تاريخ التعليم في ألمانيا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

القرن 19

لقد أصبح التعليم الآن هو الشاغل الأول لألمانيا وهو الإنجاز الأول أيضا، وارتبط هذا بالحرب فقد كان لابد من حفز العقول والأنفس والأبدان لمواجهة نابليون. لقد وجدنا فشته Fichte في كتابه خطابات إلى الأمة الألمانية (7081)(21) يعبر عن قناعات العصر رغم أن قلة هم الذين تنبهوا لقوله: إن إصلاح التعليم في كل مراحله، هو وحده الذي يعلي من شأن ألمانيا لمواجهة احتياجات الدولة في هذه الأعوام التي تحطمت فيها الروح الألمانية بسبب الاستسلام السريع والإذلال الذي تعرض له الوطن. وفي سنة 9081 تم تعيين ڤلهلم فون همبولت (1797 - 1835) وزيرا للتعليم في بروسيا، وأعطى لنفسه صلاحيات تجعل إصلاحاته نافذة المفعول، فجدد النظام التعليمي الألماني الذي سرعان ما أصبح بفضله أفضل نظام تعليمي في أوربا. فأتى الطلاب من بلاد لا حصر لها للدراسة في جامعات گوتنگن وهيدلبرگ وينا وبرلين. وانتشر التعليم ليشمل كل الطبقات واتسعت موضوعاته وأعراضه، ورغم التركيز على دراسة الدين كدعامة أساسية للشخصية، فقد كان المعلمون الرسميون يركزون على الوطنية كدين جديد في مدارس ألمانيا - تماما كما فعل نابليون في مدارس فرنسا، إذ جعل الوطنية هي اللاهوت الجديد.

لقد كانت الجامعات الألمانية في حاجة إلى دعم قوي، وقد تلقته بالفعل، ذلك أن كثيرا منها كان يعاني من الإهمال الذي كان يعود لفترة طويلة مضت، لقد كانت جامعة هايدلبرج Heidelberg قد أسست في سنة 6831، وأسست جامعة كولوني Cologne في سنة 8831، وجامعة أرفورت Erfurt في سنة 9731، وجامعة ليبزج (ليتسج Leipzig) في سنة 9041، وجامعة روستوك Rostok في سنة 9141 وجامعة مينز (مينتس Mainz) في سنة 6741، وجامعة توبنجن Tubingen في سنة 7741 وجامعة فيتنبرج Wittenberg في سنة 2051 والآن أصبحت كل هذه الجامعات في عُسر وحاجة. وكانت جامعة كونجسبرج Konigsberg التي بدأت في سنة 4451 قد انتعشت بوجود عمانويل كانط Immanuel Kant بها. أما جامعة يينا Jena التي أسست سنة 8551 فقد صارت العاصمة الثقافية لألمانيا بوجود شيلر Schiller وفيشته Fichte وشيلنج Schelling وهيجل Hegel والأخوين شليجل Schlegel والشاعر هولدرلين Holderlin، وفي هذه الجامعة كانت هيئة التدريس غالبا ما تضارع الطلاب في ترحيبهم بالثورة الفرنسية. وكانت جامعة هال Halle (4061) أول جامعة عصريه بثلاثة معان: لقد نذرت نفسها لحرية الفكر والتدريس، ولم تكن تطلب من أساتذتها تعهدا بالالتزام بالعقيدة الدينية السلفية orthodoxy (المقصود الصحيحة من وجهة نظر رجال الدين الكاثوليك أو البروتستنط) وقد خصصت في برامجها التعليمية مكانا للعلوم والفلسفة، وأصبحت مركزا للبحث العلمي بدراساته النظرية والمعملية(31). أما جامعة جوتنجن التي أسست في وقت متأخر يرجع لسنة 6371، فقد أصبحت في سنة 0081 أعظم مدرسة في أوربا(41) لاتضارعها إلا جامعة لايدن Leiden في هولندا. قالت مدام دي ستيل Staol التي كانت تجول هناك في سنة 4081 إن كل شمال ألمانيا غاص بأفضل الجامعات في أوربا(51) لقد كان فيلهلم فون Humboldt كفرانسيس بيكون في هذه الحركة الإحيائية التعليمية، وكان واحدا من بين العقول المتحررة العظيمة في عصره. ورغم أنه نبيل الأصل (من طبقة النبلاء) إلا أنه وصف طبقة النبلاء بأن وجودها كان ضروريا في وقت من الأوقات أما الآن فقد أصبح وجودها شراً لا داعي له وقد خلص من دراسته للتاريخ أن كل المؤسسات تقريبا مهما أصبحت ناقصة معوقة معيبة، إلا أنها في وقت من الأوقات كانت مفيدة. فما الذي جعل الحرية على قيد الحياة في العصور الوسطى؟ إنه نظام الإقطاع fiefs. ما الذي حافظ على العلوم في عصور البربرية؟ إنه النظام الديري(61). لقد كتب هذا وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وبعد ذلك بعام (2971) حكم بحكم - وكأنه يتنبأ - على الدستور الفرنسي الجديد الذي أصدرته فرنسا في سنة 1971 بأنه يحوي - في رأيه - كثيرا من المبادئ المثيرة للإعجاب، لكن الشعب الفرنسي - وهو شعب عاطفي مستثار - لن يكون قادرا على التعايش معه بحكمة وقد يحولون بلادهم إلى فوضى ويغرقونها في الاضطراب. وبعد ذلك بجيل كان يتجول مع صديق له فيلولوجي (عالم بفقه اللغة) في ميدان معركة ليبزج (ليبتسج) حيث واجه نابليون كارثة في سنة 3181، فقال: إن الممالك والإمبراطوريات - كما نرى هنا - تموت، لكن قصيدة رقيقة تبقى للأبد(71) وربما كان يفكر في الشاعر بندار Pindar الذي كان هو قد ترجم أشعاره من لغتها الإغريقية الصعبة بشكل غير عادي.

لقد فشل كدبلوماسي لأنه كان شديد الافتتان بالثورة الفكرية بدرجة تجعله غير قادر على معالجة أمور السياسة المتغيرة ولما كان غير مرتاح على المسرح العام (غير مرتاح للتعامل مع الأمور العامة) فقد عكف على حياة العزلة وراح يدرس، وكان مفتونا بعلم فقه اللغة (الفيلولوجيا) وتتبع الألفاظ عند انتقالها من مكان إلى مكان (المفهوم لمعرفة ما يلحقها من تحريف أو تبديل). ولم يكن يؤمن بقدرة الحكومة على حل المشكلة الاجتماعية لأن أفضل القوانين يمكن أن تفشل أمام طبيعة الإنسان التي لا تتغير. وخلص إلى أن الأمل الوحيد للإنسان يكمن في تطور أقلية قد يكون في إخلاصها منارة تهدي الشباب فيقتدون بها حتى في جيل أصابه القنوط.

وعلى هذا فقد خرج وهو في الثانية والأربعين من خصوصيته (انكفائه على نفسه) وخدم بلاده وزيراً للتعلم، وفي سنة 0181 عهدت إليه الحكومة بتنظيم جامعة برلين، فأحدث فيها تغييرات ظلت مؤثرة في الجامعات الأوربية والأمريكية حتى اليوم: لقد كان محك اختيار الأساتذة ليس قدرتهم على التدريس فحسب وإنما لشهرتهم أو رغبتهم في البحث العلمي الأصيل. وتم دمج أكاديمية برلين للعلوم (أسست في سنة 1171) والمرصد الوطني وحديقة النباتات والمتحف والمكتبة في الجامعة الجديدة. والتحق بهذه الجامعة فيشته الفياسوف، وشليرماشر اللاهوتي، وسافيجنى Savigny القانوني وفريديش أوغسط فلف Wolf (9571 - 4281) العالم الكلاسي (المقصود المتخصص في الكلاسيات أي الدراسات اليونانية واللاتينية) الذي فاجأ الهيلينستيين Hellenists (المقصود هو المتخصصون في الدراسات الهيلينستية أي التراث اليوناني المتفاعل مع تراث الشرق عامة، وقد يكون المقصود أهل هذه المناطق) ببحوثه المتسمة بالتنور والتي خلص منها إلى أن هوميروس Homer ليس شاعرا واحدا وإنما سلسلة من المغنين هم الذين ألفوا - بشكل جماعي - الإلياذة والأوديسة، وقد صدرت دراسته هذه (Prolegomena Homerum) في سنة 5971، وفي جامعة برلين كان بارتولد جورج نيبور Niebuhr (نيبوهر) (6771 - 1381) يلقي الحاضرات التي مهدت لظهور كتابه (تاريخ روما Geschichte Romisch) (1181 - 2381) وأدهش الباحثين برفضه الفصول الأولى من كتاب ليفى Livy باعتبارها أساطير وليست تاريخا. ومن الآن فصاعدا أصبحت ألمانيا هي رائدة العالم في الدراسات الكلاسية والفيلولوجيا (فقه اللغة) وتاريخ التاريخ (الهستور يوجرافي) وكذلك الفلسفة. أما تفوقها وسيادتها في مجال العلوم فسيأتيان فيما بعد.


انظر أيضاً

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.