومن المعروف أن الأغذية الحيوانية أكثر غنى بالكالوريات وبالمغذيات من معظم الأغذية النباتية. فمثلا، تعطي 3.5 أوقية لحم أكثر من 200 كيلوكالوري، في حين لا تعطي الكمية نفسها من الفواكه إلا 50 –100 كيلوكالوري؛ كما لا تعطي الوجبة المماثلة من أوراق النبات إلا 10 - 20 كيلوكالوري. وبهذا يكون معقولا أن اكتساب المزيد من المادة السنجابية (الرمادية) gray matter في الدماغ كان يعني السعي وراء المزيد من الزاد الغني بالطاقة.

مع مرور الزمن كبرت الأدمغة، ومن ثم ازدادت متطلباتها الطاقية. فالدماغ البشري الحديث يحتاج إلى ما يزيد على ما كان الدماغ الأوسترالوپيثيسيني يحتاج إليه من متطلبات طاقة راحة الجسم بمقدار 10-12 في المئة.

وكذلك تشير الأحافير (المستحاثات) إلى أن تحسينات في الجودة الغذائية قد رافقت النمو التطوري للدماغ. فجميع الأوسترالوپيثيسينات كانت تمتلك سمات هيكلية وسنّية dental مخصصة لمعالجة أطعمة نباتية خشنة ومتدنية الجودة. ونشير إلى أن الأوسترالوبيثيسينات اللاحقة القوية robust (وهي فرع مسدود النهاية من شجرة نسب الإنسان كان قد عاش جنبا إلى جنب مع أفراد جنسنا الخاص) كان يمتلك تكيفات مهمة لصالح سحق الأطعمة النباتية الليفية. وشملت هذه التكيفات وجوهًا ضخمة لها شكل الطبق، وفكوكا ثقيلة، وحيودا ridges أو قنازع crests سهمية تعلو الجمجمة من أجل ارتكاز العضلات الماضغة القوية، وكذلك أضراسا طاحنة كثيفة الميناء. (وهذا لا يعني القول بأن الأوسترالوپيثيسينات لم تكن تأكل اللحم قط؛ إذ إنها، على نحو شبه مؤكد، كانت تفعل ذلك في بعض الأحيان، مثلما تفعل الشمپانزات في الوقت الحاضر). وعلى نقيض ذلك، كان للأفراد المبكرين من جنس الإنسان Homo الذين انحدروا من الأوسترالوپيثيسينات الهيفاء وجوه أصغر بكثير وفكوك أكثر رشاقة وأضراس طاحنة أصغر حجما، كما لم تكن لهم قنازع سهمية، وذلك بغض النظر عن كونهم أكبر حجما من أجدادهم فيما يخص حجم الجسم الإجمالي. وهذه الصفات مجتمعة توحي بأن الإنسان القديم كان يستهلك مقدارا أقل من المواد النباتية ومقدارا أكبر من الأطعمة الحيوانية.

أما فيما يخص ما استحث تحول جنس الإنسان بداية نحو الغذاء العالي الجودة والضروري لنمو الدماغ، فيبدو مرة أخرى أن التبدل البيئي قد أعد المسرح لتغير تطوري. فالجفاف المستمر للأرض الإفريقية حد من كمية وتنوع الأطعمة النباتية الصالحة للأكل والمتاحة للأناسي. وإن من استطاع من ذلك الخط التطوري الذي أفضى إلى الأوسترالوبيثيسينات القوية مجاراة هذه المشكلة من الناحية المورفولوجية، كانوا أولئك الذين طوروا تخصصات تشريحية مكنتهم من العيش بالتغذي على أطعمة أيسر منالا وأصعب مضغا. أما الإنسان فقد سلك مسارا مغايرا. فكما يتبين، أفضى انتشار المروج grasslands إلى زيادة في الغزارة النسبية للثدييات الرعوية (من أمثال الظباء والغزلان)، وهذا أوجد فرصا أمام أناسي تستطيع استغلالها. وهذا بالضبط ما فعله الإنسان المنتصب؛ وذلك بأن طور أول اقتصاد للصيد والجمع hunting-and-gathering economy، الذي أصبحت فيه حيوانات الصيد جزءا مهما من القوت وغدت الموارد مشتركة بين أفراد المجموعات المقتاتة foraging groups. وتتجلى أمارات هذه الثورة السلوكية في السجل الأركيولوجي (الآثاري) الذي يُظهر كثرة في عظام الحيوانات في مواقع لأناسي في هذه الحقبة، إلى جانب أدلة بأن تلك الحيوانات كانت قد ذبحت باستعمال أدوات حجرية.

إن هذه التغيرات في القوت وفي سلوك التقوّت foraging لم تحول أجدادنا إلى آكلي لحوم خالصين، ولكن إضافة كميات متواضعة من الأغذية الحيوانية إلى وجبة الطعام، وكذلك التشارك في الموارد النمطية لمجموعات الصيادين الجماعين، لا بد أنهما زادا إلى حد مهم في جودة أقوات الأناسي واستقرارها. ولئن كانت جودة الاغتذاء المحسن لا تكفي وحدها لتفسير سبب نماء أدمغة الأناسي، فإنها ـ على ما يبدو ـ أدت دورا حديا في تيسير ذلك التغير. وعقب القفزة الأولية في نمو الدماغ، ربما تآثر interact القوت والتوسع الدماغي تآزريا synergistically، بحيث أخذت الأدمغة الكبيرة تولد سلوكا اجتماعيا متزايد التعقيد أفضى بدوره إلى مزيد من التحولات في تكتيك التقوت وفي القوت المحسن، وهذا عزز من جانبه تطورا دماغيا إضافيا.

مأدبة متنقلة

الأوسترالوپيثيسينات القوية (من أمثال أوسترالوپيثيكس بوازيي (في اليسار)) كانت لها تكيفات واضحة لغرض أكل أطعمة نباتية ليفية عسيرة المضغ. وعلى النقيض من ذلك، نشأ الإنسان المنتصب (في اليمين) ليقتات طعاما أكثر لينا وأعلى جودة، طعاما يقترب ـ على الأرجح ـ من الشبه باللحم.

وكذلك ترافق نشوء الإنسان المنتصب في إفريقيا قبل 1.8 مليون سنة مع نقطة انعطاف ثالثة في التطور البشري. فحتى عهد قريب، كانت مواضع وجود أحافير معروفة، وأعمارها، توحي بأن الأفراد المبكرين من جنس الإنسان «هومو» استقروا ثابتين بضع مئات من آلاف السنين قبل أن يغامروا بالخروج من موطنهم وينتشروا ببطء في سائر أرجاء العالم القديم. وقد ألمحت مؤلفات سابقة إلى أن التحسينات في تقانة صنع الأدوات قبل نحو 1.4 مليون سنة (أي تداول الفأس الأشولية(7) Acheulean اليدوية) سمحت للأناسي بمغادرة إفريقيا.

في أوار النار

يجادل R. رانگهام من جامعة هارڤارد وزملاؤه، بأن الممارسة المبكرة لطبخ الأطعمة النباتية (ولا سيما الدرنات) أتاحت توسع الدماغ.

يعد أكل كمية أكبر من الأطعمة الحيوانية أحد أساليب زيادة كثافة الكالوريات والمغذيات في القوت، وهو تحول يبدو أنه كان حاسما في خط التطور البشري. ولكن، تُرى هل حسّن أسلافنا القدماء الجودة الغذائية بأسلوب آخر غير الذي تقدم؟ حديثا فحص <R. رانگهام> [من جامعة هارڤارد] وزملاؤه أهمية الطبخ في التطور البشري، فأظهروا أن الطبخ لا يجعل الأطعمة النباتية أكثر طراوة وأسهل مضغا فحسب، بل يزيد إلى حد كبير من محتواها الطاقي المتاح، ولا سيما ما يخص الدرنات النشوية، مثل البطاطا (البطاطس) والمنيهوت cassava؛ فالنشويات في شكلها الخام لا تتفكك بالإنزيمات داخل جسم الإنسان بسهولة. ولكن هذه الكربوهيدرات المعقدة تصبح، لدى تسخينها، أسهل هضما، وبذلك تعطي مزيدا من الكالوريات.

يقترح الباحثون أن الإنسان المنتصب Homo erectus ربما كان أول من استخدم النار لطهي الأطعمة من بين الأناسي hominids، وذلك منذ نحو 1.8 مليون سنة. وهم يجادلون بأن الطبخ الباكر للأطعمة النباتية (ولا سيما الدرنات) مكَّن هذا النوع البيولوجي من امتلاك أسنان أصغر وأدمغة أكبر مما كان لدى من سبقه من الأسلاف. يضاف إلى ذلك أن الكالوريات الإضافية المكتسبة سمحت للإنسان المنتصب بمباشرة الصيد (الذي يعد نشاطا أكثر كلفة طاقية) على نحو أكثر تكرارا.

من الواضح أن الطبخ كان ابتكارا حسّن إلى حد كبير جودة القوت البشري، ولكن يبقى من غير الواضح متى نشأت هذه الممارسة في الماضي.

ولكن المكتشفات الجديدة تشير إلى أن الإنسان المنتصب حط على الأرض راكضا، كما يقولون. فقد أظهر <C. سويشر >III [عالم تأريخ الأرض(8) في جامعة رتگرز] وزملاؤه أن أقدم مواضع الإنسان المنتصب خارج إفريقيا، والتي تقع في إندونيسيا وفي جمهورية جورجيا، يعود تاريخها إلى ما بين 1.8 مليون و1.7 مليون سنة. ويبدو أن الظهور الأول للإنسان المنتصب وانتشاره المبدئي خارج إفريقيا قد حدثا في الوقت نفسه تقريبا.

ومرة أخرى يظهر أن الدافع وراء شهوة التجوال هذه إنما هو الغذاء. فما يأكله الحيوان يملي إلى حد بعيد اتساع رقعة الإقليم territory الذي يحتاج إليه لبقياه. وتحتاج الحيوانات اللاحمة على العموم إلى موطن أكثر اتساعا مما تحتاج إليه الحيوانات العاشبة التي توازيها في الحجم، بسبب قلة المتاح لها من الكالوريات الإجمالية في وحدة المساحة.

ونظرا إلى كبر جسم الإنسان المنتصب وتزايد اعتماده على الأغذية الحيوانية، فمن المرجح جدا أنه تطلب مضمارا من الأرض يفوق ما تطلبته الأوسترالوپيثيسينات الأصغر حجما والأكثر اعتمادا على الأغذية النباتية. وباستخدام بيانات عن رئيسات وبشر صيادين جمّاعين معاصرين، قدرتُ مع روبرتسون وS. أنطون من جامعة رتگرز أن كبر حجم الإنسان المنتصب وما صاحبه من زيادة متوسطة في تناول اللحوم قد تطلب زيادة في مساحة الموطن بمقدار 8- 10 أضعاف ما تطلبته الأوسترالوپيثيسينات المتأخرة. وهذا القدر يكفي في الحقيقة لتعليل التوسع الفجائي لنوع الإنسان المنتصب خارج إفريقيا. ولم يتضح بالضبط البُعْد الذي ابتعده الإنسان المنتصب خارج هذه القارة، بيد أن قطعان الحيوانات المهاجرة ربما ساعدت على الاهتداء إلى هذه المسافات البعيدة.

وحينما ازداد توغل البشر في خطوط العرض الشمالية، صادفوا تحديات غذائية جديدة. فالنياندرتاليون Neandertals الذين عاشوا في أثناء العصور الجليدية الأخيرة في أوروبا، كانوا من بين أوائل البشر الذين سكنوا بيئات قطبية شمالية؛ ولا بد أنهم احتاجوا، على نحو شبه مؤكد، إلى كالوريات وفيرة للعيش في تلك الظروف. وتأتي دلالات ما كانت عليه متطلباتهم الطاقية من بيانات عن الشعوب البشرية التقليدية التي تعيش في الأوساط الشمالية اليوم. فالعشائر السيبيرية التي ترعى قطعان الرنة في الوقت الحاضر والمعروفة باسم الإڤنكي Evenki، والتي قمت بدراستها مع P. كاتزمارزيك من جامعة كوين في أُنتاريو و V. گالوواي من جامعة تورونتو ، وكذلك عشائر الإنويت Inuit

(الإسكيمو) في القطب الشمالي الكندي، تزيد معدلات استقلاب (أيض) الراحة لديها بمقدار 15 في المئة عن نظائرها لدى أناس من نفس الحجم يعيشون في البيئات المعتدلة. فالفعاليات المكلفة من الناحية الطاقية والملازمة للعيش في المناخ الشمالي تُبْقي الكلفة الكالورية للحياة عند مستوى مرتفع. وفي الواقع، بينما يتطلب رجل أمريكي يزن (160 رطلا ويحيا حياة حضرية الأسلوب) نحو 2600 كيلو كالوري في اليوم، فإن الرجل الإيڤينكي الصغير الحجم ذا الوزن البالغ 125 رطلا يحتاج إلى ما هو أكثر من 3000 كيلوكالوري يوميا كي يقوم بأَوَده. وباستخدام هذه الشعوب الشمالية المعاصرة كعلامات استدلال، قدّرت مع M. سورنسن من جامعة نورث وسترنأن النياندرتاليين كانوا يتطلبون على الأرجح ما يصل إلى 4000 كيلو كالوري للشخص في اليوم من أجل بقياهم. ويعود الفضل في قدرتهم على تلبية هذه المتطلبات طوال بقياهم إلى مهاراتهم في تأمين القوت.

مآزق حديثة

تماما مثلما تحكمت ضغوط تحسين جودة الغذاء في التطور البشري القديم، فقد لعبت هذه العوامل كذلك دورا حاسما في الزيادات الحالية لأعداد السكان. فالتجديدات التي طرأت، مثل الطبخ والزراعة، بل حتى بعض نواحي تقانة الأغذية، يمكن اعتبارها جميعا تكتيكات لزيادة جودة الغذاء البشري. فالطبخ، مثلا، زاد من الطاقة المتاحة في الأطعمة النباتية البرية. وبمجيء الزراعة بدأ البشر ينابلون manipulate أنواعا نباتية هامشية(9) بقصد زيادة إنتاجيتها وقابلية هضمها ومحتواها الغذائي، محاولين من حيث الأساس جعل النباتات أكثر شبها بالأغذية الحيوانية. ويتواصل هذا النوع من السَّمْكرة tinkering في هذه الأيام باستخدام التحوير الوراثي (الجيني) لأنواع المحاصيل وصولا إلى إيجاد فواكه وخضراوات وحبوب «أفضل». وعلى نحو مشابه، يعتبر تطوير الإضافات الغذائية السائلة وقوالب bars الأغذية المركزة البديلة عن الوجبات استمرارا لنهج كان قد بدأه أجدادنا: ألا وهو كسب ما أمكن من مردود أغذيتنا في أقل حجم ممكن وبأقل جهد بدني مستطاع.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

صيادون نياندرتاليون

SCI2003b19N10 H01 009218.jpg

من أجل إعادة تصور ما كان البشر الأوائل يأكلونه، درس الباحثون بشكل تقليدي الملامح الظاهرة على أسنانهم وجماجمهم الأحفورية، والبقايا الآثارية (الأركيولوجية) لفعالياتهم المتعلقة بالطعام، وأقوات البشر والقردة العليا الحاليين. ولكن يتزايد اليوم طَرْق الدارسين لمصدر آخر من البيانات: وهو التركيب الكيميائي للعظام الأحفورية. وقد أعطت هذه المقاربة approach بعض النتائج المثيرة للاهتمام فيما يخص النياندرتاليين.

ومؤخرا فحص M. ريتشاردز الذي يعمل الآن في جامعة برادفورد بإنگلتراوزملاؤه، النظائر المشعة للكربون (C13) والنتروجين (N15) في عظام نياندرتالية عمرها 000 29 سنة من كهف فينديچا Vindija Cave في كرواتيا. وتعكس نسب هذه النظائر في الجزء الپروتيني من عظم الإنسان (والمعروف باسم كولاجين) نسبها في پروتين قوت الفرد بشكل مباشر. وهكذا، وبمقارنة «التواقيع» النظائرية للعظام النياندرتالية بنظائرها لحيوانات أخرى كانت تعيش في الأوساط نفسها، استطاع المؤلفون أن يحددوا ما إذا كان النياندرتاليون استمدوا معظم پروتينهم من النباتات أو من الحيوانات.

وتبين التحاليل أن نياندرتاليي فينديچا كانت لديهم مستويات من النتروجين (N15) تشابه نظائرها لدى اللواحم الشمالية، مثل الثعالب والذئاب، مما يشير إلى أنهم قد حصلوا على جميع پروتينهم الغذائي تقريبا من أطعمة حيوانية. وقد ألمحت أبحاث سابقة إلى أن الالتماس غير الكفء للطعام ربما كان أحد العوامل في الانقراض اللاحق للنياندرتاليين. ولكن <ريتشاردز> ومعاونوه يجادلون بأن النياندرتاليين كان عليهم أن يكونوا صيادين مهرة بغية تأمين ما يبدو أنهم كانوا يستهلكون من كميات الغذاء الحيواني. وتشكل هذه المكتشفات جزءا من حصيل متنام من المراجع يوحي بأن سلوك المعيشة النياندرتالية كان أكثر تعقيدا مما كان يظن [انظر: «من هم النياندرتاليون؟»،مجلة العلوم، العددان 8/9(2003)، ص 74].

وعلى العموم، لقد نجحت تلك الاستراتيجية بوضوح؛ فهاهم البشر موجودون اليوم وبأعداد قياسية أيضا. ولكن ربما كان أقوى شاهد على أهمية الأغذية الغنية بالطاقة والمغذيات يتمثل في ما يلاحظ من أن الكثير من الهموم الصحية التي تواجه المجتمعات في طول الأرض وعرضها ينتج من انحرافات عن دَيْنَمِيّة الطاقة التي أرساها أجدادنا. فبالنسبة إلى أطفال المجتمعات الريفية في العالم النامي (العالم الثالث) تفضي الأقوات المتدنية الجودة إلى نمو جسدي ضعيف وإلى معدلات وفيات عالية في وقت مبكر من الحياة. وفي هذه الحالات، فإن الأطعمة المقدمة للصغار في أثناء الفطام وبعده لا تحوي غالبا الطاقة والمغذيات التي تلبي الاحتياجات الغذائية العالية التي تلازم هذه الفترة من النمو السريع. ومع أن هؤلاء الأطفال يماثلون نمطيا، عند الميلاد، نظراءهم في الولايات المتحدة من حيث الطول والوزن، فإننا نجدهم، في سن الثالثة، أقصر قامة وأقل وزنا من نظرائهم، حيث إنهم غالبا ما يشبهون الفئة الأدنى (التي تمثل 2-3 في المئة) من الأطفال الأمريكيين المقابلين لهم في العمر والجنس.

بدأ النزوح الإفريقي حالما نشأ الإنسان المنتصب قبل نحو 1.8 مليون سنة. وربما كان ذلك بسبب حاجته إلى فيافٍ أكثر اتساعا مما كانت تحتاج إليه أجداده ذوو الأجسام الأصغر حجما.

وتواجهنا اليوم في العالم الصناعي مشكلة معاكسة، حيث نجد أن بدانة الأطفال والكبار آخذة في الازدياد بسبب الأطعمة الغنية بالطاقة التي نشتهيها، ولا سيما تلك المفعمة بالدهن والسكر والتي صارت في المتناول على نطاق واسع وغدت رخيصة الثمن نسبيا. وبحسب تقديرات حديثة يندرج ما يزيد على نصف عدد الأمريكيين البالغين في قائمة مفرطي الوزن (أو البدينين obese). وكذلك ظهرت البدانة في أجزاء من العالم النامي الذي لم يكن يعرفها فعليا قبل أقل من جيل. وقد برزت هذه المفارقة الظاهرية حينما انتقل هؤلاء الناس، الذين تربوا على تغذية سيئة، من المناطق الريفية إلى الأوساط الحضرية، حيث يكون الطعام أيسر منالا. ويمكن القول بأن البدانة وأمراضا شائعة أخرى في العالم المعاصر تمثل امتدادات لنزعة عامة بدأت منذ ملايين السنين. فنحن ضحايا نجاحنا التطوري الذي أوجد أقواتا غنية بالكالوريات وقلل إلى أدنى الحدود كمية طاقة الصيانة التي تصرفها الفعاليات الجسدية.

ويتضح حجم اختلال التوازن هذا حينما ننظر إلى الجماعات البشرية الحالية التي تمارس حياة تقليدية. فالدراسات التي أجريتها بالتعاون مع M. كراوفورد من جامعة كنساس] و L. أوسيپوڤا من أكاديمية العلوم الروسية في نوڤوسيبيرسك على رعاة قطعان الرنة الإڤينكيين، تشير إلى أن هؤلاء الرعاة يستمدون نحو نصف كالورياتهم اليومية من اللحم، الذي يتجاوز مقداره ضعفي ونصف ضعف ما يستهلكه الفرد الأمريكي في المتوسط. بيد أننا حينما نقارن الرجال الإڤينكيين بنظرائهم الأمريكيين نجدهم أكثر نحولا بمقدار 20 في المئة وعندهم من الكولستيرول مستويات تقل 30 في المئة.

تشكيلة منوعة من الأقوات

تستطيع الأقوات المختلفة تلبية المتطلبات الغذائية البشرية. فبعض الجماعات السكانية تعيش على الأطعمة النباتية بشكل تام تقريبا، وبعضها الآخر يقتات الأطعمة الحيوانية على الأغلب. ومع أن الأمريكيين يستهلكون من اللحم أقل مما يتناوله عدد من الجماعات السكانية التي تحيا حياة تقليدية والموصوفة في هذا الجدول، فإنهم ذوو مستويات من الكولستيرول ومن البدانة (بحسب ما يشير معامل الكتلة الجسمية) تفوق نظائرها في تلك الجماعات السكانية؛ وذلك لأنهم يتناولون مما يولد الطاقة ما يفوق استهلاكهم منها ويأكلون لحما غنيا بالدهون.

تقدم التشكيلة المنوعة لاستراتيجيات الأقوات الناجحة، التي تستخدمها الجماعات السكانية التي تحيا الآن حياة تقليدية، منظورا مهما عن النقاش المتواصل حول مضاهاة الريجيمات (النظم الغذائية) regimens العالية الپروتين الخفيضة الكربوهيدرات، مثل قوت أتكينز Atkins diet، للريجيمات التي تشدد على الكربوهيدرات المعقدة وتقلل من الدهون. وليس مستغربا أن يفضي كلا هذين النهجين إلى نقصان في الوزن، لأن كليهما يساعد الناس على هدر أرطال من الوزن عبر الآلية الأساسية ذاتها؛ أي بتحديد المصادر الرئيسية للكالوريات. فعندما يتسبب المرء في عوزٍ ما في الطاقة (بمعنى استهلاك كالوريات أقل مما يصرف منها)، فإن جسمه يبدأ بحرق مخزونه من الدهون ويفقد بالتالي بعضا من وزنه.

إن السؤال الكبير عن الأقوات الصحية التي تخفض الوزن، أو التي تحافظ على الوزن، إنما يدور حول ما إذا كانت تلك الأقوات تفضي إلى أنماط أكل تكتسب صفة الاستدامة مع مرور الزمن. وحول هذه النقطة يبدو أن الأقوات التي تحدد بشدة مجموعات كبيرة من الأغذية (مثل الكربوهيدرات) تكون أصعب استدامة من الأقوات ذات التقييد المعتدل. وفي حالة الريجيم من نمط أتكنز Atkins-type regimen تبرز كذلك هموم تتعلق بالتبعات المحتملة الطويلة الأجل لتناول أطعمة مأخوذة إلى حد كبير من حيوانات التسمين التي تميل إلى أن تحتوي على مقادير من الدهون عموما، وكميات من الدهون المشبعة خصوصا، تفوق ما تحتوي عليه نظائرها من الحيوانات التي ترعى رعيا حرا.

وفي الشهر9/2002 قدم معهد الطب التابع للأكاديمية الوطنية للعلوم (الأمريكية) توجيهات جديدة حول النظم الغذائية والرياضية تتماشى جيدا مع الأفكار المطروحة في هذه المقالة. ولم يكتف هذا المعهد بتوسيع نطاق رقعة كميات الكربوهيدرات والدهون والپروتينات التي تندرج في القوت الصحي (معترفا بذلك، من حيث الجوهر، بوجود أشكال عديدة لتلبية احتياجاتنا الغذائية)، بل ضاعفت هذه الهيئة كذلك المقدار المستحسن للنشاط البدني المعتدل الشدة ليبلغ ساعة واحدة في اليوم. وباتباع هذه التوجيهات وإقامة التوازن بين ما نأكل وما نزاول من رياضة، نستطيع الاقتراب من نمط حياة الإڤينيكيين في سيبيريا وغيرهم من المجتمعات التقليدية الأخرى، بل حتى من نمط حياة أسلافنا من الأناسي.


وتعكس هذه الفروق تراكيب الأقوات diets بشكل جزئي. فمع أن قوت الإڤينكيين غني باللحم، فإنه فقير نسبيا في الدهن (إذ يأتي نحو 20 في المئة من طاقتهم الغذائية من الدهن، في حين تكون هذه النسبة 35 في المئة في أقوات الأمريكيين)، وذلك لأن الحيوانات التي ترعى رعيا حرا مثل الرنة، تحوي أجسادها دهنا أقل مما تحويه أجساد الماشية وحيوانات التسمين الأخرى. وكذلك يختلف تركيب الدهن لدى حيوانات الرعي الحر بحيث يميل إلى أن يكون أقل غنى بالدهون المشبعة وأكثر غنى بالحموض الدهنية ذات الروابط غير المشبعة المتعددة، والتي تقي من أمراض القلب. ولكن الأهم من ذلك أن أسلوب الإڤينكيين في الحياة يستلزم مقدارا من صرف الطاقة أعلى بكثير مما لدى الأمريكيين.

وهكذا، فليس مجرد التغيير في الأقوات هو ما خلق العديد من مشكلاتنا الصحية النافذة، بل تآثر هذه الأقوات المتغيرة مع أساليب الحياة المتبدلة. وكثيرا جدا ما تُصوَّر المشكلات الصحية المعاصرة على أنها نتيجة لتناول أغذية «سيئة» تعد انحرافات عن «القوت البشري الطبيعي»؛ وهذا ما يعتبر تبسيطا مفرطا يتجسد في الجدل الحالي حول المزايا النسبية لأقوات النمط «أتكنز» Atkins الغنية بالپروتينات والدهون، والأقوات الخفيضة الدهن التي تركز على الكربوهيدرات المعقدة. وتعد هذه المقاربة مدخلا معيبا بشكل عميق لتقدير الاحتياجات الغذائية البشرية. فنوعنا البيولوجي لم يصمم للعيش على قوت وحيد أمثل. وما يلفت النظر فيما يخص الإنسان هو ما يتبدى من تنوع استثنائي لما نأكل. لقد استطعنا أن نزدهر في كل منظومة بيئية ecosystem على الأرض تقريبا عبر استهلاكنا أقواتا تتفاوت بين جميع أشكال الأغذية الحيوانية تقريبا لدى الجماعات السكانية للقطب الشمالي، وبين الدرنات النباتية وحبوب الغلال لدى الجماعات السكانية في أعالي الأنديز. وفي الواقع، تمثلت السمات المميزة للتطور البشري في تنوع الاستراتيجيات التي أوجدناها لاستحداث أقوات تلبي متطلباتنا الاستقلابية (الأيضية) المتميزة، وفي الكفاءة المتزايدة التي نستخلص بها الطاقة والمغذيات من البيئة. أما التحدي الذي تواجهه مجتمعاتنا الحالية، فيتمثل في موازنة الكالوريات التي نستهلكها مع الكالوريات التي نحرقها.

المؤلف

William R. Leonard ، أستاذ علم الإنسان (الأنثروپولوجيا) في جامعة نورث وسترن. وُلد في جيمس تاون بولاية نيويورك، حصل على الدكتوراه في الأنثروپولوجيا البيولوجية من جامعة متشيگان بمدينة آن أربر عام 1987. وهو مؤلف لأكثر من 80 مقالة بحثية في التغذية وعلم الطاقة عند الجماعات السكانية المعاصرة وجماعات ما قبل التاريخ؛ وقد درس الجماعات الزراعية الأصيلة في الإكوادور وبوليڤيا والپيرو والجماعات التقليدية لصيد القطعان في وسط سيبيريا وجنوبها.

انظر أيضا

المراجع

  • Evolutionary Perspectives on Human u rition: The Influence of Brain and Body Size on Diet and Metabolism. William R. Leonard and Marcia L. Robertson in American Journal of Human Biology, Vol. 6, No. l, pages 77-88; January 1994.
  • Rethinking the Energetics of Bipedality. William R. Leonard and Marcia L. Robertson in Current Anthropology, Vol. 38, No.2, pages 304-309; April 1997.
  • Human Biology: An Evolutionary and Biocultural Approach. Edited by Sara Stinson, Barry Bogin, Rebecca Huss-Ashmore and Dennis O'Rourke. Wiley-Liss, 2000.
  • Ecology, Health and Lifestyle Change among the Evenki Herders of Siberia. William R. Leonard, Victoria A. Galloway, Evgueni Ivakine, Ludmila Osipova and Marina Kazakovtseva in Human Biology of Pastoral Populations. Edited by William R. Leonard and Michael H. Crawford. Cambridge University Press, 2002.
  • An Ecomorphological Model of the Initial Hominid Dispersal from Africa. Susan C. Antbn, William R. Leonard and Marcia L. Robertson in Journal of Human Evolution (in press).

المصادر