انتفاضة الجامعات المصرية 1968

انتفاضة الجامعات نوفمبر 1968

جاءت ثورة يوليو بمبادئها المعروفة لتقضى على الاحتلال الذى كان حلم الخلاص منه لا يزال كامنا فى أذهان الطلاب خلال انتفاضاتهم أثناء ثورة 1919 و أعوام 1936و 1946 . و ربما يظن البعض أن السبب الرئيسى لتحرك الطلاب قد انتهى بانتهاء الاحتلال و أن زمن الانتفاضات الطلابية قد ولى بلا عودة . و لكن هذا لم يحدث واقعيا . و انتفض الطلاب ضد نظام عبد الناصر الذى أنجز مشروعات و قوانين و تحالفات عادت ثمارها بالنفع على جموع المصريين و مست بشكل كبير هؤلاء الطلاب القابعين فى الفصول و قاعات الدرس بما منحته لهم من فرص للتعليم و فرص للعمل . و واجه الطلاب عبد الناصر زعيم القومية العربية و مناهض السياسات الاستعمارية و منظر العدالة الاجتماعية . و تلك المواجهة تؤكد أن الحركة الطلابية تقوم بالأساس على فكرة الحرية التى اصطدمت قبل ثورة يوليو بالاحتلال ثم اصطدمت بعدها بالثورة ذاتها !

لقد نهضت الحركة الطلابية بعد أن سكنت طيلة عهد ثورة يوليو . و أعادت نكسة يوليو 1967 قضية التحرر الوطنى إلى الأذهان ، فأدرك الطلاب أن هناك احتلالا لابد من مواجهته ، و فى ذات الوقت هناك غياب للحريات السياسية و تفشى لعلامات الشيخوخة فى نظام عبد الناصر يجب مواجهتهما أيضا . مما دفع الطلاب إلى أن ينادوا بالديمقراطية و إصلاح أوضاع الداخل من أجل مواجهة العدو و استرداد الأرض و الكرامة .

ولعل قضية ضباط سلاح الطيران المتهمين بالإهمال عقب نكسة يوليو بمثابة الشرارة التى أشعلت الغضب المدفون داخل العمال والطلاب. وأظهرت الاحتجاجات مطالب عاجلة ترمى فى اتجاه إصلاح الأخطاء التى ارتكبها نظام عبد الناصر. فقد تحرك عمال حلوان فى يوم 21 فبراير 1968، حيث خرجوا من مصانعهم فى مظاهرات منددة بالأحكام الهزيلة ضد قادة الطيران. ورأى العمال أنها أحكام مخففة لا تعبر عما اقترفه هؤلاء بحق الوطن من أخطاء ناتجة عن استهتار بات سمة من سمات قطاعات كبيرة تمثل أجزاء من نظام عبد الناصر .

ومن ناحية أخرى كان الطلاب قد بدأوا مناقشاتهم من أجل الاحتفال بيوم الطالب المصرى ( الذى حددته الحركة الطلابية العالمية تضامنا مع الحركة الطلابية المصرية فى ذكرى انتفاضة 21 فبراير 1946 ) . و استمات الطلاب لإقامة احتفال موحد تلقى فيه الكلمات الحماسية و يفتح آفاقا أوسع من النقاش حول مستقبل الوطن . و بدأت مظاهرات الطلاب بعد الأنباء التى انتشرت تفضح قمع الشرطة لمظاهرات عمال حلوان . و قد أدى التعامل العنيف من قبل الشرطة مع المظاهرات إلى مصرع عاملين اثنين و إصابة 77 من المواطنين و 146 من رجال الشرطة . و ألقى القبض على 635 شخصا ، بالإضافة إلى تدمير بعض المركبات و المبانى فى العاصمة .

و اشتدت المظاهرات التى اشترك فيها آلاف الطلاب . و فى يوم 24 فبراير وصلت إحدى هذه المظاهرات إلى مجلس الأمة . و تشكل وفد من الطلاب و حظى هذا الوفد بمقابلة مع رئيس مجلس الأمة، أنور السادات. تشعب الحوار داخل المجلس بين أعضائه ووفد الطلاب حول أحكام الطيران والهزيمة و الديمقراطية . و الطريف حقا أن السادات أقسم للطلاب بشرفه أنهم لن يتعرضوا للإعتقال إثر تسجيل أسمائهم قبل انتهاء الاجتماع و أعطاهم رقم تليفونه الخاص للاتصال به حالة حدوث ذلك . و لكن تطمينات السادات كانت وهمية ، فقد تم اعتقال الطلاب من منازلهم فى نفس الليلة !

و فى اليوم التالى قرر طلاب كلية الهندسة - جامعة القاهرة - تنظيم اعتصام برغم أن الحكومة قررت تعطيل الدراسة فى 25 فبراير . و حاصرت الشرطة الكلية حيث ألقى الطلاب الحجارة على قوات مكافحة الشغب . مما جعل الشرطة تلجأ إلى الضغط على الطلاب من خلال الأساتذة و أولياء الأمور لفض الاعتصام . و تم الاتفاق على أن ينتقل الطلاب من الكلية إلى مجلس الأمة فى موكب من السيارات. وعقد اجتماع بين الطلاب و مسئولى الدولة فى حضور رئيس مجلس الأمة . و تركزت المناقشات حول البيان الذى صاغه الطلاب أثناء الاعتصام ، فرفض رئيس مجلس الأمة هذا البيان . و دارت مناقشات ساخنة بين الطلاب من جهة و المسئولين من جهة أخرى . بدا أثناء هذه المناقشات أن حجة الطلاب أقوى طبقا لما ذكره أحدهم : " و لا أذكر أن مجموعة من الوزراء قد استهزىء بها مثلما حدث فى هذه الجلسة " . جدير بالذكر أن بيان اعتصام كلية الهندسة بالقاهرة قد احتوى على المطالب التالية :

(1) الإفراج فورا عن جميع الطلاب المعتقلين .
(2) حرية الرأى و الصحافة .
(3) مجلس حر يمارس الحياة النيابية الحقة السليمة ( يقصد مجلس الأمة ) .
(4) إبعاد المخابرات و المباحث عن الجامعات .
(5) إلغاء القوانين المقيدة للحريات و وقف العمل بها .
(6) التحقيق الجدى فى حادث العمال فى حلوان .
(7) توضيح حقيقة المسألة فى قضية الطيران .
(8) التحقيق فى انتهاك حرمة الجامعات و اعتداء الشرطة على الطلبة .

و يلخص د. أحمد عبد الله طبيعة هذه المطالب فى عبارة موجزة : " و يتضح من ذلك أن ثلاثة من هذه المطالب تدور حول مسألة الديمقراطية فى البلاد ككل ، بينما تشير ثلاثة أخرى منها إلى غياب الديمقراطية فى الجامعة بوجه خاص ، و يركز مطلبان منها فقط على قضية الطيران و الأحداث المرتبطة بها " . و يثبت ذلك أن القضية ليست قضية الطيران بل قضية الحريات ، فوحدها الحريات التى تمس قلوب الطلاب ، ثم تتبلور فى صورة أفكار مترابطة داخل عقولهم و على ألسنتهم و فى بياناتهم . يقول د. فؤاد زكريا فى تحليله لانتفاضة الطلاب فى فبراير 1968 : " كانت حركة الطلاب فى 1968تلخيصا للسخط الجارف الذى اجتاح البلاد بعد هزيمة 1967. على أن الروح العامة التى كانت وراء هذا التحرك الطلابى كانت تعبر عما هو أكثر من السخط على الهزيمة ، إذ كانت فى الواقع تعبيرا عن عدم الرضا عن أسلوب كامل فى الحكم تعد الهزيمة العسكرية مظهرا واحدا من مظاهره السلبية " .

و لم يكن نظام عبد الناصر على أى حال راغبا فى الاعتراف بهذه الحقيقة. وحاول من خلال صحافته وعلى رأسها الأستاذ هيكل أن يرد احتجاجات الطلبة إلى أحكام الطيران فقط. ولا حديث عن حريات غائبة وديمقراطية فى القبر وشرعية باتت تختفى شيئا فشيئ . بل وجد عبد الناصر أن نظامه مستهدف من أعداء الثورة والرجعيين، وقال فى خطاب ألقاه بعد الأحداث فى حلوان: " احنا نعرف حتى فى الماضى يمكن العمال ضللوا بواسطة الرجعية والطلبة أيضا ضللوا بواسطة الرجعية. أنا باقول أن العملية بدأت تلقائية هنا فى حلوان. وبدأت عملية تلقائية فى الجامعة . لكن بعد كده العملية ما اصبحتش عملية تلقائية. أنا برضة باقول لاخواننا الطلبة فى الجامعة قبل ما تنقاد وراء أى شعار شوف مين اللى بيردد هذا الشعار. ما كل واحد ليه أوضاع طبقية. طبعا فيه ناس اتاخدت أراضيهم، وفيه ناس اتأممت مصانعهم، ودول أولادهم موجودين فى أوساطنا. الرجعية اتحركت ازاى؟ حاولوا استغلال مظاهرات الطلبة، ورفعوا شعارات الحرية والديمقراطية ".

لقد خلفت انتفاضة فبراير الطلابية آثارا هامة داخل النظام القائم . فقد أمر عبد الناصر بإعادة محاكمة الضباط المتهمين بالإهمال و تشكيل وزارة جديدة كان أغلبها من أساتذة الجامعات ( المدنيين ) و ذلك لأول مرة فى عهده . و سعى عبد الناصر أيضا إلى البحث عن شرعيته التى يفقدها رويدا رويدا من خلال طرحه لبرنامج 30 مارس الذى تضمن إصلاحات مستقبلية فى نظام الحكم. واستجاب نظام عبد الناصر لبعض مطالب الطلاب ، فبرغم بقاء الحرس الجامعى داخل الجامعات إلا أنه لم يعد يتدخل مباشرة في النشاط السياسى للطلاب . كما انتشرت مجلات الحائط بكثافة داخل الجامعات المصرية . و صدرت لائحة لاتحاد الطلاب بموجب قرار جمهورى تمخض عنها اتحاد طلابى بلا وصاية من أعضاء هيئة التدريس.

كما حصل الطلاب أيضا على عدد من المكاسب الاجتماعية كخفض رسوم الإقامة فى المدن الجامعية من سبعة جنيهات و نصف إلى خمسة جنيهات، وزيادة مخصصات بنك الطلبة من مليون إلى ثلاثة ملايين جنيه . و سعى عبد الناصر إلى إنشاء تنظيم جديد يمثل الثورة، فأنشىء تنظيم طليعة الاشتراكيين ( تنظيم سرى ) واستطاع من خلاله احتواء عناصر طلابية شاركت فى الانتفاضة.

هكذا أثبتت انتفاضة الطلاب فى فبراير 1968 أن روح الطلاب التى واجهت الاحتلال و الاستبداد عادت من جديد إلى الحياة مقترنة بثقة كبيرة فى النفس . و أى ثقة التى اكتسبها هؤلاء الطلاب . فقد نفذت بعض مطالبهم بشكل فورى ، بينما نفذت بعض المطالب الأخرى إلى خطاب الرئيس و نظامه فى برنامج 30 مارس. وبذلك تحولت المطالب التى نادى بها طلاب صغار ما زالوا يدرسون بالجامعة إلى واقع و أحلام مؤجلة يعد النظام بتنفيذها. ولم يكن أحدهم يتوقع أن اللافتات المعلقة على سور الجامعة و الأوراق التى تتناثر هنا و هناك سيصل مداها إلى قمة السلطة آنذاك .

لم تمر بضعة أشهر على انتفاضة فبراير حتى عاد الطلاب مرة أخرى للضغط على نظام عبد الناصر . و كانت قوانين التعليم فى ذلك الوقت تسمح لطلاب المدارس الثانوية بدخول الامتحانات لأى عدد من المرات ، و تضمن للطالب النجاح العام برغم رسوبه فى مادتين ( غالبا الرياضيات و اللغات الأجنبية ) . فصدر قانون جديد للتعليم يرفع درجة النجاح الصغرى فى عدد من المواد بالمرحلة الثانوية ، و ينهى الانتقال التلقائى من صف دراسى إلى آخر فى المرحلة الابتدائية ، و يضع حدا أدنى من الدرجات للالتحاق بالمرحلة الإعدادية . و أصبح لزاما على الطلاب أن يحصلوا على نسبة معينة من الدرجات كحد أدنى فى كل المواد الدراسية ليتمكنوا من تحقيق النسبة العامة للنجاح . و هذا القانون بلا شك يساهم فى تطوير العملية التعليمية ، و لكنه ينعكس سلبيا على الطلاب الراغبين فى الحصول على مؤهلات دراسية .

نشر قانون التعليم الجديد فى الصحف يوم 19 نوفمبر 1968 . و فى اليوم التالى خرج طلاب المدارس الثانوية فى مدينة المنصورة إلى الشوارع احتجاجا على القانون الجديد . و أرجعت المصادر الرسمية هذه المظاهرات إلى طلاب مدرسة ثانوية خاصة يعانون من تكرار الرسوب . و لكن كثافة المظاهرات تدل على أن طلاب المدارس الثانوية جميعا خرجوا للتعبير عن غضبهم إزاء هذا القانون . و رد فعلهم منطقى إلى حد كبير ، إذ أن سياسات عبد الناصر التعليمية جعلت من التعليم العالى حلما سهل المنال لجميع الطلاب . و انتهت مظاهرات هذا اليوم بتجمع طلابى فى مدرسة حكومية ، حيث أكد محافظ الدقهلية للطلاب أن قانون التعليم لن يطبق بأثر رجعى ، و ستراعى فيه بعض التيسيرات بالنسبة للطلاب المقيدين بالمدارس بالفعل وقت إعلان القانون الجديد .

وفي يوم 21 نوفمبر1968 استمرت المظاهرات التى بدأها هذه المرة طلاب المعهد الدينى الأزهرى البالغ عددهم ألفين من الطلاب خشية أن يتأثروا بهذا القانون الجديد الذى لا ينطبق عليهم . و اتجه الطلاب المتظاهرون إلى مديرية الأمن . و أطلقت الشرطة الرصاص على المتظاهرين لتقتل ثلاثة من الطلاب و مزارعا ، بينما جرح 32متظاهرا و 23 شرطيا . ربما يبدو أن هناك تهور و حماقة يلازمان حركة الطلاب فى اللجوء إلى المظاهرات مباشرة من ناحية ، ثم الاستمرار فى التظاهر برغم وعد المحافظ من ناحية أخرى . وربما يبدو أيضا أن ثمة طرق أخرى لم تستخدم فى التعبير عن الاحتجاج كتقديم الشكاوى و عقد الاجتماعات مع مجالس الآباء واتحادات الطلاب . و لكن الطلاب فضلوا التظاهر أو الصدام ؛ لأنهم بالفعل فقدوا الثقة فى المؤسسات المعنية. ويؤكد ذلك ما قاله بعضهم عقب الاجتماع مع المحافظ : " لابد من الإضراب . . من الذى يضمن لنا كل ما قاله المحافظ؟ ". وإن كانت الإجابة التى دارت فى أذهانهم و دفعتهم للاستمرار فى التظاهر تعبر عن فقدهم الثقة فى النظام ومؤسساته . فقد أثبت لهم اليوم التالى صحة هذه الإجابة بعد أن سقط ثلاثة من الطلاب قتلى برصاص وزارة الداخلية وأمام مديرية الأمن!

انتقلت أخبار الاحتجاجات التى شهدتها المنصورة إلى جامعة الاسكندرية التى تضم عددا من أبناء الدقهلية . و بدأت مناقشات طلاب جامعة الاسكندرية من كلية الهندسة - كان لطلاب هندسة الاسكندرية دورا فى انتفاضة فبراير - ، حيث عقد اتحاد الطلاب اجتماعا طارئا بعد منتصف ليل الجمعة 22 نوفمبر . و أكد طالبان عائدان من المنصورة صحة الأخبار الواردة إلى الطلاب ، مما دفعهم إلى اتخاذ قرار بتنظيم مسيرة احتجاج سلمية فى اليوم التالى . و بدأ الطلاب فى التجمع بكلية الهندسة صباح يوم السبت 23 نوفمبر . أثناء ذلك سرد الطالبان العائدان من المنصورة على الطلاب المجتمعين ما حدث من مصادمات دامية ، وذكرا أن قوات الشرطة قد أحاطت بمساجد المدينة أثناء صلاة الجمعة ، حيث تعالت الهتافات المنددة بوزير الداخلية شعراوى جمعه . و بعد مرو ما يناهز الساعتين ، خرجت مظاهرات الطلاب إلى الشوارع احتجاجا على تجاوزات الشرطة بحق المواطنين فى المنصورة . و حدث صدام بين الطلاب و قوات الشرطة أمام كلية الزراعة ، مما أدى إلى إصابة 53 من رجال الشرطة و30 من الطلاب . ثم ألقت قوات الشرطة القبض على بعض الطلاب ، فتفرقت المظاهرات و عاد الطلاب للتجمع بكلية الهندسة .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر