آن روبير جاك طورگو

(تم التحويل من جاك تورگو)
طورگو

آن روبير جاك طورگو, بارون لون Anne-Robert-Jacques Turgot, Baron de Laune, وغالباً ما يشار إليه باسم طورگو Turgot (و.10 مايو 1727 - 18 مارس 1781), كان اقتصادي ورجل دولة فرنسي. وقد كان أسلوب وزارته في الليبرالية الاقتصادية هو القشة الأخيرة التي قصمت ظهر الشعب الفرنسي ودفعته إلى الثورة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النشأة

ولد في أسرة عريقة "من أصل طيب" Une Bonne Race كما قال لويس الخامس عشر-شغل أفرادها المناصب الهامة أجيالاً عديدة بكل كفاية. وكان أبوه مستشاراً للدولة وسر تجار باريس، وهو أرفع منصب إداري في باريس، وأخوه الكبر أميناً للالتماسات والمطالب في برلمان باريس وعضواً بارزاً فيه. وكانت النية توجيه طورجو (آن روبير-جاك)، وهو الابن الأصغر إلى وظيفة القسوسية.

واجتاز بتفوق جميع الامتحانات في كلية لوي-لجران، وفي مدرسة سان-سولبيس اللاهوتية؛ وفي الصوربون، وأصبح "الأبيه دبروكور" وهو بعد في التاسعة عشرة. وتعلم قراءة اللاتينية، واليونانية، والعربية، والأسبانية، والإيطالية، والألمانية، والإنجليزية، والكلام بثلاثة من هذه اللغات على الأقل بطلاقة. وفي 1749 انتخب رئيساً للصوريون، وبوصفه هذا ألقى محاضرات أثارت اثنتان منها ضجة خارج نطاق اللاهوت.

ففي يوليو 1750 ألقى محاضرة على الصوريون باللاتينية في "الفوائد التي أفاد بها توطيد المسيحية الجنس البشري"، وقال إنه أنقذت العالم القديم من سلطان الخرافة، وصانت الكثير من الآداب والفنون والعلوم، وقدمت للبشر المفهوم المحرر لقانون العدالة يسمو فوق كل ألوان التعصب والأنانية البشرية. "أفيستطيع الإنسان أن يطمع في هذا من أي مصدر آخر غير الدين؟ إن الدين المسيحي دون غيره هو الذي أخرج إلى النور حقوق الإنسان"(47). وفي هذه التقوى تسمع صدى الفلسفة؛ وواضح أن الرئيس الشاب كان قد قرأ مونتسيكو وفولتير، وتأثر لاهوته بعض الشيء بما قرأ.

وفي ديسمبر 1750 ألقى محاضرة في الصوربون عنوانها "جدول فلسفي بالتقدم المطرد للعقل البشري". وكان هذا التعبير عن ديانة التقدم الجديدة إنجازاً رائعاً من فتى في الثالثة والعشرين. وقد سبق كونت-وربما حذا حذو فيكو-فقسم تاريخ العقل البشري إلى ثلاث مراحل: مرحلة لاهوتية، وأخرى ميتافيزيقية، وثالثة علمية. قال:

"قبل أن يفهم الناس العلاقة العلية بين الظواهر الطبيعية، كان طبيعياً جداً أن يفترضوا أنها صادرة عن كائنات عاقلة، غير مرئية، شبيهة بهم...فلما أدرك الفلاسفة سخف هذه الخرافات عن الأرباب دون أن يكتسبوا بعد بصراً بالتاريخ الطبيعي، حاولوا تفسير أسباب الظواهر بعبارات تجريدية مثل الظواهر والقوى. ولم توضع الفروض-التي أمكن تطويرها بالرياضيات وإثباتها بالتجربة؛ بملاحظة التفاعل الميكانيكي المتبادل للأجسام-إلا في فترة متأخرة"(48).

وقال الشاب الألمعي إن الحيوانات لا تعرف التقدم، فهي تظل كما هي جيلاً بعد جيل، أما الإنسان فبفضل تعلمه تجميع المعرفة وتوصيلها يستطيع تحسين الأدوات التي يستخدمها في التعامل مع بيئته وفي إثراء حياته. مادام هذا التجميع والتوصيل للمعرفة والتكنولوجيا مستمراً فلا مندوحة عن التقدم وإن عطلته أحياناً الكوارث الطبيعية أو تقلبات الدول. وليس التقدم متماثلاً، ولا هو عام، فبعض الأمم يتقدم وبعضها يتقهقر، وقد يركد الفن في حين يتحرك العلم قدماً، ولكن الحركة في جملتها حركة إلى الأمام. وفضلاً عن هذه الآراء، تنبأ طورجو بالثورة الأمريكية فقال "إن المستعمرات أشبه بالفاكهة التي تتشبث بالشجرة إلى أن تنضج، وحين تغدو مستكفية بذاتها تفعل ما فعلته قرطاجة، وما ستفعله أمريكا يوماً ما(49)".

وقد خطط طورجو لكتابة تاريخ الحضارة وهو بعد الصوربون مستوحياً في ذلك فكرة التقدم. ولم يبقَ من مشروعه هذا سوى مذكرات خطها لبعض فصول الكتاب، ومنها يتبين أنه قص أن يضمنه تاريخ اللغة، والدين، والعلم، والاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، كما يضمنه قيام الدول وسقوطها(50). فلما ورث عن أبيه دخلاً كافياً قرر أواخر عام 1750 أن يترك الوظيفة الكنسية وألح عليه زميل من الآباء الدينيين في البقاء واعداً إياه بالترقي السريع، ولكن طورجو أجاب على ما روى دبون دنمو "لا أستطيع أن أفرض على نفسي لبس قناع طوال حياتي(51)". ولم يكن قد رسم إلا لوظيفة كهنوتية صغيرة، لذلك كان حراً في الاشتغال بالسياسة. وفي يناير 1752 أصبح نائباً عاماً مناوباً، وفي ديسمبر أصبح مستشاراً في البرلمان، وفي 1753 اشترى منصب "أمين الالتماسات والمطالب"، الذي اشتهر فيه بالاجتهاد والعدل. وفي 1755-56 رافق جورنيه في جولات تفتيشية في الأقاليم، وتعلم الاقتصاد الآن بالاتصال المباشر مع الزراع والتجار، والصناع، وعن طريق جورنيه التقى بكزنيه وعن طريق كزنيه التقى بميرابو الأب، ودبون دنمور، وآدم سميث. ولم ينخرط قط في زمرة المدرسة الفيزوقراطية ، ولكن ماله وقلمه كانا أهم سند لمجلة دبون المسماة التقاويم.

وفي غضون هذا (1751) استطاع بفضل ذكائه وسلوكه المهذب أن يلقى الترحيب في صالونات مدام جوفران ومدام دجرافيته، ومدام دوديفان والآنسة دلسبيناس. وهناك التقى بدالامبير، وهلفتيوس؛ ودولباخ، وجريم، ومن بين الثمرات المبكرة لهذا الاتصال كتاب (1753) من رسالتين "في التسامح". وكتب لموسوعة ديدرو مقالات في الوجود، والاشتقاق اللغوي، والمهرجانات، والأسواق، ولكن حين أدانت الحكومة مشروع الموسوعة كف عم موافاتها بمقالاته. وخلال جولاته في سويسرا وفرنسا زار فولتير (1760) وبدأ صداقة معه دامت حتى وفاة فولتير. وكتب حكيم فرنيه إلى دالامبير يقول: (قل أن رأيت طوال حياتي رجلاً ألطف منه أو أوسع إطلاعاً(52)). وادعى جماعة الفلاسفة أنه واحد منهم، وراوده الأمل في أن يؤثروا على الملك عن طريقه.

وفي 1766 كتب لطالبين صينيين على وشك العودة إلى الصين مجملاً للاقتصاد من مائة صفحة عنوانه "تأملات في نشوء الثروة وتوزيعها". فلما نشر في مجلة "التقاويم" (1769-70) أشاد به الناس شرحاً من أكثر شروح النظرية الفيزوقراطية إحكاماً وقوة. قال طورجو أن الأرض مصدر الثروة الوحيد، وكل الطبقات فيما عدا زراع الأرض يعيشون على الفائض الذي ينتجه الزراع فضلاً عن حاجاتهم؛ وهذا الفائض يؤلف "صندوق أجور" تدفع منه أجور طبقة مهرة الصناع. ثم يسوق صيغة مبكرة لما أصبح فيما بعد يطلق عليه "قانون الجور الحديدي" يقول:

"إن أجر العامل يحدده مستوى معيشته بالمنافسة بين العمال. والعامل المجرد الذي لا يملك غير ذراعيه وجده، لا يملك شيئاً إلا بقدر ما يوفق في بيع كده لغيره، وصاحب العمل ينقده أقل ما يستطيع من أجر، وبما أنه يستطيع الاختيار بين العديد من العمال، فإنه يفضل أقلهم أجراً. ومن ثم يضطر العمال إلى خفض سعرهم في المنافسة فيما بينهم، وفي كل أنواع العمل لابد أن يحدث هذا، وهو يحدث فعلاً، وهو أن أجر العامل يحدده ما هو ضروري لإعاشته"(53). ويسترسل طورجو مؤكداً أهمية رأس المال. فلابد أن يوفر شخص ما، بمدخراته، أدوات الإنتاج ومواده قبل أن يتسنى له استخدام العامل، ولابد له من إعاشة العامل قبل أن يرد بيع الناتج له رأس ماله. وإذا لم يكن هناك ضمان على الإطلاق لنجاح مشروع ما، فيجب السماح بربح ليوازن خطر فقد رأس المال. "فحركة رأس المال هذه انطلاقاً ورجوعاً هي قوام دورة النقود، تلك الدورة النافعة المثمرة التي تشيع الحياة في جميع جهود المجتمع، والتي شبهت بكل حق بدورة الدم في الجسم الحيواني"(54). ويجب عدم التدخل في هذه الدورة، وأن يسمح للأرباح والفائدة، كما يسمح للأجور، بأن تصل إلى مستواها الطبيعي حسب العرض والطلب، ويجب أن يعفى من الضرائب أصحاب رؤوس الأموال، وأرباب المصانع، والتجار، والعمال؛ فلا تُفرض إلا على ملاك الأرض الذين يستردون ما دفعوه بتقاضي ثمن أغلى لمحاصيلهم. وينبغي أن لا يفرض إي رسم على نقل أو بيع أي سلعة من سلع الاستهلاك.

في هذه "التأملات" أرسى طورجو الأساس النظري لرأسمالية القرن التاسع عشر قبل التنظيم الفعال للعمل. فهذا الرجل الذي كان من أرحم وأنبل رجال زمانه لم يستطع أن يتطلع إلى مستقبل للعمال أفضل من أجور الكفاف. ومع ذلك أصبح هذا الرجل خادماً للشعب متفانياً في عمله. ففي أغسطس 1761 عُين ناظراً ملكياً لمديرية ليموج، وهي من أفقر أقاليم فرنسا، وقد قدر أن 48% إلى 50% من دخل الأرض فيها يضيع ضرائب للدولة وعشوراً للكنيسة. وكان في فلاحي الإقليم كآبة في نبلائه فظاظة. كتب إلى فولتير يقول: "من سوء حظي أن أكون ناظراً ملكياً. وأقول من سوء حظي لأن السعادة في هذا الزمان الممتلئ بالتناحر واللوم لا تتوافر إلا في حياة الفلسفة بين الكتب والأصدقاء". ورد عليه فولتير قائلاً: "ستكسب أهل ليموج وجيوبهم؛ في اعتقادي أن الناظر الملكي هو الشخص الوحيد الذي يمكنه إفادة الناس. إلا يستطيع إصلاح الطرق، وزرع الحقول، وتصريف المستنقعات، وتشجيع الصناعات؟".

وقد فعل طورجو هذا كله. فكافح بهمة طوال ثلاثة عشر عاماً، أكتسب فيها محبة الشعب وكراهية النبلاء. فالتمس مراراً ، ودون جدوى، من مجلس الدولة أن يخفض معدل الضريبة، وحسن توزيع الضرائب، ورفع المظالم، ونظم خدمة موظفي الحكومة، وحرر تجارة الغلال، وشق 450 ميلاً من الطرق؛ وكانت هذه الطرق جزءاً من برنامج إنشاء الطرق الذي ينظم البلاد كلها (والذي بدأته الحكومة الفرنسية في 1732) والذي ندين له بالفضل في هذه الطرق الجميلة ذات الأشجار الوارفة الغلال التي تنتشر اليوم في ربوع فرنسا. وكانت الطرق قبل طورجو تشق بالسخرة، فألغى السخرة في ليموج، ودفع أجر العمال من ضريبة عامة على الكافة. وأقنع الفلاحين بأن يزرعوا البطاطس غذاء للإنسان لا للحيوان فقط. وقد ظفر بإعجاب الناس جميعاً لما اتخذ من تدابير فعالة لإغاثة الشعب في فترات المجاعة التي امتدت بين سنتي 1768 و1772.

وفي عشرين يوليو 1774 دعاه الملك الجديد للانضمام إلى الحكومة المركزية واغتبطت فرنسا كلها وتطلعت إليه منقذاً مرجواً للدولة المتداعية.


وزارة طورجو 1774 - 1776

كان أول هم للويس السادس عشر أن يعثر على وزراء أكفاء أمناء يصلحون الفوضى التي استشرت في الإدارة والملية. وكان الشعب يطالب في إلحاح بعودة "البرلمانات" التي أقصبت، فأعادها، وأقال موبيو الذي حاول من قبل لأن يحل محلها هيئة أخرى، ورد إلى فرساي لرآسة وزارته جان- فردريك فلبو، كونت موريبا، الذي كان وزيراً للدولة من 1738 إلى 1749، وأقيل لأنه عرض في أهجوة ساخرة بمدام دبومبادور، فعاد الآن إلى السلطة بعد أن بلغ الثالثة والسبعين. وكان اختياراً كريماً ولكنه غير موفق، لأن موريبا بعد أن عاش عقداً على وضعيته الريفية، كان قد فقد صلته بتطور فرنسا في اقتصادها وفكرها، وكان فيه من الظرف أكثر مما فيه من الحكمة. أما للشئون الخارجية فقد اختار الملك ذو العشرين شارل جرافييه، كونت ديفرجين، ولوزارة الحربية الكون كلود- لوي دسان- جرمان، ولوزارة البحرية آن- روبير- جاك طورجو، بارون دو لون.

وقد رأيناه في صفحات سابقة لاهوتياً، ومحاضراً في المسيحية والتقدم، وصديقاً للفزيوقراطيين وجماعة الفلاسفة الفرنسيين، وناظراً ملكياً مقداماً خيراً في ليموج. وقد حذر أتقياء القصر لويس من استخدام طورجو لأنه كافر سبق أن شارك في "الموسوعة" بمقالاته(67)، ومع ذلك ففي 24 أغسطس 1774 رفعه الملك إلى أدق مناصب الحكومة- وهو منصب المراقب العام للمالية وحل محل طورجو في البحرية جابرييل دسارتين، الذي أنفق في خفة على بناء أساطيل ستساعد على تحرير أمريكا، والذي أعتمد على طورجو في تدبير المال اللازم لبنائها.

وكان طورجو رجلاً فرنسياً من معدن شبيه بالذي وجده لويس الرابع عشر في كولبير، كرس نفسه لخدمة وطنه، واتسم ببعد النظر، والعكوف على العمل بغير ملل، ونقاء اليد وطهارتها. وكان فارع الطول حسن الصورة، ولكن اعوزته رقة آداب الرجال الذين صقلتهم الصالونات- وإن رحبت به الآنسة لسبيناس ترحيباً حاراً. وكان قد ضحى بصحته في سبيل عمله، وفي كثير من الوقت الذي كان عاكفاً فيه على إعادة صنع اقتصاد فرنسا كان يلزم مسكنه بسبب النقرس.. وقد حاول أن يضغط ربع قرن من الإصلاحات في وزارة واحدة قصيرة الأجل لأنه أحس بأن أستزاره قلق مزعزع. وكان في السابعة والأربعين حين تقلد وزارته، وفي التاسعة والأربعين حين فقدها، وفي الرابعة والخمسين حين ودع الحياة.

وقد آمن مع الفزيوقراطيين بتحرير الصناعة والتجارة ما أمكن من التنظيم الحكومي أو النقابي، وبأن الأرض مصدر الثروة الوحيد، وبأن ضريبة واحدة على الأرض هي أعدل الطرق وأكثرها عملية لجمع إيراد الدولة، وبأنه ينبغي إلغاء جميع الضرائب غير المباشرة. ثم أنه أخذ عن جماعة الفلاسفة تشككهم الديني وتسامحهم، وثقتهم في العقل والتقدم، وأملهم في إصلاح الأمور عن طريق ملك متنور. فإذا كان الملك صاحب ذكاء وإرادة صالحة، يقبل الفلسفة مرشداً وهادياً له، كان هذا ثورة سلمية، تفضل كثيراً الثورة العنيفة الفوضوية التي لا تكتفي بالقضاء على المفاسد بل تطيح بالنظام الاجتماعي ذاته، فالآن إذن حان وقت وضع نظرية فولتير، "النظرية الملكية" هذه موضع الاختبار. ومن ثم نرى جماعة الفلاسفة يشاركون الفزوقراطيين ابتهاجهم بتقلد طورجو زمام الأمور. وذهب طورجو إلى كومبيين في 24 أغسطس 1774 ليشكر لويس السادس عشر على تعيينه وزيراً للمالية. وقال له "إنني لا أبذل نفسي للملك بل للرجل الأمين". وأجاب لويس وهو يأخذ يدي طورجو في يديه "لن يخيب ظنك"(68). وفي مساء ذلك اليوم بعث الوزير إلى الملك رسالة بينت النقاط الأساسية في برنامجه قال:

"لا إفلاس، معلناً كان أو مقنعاً.

لا زيادة في الضرائب، والسبب حالة شعبك...

لا قروض،... لأن كل قرض يقتضي في نهاية أجل مسمى إما

الإفلاس وإما زيادة الضرائب..."

ولتلبية هذه النقاط الثلاث لا يوجد غير سبيل واحد وهو خفض الإنفاق عن الإيراد، وخفضه بقدر يكفي ضمان وفر في كل عام مقداره عشرون مليوناً تخصص لاستهلاك الديون القديمة. وبغير هذا ستدفع أول طلقة نار بالدولة إلى هاوية الإفلاس. (وقد التجأ نكير فيما بعد إلى القروض، وأفضت حرب 1778 بفرنسا إلى الإفلاس). وبعد أن تبين طورجو أن إيرادات الحكومة السنوية 213.500.000 فرنك، ومصروفاتها 235.000.000 فرنك، أمر بشتى ضروب الوفر، وأصدر تعليمات بألا يصرف مبلغ من الخزانة لأي غرض دون علمه أو موافقته، وكان هدفه تنشيط الاقتصاد بإرساء دعائم حرية المشروعات، والإنتاج، والتجارة، خطوة خطوة. وبدأ بمحاولة لإصلاح الزراعة. وكانت الحكومة قد أشرفت على التجارة في الغلال تجنباً لتذمر أهل المدن، فنظمت بيعها من المزارع لتاجر الجملة، ومن تاجر الجملة لتاجر التجزئة، وحددت سعر الخبز. ولكن انخفاض الأسعار التي دفعت للفلاح ثبطت همته عن زرع المزيد من الغلال، وثنت غيره عن الاشتغال بالزراعة، فظلت مناطق شاسعة من أرض فرنسا صالحة للزراعة دون زرع، وعطلت ثروة الأمم الممكنة عند منبعها. وبدأ إصلاح الزراعة في نظر طورجو أول خطوة في إحياء فرنسا. ذلك أن إطلاق يد المزارع في بيع غلته بأي سعر يستطيع الحصول عليه سيرفع من دخله ويحسن وضعه الاجتماعي، ويزيد قوته الشرائية، وينهض به من الحياة البدائية الوحشية التي وصفها من قبل لابرويير في عصر لويس الرابع عشر الذهبي(70).

ومن ثم ففي 13 سبتمبر 1774 استصدر طورجو من المجلس الملكي مرسوماً أطلق تجارة الغلال في كل مكان عدا باريس حيث قدر أن رد فعل أهل المدينة سيكون محرجاً. وكان ديون دنمور قد قدم للمرسوم بديباجة تشرح الهدف منه، وهو "تنشيط وتوسيع زراعة الأرض، التي تعد غلتها أكثر ثروات الدولة حقيقة وضماناً، والاحتفاظ بوفرة في الغلال عن طريق مخازنها واستيراد الغلال ممن الخارج... والقضاء على الاحتكار... وإيثاراً للمنافسة الحرة" وهذه المقدمة التفسيرية كانت هي ذاتها تجديداً يعكس ظهور الرأي العام كقوة سياسية. ورحب فولتير بالمرسوم فاتحة لعصر اقتصادي جديد، وتنبأ بأنه سيزيد بعد قليل من رخاء الأمة(71). ثم أرسل مذكرة إلى طورجو قال فيها: "أن عليل فرنيه العجوز يشكر الطبيعة لأنها مدت في أجله حتى يرى مرسوم 13 سبتمبر 1774. وهو يقدم احترامه لواضعه، ويرجو له التوفيق"(72).

على ان هذا الترحيب خرج عليه رأي معارض ينذر بالسوء. ففي ربيع 1775 جاء مصرفي سويسري يعيش في باريس ويدعى جاك نكير إلى طورجو يحمل مخطوطاً "عن قانون الغلال وتجاراتها"، وسأل إن كان من الممكن نشره دون إضرار بالحكومة. وقد زعم نكير في كراسته أن قدراً من الإشراف الحكومي على الاقتصاد لا بد من أن أريد ألا يفضي حذق القلة الفائق إلى تركيز الثروة في طرف وتكثيف الفقر في الطرف الآخر، واقترح أن تستأنف الحكومة الإشراف والتنظيم إذا رفعت حرية التجارة من سعر الخبز فوق رقم معين. أما طورجو، الواثق من نظرياته، والمحبذ لحرية النشر، فقد أخبر نكير بأن ينشر المخطوط ويدع الشعب يحكم(73). فنشره نكير.

ولم تقرأه جماهير المدن ولكنها اتفقت نعه في الرأي. فحين ارتفع سعر الخبز في ربيع 1775 اندلعت حوادث الشغب في عدة مدن. ففي الأقاليم المحيطة بباريس، والتي تتحكم في انسياب الغلال إلى العاصمة، راح بعض الرجال يتنقلون بين المدن ويحرضون الناس على التمرد. وأحرقت العصابات المسلحة مزارع المزارعين والتجار وقذفت بالمخزون من الغلال في نهر السين، ثم حاولت منع الغلال المستوردة من إكمال طريقها من هافر إلى باريس، وفي 2 مايو قادت جمعاً محتشداً إلى أبواب القصر في فرساي.

وأعتقد طورجو أن هذه العصابات يستخدمها الموظفون البلديون أو الأقليميون الذين نقدوا وظائفهم بانتهاء الإشراف الحكومي والذين كان هدفهم أن يخلقوا في باريس أزمة غلال ترفع سعر الخبز وتكره الحكومة على العودة إلى التجارة الخاضعة لهيمنتها(74). وظهر الملك على شرفة من شرفات القصر وحاول الكلام، ولكن ضجة الجمع طغت على كلامه. على أنه منع جنوده من إطلاق النار على الشعب، وأمر بخفض سعر الخبز. ولكن طورجو أكد أن هذا التدخل في قوانين العرض والطلب سيفسد محاولة اختبارها؛ وكان واثقاً من أنه إذا تركت لها حرية العمل فإن المنافسة بين التجار وأصحاب المخابز ستهبط بأسعار الخبز عما قليل. وألغى الملك أمره بخفض السعر. وفي 3 مايو تجمعت حشود غاضبة في باريس وبدأت تنهب المخابز. وأمر طورجو مليشيا باريس بحماية المخابز ومخازن الغلال، وبإطلاق النار على أي شخص يحاول القيام بأعمال عنف. ثم حرص في الوقت نفسه على وصول الغلال الأجنبية إلى باريس والأسواق. وأكرهت هذه المنافسة المستوردة المحتكرين الذين حبسوا غلالهم توقعاً لارتفاع الأسعار على الإفراج عن مخزونهم، فانخفض سعر الخبز، وهدأ النمر. وقبض على نفر من زعمائه، وشنق اثنان منهم بأمر البوليس. وخرج طورجو ظافراً من "حرب الدقيق" هذه. ولكن إيمان الملك بمبدأ عدم التدخل اهتز، وأحزنه شنق هذين الشخصين في ميدان جريف.

ولكن سرته الإصلاحات التي يجريها طورجو في ماليو الحكومة. فلم يمض يوم على مرسوم الغلال بدأ الوزير العجول إصدار الأوامر للوفر في مصروفات الدولة، ولتحصيل الضرائب تحصيلاً أكثر كفاءة، وللإشراف إشرافاً أدق على الملتزمين العموميين، ثم ينقل الاحتكارات الأهلية في المركبات العامة، ومركبات البريد، وصنع البارود، إلى الدولة. واقترح، ولكن لم يتح له الوقت لإنشاء "بنك للخصم" وهو مصرف لخصم الأوراق التجارية، وتلقي الودائع، وإعطاء القروض، وإصدار البنكنوت الذي تدفع قيمته عند إبرازه، وقد اتخذ هذا البنك نموذجاً لبنك فرنست الذي نظمه نابليون في 1800. فلم تحل نهاية عام 1775 حتى كان طورجو قد خفض المصروفات 66.000.000 جنيه، وأنقص الفائدة على الدين الأهلي من 8.700.000 إلى 3.000.000 جنيه. واستعيدت الثقة بالحكومة حتى استطاع أن يقرض 60.000.000 جنيه من الماليين الهولنديين بفائدة أربعة في المائة، ويسدد بهذه الطريقة ديوناً كانت الحظانة تدفع عنها فائدة من سبعة إلى اثنتي عشرة في المائة. وأوشك أن يوازن الميزانية، ولكنه لم يفعل هذا بزيادة الضرائب بل بالحد من الفساد، والإسراف، وعدم الكفاءة، وكثرة الفاقد.

وفي هذه الإصلاحات وغيرها لم يلق طورجو كبير عون من موربيا، ولكنه لقي العون الكثير من كرتيان وماليرب، الذي التقينا به من قبل حامياً للموسوعة ولروسو. فقد أرسل، بوصفه الآن رئيساً لمحكمة المعونات (التي تختص بالضرائب غير المباشرة)، إلى لويس السادس عشر (6 مايو 1775)، مذكرة تشرح المظالم التي ينطوي عليها جمع الضرائب بواسطة الملتزمين العموميين، وتحذر الملك من الكراهية التي يولدها استخدامهم. وأشار بتبسيط القوانين وتوضيحها، وقال "ليس هناك قوانين حسنة غير القوانين البسيطة" وتعلق قلب الملك بماليرب، فعينه وزيراً لبيت الملك (يوليو 1775) وحث هذا اللبرالي المسن لويس على تأييد طورجو، ولكنه نصح طورجو بألا يحاول الإسراف في إصلاحاته في وقت واحد، لأن كل إصلاح سيخلق له أعداء جدداً. وأجاب مراقب المالية العام. وماذا تريدني أن أفعل؟ أن حاجات الشعب هائلة، ونحن في أسرتي نموت بالنقرس في الخمسين"(75).

وفي يناير 1776 فاجأ طورجو فرنسا بستة مراسيم صدرت باسم الملك، قرر إحداها أن تشمل حرية التجارة في الغلال باريس، وألغى العدو الكبير من المناصب المتصلة بتلك التجارة، وانضم الموظفون المطرودون على هذا النحو إلى صفوف أعدائه. وألغى مرسومان أو عدلا الضرائب المفروضة على الماشية والشحوم، فاغتبط الفلاحون. وألغى الرابع السخرة- وهي أيام اثنا عشر أو خمسة عشر يفرض فيها الشغل المجاني على الفلاحين كل عام لصيانة الكباري، والقنوات، والطرق؛ وتقرر أن يتقاضى الفلاحون منذ الآن أجراً عن هذا العمل من حصيلة ضريبة تفرض على جميع الأملاك غير الكنسية؛ واغتبط الفلاحون، وشكا النبلاء. وأثار طورجو المزيد من الاستياء بالديباجة التي وضعها في فم الملك. "إننا لو استثنينا عدداً قليلاً من الأقاليم... لوجدنا أن كل طرق المملكة تقريباً شقت بتسخير أفقر شطر من رعايانا. فالعبء كله وقع إذن على أولئك الذين لا يملكون غير أيديهم ولا تهمهم هذه الطرق إلا بدرجة ثانوية جداً. أما الذين يهتمون بها حقاً فهم ملاك الأرض، وكلهم تقريباً أشخاص يتمتعون بامتيازات، وأملاكهم تزداد قيمتها بشق الطرق. فإذا أكره الفقير دون سواه على صيانة هذه الطرق، وإذا أكره على بذل وقته وجهده دون أجر، كان ذلك معناه أن عدته الوحيدة ضد الفقر والجوع انتزعت منه لإلزامه بالعمل لمنفعة الأغنياء"(76). فلما أوضح برلمان باريس أنه سيرفض تسجيل هذا المرسوم، كاد طورجو يعلن الحرب الطبقية".

"إنني رغم عدائي للاستبدادية الآن كما كنت دائماً، فإني لن أني عن أن أقول للملك، وللبرلمان، وللأمة بأسرها إن لزم الأمر، أن هذا أمر من تلك الأمور التي يجب أن تقررها إرادة الملك المطلقة، ولهذا السبب: وهو أن هذه القضية هي في صميمها قضية بين الأغنياء والفقراء. والآن ممن يتألف البرلمان؟ من رجال أغنياء إذا قورنوا بالسواد الأعظم من الشعب، وكلهم نبلاء لأن مناصبهم تحمل النبالة. ثم البلاط، الذي يشتد في احتجاجه- ممن يتألف؟ من كبار النبلاء، الذين يملك أغلبهم ضياعاً ستخضع للضريبة... ونتيجة لذلك فلا اعتراض البرلمان... ولا حتى تذمر الحاشية يجب أن ينال من القضية على أي وجه... وما دام الشعب لا صوت له في البرلمانات، فإنه لا بد أن يرى الملك في القضية رأيه هو بعد الاستماع إلى هذه البرلمانات، ولا بد أن يحكم لصالح الشعب، لأن هذه الطبقة أتعس طبقاته"(77). أما آخر المراسيم الستة فقد ألغى الطوائف الحرفية. وكانت قد أصبحت أرستقراطية عمالة، لأنها أشرفت على جميع الحرف تقريباً، وحدت من الدخول في عضويتها بإشتراطها رسوم التحاق عالية، ثم قيدت فوق ذلك الصلاحية لاختيار معلمي الحرف. وقد عطلت الاختراع، وعرقلت التجارة بالمكوس أو بحظر المنتجات المتنافسة التي تدخل في نطاقها. وقد نددت طبقة المتعهدين أو المقاولين الصاعدة- وهم رجال يوفرون المبادأة، ورأس المال، والتنظيم، ولكنهم يطالبون بحرية استئجار أي عامل، سواء من المنتمين للوظائف الحرفية أو غيرهم، وبيع سلعهم في أي سوق في متناولهم- هذه الطبقة نددت بالطوائف الحرفية لأنها احتكارات تقيد التجارة. أما طورجو، التواق إلى دعم التنمية الصناعية بإطلاق حرية الاختراع، والمشروعات، والتجارة، فقد شعر أن الاقتصاد القومي سيفيد من إلغاء الطوائف المالية. وقد جاء في ديباجة هذا المرسوم:

"كانت ممارسة الحرف والصنائع في جميع المدن تقريباً مركزة في أيدي عدد قليل من المعلمين المتحدين في نقابات، والذين كان لهم وحدهم حرية صنع وبيع سلع الصناعة الخاصة التي ينفردون دون غيرهم بامتيازهم. فالذي كرس نفسه لأي صناعة أو حرفة لم يكن في استطاعته ممارستها بحرية إلا بعد وصوله إلى مرتبة معلم الحرفة، التي لا سبيل له إليها إلا بعد الخضوع لواجبات طويلة مملة لا حاجة إليها، وبعد أداء إبتزازات متكاثرة تحرمه من جزء من رأس المال الضروري لإنشاء تجارة أو تجهيز ورشة. أما العاجزون عن توفير هذه النفقات فمصيرهم العيش القلق تحت سلطان المعلمين، ولا خيار أمامهم إلا الحياة في ضنك... أو نقل صناعة قد تكون ذات نفع لوطنهم إلى بلد أجنبي".

وكان لهذه التهم الموجهة إلى النقابات الحرفية ما يبررها على قدر علمنا ولكن طورجو استرسل في إجراءاته فحظر على جميع معلمي الحرف وعمال المياومة والتلاميذ الصناعيين تكوين أي اتحاد أو جمعية(79). لقد آمن إيماناً مطلقاً بحرية المشروعات والتجارة، ولم يتوقع أن يكون حق التنظيم هو الوسيلة الوحيدة التي يستطيع بها الصناع أن يجمعوا ضعفهم كأفراد في قوة جماعية للمساومة مع أصحاب العمل المنظمين. وقد أحس أن كل الطبقات ستفيد في المدى الطويل بتحرير رجال الأعمال من القيود الإقطاعية والنقابية والحكومية المفروضة على المشروعات. وأعلن أن جميع الأشخاص في فرنسا- حتى الأجانب- أحراراً في الاشتغال بأي صناعة أو تجارة.

وفي 9 فبراير 1776 رفعت المراسيم الستة إلى برلمان باريس. فلم يوافق إلا على واحد منها ألغى المناصب الصغيرة، ورفض الموافقة على تسجيل الباقي، وخص بمعارضته إنهاء السخرة باعتباره افتئاتاً على الحقوق الإقطاعية(80). وبهذا القرار الذي اتخذ بالتصويت جهر البرلمان بأنه حليف طبقة النبلاء والصوت المعبر عنهم، وهو الذي زعم من قبل أنه حامي الشعب من الملك. ودخل فولتير المعمعة بكراسة هاجمت السخرة والبرلمان وأيدت طورجو، فأمر البرلمان بمصادرة الكراسة. ودافع بعض وزراء الملك عن البرلمان، فوبخهم لويس في لحظة ثبات وجلد قائلاً "أرى جيداً أنه ليس هنا من يحب الشعب غيري وغير مسيو طورجو"(81). وفي 12 مارس دعا البرلمان إلى "سرير عدالة" (وهو المجلس القضائي العالي) في فرساي، وأمره بتسجيل المراسيم. واحتفلت مواكب من العمال بانتصار طورجو.

وأبطأ المراقب العام خطو ثورته بعد أن أرهقته الأزمات المتكررة. فلما طبق حرية التجارة الداخلية على صناعة النبيذ (أبريل 1776) لم يشك غير المحتكرين. ثم حث الملك على إرساء دعائم الحرية الدينية. وأصدر تعليماته إلى ديون دنيمور بأن يضع خطة لتكوين مجالس انتخابية في كل أبرشية، يختارها كل من ملك أرضاً قيمتها ستمائة جنيه أو يزيد، وهذه المجالس المحلية تنتخب ممثلين في مجلس كنتوني، تنتخب ممثلين في مجلس إفليمي، ينتخب نواباً في مجلس الأمة. وكان طورجو مؤمناً بأن فرنسا ليست على استعداد للديموقراطية، فاقترح ألا تعطى هذه المجالس إلا وظائف عن طريق هذه المجالس يحاط الملك علماً بحال المملكة وحاجاتها. كذلك قدم طورجو للملك تخطيطاً للتعليم العام بصفته المدخل الذي لا بد منه للمواطنة المستنيرة. وقال: "مولاي، إنني أجرؤ على التأكيد بأنه لن تمضي سنتان حتى تتبدل أمتك فلا تتعرف عليها الأمم، وبفضل التنوير والأخلاق الطيبة... ستسمو فوق جميع الدول الأخرى"(82) ولكن الوزير أعوزه الوقت. والملك أعوزه المال، لإخراج هذه الأفكار إلى حيز الوجود.

وكانت مراسيم طورجو- وديباجتها- قد ألهبت غضب جميع الطبقات ذات النفوذ عليه خلا التجار ورجال الصناعة، الذين زكوا في ظل الحرية الجديدة. والواقع أنه كان يحاول أن يحدث بطريق سلمي تحرير رجال الأعمال، وهو النتيجة الاقتصادية الأساسية التي أسفرت عنها الثورة الفرنسية. ومع ذلك عارضه بعض التجار سراً لأنه تدخل في احتكاراتهم. وعارضه الأشراف لأنه أراد أن يفرض كل الضرائب على الأرض، ولأنه يستعدي الفقراء على الأغنياء. وأبغضه البرلمان لأنه أقنع الملك بإبطال قرارات نقضه. ولم يثق به رجال الدين زاعمينه كافراً يندر أن يختلف عن القداس، ويدافع عن الحرية الدينية. وحاربه الملتزمون العموميون لأنه حاول أن يحل محلهم موظفون حكوميين في جمع الضرائب غير المباشرة. وساء الماليين حصوله على القروض من الخارج بفائدة 4%. وكرهته بطانة الملك لأنه سخط على إسرافهم، ومعاشاتهم، ووظائفهم الفخرية. أما موريبا، وهو الأعلى منه منصباً في الوزارة، فلم يغتبط بسلطان المراقب العام للمالية واستقلاله المتزايدين. وكتب السفير السويدي يقول "إن طورجو يجد نفسه الهدف لحلف رهيب جداً"(83).

أما ماري أنطوانيت فقد رضيت عن طورجو أول الأمر، وحاولت أن توفق بين نفقاتها واقتصادياته. ولكن سرعان ما استأنفت (حتى 1777) إسرافها في الثياب والعطايا. ولم يخف طورجو فزعه من مطالبهم من الخزنة، وكانت الملكة إرضاء لآن بولنياك قد حصلت على تعيين صديقهم الكونت دجين سفيراً لفرنسا في لندن؛ وهناك دخل في معاملات مالية مشبوهة. وانضم طورجو إلى فرجين في الإشارة على الملك باستدعائه؛ وأقسمت الملكة لتنتقمن منه.

وكان للويس السادس عشر أسبابه الخاصة لفقد الثقة في الوزير الثوري. ذلك أن الملك كان يحترم الكنيسة، وطبقة النبلاء، وحتى البرلمانات، وكانت هذه المؤسسات قد رسخت في التقاليد وتقدست بمرور الزمن، فإقلاقها معناه خلخلة ركائز الدولة؛ ولكن طورجو كان قد أقصاها كلها. فهل تراه على حق وكل هؤلاء على ضلال؟ وشكا لويس سراً من وزيره: "إن أصدقاء فقط هم الأكفاء، وأفكارهم فقط هي الصائبة"(84). وفي كل يوم تقريباً كانت الملكة أو أحد أفراد الحاشية يحاول إثارته على المراقب العام. فلما رجاه طورجو أن يقاوم هذه الضغوط ولم يجب لويس، عاد إلى منزله وكتب إلى الملك (30 أبريل 1776) رسالة كانت الفاصلة في مصيره:

"مولاي: لن أخفي عنكم أن قلبي مجروح جرحاً عميقاً بسبب صمت جلالتكم يوم الأحد الماشي... ذلك أنني ما كنت لاستصعب أمراً من الأمور ما دمت أؤمل الاحتفاظ بتقدير جلالتكم لصواب ما أفعل. واليوم أي جزاء ألقى؟ أن جلالتكم ترون كم يستحيل علي المضي في طريقي قدماً ضد من يؤذونني بالشر الذي يصنعونه بي، وبالخير الذي يمنعونني من فعله بتعطيل جميع إجراءاتي، ومع ذلك فإن جلالتكم لا تمنحوني عوناً ولا عزاء. وأنا أجرؤ يا مولاي على القول بأنني لا أستحق هذا الجزاء... "إن جلالتكم... قد دفعتم بافتقاركم إلى الخبرة. وأنا عليم بأنكم وأنتم في الثانية والعشرين، وفي منصبكم هذا، لا تملكون المرانة على الحكم على الرجال، وهي مرانة يحصل عليها الأفراد العاديون بفضل الاختلاط المعتاد مع نظائرهم؛ ولكن هل سيتاح لكم مزيد من الخبرة بعد أسبوع، بعد شهر؟ وألا يمكن أن تتخذوا القرار الحاسم حتى تتوافر لكم هذه الخبرة البطيئة؟. "مولاي، إنني مدين لمسيو موريبا الذي قلدتموني إياه، ولن أنسى له هذه اليد ما حييت، ولن أقصر أبداً في الاحترام الواجب له. ولكن أتعلمون يا مولاي مبلغ ضعف شخصية المسيو دموريبا؟- وكم تسيطر عليه أفكار من يلتفون حوله. إن الناس كلهم يعرفون أن مدام دموريبا، بتفكيرها الأضعف كثيراً من شخصيتها، توحي إليه دائماً بإرادتها... وهذا الضعف هو الذي يدفعه إلى الموافقة دون تردد على سخط الحاشية علي، والذي يجردني من كل سلطة تقريباً في إدارتي... "مولاي، لا تنس أن الضعف هو الذي أطاح برأس تشارلز الأول على المقصلة... والذي جعل من لويس الثالث عشر عبداً متوجاً،... والذي جر على الحكم السالف كل ويلاته.. مولاي، إنهم يعدونك ضعيفاً، وقد أتى وقت خشيت فيه أن يكون في خلقك هذا العيب، ومع ذلك رأيتك في مناسبات أكثر من هذه عسيراً تبدي شجاعة أصيلة... أن جلالتكم لن تستطيع الاستسلام إرضاء لمسيو دموريب دون لأن تكون غير صادق مع نفسك...".

— طورگو

ولم يرد الملك على هذه الرسالة. فقد أحس أن عليه الآن أن يختار بين موريبا وطورجو، وأن طورجو يطلب خضوع الحكومة التام تقريباً لإرادته. وعليه ففي 12 مايو 1776 أرسل إلى طورجو أمراً بأن يستقبل. وفي اليوم ذاته، وخضوعاً لإرادة الملكة وآل بوليناك، رفع الكونت دجين إلى مرتبة الدوقية. فلما سمع ماليرب بإقالة طورجو قدم استقالته. وقال له لويس "إنك رجل محظوظ. ليتني أنا أيضاً أستطيع ترك منصبي"(86). وما لبث معظم من عينهم طورجو أن طردوا من مناصبهم. وصعقت ماريا تريزا لهذه التطورات، ووافقت فردريك وفولتير على أن سقوط طورجو نذير بانهيار فرنسا(87)، وقد أحزنها الدور الذي لعبته ابنتها في الأمر، وأبت أن تصدق تنصل الملكة من التبعية، وكتب فولتير إلى لاهارب يقول: "لم يبق لي إلا أن أموت بعد أن ذهب مسيو طورجو"(88).

أما طورجو فقد عاش بعد إقالته عيشة هادئة في باريس، يدرس الرياضة، والفيزياء، والكيمياء، والتشريح. وكان يلتقي كثيراً بفرانكلين، وقد كتب له "مذكرة في الرسوم" ثم اشتدت عليه وطأة النقرس حتى أكرهه بعد 1778 على الاستعانة بعكازين في شميه. ومات في 18 مارس 1781 بعد سنوات حفلت بالألم وخيبة الأمل. ولم يدر بخلده أن القرن التاسع عشر سيقبل معظم أفكاره ويطبقها. وقد أجمل ماليرب وصفه في حب فقال: "كان له رأس فرانسيس بيكن، وقلب لوبيتال"(89).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

  • Douglas Dakin, Turgot and the Ancien Régime in France, London, Methuen, 1939
  • Steven L. Kaplan, Bread, Politics and Political Economy in the Reign of Louis XV, 2 T. La Haye, Martinus Nijhoff, 1976.
  • Ronald L. Meek, Social Science and the Ignoble Savage, Cambridge University Press, 1976

الهامش

طالع أيضاً

وصلات خارجية