الوعي الاجتماعي-السياسي في عصر محمد علي

الوعي الاجتماعي-السياسي في عصر محمد علي اتسم بالتقنية الجديدة في الأدب الناتجة عن التأثر بالأدب الأوروبي، وبالصراع بين الأفكار القديمة والجديدة، حسب كارتشكوفسكي. وبمعنى آخر، تطرق الى ميدان الأدب البحث علاوة على الفكر الاجتماعي السياسي ، فسجل بحث ثلاثة اتجاهات أساسية في اطار الفكر العربي الحديث:

1- اتجاه المفكرين الرافضين لكل جديد باعتباره مخالفا للشرع الاسلامي فطالبوا باحياء الفكر السلفي. 2- اتجاه الرافضين للتراث العربي القديم جملة وتفصيلا، الذي فضل كل ما هو اوروبي واعطاه الأولوية. 3- اتجاها توفيقيا حاول الجمع بين كل ما هو ايجابي وتقدمي من عناصر التراث العربي وانجازات الحضارة الأوربية.

تشير المعطيات التي أوردها المستشرق الألماني كارل بروكلمان الى أن أرباب الفكر الذين نشطوا خلال نصف قرن من العهد الخديوي قد بلغ عددهم أكثر من أربعين عالما كان ما يربو على النصف من العلماء رجال دين. وينبغي التذكير أن زهاء النصف الآخر اشتغل في حقول الطب والبيطرة أساسا، وفي الهندسة والزراعة.

وفيما يخص مشاهير العلوم الانسانية من المصريين توصل المستشرق الانكليزي الشهير أدوارد لين الى الاستنتاج التالي: "يجب ألا نكون أسرى أوهام بأن ثمة اناسا في القاهرة قدرون على شرح الجوانب الغامضة من الشعر العربي التقليدي. ولكننا نجد في مصر الكثير من المشاهير في النحو والصرف، والبيان والبلاغة، والتأليف والانشاء – رغم أن معظمهم مهتم بالفقه والشرع الاسلامي. وثمة عدد قليل من العلماء الذين يجيدون تاريخ شعبهم، وأقل القليل ممن يعرفون تاريخ الشعوب الأخرى". ويعلق على مسألة الثقافة العامة فيقول: "المعارف الجغرافية شبه معدومة عند المصريين، وحتى بين المثقفين الى حد ما، فالاستثناء عن القاعدة نادر جدا.. ونحن قلما نجد انسانا مصريا متعلما يجرؤ على الاعلان صراحة عن كروية الأرض خوفا من تعرضه لضغط رجال الدين واضطهادهم".

مثلت جبهة علماء الفقه الاسلامي بقيادة شيخ الازهر ونقيب الأشراف المعارضة القوية التي أظهرها رجال الدين والطبقة الاقطاعية، الذين استنكروا تدابير محمد علي وفي مقدمتها الاجراءات الضريبية والزراعية والغاء نظام الالتزامات ومصادرة أملاك الوقوف لصالح الدولة. وعلى الضد من هذا أكد أ. باتون "أن الغالبية الساحقة من العلماء كانوا يضمرون العداء للتقاليد الفرنجية التي أدخلها الباشا، ولكنهم أبدوا مقاومة سلبية واهنة". وقد أسلفنا القول ان نحو عشرة من هؤلاء العلماء أمثال: حسن العطار، وشهاب الدين وأبو السعود والدسوقي وغيرهم، كانوا قد شاركوا بدرجات متفاوتة في التدابير الاصلاحية التي قام بها الباشا المصري.

من المغالطات التاريخية السائدة في الأدبيات الادعاء القائل بأن هؤلاء المفكرين الأوائل مثلوا اتجاهات تنيويرا في النهضة المصرية . وفي الحقيقة، كان معظمهم مناصري الاتباعية السلفية، فمثلا محمد بن عمر التونسي كبير الائمة في مدرسة الطب ظل حتى الرمق الأخير يخطب في المساجد أيام الجمعة، ويشرح الاحاديث النبوية الشريفة. وهو الذي كان مرجعا يعول عليه في تصحيح وتحرير الكتب الطبية المترجمة، لكنه كان من الوعاظ الذين اشتهروا بمعاداة علم الطب. وكان بعضهم الآخر ممن يتملق الحاكم محمد علي باشا فيطرون تدابيره الثقافية، اما لغاية في نفس يعقوب، واما انطلاقا من رغباتهم في رؤية مؤلفات الفيروز آبادي، وابن الأثير، وابن خلكان مطبوعة في مطبعة بولاق. وفي آخر المطاف اذا كانت مطامح الباشا المصري الرامية لتنشيظ الحياة الاجتماعة – الاقتصادية أم الفكرية الثقافية الراكدة غير عزيزة جدا على قلوب المحافظين فانها لم تكن في اي حال من الأحوال تحمل في طياتها اي خطر على مصالحهم الخاصة.

نستنتج من كل ذلك أن التيار الأول كان مهيمنا هيمنة كاملة ومطلقة في الميدان الفكري بمصر ابان النصف الأول من القرن التاسع عشر، أي في الفترة السابقة لشروع محمد علي في اصلاحاته، اذ لم تشكل بعد الشريحة المنظمة من المثقفين المصريين. وقد ظل هذا التيار مسيطرا بالضرورة في الظروف الجديدة. لا بل وحتى داخل شريحة الدارسين في أوربة. وهذا ما أشار اليه الكاتب باتون بقوله "من الملاحظ أن الطلبة المسلمين الذين تعلموا في أوربة وعادوا الى الوطن، يتمتعون بمزاج أكثر حدة ازاء المجتمع الأوربي، مما كانوا عليه قبل ذهابهم".

وقد وصف الكاتب عينه ممثلي التيار الثاني "بأنهم أناس أضاعوا سيمائهم القومي والديني" وأضاف يقول "فباريس لم تستأصل مكة من قلوبهم وحسب، بل وجعلتهم غير مبالين بعظمة العمارة الاسلامية في القاهرة". من الجلي أن تيارا كهذا لا يمكن ان تكتب له الحياة، فاتباعه قلة نادرة لم تجد أذانا مصغية في المجتمع، ولم تكن قادرة على فرض نفسها في المديان الأدبي.

واذن، فالتيار الثالث لافت للنظر أكثر من غيره لاسباب وجيهة. فأبناء الفلاحين الذين شملهم الباشا برعايته وحنانه وعطفه، فارسلهم الى أوربة للتعلم ورؤية الدنيا، ما كان بامكانهم ان يكونوا الا طوع بنان نائب الملك، وجدوا أنفسهم أمام مهمة شاقة وعسيرة، ونعني بها التوفيق بين التراث والمعاصرة، والتدليل على أن الفكر الأوروبي الحديث لا يتعارض والشريعة الإسلامية . ويجب ألا يغرب عن بالنا من جهة أخرى، أن معظم الشباب الذين سافروا للتعلم في أوربة كانوا قد تخرجوا في العلوم التقنية – التطبيقية، وبالتالي فهم غير مؤهلين للقيام بنشاط فكري- ثقافي أو فعاليات تثقيفية –تربية تجد قبولا واسعا بين الشرائح الاجتماعية المتباينة. وبهذا لاصدد كتب ادوارد لين قائلا: "لقد أخبرني بعض الشباب المصريين الذين تلقوا علومهم في أوربة أنهم فشلوا في تقديم صورة حقيقية عن الأفكار التي استوعبوها في أوربة لاقرب الناس اليهم".

وهذا أمر لا ثير استغرابنا اطلاقا، فالواقع الذي لا مراء فيه أن عدد الكتب المطبوعة في بولاق خلال سني 1822-1842 بلغ 243 كتابا، أكثر من نصفهم 125 صدر باللسان التركي قام بترجمته عن الفرنسية جراكيان افندي ويوسف أفندي وغيرهم من الأرمن الذين درسوا في باريس. وأغلب الكتاب المنشورة باللغة العربية 112 كتابا في التشريع الاسلامي والمصادر العربية العائدة للقرون الوسطى. واذا كان المسوعات مقبولة الى حد ما في مضمار الفن العسكري، اذ صدر 39 من اصل 48 كتابا، وفي الرياضيات 10 من مجموعة 16 كتابا باللغة التركية، فان التبريرات نافلة تماما في الشعر، اذ نشر 22 من أصل 26، وفي التاريخ والطب والبيطرة والزراعة والهندسة 37 من أصل أربعين كتابا صدرت باللغة التركية أيضا- حسب احصاءات المستشرق النسوفيتي جلتياكوف.

وانصافا منا للحقيقة نقول ان جلتياكوف بالغ كثيرا في التقليل من عدد الكتب المنشورة باللغة العربية، ويرجع الفضل الى أبي لغد الذي أثبت لنا من خلال تنقيبه عن هذه الكتب في خبايا دور المحفوظات، ان عددها يربو على العشرة حتى سنة 1842، وليس كتابين – كما يذكر جلتياكوف.

ومع اقرارنا بان تلك الكتب المنشورة مثلت حدثا جديدا بالنسبة لذلك الزمان والمكان، وبداية تحرك في الحياة الفكرية – الثقافية، فانه ينبغي علينا التذكير بندرة الكتب العربية التي صدرت وأعطت شحنة فكرية – اجتماعية قوية الى حد ما. ولذلك طوقوا أطر انتشارها (ربما بتوجيه المركز الودعاوي الحربي الخاضع لأمرة محمد علي) . ولكن الأدبيات العربية التاريخية – الجغرافية المنقولة عن اللغات الأوروبية (تاريخ شارل الثاني عشر ملك السويد، وتاريخ بطرس الأكبر، ترجمة الطهطاوي وكتاب الأمير لميكافلي، وروح الشرائع لمونتيسكيو وغيرها) من قبل مسيحيين محليين بمساعدة قناصل أوربيين، بقيت مجهولة تماما لدى الجمهور العربي الذي لم يكن مهتما بهذا النوع من المصنفات، وكان انتقاء هذه الكتب انعكاا حيا لرغبات الباشا – المصلح اذ كانت تتضمن عبرا عن سير العظماء في التاريخ فضلا عن اهتمامات الطبقة العسكرية السياسية الجديدة من موقع الفوائد التي قد تجنيها من خلال استيعابها لهذا الفكر المتقدم.

ثمة اعتبار هام آخر، فالناس الذين نموا وتطورا فكريا خارج اطار التدابير الرسمية التي اتخذها نائب الملك، وكان بمقدورهم التفكير والعمل بصورة مستقلة، وكانوا ممن استوعبوا أو تأثروا برياح الحضارة الأوربية والذي يجب تصنيفهم في اطار التيار الثالث ، فانهم اتخذوا موقفا حذرا من ممارسة نشاط يثير الانتباه ويلفت الأنظار كما فعل حسن العطار، واما تعرضوا للضغوط فانتقلوا الى العمل في السر كعبد الهادي المهدي، وأما واجهوا الامتهان والنفي كعمر مكرم، واما لاقوا حتفهم خنقا كالجبرتي.

ان جميع الباحثين تقريبا في الأدب العربي الحديث، الذين ينطروا الى النهضة بمثابة نهوض ثقافي عام وشامل ظهر في بداية القرن التاسع عشر يضطرون بالطبع الى البحث عن تجليات النهضة الأدبية بوصفها واحدة من مكونات النهوض الثقافي في مصر أيام محمد علي. ولكن النتائج جاءت هزيلة الى حد الرثاء. وقد نجح هؤلاء الكتاب، ومنهم حنا الفاخوري ايضا في فرز أسماء معدودة ممن لمعوا في سماء الشعر كالخشاب (توفي عام 1814) والعطار (المتوفى 1834)، وعلي الدرويش المصي (توفي سنة 1853) ، ويغلب في شعراء العصر الأول المحافظة على الطريقة المدرسية القديمة وأساليبها نظما ونثرا، لأنهم لم يدركوا ما حديث من التغيير في الآداب بتاثير المدنية الحديثة، أما تاليفهم النثري ودواوينهم الشعرية فتتسم بميسم "عصر الانحطاط" ويجرع النقاد الأدباء أسباب هذه الظاهرة السلبية الى أن معظم هؤلاء الشعراء، ولاسيما الأول والثاني، كانا قد نشطا في العهد البونابرتي ولكنهما "لم يتمكنا من ناحية استعياب الأساليب الجديدة الأوربية، ومن ناحية أخرى كانت قدراتهم الابداعية قاصرة على نظم أشعار وطنية لامعة، تعول على الجهول دون الاعراض أو اللب دون القشر وبلغتهم العربية الأم".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

رفاعة رافع الطهطاوي رائد النهضة المصرية (1801-1873)

بادئ ذي بدء نقول ان مصادر الدراسة الأدبية العربية أكدت علمه الزاخر ونشاطه الجم وانتاجه الواسع تاليفا وترجمة (أكثر من عشرين كتابا)، مما يدل دلالة قاطعة على ان اسمه اقترن بالنهضة التي ميزت الحركة العلمية – الأدبية التي انبثقت أيام محمد علي وخلفائه. ولكن الصحيح أيضا ان الكتب التي ترجمها الى العربية في الطب والهندسة والفنون العسكرية – رغم انها عصرذاك معيار للتقدم وعنوان للكمال العلمي، لم تترك أثارا تستلفت الأنظار. وهذا يرجع الى سبب بسيط جدا وهو أن معظم هاتيك الكتب لم تكن من تأليفه، بل ترجمات منقولة عن الفرنسية، لعل أشهرها "الجغرافيا العمومية" تاليف ملطبورن، وقد ترجم منها أربعة أجزاء، و"تعريب القانون المدني الفرنسي" جزآن.. ألخ.

وعلى كل حال، يرجع الفضل الأكبر للطهطاوي في تعريف المجمتع المصري على المنجزات العلمية التقنية والحضارة والمدنية الأوربية. فلم يبرء حقا أبا النهضة المصرية غير مدافع ولا منازع. كان الطهطاوي من تلامذة حسن العطار، وواحدا من مريديه "في السر" . وعين رئيسا (اماما) لبعثة الطلال المصريين الذي أرسلوا الى باريس بتزكية من أستاذه العطار، الذي قدم له ما يلزم من النصح والارشاد فيما يخص التأد بالعلوم الأوربية، وشق طريق المستقبل ولما عاد الى الديار المصرية حاملا الشهادات الناطقة بعلمه وفضله، ولاه محمد علي منصب رئيس الترجمة في مدرسة الطب، وشهد له بقصب السبق لا في حقل الترجمة وحسب، بل في مضمار كيل المديح لباريه الكبير عزيز مصر فكان يسبح بحمد الله صبحا وعشية لارساله "رجل البر والحسان" الذي هداه العلي القدير لمعرفة أسباب تقدم الغرب على الشرق في شتى ميادين العلوم ، فاختاره لتخليصنا من ظلام الجهل الذي نغرف فيه في جميع ميادين المعرفة". لذلك كله اضطر الطهطاوي عموما الى التقوقع في الاطار الذي رسمه ولي أمره، ولم يستطع خلال نيف وثلاثين عاما من الجهد المضني تخطي حدود التعليم الرسمي، وهو الذي كانت نفسه صابية، ولاشك ، للتحليق في أجواء التنوير الحقيقي الاصيل. ومن هذا المنطلق ظل الطهطاوي بشير التنوير المصري، ليس غير، فكان كالزهرة الفريدة التي عجزت – في ظروف غياب المقومات الموضوعية- حتى عن رؤية تباشير الربيع المشرق الوضاء. وبهذا المعنى يقول المؤرخ أحمد: "كان نموذجا ليس بمعنى عدم وجود الكثيرين من أمثاله، بل بكونه وحيدا". أجل ظل وحيدا. رغم مثابرته على التدريس طوال حياته، لدرجة أصبح فيها نادرة عصره، ومع كل هذا فاننا لا نميل الى المغالاة في تبجيل دوره، كما فعل كل من ليفين وأحمدوف "ومن ثمة ينبغي اعتبار الطهطاوي بحث رائد التنوير العربي عامة؟" بل نتفق في الراي مع جرجي زيدان الذي عده "واحدا من أكبر أركان النهضة الأخيرة بمصر". واذا قدر لنا في سياق الكلام عن الطهطاوي ترديد التأكيد الذي أورده المستشرق عثمانوف بأنه "كان واحدا من أبرز وأعظم منوري عصره" ، فانه ينبغي علينا التذكير بأنه ظل طواله حياته منضويا في اطر التنوير المصري (لمحمد علي). ولابد لنا من الاشارة الى أن الكثيرين من الكتاب العرب – المؤرخ المصري ج. أحمد مثلا –يبدون نوعا من ضبط النفس في تقييماتهم لدور الطهطاوي، اذ يبوئونه مقاما متواضعا نسبيا في ميدان أوربة الفكر الاجتماعي السياسي العربي". وبعد أن يؤكد المؤرخ أبو لغد أن الطهطاوي "كان روح العصر في حركة الترجمة ومن أبرز المفكرين في مجال تعريف العرب بأوربة القرن التاسع عشر، يستدرك على الفور قائلا: "ولعلنا بالغنا هنا في تقدير دور الطهطاوي؟".

قفل الطهطاوي عائدا الى مصر حاملات في جعبته ليس فقط ذكرياته عن باريس وترجمة كتب كاملة ونبذ قصيرة عن الفرنسية في العلوم والتقنية العصرية، بل ومعارف معمقة واسعة عن الفكر السياسي الاجتماعي والفلسفي المجتمعي في فرنسة. فاطلع بالاضافة الى الأدب الفرنسي الكلاسيكي العزيز على قلبه، على آراء وأفكار الفيلسوف كانديليك، والموسوعيين الفرنسيين راسن وروسو ومونتيسكيو (الذي عرب له كتاب رسائل فارسية ونسبها خطا لروسو). وعلى المذهب العقلاني –العلماني الفرنسي ، فكان في طليعة الرواد الذين حاولوا نشر أفكاره في الواقع العربي من خلال آثاره الأدبية ونشاطه الاجتماعي – التربوي الذي دام نيفا وأربعين عاما. ولئن جاءت النتائج – عكس ما كان يتمناه الطهطاوي – ضيئلة الشأن ، فالاثم الأكثر من نصيب العصر الذي عايشه والمجتمع المتخلف الذي عمل ونشط فيه دون أن يدخر وسعا وجهدا.

من أبرز تاليف الطهطاوي كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" أو "الديوان النفيس بايوان باريس" له عدة طبعات (الأولى سنة 1834 والثانية 1840) وهو رحلته الى فرنسة، ذكر فيه ما شاهده من العادات والأخلاق والأزياء وآثار التمدن الحديث وكل ما يتعلق بذلك. وهو بحق من بواكير أدب الرحلات في العصر الحديث. لقد اثارت حضارة الغرب ومدنيته، ولاسيما تطلع الانسان المثقف الدمث الأخلاق الى التقدم والرقي، دهشة الشيخ الطهطاوي واستغرابه، فيوغل في المقارنة بين الغرب المتقدم المتفوق وبين الشرق المتأخر القانع الخانع. فهو على سبيل المثال يتحدث عن الفن المسرحي في الغرب، لاعطاء الجمهور العربي صورة واضحة مفهومة عن رقي الانسان الغربي فيقول : (أعلم ايها القارئ أو الأوروبيين بعد انتهائهم من أشغالهم اليومية ينصرفون الى ملذات الحياة الدنيا للمارسة طقوس الصلاة والعبادة ، والمسرح عندهم من أعظم أماكن الراحة والمتعة. حيث يقوم الممثلون بآداء أدوار تجسد كل ما يمكن أن يحدث في الحياة الواقعة من خير وشر، وفرح وترح، أما المتفرجون فيتابعون الأدوار ليكون في ذلك عبرة لمن اعتبر، وسط أجواء من الهزل والجد أو الغبطة والكآبة. ويؤكد الفرنسيون أن المسرح يقوم بالأخلاق ويكثر من الفضائل والشمالئل، ولذلك تكتب على الستارة عبارة "المسرح مدرسة الفضائل".

لقد أصاب كريمسكي نصف الحقيقة حين أشار الى ان الطهطاوي، كان يخشى جبروت رجال الدين المغاليين في التعصب الذين قد يشددون عليه النكير، ولذا اعتصم بقرض قصيدة يقرظ فيها الأزهر الذي "ينير كل العالم بشمسه" وتزدهر في رحابه "جنائن المعرفة". وكان من الواجب على كريمسكي ألا يتوقف في منتصف الطريق، ولاسيما ان التقييم الذي أورده عنه يؤهله لاصابة الحقيقة نفسها: "كان ذا أفكار تقدمية بالقياس الى عصره، ولكنه كان – في مطلق الأحوال – متدينا جدا، أو بالأحرى، يجب الاقرار بان الشيخ الطهطاوي عانى من الانفصام في الشخصية في باريس، ولذا توجب عليه بالضرورة تخطي هذه المعاناة من خلال حديثه عن الأفكار والأشياء الجديدة في مذكراته. كل ما في الأمر ، أن الشاب الشيخ الذي كان ينظر الى الاسلام بعينين ملؤهما الافتخار والاعتزاز، لابد أن يظل احداهما مغشاة بضباب الفكر السلفي العقلاني، والمخرج الوحيد من هذا المأزق كامن في معالجة الحول الطارئ والعودة ببؤبؤ العين الى مركزه الأصلي، وبمعنى آخر ، التوفيق بين التقليد الاسلامي والحداثة الأوروبية.

بيد أن ظروف الزمان والمكان الموضوعية، وآراء وأفكار الطهطاوي الذاتية، لم تكن تسمح باجراء اية عملية اصطفائية فيها أدنى قدر من المساس بالعقيدة الاسلامية السائدة. وهذا يعني أن الطهطاوي الواقف أمام الحداثة الأوربية والذي لا ينوي اطلاقا اشاحة وجهه عنها، سيركز على جوانب أساسية منها تكون أبشه بمحك امام التراث الاسلامي – العربي، أي أنه سيحاول المزاوجة بينها وبين الأفكار المألوفة في حدود ما يسمح به التقليد الاسلامي والحداثة الأوربية.

بيد أن ظروف الزمان والمكان الموضوعية، وآراء وأفكار الطهطاوي الذاتية، لم تكن تسمح باجراء اية عملية اصطفائية فيها أدنى قدر من المساس بالعقيدة الاسلامية السائدة. وهذا يعني ان الطهطاوي الواقف أمام الحداثة الأوربية والذي لا ينوي اطلاقا اشاحة وجهه عنها، سيركز على جوانب اساسية منها تكون أشبه بمحك أمام التراث الإسلامي – العربي أي انه سيحاول المزاوجة بينها وبين الأفكار المألوفة في حدود ما يسمح به التقليد الاسلامي. ولهذا السبب بالذات بذل جهودا جبارة – من خلال دعوته مواطنيه لاستيعاب العلوم التطبيقي والتقنية الأوربية – للتدليل على أن الأفكار والمفاهيم الجدية لا تتعارض من حيث الجوهر مع الإسلام، على حد تعبير رئيف خوري. فاذا أراد مثلا المقارنة بين مفهومين متباينين كدوران الشمس حول الأرض في الاسلام، بينما يثبت علم الفلك الأوروبي عكس ذلك، نراه ينسب ذلك التنقاش الى الفهم الساذج لمضمون القرآن. وكان على الطهطاوي أن يعبر عن الأفكار الجديدة بصيغ قديمة، وان يظهر مرونة عظيمة للتدليل على حقيقة أن الفرنسي العادي التفكير لا يؤمن بأي شي مناقش لقانون الطبيعة. فيعلل مسألة الاعجاز النبوي ووجود الديانات السماوية بتطلع الانسان الى الخير والفضيلة وتكريهه بالشر والرذيلة. وهاهي ذي الحضارة البشرية تحقق تلك الأهداف السامية النبيلة، فيتراجع الدين عندهم الى المقام الثاني. والطهطاوي الى ذلك كله، يركز على "أن الفرنسيين أدركوا أن العدالة والانصاف وسائل تكفل تطور الدول ورفاهية الشعوب، فالعدالة أساس المدنية". ولم يتوان عن التاكيد ان الفرنسيين يضفون هالة مقدسة على الحرية وهي العدل في المفهوم الاسلامي، ما دام الحكم في ظل الحربية يعني تثبيت مبدأ مساواة الناس أمام القانون (فهم سواسية كأسنان المشط). وهذا يعني بكل بساطة توطيد أركان العدل، والأخذ بيد المظلوم على الظالم، وارضاء خاطر الفقير، الذي يمكنه ان يقول لنفسه انه هو أيضا عظيم امام القانون، ومن ثم يتوصل الكاتب الى استناج رئيسي مفاده ان مبدأ مساواة الناس أمام القانون يطابق تماما مبدأ مساواة الناس أمام الله في الشرع الاسلامي.

ومهما يكن من أمر، فان الصفوة المختارة من الاشراف والأعيان والوجهاء اطلعوا من خلال "تلخيص الإبريظ" على الفكر السياسي الاجتماعي الأوربي، وعلى طبيعة نظام الحكم والمؤسسات الدستورية القائمة في فرنسة، والتي تناقش من حيث الجوهر أسس وأركان الأنظمة القائمة في ديار الإسلام. كما اطلعوا على الأحداث العاصفة التي تمخضت عن الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، حقا ان الثورة التي طالبت بالجمهورية بديلا عن الملكية، لم تكن تعني بالنسبة له سوى فتنة أو عصيان، ومع ذلك عدها من الأحداث التي قضت على السلطة المطلقة للعاهل الحاكم في فرنسة، ثم يروي الشيخ تاريخ بروز سلطان السلاطين نابليون بونابرت في الميدان السياسي، وكيف ذهب ضحية لدسائس ومؤامرات ملوك أوربة، رغم التبجيل والتعظيم الذين يكنهما الشعب الفرنسي تجاهه، فتود سلالة البوربون الى الحكم وينزل الملك لويس الثامن عشر عند رغبة لاشعب فيعلن الميثاق (وهي كلمة مرادفة في تصور الطهطاوي لكلمة الشريعة في الاسلام، ولذا استخدمها بدلا من كلمة الدستور التي عنت آنئذ مجموعة القوانين وهي اليوم القانون الاساسي).ويخلفه شارل العاشر على عرش فنرسة وتنشب ثورة تموز (يوليو) 1830، التي شاهد الطهطاوي حوادثها بأم العين فعرف القارئ بأحداثها وفصل تاريخا مبديات تعاطفه معها.

"ينقسم الشعب الفرنسي الى حزبين أساسيين الملكيون والأحرار. فالملكيون أنصار العاهل الحاكم يؤكدون على السلطة المطلقة دون آية مشاركة من الشعب في ادارة الدولة، أما الأحرار فيؤكدون أن القانون فوق الجميع ويجب على الملك أن يكون منفذا للقانون.. ان معظم أنصر الملك من رجال الدين ومريديهم ، بينما الأخيرون يساندون الشعب الفرنسي ويطالبون بتسليمه زمام السلطة، لا بل لا يرون حاجة لوجود الملك اطلاقا. ومادام الشعب لا يمكنه ان يكون حاكما ومحكوما في آن واحد، ظهرت الحاجة لانتخاب نواب عن الشعب يحكمونه، وهذا هو الحكم الجمهوري. وندرك من كل هذا ان فئة من الشعب الفرنسي تؤيد الحكم الملكي المطلق، والفئة الاخرى تدعم الحكم الملكي الدستوري الذي بوجوبه يحكم العاهل بمقتضى القوانين، بينما تنادي الفئة الأخيرة بالحكم الجمهوري".

ويعلق الطهطاوي على السبب الرئيسي للثورة الفرنسية عام 1830 فيقول: "يمنح القانون الفرنسي المواطن حق الاعراب عن رأيه شفاها وتحريرا شرط الا يسئ لجوهر القانون". وها هو ذا الملك "يثدر عدة قوانين منع الشعب من مزاولة حقوقه، ولاسيما حق التعبير عن الرأي على صفحات الجرائد المسامة "غزيتا". لقد اصدر الملك تلك القوانين دون الأخذ بالحسبان راي الجمعية الوطنية (البرلمان) وهذا ما ينص عليه الدستور، ثم يعين اناسا من المعروفين بميولهم المعادية للحركة الليبرالية في المناصب العسكرية الرفيعة، غير أن الشعب صمم على مقاومة المحاولات الرامية لاعادة الحكم الملكي المطلق فقام بالثورة لاسترداد حقوقه السياسية".

وسعيا منه لتعريف القارئ العربي بالنظام السياسي الفرنسي، يخطو خطوة أخرى الى الأمام فيعرب الدستور الفرنسي (الشريعة)، ويعلق على مواده الأساسية، ومن الجلي أن الكاتب كيف المفاهيم الغربية الجديدة مع الأفكار المألوفة في المجتمع العربية – الاسلامي، فوجب على الطهطاوي مثلا أن يقوم بتحليل تفصيلي للحريات الأساسية التي يكفلها الدستور، فيقول : "كل الناس سواسية أمام القانون بغض النظر عن التباين الظاهر في الموقع الاجتماعي من حيث التعصب والجاه والثورة والشرف المتوارث، وما شابه ذلك. وهذه لعمري خصائص بالغة الأهمية والخطورة في العلاقات الاجتماعية والحياة اليومية، وهو أمر لا تعيره الشريعة اهتماما يذكر. ولذا يصبو كل انسان لتسنم منصب عسكري أو مدني.. فالشريعة تكفل الحرية الفردية لكل انسان وتحرم توقيفه أو اعتقاله الا في حدود القانون.. ,لعل أهم فضائل الحرية عند الفرنسيين التمتع الكامل بحرية المعتقدات، الذي تصونه الدوله. فالقانون يعاقب كل من تسول له نفسه الاعتداء على حرية العقيدة. ويحق للفرنسي أن يعبر عن أفكاره السياسية وآرائه ومعتقداته الدينية والزمنية، شرط عدم الاخلال بالنظام الفرنسي اطلاقا، ولا يسمح القانون بتجريد أي شخص من أملاكه الخاصة، باستثناء الحالات الخاصة التي تقتضيها المصالح العامة وتفرض التعويض عنها وفقا لقرار صادر عن المحكمة".


كما تركت أثرا بالغت في نفس الطهطاوي مبادئ العدل المقدسة الواردة في الميثاق الدستوري الفرنسي . وعن ذلك يقول الشيخ: "ورغم أنك لن تجد في كتاب الله (القرآن – المؤلف) ولا في الأحادث النبوية (السنة – المؤلف) أغلب ما يحتوي، فانك ستدرك، كما أدرك الفرنسيون بالعقل، ان العدالة والانصاف شرطان اساسيان لتطوير الدول ورفاهية الشعوب، وكيف أن الحاكمين والمحكومين يطبقون هذه المبادئ السامية التي تساهم في تحسين أوضاع معيشتهم وتطوير علومهم وتوسيع ممتلكاتهم وتأمين طمأنينتهم وهدوئهم، فلا تجد انسانا واحدا يشكون الضيم والظلم، لان العدالة أساس المدنية".

ولا بأس من التنبه ان الطهطاوي – في محاولته لازالة اسباب التضارب والتضاد في الأفكار الجديدة والقديمة – اضطر مرارا للتذكير بوجود الظواهر السلبية البالية في الواقع الاسلامي وبضرورة اجراء تغييرات أساسية فيه. ولكن يجب أن لا ننسى أبدا أن العالم الاسلامي ظل في نظر الكاتب الموطن الحقيقي للثقافة الروحية، فيما تحولت أوربة الى موطف للفكر العلمي من جراء استيلائها على الطرق البحرية واحتلالها العالم، ومن بينه العالم العربي، عن طريق الرحلات والمغامرات وعمليات القرصنة، الذي اخذت عنه العلم بشكل ملموس.

واذا اضفنا الى كل ذلك توسلات الكاتب الذي قال : "أتوسل الى العلي القدير ان يجد كتابي هذا قبولا .. وأن يعين الأمة الاسلامية على النهوض من رقاد الجهل" فلا يبقى لدينا أدنى شك بأن الطهطاوي كان أول من أعلن بين العرب بوجوب تكييف الشريعة الاسلامية وظروف الحياة المتطورة، ولذا استحق بجدارة صفة بشير حركة الاصلاح الاسلامي، التي انبثقت في وطنه مصر بعيد نصف قرن من الزمان.

بعد صدور كتابه الأول (ظل قمة ابداعه الأدبي) عاش الطهطاوي فيضا وأربعين عاما من الجهد المتواصل في خدمة الوطن. ولابد من أن يطرأ على فكره وتصوراته بعض التحول والتبدل. ونحن اذ نعرب عن أسفنا لغياب المصادر الأساسية وندرة المعلومات الموثقة في الأدبيات المتوفرة. نرى أنفسنا عاجزين عن تتبع تلك المتغيرات التي استجدت على فكر الطهطاوي. ورغم هذا، لا نرى باسا في التطرق الى كتابه "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب المصرية" الذي وضعه في أواسط القرن التاسع عشر، ولم يطبع حتى مطلع القرن العشرين، والكتاب اذ يكيل المديح والاطراء لاصلاحات محمد علين فانه من جهة بحث في آداب العصر وسياسته وصنائعه وفنونه وعلومه يستخلص فيه أن الاسلام يشكل القاعدة الاساسية التي ترسو عليها الفضائل والشمائل والأخلاق الكريمة، وبالتالي يجب تربية النشئ الجديد وفقا للمبادئ الروحية السامية التي تضمنتها الكتب السماوية، فانه من جهة صانية، يضع مفهوم خدمة الوطن (الوطن المصري طبعا) والعمل على اغناء ثروته وتوطيد منعته وعزته، في قمة القيم الأخلاقية والمناقب الانسانية. وما من شك في أن قصائده الوطنية تثير الاعجاب والتقدير العظيمين، ولاسيما انه في مقدمة وطنية مصرية، يوجه كلامه الى القارئ بقوله "يا أخي المصري" و"أياها الجندي المصري". وقد برز حبه الشديد لمصر والتغني بأمجادها بما قرضه من شعر يجيش بحب الوطن والدعوة اليه. وخاصة في قصيدتيه المعنونتين "قصيدة وطنية مصرية" كرس اخداهما لمناسبة تتويج سعيد باشا، والأخرى لإسماعيل باشا بمناسبة منحة لقب الخديوي. وهكذا، كان الشيخ رفاعة بك الطهطاوي رائدا للفكرة الوطنية والقومية في مصر ابان العصر الحديث، على حد تعبير المؤرخ أنور عبد الملك . أضف الى هذا ان الآراء الايجابية المتعاطفة مع الواقع الاجتماعي السياسي والعادات والتقاليد الفرنسية، كانت تتسرب الى البيئة الجديدة لتواكب المتغيرات خلال أكثر من ثلاثين سنة، ولذلك فرضت ضرورة تعريب "القانون المدني الفرنسي" المعروف بالكود الفرنسي، الذي اشترك فيه الطهطاوي مع نخبة من رفاقه وتلامذته من علماء القضاء والفقه والادارة.


الشيخ محمد الطنطاوي

كان الشيخ محمد الطنطاوي (1810-1861) الشخصية البارزة الثانية في عهد محمد علي باشا. انتظم سنة 1830 في سلك طلبة الأزهر أولا، ومن ثم في المدرسة الإنكليزية بالقاهرة، فكان له القدح المعلي في اللغة العربية والشعر الجاهلي. كان فضله عظيما على المستشرقين الأجانب ولاسيما ف. فرنيل في كتابه "رسائل حول تاريخ الجاهلية"، وعلى غ. فيل في كتابه حول "الأدب العربي الجاهلي"، وعلى أ. بيرون "المرأة العربية في العصر الجاهلي ومايليه" وعلى مؤلفات ادوارد لين وم. موخين وغيرهم. واستفاد الطنطاوي من معارف تلامذته الأجانب، فبرع في مجال المعارف الأجنبية وتشرب بالأفكار التنويرية. لكنه لم يتمكن من اسداء خدمات كبيرة للنهضة العربية، اذ سافر عام 1840 الى بطرسبورغ بصفة أستاذ للغة العربية في معهد العلوم الشرقية التابع لوزارة الخارجية الروسية، فبقى هناك حتى وفاته. خلف لنا اثرا واحدا "تحفة الأذكيا في أخبار بلاد روسيا"، ألف الكتاب امتثالا لأوامر محمد علي باشا الذي اوصاه باتقان اللغة الروسية ويجلب كل ما يعود بالخير والمنفعة على مصر من تلك البلاد النائية، يتالف الكتاب من مقدمة (انطباعات، وتأملات عن بطرسبورغ) وفصلين فيمين لخص المؤلف في الفصل الأول تاريخ التطور الثقافي في سان بطرسبورغ في عهد بطرس الأكبر الى القيصر نقولا الأول، ويعالج الفصل الثاني عادات الروس وتقاليدهم وأخلاقهم.


المثاقفة الغربية – العربية

وفي حديثه عن التاثير الأوربي على النهضة العربية يقول ليفين حرفيا: "وفي مصر قبل غيرها من مقاطعات الامبارطورية العثمانية العربية (وربما باستثناء لبنان)، نشأت بفضل الاصلاحات مقدمات للتآلف بين الثقافتين الغربية والشرقية". ومن الواضح أن ليفين قد بالغ في تقديره للتحولات الفكرية والثقافية التي جرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ان من ناحية الامتداد الجغرافين وان من حيث الوزن النوعي والكمي.

ما ينبغي تأكيده هو أن النزعة العسكرية المتأصلة في نفس محمد علي باشا، من موقع اختياره السياسي الاجتماعي أملت عليه بعض التدابير الفكرية الثقافية الضرورية التي ألجأته للطلب رسميا من ممثلي التيار الفكري الثالث القيام بعملية "تركيب مزجي" ولاسيما بين الفن الحربي الغربي والشرقي. وعهد الى ممثلي التيار الثاني باستيعاب الوسائل المادية التقنية واجراء بعض المحاكاة في مجال الظواهر الخارجية المميزة، لكن بحذر كبير.

وبناء على أوامر الباشا الاصلاحي تمت عملية التركيب المزجي في الزي العسكري، وبشهادة من كلوت بك فان محمد علي الذي كان يخشى إثارة العداء الديني القوي ضده، أظهر حنكة عظيمة حين أمر ليس بتقليد الزي العسكري الغربي تقليدا مطابقا، بل باختراع زي "يوالف بين اللباس الأوربي ولباس سكان البلقان المسلمين بخطوطه المميزة" والذي لا يشوه الزي الوطني، وربما ان نائب الملك وقائد جنده ابنه ابراهيم باشا وأفراد العائلة الخديوية، تربوا بهذا اللباس ووضعوا الطربوش، فان الأعيان والوجهاء المدنيين غير المبالين اطلاقا بتقاليع الأزياء الأوربية ، شرعوا في محاكاتهم وتقليدهم.

وانتقلت عدوى محاكاة الأوربيين في الشوارب واللحى، فالاحتفاظ بالشوارب الشرقية أخذ يتلاءم مع تربية اللحى على الطريقة الافرنجية، لا بل ان محمد علي أمر جنوده وضباطه (حتى رتبة الباشا – جنرال هذا الأيام) بحلق لحاهم التي كانت تترد حولها شتى المعتقدات الخرافية . ولكن الباشا لم يجرؤ على الغاء الشارب فالرجل الأمرد في الشرق يوصف بأوصاف ونعوت تحط من قدره ورجولته. كما تحدث كلوت بك بحماسة شديدة حول الغاء الخطوط التتي تميز تمييزا عميقا بين الأوربيين والشرقيين، فقال : "يخيل لي أن هذا أمر عظيم الشآن، فالغاء هذه الفوارق يمهد الطريق أمام التمازج والتآلف بين الأخلاق".

بيد أن التاثير الاوربي تسرب أولا الى فئة الضباط ومن ثم الفئات العليا من أرباب الحكم والأعيان والوجهاء الذين شرعوا في محاكاة الأوربيين حتى فميا يتعلق بالوجبات الغذائية، والجلوس الى المائدة، واستعمال الصحون والأكواب الأوربية، واستبدال آداب السلوك الأفرنجية بالشرقية ما شابه ذلكز ومن المفارقات التي اسدت عصرئذ انهم كانوا يرتشفون الحساء في صحون النقولا (الحلوى)، ويشربون النبيذ العادي بأقداح الشمبانيا، كما كانوا يلتقطون باصباعهم قطع اللحم من الصحن ثم يغرسون أسنان الشوكة فيها ليضعوها في أفواههم، وكانوا يتبعون الطريقة الفرنسية في توزيع الأكل في طبق كبير متنقل، لكن الضيوف كانوا يتناولونه ليضعوه أمامهم على الطريقة العربية حينما تكون الوجبة شهية على نفوسهم.

ولكن، حيث كانت هناك حاجة ماسة أو ضرورية لازمة للمثاقفة الاصيلة بين الحضارتين، اتبع مفوضو الخديوي طريقة التقليد والمحاكاة. فبعد انشاء الجيش النظامي الجديد علم محمد علي ان كل تشكيل في الجيش الأوربي له نشيد خاص به، على اثر ذلك دعيت فرقة موسيقية فرنسية الى مصر بقيادة الموسيقار الأسباني الشهير كاري بهدف تعليم العسكر العزف على الآلات الموسيقية وتلقينهم فن الغناء. وهكذا ، تاسست مدرسة الموسيقى العسكرية في خانقاه سنة 1824، فبلغ عدد تلامذتها مئتين. وكتب كلوت بك في هذا الموضوع، فقال: "ان المصريين الذين اشتهروا بولعهم الشديد بالموسيقا منذ اقدم الأزمنة لا يزالون يظهرون موهبة عظيمة، ولكنهم وهم الذين يسكرون نشوة وطربا لسماعهم الموال المصري، والأغاني الرتيبة ظلو لا مبالين تماما ازاء الأناشيد الأوربية الحماسية (ولا غرو في أن نشيد المارسيلييز وحده قد أعجبهم لاعتبارهم إياه انشودة بونابرت) ويعرب كلوت بك عن أسفه العميق لاقفال مدرسة الموسيقى التي لم تلق حفاوة تذكرن ثم خلص الى القول "كان من المنطقي تماما دعوة بعض الموسيقيين الموهوبيين الى مصر كي يستوعبوا ويتذوقوا فن الموسيقا العربية ومن ثم يؤلفون أناشيد وطنية مصرية تشق طريقها في الحياة".

المصادر

  • يغيا نجاريان (1986). "الجمعية العلمية السورية". النهضة القومية – الثقافية العربية. يريڤان، أرمنيا: أكاديمية العلوم الأرمنية.