أيهما نشأ أولا ، الريشة أم الطائر

لقد تطور الريش في الدينوصورات اللاحمة ذات الرجلين قبل نشأة الطيور. وتمثل المخلوقات المصورة هنا إعادة تركيب لأحافير تم العثور عليها حديثا في شمال الصين، وتبين هذه الصور آثارا واضحة للريش. إن الدينوصور الكبير الذي يظهر وهو يأكل عظاءة هو السينورنيثوصوروس Sinornithosaurus ويقع إلى يمينه السينوصوروپتيركس Sinosauropteryx، وأما الدينوصور الصغير في الشجرة فهو الميكروراپتور Microraptor.

الشعر، الحراشف، الفراء، الريش. من بين جميع أغطية الجسم التي صممتْها الطبيعة، يعتبر الريش أكثرها تنوعا وغموضا. كيف نشأت وتطورت هذه اللواحق appendages القوية إلى حد كبير والخفيفة الوزن إلى حد مدهش والمعقدة إلى حد مذهل؟ من أين أتت؟ لقد بدأنا في السنوات الخمس الماضية فقط الإجابة عن هذا السؤال. وقد تقاربت حديثا بضعة خطوط بحثية نحو استنتاجٍ جديرٍ بالملاحظة، مفاده أن الريش نشأ في الدينوصورات قبل ظهور الطيور. [1]

يعتبر منشأ الريش حالة نوعية specific من السؤال الأكثر عمومية حول منشأ المُحْدَثات novelties التطورية التي تتمثل في البنى structures التي ليس لها سابقات واضحة في الحيوانات الأسلاف، والتي ليس لها بنى قريبة واضحة (مماثلة) في الأقارب المعاصرة. ومع أن نظرية التطور تقدم تفسيرا قويا لظهور الاختلافات الطفيفة في حجوم المخلوقات وأشكالها والأجزاء المكونة لها، فإنها تستمر في عدم إعطاء قدر مماثل من التوجيه لفهم ظهور بنى جديدة بالكامل، بما في ذلك الأصابع والأطراف والعيون والريش.

وكذلك حال دون التقدم في حل لغز أصل الريش ما يبدو الآن أفكارا خاطئة، مثل الافتراض بأن الريشة البدائية نشأت عن تطاول حرشفة الزواحف وانقسامها، وأن الريش قد تطور لتأدية وظيفة معينة مثل الطيران. ومما أسهم في بطء هذا التقدم انعدام وجود ريش أحفوري بدائي. ولسنوات عديدة تَمَثّل أقدمُ أحافير الطيور بالأحفورة «أركيوپتيرِكْس ليثوگرافيكا» Archaeopteryx lithographica، التي كانت تعيش في أواخر العصر الجوراسي (قبل نحو 148 مليون سنة). بيد أن الأركيوپتيركس لا تقدم تبصرات جديدة عن كيفية نشوء الريش، لأن ريش هذا الطائر لا يكاد يتميز عن ريش طيور اليوم.

هناك إسهامات حديثة جدا من ميادين عديدة وضعت حدا لهذه المشكلات التقليدية. ففي المقام الأول، بدأ علماء الأحياء بإيجاد أدلة جديدة على فكرة أن سيرورات النماء (بمعنى الآليات المعقدة التي ينمو بوساطتها الكائن الحي وصولا إلى حجمه وشكله الكاملين) يمكن أن تهيئ نافذة على تطور البنية التشريحية لأحد الأنواع. وقد تمت إعادة بعث هذه الفكرة في نطاق البيولوجيا النمائية التطورية evlutionary developmental biology، أو «الإيڤو-ديڤو» evo-devo، التي أعطتنا وسيلة قوية لاستقصاء منشأ الريش. وفي المقام الثاني، اكتشف علماء الأحافير مجموعة نفيسة من الدينوصورات ذات الريش في الصين. وتمتلك هذه الحيوانات تشكيلة منوعة من الريش البدائي لم يصل تطورها إلى ما وصل إليه الريش الموجود في الطيور اليوم، ولا حتى في الأركيوپتيركس. وتعطينا هذه التشكيلة المنوعة دالات clues حاسمة عن بنية ووظيفة وتطور اللواحق المعقدة للطيور الحديثة.

وقد نتج من جميع هذه الإنجازات صورة ثورية غنية بالتفاصيل، مفادها أن الريش قد نشأ وتنوع في الدينوصورات اللاحمة الثيروپودية(1) الثنائية القدم قبل نشأة الطيور أو نشأة الطيران.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الريشة الأنبوبية المكتملة

SCI2003b19N10 H05 0083.gif

لقد انتظم عِِقد هذه الصورة المدهشة بفضل تقييم جديد لماهية الريشة وكيفية نمائها لدى الطيور الحديثة. فالريش، مثلما هي حال الشعر والأظافر والحراشف، لواحق إهابية integumentary تمثل أعضاء جلدية تتكون بالتكاثر المنضبط لخلايا البشرة ـ أو الطبقة الخارجية للجلد ـ التي تُنتج پروتينات الكيراتين. وللريشة النموذجية عِراق shaft رئيسي يسمى المحور rachis (انظر الإطار في الصفحة المقابلة). وتندمج في المحور سلسلة من الفروع، أو الأسلات barbs. وعلى شاكلة الصورة التكرارية التي يعكسها المحور المتفرع والأسلات، فإن الأسلات نفسها تكون متفرعة أيضا؛ إذ تندمج سلسلة من الخيوط الزوجية تدعى الأُسَيْلات barbules في العراق الرئيسي لكل أسلة أو فرع. وعند قاعدة الريشة يتمدد المحور ليكون القلم (calamus (quill الأنبوبي المجوف الذي ينغرز في جريب في الجلد. ويتم استبدال ريش الطائر دوريا طوال حياته عبر حادثة «الانسلاخ»، الذي يعني نمو ريش جديد من الجريبات نفسها.

تهيئ الاختلافات في الشكل والبنية المجهرية للأَسَلات والأُسَيْلات والمحور مجالا مذهلا لتنوُّع الريش، ولكن على الرغم من هذا التنوع فإن معظم الريش يقع ضمن صنفين بِنْيَوِيّيْن؛ فالريشة الجناحية تكون ذات محور بارز وأسلات تشكل نصلا مستويا(2)، وتتماسك أسلات هذا النصل بعضها مع بعض بأزواج (أشفاع) من أُسيلات متخصصة. وتمتلك هذه الأُسيلات ـ التي تمتد نحو قمة الريشة ـ سلسلة من الكلاّبات الدقيقة التي تتشابك مع ميازيب في الأُسيلات المجاورة. ويغطي الريش الجناحي أجسام الطيور وتشكل نصولها المحكمة الانغلاق السطوح الدينمية الهوائية للجناحين والذيل. وعلى النقيض التام من الريش الجناحي، فإن الريشة الزُّغْبِية تمتلك محورا ضامرا وخصلة غير منتظمة من الأسلات ذات الأُسيلات الطويلة. وتعطي الأُسيلات الطويلة المتشابكة لهذا الريش خصائصه الرائعة في خفة الوزن والعزل الحراري والتحليق المريح. ويمكن أن يمتلك الريش نصلا جناحيا وقاعدة زغبية.

وجدير بالذكر أن جميع الريش، في جوهره، صور مختلفة لأنبوب تنتجه بشرة تتكاثر خلاياها بالانقسام، وله لب أدمي مغذٍّ في المركز؛ ومع أن الريشة تتفرع كالشجرة، فإنها تنمو من قاعدتها مثل الشعرة. فكيف يفعل الريش ذلك؟

يبدأ نمو الريشة بثخانة في البشرة تدعى اللويحة placode التي تتطاول بدورها مكونة أنبوبا يعد «منبت الريشة»(3) (انظر الشكل في الصفحة 34). ويؤدي تكاثر الخلايا في دائرة تحيط بمنبت الريشة إلى تكوين منخفض أسطواني يسمى الجُرَيْب follicle عند قاعدته، كما يدفع نمو الخلايا الكيراتينية في بشرة هذا الجريب (أو طوق الجريب(4)) الخلايا الأقدم عمرا نحو الأعلى والخارج، إلى أن تتخلق في نهاية المطاف الريشة الكاملة بطريقة متقنة التناغم تمثل إحدى روائع الطبيعة.

نظرة إجمالية/ تطور الريش(***)

SCI2003b19N10 H05 002622.jpg

▪ إن الطريقة التي تتكون بها الريشة على طائر يمكن أن تفتح نافذة على كيفية تطور الريش عبر الامتدادات التي لا يُتاح الوصول إليها من أزمنة ما قبل التاريخ. لقد أفرز استخدام النماء development في توضيح التطور evolution ميدانا جديدا هو البيولوجيا النمائية التطورية أو «الإيڤو-ديڤو» evo-devo اختصارا.

▪ طبقا للنظرية النمائية لنشوء الريش، فقد تطور الريش في سلسلة من المراحل، اعتمدت كل مرحلة منها على بدعة تطورية في كيفية نمو الريش، ثم شكَّلت الأساس للمرحلة التالية.

▪ يأتي دعم هذه النظرية من مجالات مختلفة لعلمي الحياة والأحافير، وربما يأتي أكثر الأدلة إثارة من مكتشفات أحفورية حديثة لدينوصورات مُرَيَّشة feathered أبدت ريشا في مراحل مختلفة، تنبأت بها تلك النظرية.


وكجزء من هذا المخطط المتناغم ينقسم الجريب إلى سلسلة حيود ridges طولانية (هي حيود الأسلات) التي تكون بدورها الأسلات المنفصلة. وفي الريشة الجناحية تنمو الأسلات لولبيا حول منبت الريشة الأنبوبي وتلتحم على أحد الجانبين لتشكل «المحور». وفي الوقت نفسه تتكون حيود أسلات جديدة على الجانب الآخر من الأنبوب. أما في الريشة الزغبية، فإن حيود الأسلات تنمو مستقيمة من دون أي حركة لولبية. وفي كلا النوعين من الريش، فإن الأسيلات barbules التي تمتد من فرع الأسلة تنمو من طبقة وحيدة من الخلايا تسمى الصفيحة الأُسيلية barbule plate عند محيط حيد الأسلة.


النماء التطوري (الإيڤو-ديڤو) يتناول الريشة

SCI2003b19N10 H05 002623.jpg

نعتقد مع كثير من الزملاء أن سيرورة نماء الريشة يمكن استغلالها لكشف الطبيعة المحتملة للبنى البدائية التي كانت أسلافا تطورية للريش. وتقترح نظريتنا النمائية developmental أن الريش تطور عبر سلسلة من المراحل الانتقالية، يميز كلاً منها بدعة نمائية تطورية(5) أو آلية جديدة للنمو. وكانت التحسينات في إحدى المراحل تهيئ الأساس للتجديد الذي يليه (انظر الإطار في الصفحتين 36 و37).

في عام 1999 اقترحنا المخطط التطوري التالي: المرحلة (1): حصل التطاول الأنبوبي للويحة من منبت الريشة والجريب. وهذا أعطى الريشة الأولى على شكل أسطوانة مجوفة غير متفرعة. ثم في المرحلة (2) تمايز طوق الجريب على شكل حلقة من نسيج البشرة؛ إذ غدت الطبقة الداخلية حيود أسلات طولية، وغدت الطبقة الخارجية غمدا واقيا. ونتج من هذه المرحلة خصلة من الأسلات ملتحمة بالأسطوانة المجوفة، أو القلم.

ولهذا النموذج بديلان إلى المرحلة التالية: إما نشوء النمو اللولبي لحيود الأسلات وتكوين «المحور» (المرحلة 3a) أو نشوء الأسيلات (3b). إن الغموض حول أيهما جاء أولا إنما يثار بسبب أن تنامي الريشة لا يشير بوضوح إلى أي الحادثتين حصلت قبل الأخرى. فمرحلة الجريب (3a) تعطي ريشة ذات محور وسلسلة أسلات بسيطة، في حين تولِّد مرحلة الجريب (3b) خصلة من الأسلات ذات أُسيلات متفرعة. وبصرف النظر عن أي المرحلتين جاءت أولا، فإن تطور هذين المَعْلمين (المرحلتين 3a+b) سيعطي أول الريش ذي التفرع المضاعف والذي يُبدي محورا وأسلات وأُسيلات. ولأن الأُسيلات لم تكن تمايزت بعد في هذه المرحلة، فإن الريشة ستكون جناحية مفتوحة؛ بمعنى أن نصلها لن يكون سطحا متماسكا محكما تتعشق (تتشابك) فيه الأسيلات بعضها مع بعض.

طبيعة الريش

تكشف الأحافير التي وجدت في محاجر مقاطعة لياوننگ بالصين خلال السنوات الخمس الماضية (مثل الطرف الأمامي للدينوصور كوديپتيركس) لواحق ريشية. إن هذا الدينوصور الذي كان تقريبا بحجم الديك الرومي احتفظ بشكل ممتاز بريش جناحي على ذيله وطرفيه الأماميين.

يبدي الريش تنوعا مدهشا، ويخدم مجالا واسعا من الوظائف يمتد من الغزل إلى التمويه وإلى الطيران. وتبدع الاختلافات في أشكال مكونات الريشة (الأَسَلات والأُسَيْلات والمحور) هذا التنوع. ولكن معظم الريش يقع في نمطين أساسيين؛ فالريشة الجناحية هي الريشة الأيقونية للقوادم quill الجناحية للطائر. أما الريشة الزغبية فهي مزودة بريشات متشابكة ناعمة تحقق عزلا حراريا وخفة في الوزن.

وفي المرحلة (4) نشأت المقدرة على إنماء أسلات متمايزة. وقد أتاح هذا التقدم لجريب المرحلة الرابعة إمكانية إنتاج كلاّبات في نهايات الأسيلات تستطيع الارتباط بأسيلات الأسلات المجاورة ذات الميازيب وتكوين ريشة جناحية ذات نصل مغلق. ولم تنشأ إلا بعد المرحلة (4) تنوعات ريشية إضافية تشمل التخصصات الكثيرة التي نراها في المرحلة (5)، مثل النصل غير المتناظر asymmetrical vane لريشة الطيران.

كيف ينمو الريش

ميكروراپتور كوي مكتشف حديثا

ينمو الريش، كما في الشعر والأظافر والحراشف، بتكاثر الخلايا الكيراتينية وتمايزها. وتؤدي هذه الخلايا المنتجة للكيراتين (القرنين) في البشرة، أي في طبقة الجلد الخارجية، دورها في الحياة حينما تموت مخلفة وراءها كتلة من الكيراتين المترسب. والكيراتينات خيوط من الپروتينات تتبلمر (تتكوثر) لتشكل بنى صلبة. ويتكون الريش من كيراتينات بيتا التي تنفرد بها الزواحف، بما في ذلك الطيور. أما الكساء الخارجي للريشة المتنامية، ويسمى الغمد، فإنه يتألف من كيراتين ألفا الأكثر ليونة والموجود في جميع الفقاريات ويكوّن جلدنا وشعرنا.

الأدلة الداعمة

لقد جاء وحي هذه النظرية من الطبيعة التراتبية heirarchical لنماء الريشة نفسه. فالنموذج يفترض، على سبيل المثال، أن ريشة أنبوبية بسيطة كانت قد سبقت تطور الأسلات، لأن الأسلات تنشأ عن طريق تمايز الأنبوب إلى حيود أسلاتية. وعلى نحو مماثل، فإن الخصلة الزغبية من الأسلات تطورت قبل الريشة الجناحية ذات المحور، لأن المحور يتكون عبر التحام حيود أسلاتية. ويشكل مثل هذا المنطق نفسه أساس كل من المراحل المفترضة للنموذج النمائي developmental model.

ويأتي الدعم لهذه النظرية جزئيا من تنوع الريش لدى الطيور الحديثة التي تَعْرض ريشا يمثل كل مرحلة من مراحل هذا النموذج. ومن الواضح أن هذا الريش هو تبسيطات حديثة ذات اشتقاق تطوري يرتد فقط إلى المراحل السليفة التي نشأت أثناء التطور، لأن التنوع المعقد للريش (حتى المرحلة 5 وأثناءها) لا بد أنه قد نشأ قبل الأركيوپتيركس. ويوضح الريش الحديث هذا أن جميع المراحل المفترضة تقع ضمن المقدرة النمائية لجريبات الريش. وهكذا، فإن النظرية النمائية لتطور الريش لا تتطلب أي بنى نظرية بحتة لتفسير نشوء أو أصل جميع تنوعات الريش.

ويأتي الدعم أيضا من اكتشافات جزيئية مثيرة جديدة أكدت المراحل الثلاث الأولى في نموذج إيڤو-ديڤو. وتمكننا الإنجازات التقنية الحديثة من أن نحدق النظر في داخل الخلايا ونتعرف ما إذا كانت هناك جينات نوعية تُعبِّر عن نفسها (تمارس عملها بحيث تنتج المواد التي تكوِّدها encode). وقد جمعت عدة مختبرات هذه الطرق مع تقنيات تجريبية تبحث في وظائف الپروتينات التي تتكون عندما تنشط جيناتها أثناء تكوين الريش. وقد درس كل من <M. هاريس> و <J. فالون> [من جامعة ويسكونسن ـ ماديسون] وواحد منا (پروم)، اثنتين من الجينات المهمة في تشكيل النمط pattern formation ـ هما: جينة sonic hedgehog Shh وجينة پروتين تشكيل العظام 2 bone morphogenetic protien Bmp2. فهاتان الجينتان تؤديان دورا حاسما في نمو الأطراف والأصابع واللواحق الإهابية integumentary، مثل الشعر والأسنان والأظافر لدى الفقاريات. وقد وجدنا أن الپروتينين Shh و Bmp2 يعملان كزوج (شفع) تعديلي modular pair من جزيئات الإشارة، يعاد استعماله بشكل متكرر، شأنه شأن مكون إلكتروني عمومي الغرض، طوال نماء الريشة. ويعمل الپروتين Shh على حث التكاثر الخلوي، في حين يقوم الپروتين Bmp2 بتنظيم حجم هذا التكاثر ويعزز التمايز الخلوي.

ويبدأ تعبير الجينتين Shh و Bmp2 عن نفسيهما في لويحة الريشة، حيث يتم إنتاج الزوج الپروتيني المعبَّر عنه في نسق (نمط) pattern أمامي/خلفي مستقطب. وبعد ذلك يظهر تعبيرهما عن نفسيهما عند قمة منبت الريشة الأنبوبي أثناء تطاوله الأولي، ثم يتابع ذلك في الظهارة (الطلاء) epithelium التي تفصل بين الحيود الأسلاتية المتكونة، لترسخ بذلك نمطا لنمو هذه الحيود. وبعدئذ، في الريش الجناحي، يضع تأشير signaling الـ Shh و Bmp2 نمطا للنمو اللولبي للحيود الأسلاتية ولتكوين المحور، في حين تؤمن إشارتهما في الريش الزغبي نمطا لنمو الأسلات أكثر بساطة. ولكل مرحلة من مراحل تنامي الريشة نمط مميز من تأشير الجينتين Shh و Bmp2. ويؤدي الپروتينان Shh و Bmp2 مرة بعد أخرى مهام حاسمة أثناء انبساط الريشة وصولا إلى شكلها النهائي.

تؤكد هذه البيانات الجزيئية أن نماء الريشة يتألف من سلسلة مراحل تراتبية تعتمد الأحداث اللاحقة فيها آليا على المراحل الأبكر منها. وعلى سبيل المثال، فإن تطور الشرائط stripes الطولية في تعبير Shh-Bmp2 يتوقف على النماء المسبق لمنبت ريشة أنبوبي متطاول. وبالمثل، فإن الاختلافات في تنميط Shh-Bmp2 أثناء نمو الريش الزغبي تتوقف على التأسيس المسبق للشرائط الطولية. وعلى ذلك فإن البيانات الجزيئية تتماشى على نحو جيد مع السيناريو الذي يرى أن الأرياش تطورت من أنبوب مجوف متطاول (المرحلة 1)، إلى خصلة زغبية من الأسلات (المرحلة 2)، ثم إلى بنية ريشية جناحية (المرحلة 3a).

نجوم الدراما

لقد أثارت نظريات معرفية جديدة تفكيرنا؛ كما مكَّنتنا أحدث الوسائل المختبرية من أن نسترق النظر إلى الخلية، باعتبار هذه الأخيرة تعطي الريشة حياتها وشكلها. ولكن الأبحاث الاستقصائية البسيطة العتيقة في المحاجر الغنية بالأحافير شمال الصين أطلقت أكثر الأدلة إثارة للدهشة لصالح النظرية النمائية. فقد أماط علماء الأحافير الصينيون والأمريكيون والكنديون [العاملون بمقاطعة لياوننگ Liaoning] اللثام عن مجموعة نفيسة ومذهلة من الأحافير في تشكيل يكسيان Yixian الكريتاسي المبكر (يراوح عمرها بين 124 و 128مليون سنة). وقد أدت الظروف الممتازة لهذا التشكيل إلى حفظ مجموعة من الكائنات (المتعضيات) القديمة، ومن ضمنها: أقدم ثديي مشيمي، وأقدم نبات زهري، ومكمن هائل من الطيور القديمة [انظر: «أصل الطيور وطيرانها»، العلوم، العددان 8/9(1998)، ص 10]، وتشكيلة متنوعة من أحافير الدينوصورات الثيروپودية ذات قسمات إهابية صريحة. وتوجد أحافير دينوصورية مختلفة تبدي بوضوح ريشا حديثا تماما مع تشكيلة منوعة من بنى ريشية بدائية. أما الاستنتاجات التي لا مفر منها فتتمثل في أن الريش نشأ وطور بنيته الحديثة الأساسية في سلالة من الدينوصورات الأرضية اللاحمة التي تمشي على رجلين قبل ظهور الطيور أو الطيران.

النماء التطوري (الإيڤو-ديڤو) والريش

لقد نشأت نظرية المؤلِّفيْن حول أصل الريش من إدراك أن آليات النماء يمكن أن تساعد على تفسير تطور الملامح الجديدة، وهو الميدان العلمي الذي يوصف باسم النماء التطوري (إيڤو-ديڤو). ويقترح هذا النموذج أن تكون الخصائص الفريدة للريش قد تطورت عبر سلسلة من المستحدثات التطورية في كيفية نموه، كان كل منها أساسيا لظهور المرحلة التالية له. وهكذا فإن هذه النظرية تؤسِّس اقتراحاتها على معلومات عن خطوات نماء الريش الآن، وليس على افتراضات عما كان يمكن أن يستخدم الريش لأجله، أو عن المجموعات الحيوانية التي نشأ فيها الريش.

تقدم الاكتشافات الأحفورية الجديدة من لياوننگ في الصين أولى التبصرات حول أي الدينوصورات الثيروپودية كان قد طور ريش كل مرحلة مفترضة. وانطلاقا من التشابهات بين التنبؤات البدائية للريش في هذا النموذج وأشكال اللواحق الجلدية للأحافير، يقترح المؤلفان أن كل مرحلة قد نشأت في مجموعة بعينها من الدينوصورات.

لقد كان أول دينوصور ذي ريش عُثر عليه هناك عام 1997 هو دينوصورا بحجم الدجاجة ويدعى سينوصوروپتيركس Sinosauropteryx؛ وكان يمتلك بنى أنبوبية صغيرة (وربما متفرعة) تبرز من جلده. وعقب ذلك اكتشف علماء الأحافير أحفورة دينوصور جارح بيوض بحجم الديك الرومي (يدعى كوديپتيركس Cuadipteryx) احتفظ جيدا بريش جناحي حديث المظهر على أطراف ذيله ورجليه الأماميتين. وقد زعم بعض المتشككين أن «الكوديپتيركس» هذا كان مجرد طائر قديم لا يستطيع الطيران، ولكن الكثير من تحاليل تطور السلالات تضعه ضمن الدينوصورات الثيروپودية الجارحة البيوض. وقد وَجدت اكتشافات لاحقة في لياوننگ ريشا جناحيا على عينات من الدروميوصورات dromaeosaurs، وهي ثيروپودات يفترض أنها الأكثر قرابة للطيور، إلا أنها ليست طيورا بحق. وبالإجمال فقد وجد الباحثون ريشا أحفوريا يخص أكثر من اثني عشر من الدينوصورات الثيروپودية اللاطيرية، من بينها الثيريزينوصور therizinosaur المسمى بايپياصوروس Beipiaosaur 45 (ذو حجم النعامة)، وكذلك تشكيلة منوعة من الدروميوصورات وبضمنها كل من الميكروراپتور Microraptor والسينورنيثوصوروس Sinornithosaurus.

يقدم التباين المدهش للريش لدى هذه الدينوصورات دعما قويا ومباشرا للنظرية النمائية. فأكثر الريش المعروف بدائية (وهو ريش السينوصوروپتيركس Sinosauropteryx) يعد أبسط البنى الأنبوبية، ويشبه إلى حد كبير المرحلة (1) المتنبأ بها للنموذج النمائي. ويبدي كل من السينوصوروپتيركس والسينورنيثوصوروس وعينات أخرى ثيروبودية لاطيرية بنى زغبية مفتوحة تفتقر إلى محور وتطابق المرحلة (2) من النموذج بشكل أخاذ. وتوجد كذلك أرياش جناحية تمتلك بوضوح أسيلات متمايزة ونصول مستوية متماسكة كما في المرحلة (4) من النموذج إياه.

تستهل هذه الأحافير فصلا جديدا في تاريخ جلد الفقاريات. فنحن نعرف الآن أن الريش ظهر أولا في مجموعة من الدينوصورات الثيروپودية، ثم تنوع إلى تشكيلة بنيوية حديثة (من الناحية الجوهرية) ضمن سلالات أخرى من الثيروپودات وذلك قبل نشوء الطيور. وتمثل الطيور بين الدينوصورات العديدة الحاملة للريش مجموعة خاصة طورت قدرتها على الطيران باستخدام الريش الموجود على رجليها الأماميتين وذيلها المتخصصة. وتظهر في الكوديپتيركس والپروتوپتيركس Protopteryx والدروميوصورات «مَرْوَحَة» واضحة من الريش عند ذروة الذيل، مما يشير إلى أن بعض نواحي الكساء الريشي plumage في الطيور الحديثة قد نشأ في الثيروپودات.

ونتيجة لهذه الاكتشافات الأحفورية المذهلة كان لا بد من إعادة تعريف متزامن لما يعنيه أن يكون الكائن طائرا، وكذلك إعادة دراسة بيولوجية الدينوصورات الثيروپودية وتاريخ حياتها. فقد اعتدنا وصف الطيور (وهي المجموعة التي تضم جميع الأنواع المنحدرة من أحدث سلف مشترك للأركيوپتيركس والطيور الحديثة) بأنها الفقاريات ذات الريش والقادرة على الطيران. أما الآن فيجب علينا أن نعترف بأن الطيور هي مجموعة من الدينوصورات الثيروپودية ذات الريش الذي طوّر مقدرةً على الطيران الفاعل. وتواصل الاكتشافات الأحفورية الحديثة سد الثغرة بين الطيور والدينوصورات، مما يؤدي في النهاية إلى صعوبة أكبر في تعريف الطيور. وعلى العكس، فإن الكثير من الدينوصورات المحببة والأيقونية iconic من الناحية الثقافية (مثل التيرانوصوروس والڤيلوسيراپتور) يحتمل جدا أنها كانت تملك جلدا ذا ريش ولكنها لم تكن طيورا.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نظرة جديدة

وبفضل المغانم التي قدّمتها الاكتشافات الحديثة، يستطيع الباحثون الآن إعادة تقييم الفرضيات القديمة المختلفة حول منشأ الريش. فالأدلة الجديدة المستقاة من البيولوجيا النمائية تدحض بوجه خاص النظرية الكلاسيكية بأن الريش قد تطور من حراشف طولانية. وطبقا لهذا السيناريو فقد أصبحت الحراشف ريشا بالتطاول أولا، ثم بإنماء حواف مهدبة، وأخيرا بإنتاج أُسيلات ذات كلاليب وميازيب. ولكن كما رأينا، فإن الريش هو أنابيب؛ أما الجانبان المستويان للنصل (وبكلمات أخرى الجانبان الأمامي والخلفي) فإن داخل الأنبوب وخارجه لا يخلّقانهما إلا بعد أن تتعرى الريشة من غمدها الأسطواني. وعلى النقيض من ذلك فإن الجانبين المسطَّحين للحرشفة يتناميان من ذروة وقاع النتوء البشروي الأوّلي initial epidermal outgrowth الذي يشكل الحرشفة.

وكذلك يُسقط الدليل الجديد النظرية الشائعة والرائجة بأن الريش قد نشأ مبدئيا أو أساسا من أجل الطيران. فوحدها الأشكال الراقية التطور للريشة، وبخاصة الريشة غير المتناظرة ذات النصل الكتيم (والتي لم تظهر حتى المرحلة 5) يمكن أن تكون قد استخدمت في الطيران. إن الاقتراح بأن الريش قد نشأ من أجل الطيران يبدو الآن مثل الافتراض بأن الأصابع قد نشأت من أجل العزف على البيانو. والأصح هو أن الريش لم يسخر لوظيفته الدينمية الهوائية إلا بعد نشوء تعقيدات نمائية وبنيوية جوهرية. وبمعنى آخر أن الريش كان قد تطور لغرض ما، ومن ثم استُثمر في استخدام مغاير لذلك الغرض.

دينوصور أو طائر ؟ الفجوة تضيق

حينما أرسل عدد الشهر2/2003 من ساينتيفك أمريكان إلى المطبعة، أعلن الباحثون اكتشافا جديدا مدهشا في الصين: إنه دينوصور ذو ريش غير متناظر (النوع الوحيد من الريش الذي يفيد في الطيران) على أطرافه الأمامية والخلفية. وقد اعتقد العلماء قبل هذا الاكتشاف أن الطيور هي المخلوقات الوحيدة التي تمتلك ريشا غير متناظر. وفي الواقع، إن مثل هذا الريش كان واحدا من الخصائص القليلة الفريدة التي تفرق بين الطيور وأسلافها الدينوصورات. ولكن يبدو الآن أنه حتى ريش الطيران (وليس مجرد الريش بذاته) إنما كان موجودا قبل الطيور.

وفي عدد23/1/2003 من مجلة Nature أعلن Xing Xu و Zhonghe Zlou وزملاؤهما [من معهد علم أحافير الفقاريات وعلم أحافير الإنسان القديم التابع للأكاديمية الصينية للعلوم] أن نوعا حديث الاكتشاف من ميكروراپتور كان يمتلك ريش طيران غير متناظر شبيها بالريش الحديث. وأن الريش كان يشكل «جناحين» (أماميا وخلفيا). إضافة إلى ذلك، كان الريش أكثر لاتناظرا بالقرب من نهاية الطرف، تماما كما في جناح الطائر الحديث.

لقد ركز الجدل حول نشأة الطيران لدى الطيور على افتراضين متنافسين يرى أولهما أن الطيران نشأ من الأشجار عبر مرحلة انزلاق انتقالية، في حين يرى الآخر أن الطيران نشأ من الأرض عبر مرحلة عدو قوي. ولكل من الافتراضين أدلة داعمة جيدة، بيد أن Xu وزملاءه يقولون إن المكتشف الميكروراپتوري الجديد يقدم دعما إضافيا للفرضية الشجرية، حيث إن ريش الطرفين الأماميين وريش الرجلين ربما عملا كسطح انسيابي كامل لفائدة الطيران. وتتبقى هناك بالطبع أسئلة جوهرية من بينها، كيف استخدم الميكروراپتور «أجنحته» الأربعة؟

هناك عديد من المقترحات الوظيفية المبكرة للريش مازال يحظى بالاستحسان: وبضمنها العَزْل الحراري وصد الماء والغَزَل والتمويه والدفاع. وحتى مع غزارة المعلومات الأحفورية الجديدة، فإنه من غير المحتمل ـ كما يبدو ـ حصولنا على تبصر كاف فيما يخص الناحية البيولوجية والتاريخ الطبيعي المتعلقين بالسلالة النوعية التي تطور الريش فيها، وذلك من أجل التمييز بين هذه الافتراضيات. وبدلا من ذلك فإن نظريتنا تؤكد أن الريش تطور عبر سلسلة من التجديدات الإنمائية التي يمكن أن يكون كل منها قد نشأ لصالح وظيفة أصلية مختلفة. وعلى الرغم من ذلك، فإننا نعرف بالفعل أن الريش لم يظهر إلا بعد أن تشكل منبت ريشي أنبوبي وجريب في جلد بعض الأنواع. وعلى ذلك فإن الريشة الأولى إنما نشأت لأن اللاحقة الأنبوبية الأولى التي نمت من الجلد قد هيأت نوعا من مزية تخدم البقيا.

لطالما أشار أصحاب مذهب الخَلْق (المشككون في التطور) إلى الريش بأنه مثال مستحسن على عدم كفاءة النظرية التطورية. فقد جادلوا بعدم وجود أشكال انتقالية بين الحراشف والريش. وأكثر من ذلك، فقد تساءلوا: لماذا يعمد الانتقاء (الانتخاب) الطبيعي لصالح الطيران إلى قِسْمَة الحرشفة المتطاولة أولا، ثم يطور بعد ذلك آلية جديدة متقدمة ليحبكها في كلٍّ واحد مجددا؟ والآن، وباستدارة ساخرة، يقدم الريش مثالا أصيلا عن أفضل طريقة يمكننا أن ندرس بها منشأ كل بدعة تطورية؛ وذلك بالتركيز على فهم تلك المعالم (الملامح) التي تبدو جديدة حقا، وباستقصاء الكيفية التي تشكلت بها أثناء النماء في الكائنات الحديثة. وبالتأكيد سيؤدي هذا النهج الجديد في البيولوجيا التطورية إلى كشف المزيد من الغوامض والأسرار. فلنترك لتفكيرنا العنان.

المؤلفان

Richard O. Prum - Alan H. Brush ، يتشاركان في ولعهما ببيولوجية الريش. ويشغل اليوم پروم، الذي بدأ مراقبة الطيور حين كان عمره عشر سنوات، وظيفة أستاذ مشارك لعلم البيئة (الإكولوجيا) والبيولوجيا التطورية بجامعة كانساس، كما أنه أمين قسم علم الطيور بمتحف التاريخ الطبيعي ومركز أبحاث التنوع البيولوجي في تلك الجامعة. وقد تركزت أبحاثه على تطور السلالات، وعلى الغزل ونظم التربية breeding systems في الطيور، وفيزياء الألوان البنيوية، وتطور الريش. وقد أجرى دراسات ميدانية في أمريكا الوسطى والجنوبية وفي مدغشقر وغينيا الجديدة. أما پرَش فهو أستاذ غير متفرغ للإكولوجيا والبيولوجيا التطورية بجامعة كونيتيكت، وقد أجرى أبحاثه على صباغ الريش، والكيمياء الحيوية للكيراتين، وعلى نشوء المستحدثات في الأرياش. وكان محررا لمجلة «أوك» Auk.

انظر أيضا

المراجع

  • Development and Evolutionary Origin of Feathers. Richard O. Prum in Journal of Experimental Zoology (Molecular and Developmental Evolution), Vol. 285, No. 4, pages 291-306; December 15, 1999.
  • Evolving a Protofeather and Feather Diversity. Alan H. Brush in American Zoologist, Vol. 40, No. 4, pages 631-639; 2000.
  • Rapid Communication: Shh-Bmp2 Signaling Module and the Evolutionary Origin and Diversification of Feathers. Matthew P. Harris, John F. Fallon and Richard O. Prum in Journal of Experimental Zoology, Vol. 294, No. 2, pages 160-176; August 15, 2002.
  • The Evolutionary Origin and Diversification of Feathers. Richard O. Prum and Alan H. Brush in Ouarterly Reviewof Biology, Vol. 77, No. 3, pages 261-295; September 2002.
  • Scientific American, March 2003

المصادر