المدرسة الإيلية

في عام 510 ق.م.، جاء زنوفانيز الكلوفوني إلى هيلي(48) Hyele القديمة وهي فليا Velia الرومانية، المعروفة في التاريخ باسم إليا Elea لأن أفلاطون كتبها بهذه الصورة، ولأن فلاسفتها وحدهم هم الذين بقي ذكرهم. وأنشأ المدرسة الإليائية Eleatics. وكان ذا شخصية فذة لا تقل في ذلك عن عدوه فيثاغورس المحبوب من أهل بلده. ذلك أنه كان جم النشاط لا يكل من العمل، مبتكراً لا يهاب الابتداع، ظل ستة وسبعين عاماً - على حد قوله هو نفسه - يطوف "في أرض هيلاس من أقصاها إلى أقصاها" يجمع منها مشاهداته ويخلق لنفسه فيها أعداء أينما حل. وكان يكتب قصائد فلسفية ويتلوها على الناس، ويندد بهومر ويعيد عليه سفاهته وعدم تقواه، ويسخر من الخرافات؛ وقد أنشأ ميناء في إليا وأتم من العمر قرناً كاملاً قبل أن يموت(49). ومن أقواله أن هومر وهزيود "يعزوان إلى الآلهة كل الأعمال التي تحط من قدر الآدميين ويجللهم بالعار- كالتلصص، والزنا والغش"(50). ولكنه هو لم يبلغ شأواً بعيداً في التقى والصلاح كما يدل على ذلك قوله: "لم يوجد في العالم كله، ولن يوجد فيه، رجل ذو علم أكيد عن الآلهة... فالآدميون يتصورون أن الآلهة يولدون، ويلبسون الثياب، وأن لهم أصواتاً وصوراً كأصوات الآدميين وصورهم. ولو كان للثيران والآساد أيدٍ مثلنا، وكان في وسعها أن ترسم وتصنع صوراً كما يفعل الآدميون، لرسمت لآلهتها صوراً وصنعت لها تماثيل على صورتها هي؛ ولو استطاعت الخيل لصورت آلهتها في صورتها، ولصورت الثيران آلهتها في صورة الثيران. والأحباش يصورون آلهتهم سوداً فطس الأنوف؛ والتراقيون يصورون آلهتهم زرق العيون حمر الشعر...ألا إن ثمة إلهاً واحداً يعلو على الآلهة والبشر؛ لا يشبه الآدميين في صورته ولا في عقله.

فهو كله يرى، وكله يفكر، وكله يسمع. وهو يسيطر من نصب على الأشياء كلها بقوة عقله(51). ويقول ديوجنيز ليرتس(52) إن زنوفانيز قد وحد بين هذا الإله والكون. وكان هذا الفيلسوف يعلم الناس أن الأشياء كلها، بل والناس أيضاً، مخلوقون من الطين والماء حسب قوانين طبيعية(53)، وإن الماء كان في يوم من الأيام يغطي الأرض بأجمعها لأنا نرى في الحفريات البحرية في الأرض بعيدة عن شواطئ البحار وعلى رؤوس الجبال، وأكبر الظن أن الماء سيغطي الأرض كلها يوماً ما في المستقبل(54). بيد أن كل ما يحدث في التاريخ من تغير، وكل ما يحدث في الأشياء من فرقة وانقسام، ليس إلا ظواهر سطحية، وأن من تحت هذا الرخام ومن وراء ذلك الاختلاف في الصور والأشكال وحدة لا تتبدل أبداً هي حقيقة العلم الباطنة الداخلية.

ومن هذه البداية سار برمنيدس الإليائي تلميذ زنوفانيز إلى الفلسفة المثالية التي كان لها أكبر الأثر في تشكيل تفكير أفلاطون والأفلاطونيين طوال العصر القديم، وتفكير أوربا الذي دام إلى يومنا هذا.

وكما أن هيوم Hume قد أيقظ "كانت"، كذلك كان أكسنوفانس Xenophanes هو الذي دفع بارمنيدس إلى الاشتغال بالفلسفة، ولعل عقل بارمنيدس كان واحداً من عقول كثيرة أثارها قول أكسانوفان إن الآلهة ليست إلا أساطير، وإنه لا توجد إلا حقيقة واحدة هي العالم والله جميعاً. كذلك درس بارمنيدس مع الفيثاغوريين وسرى فيه شغفهم بعلم الفلك، ولكنه لم يضل في بيداء النجوم، بل كان كمعظم فلاسفة اليونان يهتم بالشئون الحية ومنها شئون الدولة. وقد كلفته إيليا أن يضع لها قوانينها، فلما وضعها أعجبت به إعجاباً جعلها تطلب إلى جميع قضاتها أن يحكموا في جميع القضايا بمقتضاها(3). ولعله أراد أن يرفِّه عن نفسه في حياته المفعمة بالعمل، فأنشأ قصيدة فلسفية في الطبيعة بقي منها إلى الآن نحو مائة وستين بيتاً تكفي لأن نأسف لأن بارمنيدس لم يكتب نثراً. وفي هذه القصيدة يعلن الشاعر، وهو يغمز بعينه، أن إلهة قد أوحت إليه أن الأشياء جميعها وحدة، وأن الحركة، والتغير، والنمو، أشياء غير حقيقية، فهي خيالات لمشاعر سطحية، متعارضة تافهة، وأن من وراء هذه المظاهر وحدة، متجانسة لا تتبدل، ولا تنقسم، ولا تتحلل، ولا تتحرك، وهي وحدة الكائنات، والحقيقة التي لا حقيقة سواها، والإله الذي لا إله غيره.

لقد كان هرقليطس يقول إن كل شيء يتغير Panta Rei أما بارمنيدس فيقول إن الأشياء بأجمعها كل واحد أبداً Hen Ta Panta. وهو في بعض الأحيان يقول كما يقول اكسنوفان إن هذا الواحد هو الكون، ويصفه بأنه شبه كرى ومحدود، وكان في بعض الأحيان حين ينظر إليه نظرة فكرية مجردة يرى أن هذا الكائن هو الفكر ويقول: "إن الفكر والكون شيء واحد"(4). وكأنه يريد بهذا أن يفهمنا أن الأشياء لا وجود لها في إدراكنا، وأن البداية والنهاية، والمولد والموت، والتكوين والتدمير، لا تصيب إلا الأشكال والصور، أما الواحد الحق فلا بداية له ولا نهاية، وليس ثمة صيرورة، وليس ثمة إلا وجود، وأن الحركة أيضاً غير حقيقية لأنها تفترض انتقال شي من المكان الذي هو فيه إلى مكان لا يوجد فيه شي أي إلى الفراغ، ولكن الفراغ الذي هو غير كائن لا يمكن أن يكون، إذ ليس ثمة فراغ قط، لأن الواحد يملأ كل ركن وكل شق في العالم، وهو ساكن سكوناً سرمدياً . ولم يكن ينتظر بطبيعة الحال أن يستمع الناس إلى هذه الأقوال كلها وهم صابرون، ويبدو أن السكون البارمنيدي كان الهدف الذي صوبت إليه مئات من الهجمات الميتافيزيقية. وترجع أهمية زينون الإليائي الحصيف تلميذ بارمنيدس إلى محاولته إثبات أن فكرتي التعدد والحركة كانتا من الوجهة النظرية على الأقل مستحيلتين كاستحالة واحد بارمنيدس الثابت القديم الحركة.

وأراد زينون أن يدرب نفسه على الضلال والمشاكسة، وأن يسلي شبابه في الوقت نفسه، فألف كتاباً في المتناقضات وصلت إلينا تسع منها، حسبنا أن نورد منها ثلاثاً: وأولى هذه المتناقضات كما يقول زينون أن الجسم لكي يتحرك إلى نقطة أ لا بد أن يصل إلى ب وهي منتصف طريقه إلى أ، ولكي يصل إلى ب يجب أن يصل أولا إلى ج منتصف طريقه إلى ب، وهكذا إلى ما لا نهاية. وإذ كانت هذه السلسلة التي لا نهاية لها من الحركات تتطلب قدراً لا نهاية له من الزمن، فإن تحرك أي جسم إلى أية نقطة في زمن محدد أمر مستحيل. والثانية وهي صورة أخرى من الأولى أن أخيل السريع العدو لا يستطيع أن يدرك السلحفاة البطيئة. وذلك لأنه كلما وصل إلى النقطة التي كانت فيها السلحفاة، تكون السلحفاة في هذه اللحظة نفسها قد انتقلت من هذه النقطة. والثالثة أن السهم الطائر في الهواء هو في الحقيقة ساكن غير متحرك، لأنه في كل لحظة من طيرانه لا يكون إلا في نقطة واحدة في الفضاء، أي أنه يكون ساكناً، وحركته منطقياً وميتافيزيقياً غير حقيقية مهما بدا للحواس أنها واقعة فعلاً .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً


المصادر

  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.