حرب الفلاحين

رسمة معاصرة
الإصلاح الپروتستانتي
95Thesen.jpg
الإصلاح
التاريخ والأصول
تاريخ الپروتستانتية
الحركات والطوائف
الپروتستانتية


المصلحون الپروتستانت
السابقون

انظر أيضاً قالب:پروتستانت

 ع  ن  ت

حرب الفلاحين (بالألمانية der Deutsche Bauernkrieg) كانت ثورة شعبية عارمة للفلاحين (ثورة الفلاحين) في الإمبراطورية الرومانية المقدسة نتيجة للاضطهاد القاسي الذي تعرضوا له والأوضاع المعيشية السيئة التي عاشوها. وتوجت هذه الإنتفاضة بحرب الفلاحين التي رافقتها أعمال عنف وانتقام واسعة النطاق خلال الفترة من 1524 إلى 1526 .

تعتبر على غرار الحركة بوندشو و الحرب الهوسية السابقتين سلسلة من الثورات الإقتصادية و الدينية .

الصراع وقع معظمه في جنوب وغرب و وسط ألمانيا الحالية و تضررت أيضا المناطق المجاورة في سويسرا و النمسا الحاليتين ، شارك فيها عند ذروتها في ربيع و صيف 1525 ما يقدر ب 300.000 من الفلاحين المتمردين : و تخبرنا تقديرات معاصرة بمقتل 100.000 . كانت أكبر انتفاضة شعبية أوروبية على نطاق واسع قبل الثورة الفرنسية عام 1789 .

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المسببات

كانت الحرب من ناحية تعبيرا عن الثوران الديني الذي عرف باسم الإصلاح ، و الذي من خلاله تحدى معارضي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية سيادتها الدينية والنظام السياسي.

و أشار عدد من المؤرخون إلى مناهضة للإكليروسية الاقتصادية بالتزامن مع بدايات حرب الفلاحين الألمانية 1524-1525.

و لكنها أيضا عكس لعمق السخط الإجتماعي . و لفهم أسباب حرب الفلاحين لابد من دراسة تغير هيكل الطبقات الاجتماعية في ألمانيا و علاقتها مع بعضها البعض . هذه الطبقات كانت الأمراء و النبلاء الأقل و رجال الدين و الارستقراطيون و المواطنون و العامة و الفلاحين .


الطبقات الإجتماعية في الإمبراطورية الرومانية المقدسة في القرن السادس عشر

الأمراء

مثّل الأمراء رأس الهرم على أراضيهم ، و كانوا فيها بمثابة الحاكم المطلق في ممالكهم و بالكاد يعترفون بأي سلطة تحاول أي طبقة أخرى فرضها . كان للأمراء الحق في فرض الضرائب و اقتراض الأموال بحسب حاجتهم . اضطر تزايد تكاليف الإدارة و الصيانة العسكرية الأمراء إلى رفع تكاليف المعيشة على الرعاية باستمرار . كانت طبقتا النبلاء الأقل و رجال الدين لا تدفعان أي ضرائب و كانوا في غالبا يدعمون الأمير . و تمتعت العديد من المدن بامتيازات حمتها من الضرائب ، و بناءا على ذلك فإن الجزء الأكبر من العبء وقع على الفلاحين . لطالما ما حاول الأمراء إجبار الفلاحين الأحرار على الدخول في نظام القنانة بزيادة الضرائب و عن طريق القانون المدني الروماني . كان القانون المدني الروماني أكثر من مواتي للأمراء لتوطيد سلطتهم حيث إنه خصص جميع الأراضي إلى ملكيتهم الخاصة و أزال من مفهوم إقطاعية الارض كونها الثقة بين المالك و الفلاحين و تنطوي على حقوق الانسان كما إلتزاماته . أعطى حفظ بقايا هذا القانون القديم الأمراء قوتهم الشرعية التي لم تقتصر على زيادة أموالهم و مكانتهم داخل الإمبراطورية (من خلال مصادرة جميع الممتلكات والايرادات) ولكن أيضا الهيمنة على أمور الفلاحين . بموجب هذا القانون القديم لم يمكن للفلاحين فعل أكثر من المقاومة السلبية . و حتى في ذلك الحين كان للأمير السيطرة المطلقة على كل أقنانه و ممتلكاتهم . حتى رفض توماس مونتسر وغيره من الراديكاليين أمثاله العوامل المشرعة للقانون القديم و توظيف "القانون الإلهي" كوسيلة لتحريض الناس ، بيد أن الانتفاضات بقيت معزولة و مفتقرة للدعم و سهلة الإخماد .

النبلاء الأقل

كان تقدم الصناعة في أواخر العصور الوسطى كافيا لتهميش نبالة الفرسان الأقل . فقد تقدمت العلوم العسكرية و تنامت أهمية البارود و المشاة على حساب سلاح الفرسان الثقيل كما قلت أهمية قلاعهم الإستراتيجية . استنزف أسلوب حياتهم الفاخر دخلهم الضئيل مع الإرتفاع المستمر في الأسعار ، و مارسوا حقهم القديم لانتزاع ما يسيطعون من ريف أراضيهم عبر السلب و النهب و الابتزاز . شعر الفرسان بالمرارة لفقرهم المتزايد و لوضعِهِم الدائم و المتزايد تحت سلطان الأمراء ، لذا كانت الطبقتان في صراع مستمر . كما اعتبر الفرسانُ رجالَ الدينِ طبقة متغطرسة و تجب إزاحتها ، كانوا يحسدونهم على الإمتيازات و الثروات الهائلة المضمونة بموجب قوانين الكنيسة . و إضافة إلى ذلك تصاعد خلاف الفرسان مع إرستقراطيي المدن ، و غالبا ما كانوا مدينين للمدن ، و نهب الفرسان أراضيهم و سلبوا تجارهم و احتفظوا بسجناء في حصونهم لقاء فدية .

رجال الدين

أخذت طبقة رجال الدين تفقد مكانتها بوصفها السلطة الفكرية في جميع القضايا داخل الدولة . ساهم تقدم الطباعة و تمدد التجارة فضلا عن انتشار النهضة الإنسانية في زيادة التعليم في جميع أنحاء الامبراطورية . فكسر بذلك الإحتكار الكاثوليكي للتعليم العالي . انتشر الفساد بمرور الوقت في المؤسسات الإقليمية الكاثوليكية . فتفشى الجهل الاكليركي و السيمونية و التعددية (الإيمان بوجود أكثر من حقيقة مطلقة واحدة) . كما أنهم بمختلف مراتبهم استغلوا رعيتهم بنفس قساوة أمراء الأقاليم . و استخدمت المؤسسات الكاثوليكية سلطتها الدينية كوسيلة رئيسية لابتزاز ثروات الشعب ، إضافة إلى بيع صكوك الغفران و فبركة المعجزات ، يبنون المصليات و مباشرة يفرضون الضرائب على الشعب . و دفع السخط الكبير على فساد الكنيسة في نهاية المطاف الراهب الكاثوليكي مارتن لوثر لوضع القضايا الخمسة و التسعين على أبواب كاتدرائية فيتنبيرغ عام 1517 دافعا الإصلاحيين الأخرين إلى اعادة التفكير بصورة جذرية في العقيدة و مؤسسة الكنيسة .

الإرستقراطيون

مع نمو النقابات و زيادة عدد السكان الحضر ، واجه ارستقراطو المدن معارضة دائمة و متزايدة . كانت الأسر الارستقراطيون ثرية تجلس لوحدها في مجالس المدن و يتولون جميع الوظائف الإدارية العليا ، لذا كانوا يأخذون كافة القرارات الإدارية و يستخدمون المال لمصلحتهم . و كسلطة الأمراء كانوا يأخذون الإيرادات من فلاحيهم بأي طريقة ممكنة . توضع رسوم تعسفية على طرق و جسور و البوابات متى أرادوا . ألغوا تدريجيا الأراضي العامة لإعطاءها بشكل غير مشروع لفلاح يقوم إما بصيد السمك أو لقطع الأخشاب في الأرض كان يحوزها الجميع . ضرائب النقابة كانت تؤخذ عنوة . كل الإيرادات المحصلة لم تكن تدار بشكل رسمي و الحسابات في سجلات المدينة كانت مهملة . و بالتالي كان الاختلاس و الاحتيال ممارسة شائعة والطبقة الارستقراطية الملزمة بالروابط العائلية أصبحت أغنى باستمرار و أكثر استغلالية من أي وقت مضى .

المواطنون

أصبح أرستقراطيو المدن تدريجيا أكثر عرضة للإنتقاد من طبقة المواطنين المتنامية . كان المواطنون طبقة تتألف من مدنيين من الطبقة متوسطة ميسورة الذين غالبا ما تولوا مناصب إدارية في النقابات أو يعملون كتجار ، و بالنسبة لهم كانت ثروتهم الجيدة و المتنامية سببا كافيا لتطلعهم إلى حق السيطرة على إدارة المدينة . فطالبوا علنا بمجلس بلدي من الارستقراطيون و المواطنين أو على الأقل تقييدا للسيمونية مع تخصيص عدة مقاعد للمواطنين . عارض المواطنون رجال الدين أيضا ، الذين شعروا بأنهم قد تجاوزوا حدودهم و متهاونون بواجباتهم الدينية. و زاد ثراء و امتيازات رجال الدين من سخط المواطنين ، فطالبوا بوضع حد للامتيازاتهم خاصة الإعفاء من الضرائب و خفض أعدادهم . عدل المواطنون النقابات : من نظام تلمذة حرفية و عملية إلى إدارة رأس مال و الطبقة العاملة. كان المواطن "الحرفي الأستاذ" يمتلك كحله و أدوات العمل . و يسمح للمبتدئ باستخدام المحل و الادوات مع توفير المواد اللازمة من أجل إنجاز المنتج في مقابل أجر يعتمد على طول فترة العمل ، فضلا عن نوعية و كمية الإنتاج . و لم يكن للعمال الحرفيون فرصة للترتفع في صفوف النقابة ، و ظلوا محرومين من الحقوق المدنية .

العامة

العامة هم طبقة العمال الحضريين و الحرفيين والصعاليك الجديدة . و حتى المواطنين الصغار المحطمين صنفوا من ضمنهم . يشبه العمال الحضريين و الحرفيين الطبقة العاملة الحديثة و التي لا بد أن تأخذ شكلا في أي نظام رأسمالي . على الرغم من أن الحرفيين عمليا يفترض أن يكونوا مواطنين ، لكنهم حرموا من المناصب العليا من قبل العائلات الراسمالية الغنية التي التي أدارتها . أصبح وضعهم "المؤقت" خارج نطاق الحقوق المدنية حالة أكثر ديمومة في بدايات الإنتاج الصناعي الحديث . و لم يكن للعامة حتى ممتلكات خاصة كمثل التي عند المواطنين المحطمين أو لدى الفلاحين . كانوا مقيمين لا يملكون أرضاً و لا حقوقاً و شاهدين على اضمحلال المجتمع الإقطاعي . أعطت الثورة المندلعة في تورنغن بقيادة توماس مونتسر فصيل عمال العامة حق التعبير الكامل عن مطالبهم ، و المتمثلة في المساواة الاجتماعية كاملة و هو ما بدؤوا يؤمنون به بمساعدة مونتسر ، فهم من يقود إلى ازدهار المجتمع من الأسفل و ليس العكس . سارعت السلطة الهرمية في ذلك العصر إلى وأد مثل تلك المثاليات الثورية و التي شكلت التهديد الرئيسي لسلطتهم التقليدية .

الفلاحون

بقي الفلاحون أدنى طبقات المجتمع . ساعد الفلاح جميع طبقات المجتمع الأخرى ليس فقط من خلال الضرائب المباشرة و إنما أيضا من خلال الإنتاج الزراعي و تربية الماشية . كان الفلاح ملكا لأي كان يعمل عنده . سواء كان مطرانا أو أميرا أو مدينة أو نبيلا ، كان الفلاح و جميع الأمور المرتبطة به تخضع لأهواءه . فرض ما لا يحصى من الضرائب على الفلاحين أجبرهم أكثر و أكثر على قضاء عمرهم في خدمة في حيازة صاحب العمل . معظم ما ينتج يأخذ في شكل عُشر أو بعض الضرائب الأخرى . لم يكن للفلاح الصيد لا الحيونات و لا الأسماك أو قطع الخشب بحرية في أوائل القرن السادس عشر لاتخاذ اللوردات مؤخرا للأراضي المشاع لأهدافهم الخاصة . كان للسيد الحق في استخدام أرض الفلاح حسب رغبته ؛ غالبا لم يحرك الفلاحون ساكنا متفرجين كما حدث في دمار محاصيلهم بلعبة البرية و بفروسية صيد النبلاء . إن رغب الفلاح في الزواج يضطر لأخذ إذن السيد إضطراره لدفع الضرائب ، و إن توفي يحق للسيد أخذ أفضل ماشيته و أفضل كساءه و أفضل عدته . لم ينصف النظام القضائي المكون إمّا من رجال الدين أو المواطنين الأغنياء أو الأرستقراطيين الفلاحين ؛ فقد كانت الطبقات العليا تعيش عل استغلال طبقتي الفلاحين و العامة و ترى الخطر في منحهم نوعا من المساواة أو العدالة الحقيقية . أبقت أجيال العبودية و الطابع المستقل للمقاطعات إنتفاضات الفلاحين في نطاقها المحلي . و تمثل أمل الفلاحين الوحيد في توحيد المُثل العابرة لحدود المقاطعات . آمن مونتسر أن ضعف الهيكل الطبقي في الآونة الاخيرة منح ثورة الطبقات السفلى من المجتمع قوة شرعية أكبر ، و كذلك مساحة أكبر لتحقيق مكاسب سياسية و إجتماعية - إقتصادية.

صراع الطبقات

كانت الطبقات الأحدث و مصالحها كافية للتخفيف من سلطة النظام الإقطاعي القديم . فتقدم الصناعة و التجارة الدولية لم ينافسا الأمراء بتنامي مصالح تجار الطبقة الراسمالية فحسب و لكنهما وسعا قاعدة مصالح الطبقات الدنيا (الفلاحين والآن عمال الحضر أيضا) كذلك . أضعف التقاطع بين طبقتي المواطنين و العامة الضرورية السلطة الإقطاعية ، حيث عارضتا أهل القمة و هما بطبيعة الحال متعارضتان في نفس الوقت . عزز تقدم طبقة العامة مصالح الطبقات الدنيا بعدة طرق . فبينما كانت طبقة الفلاحين المظلوم الوحيد و مستعبدة تقليديا أضاف العامة بعدا جديدا مثّل مصالح الطبقات المشابهة دون تاريخ من الجور الكامل .

و بالمثل أنتج هدوء الصراع الطبقي معارضة شرسة للمؤسسة الكاثوليكية من كل طبقة في هرمية أواخر القرون الوسطى الجديدة . فقد آمنت الطبقات السفلى (سواء العامة أو الفلاحين) بأن رجال الدين هم أكبر مسؤول عن الاستغلال الذي يُعانونه من الطبقات العليا و لم يعودوا تستطيعون الوقوف مكتوفي الأيدي حياله . و احتقر المواطنون و النبلاء بلادة و كسل حياة رجال الدين . فكونهم من الطبقات الأرقى منهم إما عن طريق الإلتزام أو التقاليد ، أشعرهم أن رجال الدين كانوا يجنون فوائد (مثل الاعفاء الضريبي الأعشار الكنسية) لا يستحقونها . حالما يسمح الوضع حتى الأمير مستعد لللتخلي عن الكاثوليكية للحصول على استقلال سياسي و مالي و تعزيز السلطة داخل أراضيه .

بعد تقديم الطبقات الدنيا الآلاف من عرائض الشكاوى في العديد من المدن و القرى دون جدوى ، اندلعت الثورة . انقسمت الأطراف إلى ثلاث مجموعات مميزة و وثيقة الصلة بالبناء الطبقي . المعسكر الكاثوليكي يتكون من رجال الدين و الارستقراطيون و الأمراء الذين رفضوا أي معارضة لأوامر الكثلكة . طرف الإصلاحيين المعتدلين يتألف أساسا من المواطنين و الأمراء : رأى المواطنون الفرصة مواتية للوصول إلى سلطة المجالس الحضرية كما كانت مقترحات لوثر الاصلاحية مركزية جدا داخل المدن و أدانت ممارسة الارستقراطيين للمحسوبية و التي بها أمسكوا بالبيروقراطية بقوة ، و بالمثل فإنه أمكن للأمراء اكتساب المزيد من الإستقلالية ليس فقط عن الإمبراطور الكاثوليكي شارل الخامس و لكن أيضا عن الكنيسة الكاثوليكية في روما . كون العامة و الفلاحين و أولئك المتعاطفين مع قضيتهم المعسكر الثالث للثورة و يقوده خطباء مثل توماس مونتسر ، أمَل هذا المعسكر في كسر أغلال مجتمع أواخر العصور الوسطى و إقامة آخر جديد .

حدد الفلاحون و العامة في ألمانيا شكواهم في بيانات . بيانات الغابة السوداء الإثني عشر (Zwölf Artikel) الشهيرة اعتمدت كمطالب نهائية . شمولها للمظالم الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية في ظل الشعبية متزايدة للسلك البروتستانتي وحّدت السكان في انتفاضة ضخمة اندلعت بدايةً في شفابيا السفلى عام 1524 و سرعان ما امتدت إلى مناطق أخرى من ألمانيا .


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفشل النهائي

فشلت حركة الفلاحين في نهاية المطاف بإتفاق المدن و النبلاء على صلح خاص بهم مع الجيوش الأميرية التي أعادت النظام القديم و بطريقة أكثر قساوة غالبا ، إسميا لحساب الإمبراطور الروماني المقدس شارل الخامس ، مثله في الشؤون الألمانية شقيقه الأصغر فرديناند .

المنشق الديني مارتن لوثر و الذي سبقت أدانته بالهرطقة في مؤتمر فورمس عام 1521 ، أتهم في ذلك الوقت بإثارة الصراع و رفض مطالب المتمردين و تأييده حق حكام ألمانيا بقمع الانتفاضة . و لكن تابعه السابق توماس مونتسر برز كمحرض راديكالي في تورنغن.

الحرب

أتاحت الثورة الدينية الكادحين في الحقول أيديولوجية تستهوي الأفئدة وتعبر عن مطالبهم بالحصول على نصيب أكبر في رخاء ألمانيا المتزايد. يضاف إلى هذا أن الشدائد التي كانت قد حفزت أهل الريف للقيام بأثنتي عشرة ثورة مازالت تثير إلى حد ما في ذهن الفلاح اضطرباً، والحق أن هذا الاضطراب المحموم ازداد شدة في الوقت الذي تحدى فيه لوثر الكنيسة وانتهر الأمراء وحطم سدود النظام والرهبة، وجعل من كل إنسان قساً وأعلن حرية الإنسان المسيحي. وكانت الكنيسة والدولة في هذا العهد بألمانيا مرتبطتين ارتباطاً وثيقاً - وكان رجال الدين يلعبون دوراً كبيراً في النظام الاجتماعي والإدارة المدنية - إلى حد أن تقويض ما يتمتع به رجال الدين من هيبة وسلطان قد أزال أكبر عائق للثورة. وقد استمر والولدانيون والبغارديون وإخوة الحياة المشتركة في تقليد قديم يذهب إلى تأسيس آراء متطرفة من نصوص وردت بالكتاب المقدس. وكان تداول العهد الجديد مطبوعاً لطمة لطبقة المحافظين من رجال الساسة والدين ذلك لأنه فضح ما قام به رجال الدين من تراضٍ مع طبيعة الإنسان وطرق العيش في الدنيا كما كشف عن شيوعية الرسل وعطف المسيح على الفقراء والمضطهدين.

وكان العهد الجديد في هذه الأمور بمثابة "بيان شيوعي" حقيقي بالنسبة للمتطرفين في هذا العصر. ووجد فيه الفلاحون وطبقة الكادحين على السواء ضماناً إلهياً لكي يحلموا بمدينة فاضلة (يوتوبيا) تلغى فيها الملكية الخاصة ويرث فيها الفقراء الأرض.

وفي عام 1521 وزع في ألمانيا كتيب عنوانه karsthans أي جون المذراة، وقد ضمن الحماية للوثر هذا "الرجل ذو الفأس" والقلم، ونشر في العام نفسه ملحق يدافع عن قيام أهل الريف بانتفاضة ضد الكثالكة من رجال الدين(6) وطالب ينهانس إبرلين في كتيب آخر صدر عام 1521 بالتصويت العام للذكور، وبتبعية كل حاكم وكل موظف للمجالس الشعبية المنتخبة، وبإلغاء كل المؤسسات الرأسمالية، وبالعودة إلى تحديد أثمان الخبز والنبيذ كما كانت في القرون الوسطى، وبتعليم كل الأطفال اللاتينية واليونانية والعبرية والفلك والطب(7).

وصدر عام 1522 كتيب عنوانه "احتياجات الأمة الألمانية" نسب زوراً إلى الإمبراطور فردريك الثالث المتوفى ودعا إلى إلغاء "كل المكوس والرائب وجوازات السفر والغرامات" وإلغاء القانون الروماني والقانون الكنسي وتحديد حجم العمل في المؤسسات برأسمال قدره 10000 جيلدر وباستبعاد رجال الدين من الحكومة المدنية وبتصفية ثروة الأديرة وتوزيع المبالغ المحصلة على الفقراء(8). وأعلن أوتوبر ونفيلز (1524) أن دفع ضرائب العشور إلى رجال الدين أمر مخالف لما جاء بالعهد الجديد. ومزج الوعاظ الإنجيلية البروتستانتية بالآمال اليوتوبية، وكشف أحدهم أن الجنة مفتوحة الأبواب للفلاحين ومغلقة في وجوه الأشراف ورجال الدين، ونصح آخر الفلاحين بأن يكفوا عن إعطاء المال للقساوسة أو الرهبان، وأشار منتس وكارلشتادت وهوبماير على مستمعيهم بأن "المزارعين والعاملين بالمناجم ودارسي الحنطة يفهمون نصن الإنجيل وفي وسعهم أن يعلّموها للناس خيراً من قرية بأسرها... من الرهبان والقساوسة... أو المتفقهين في اللاهوت"، وأرد كارلشتادت يقول: "بل وخيراً من لوثر"(9). وتنبأت التقاويم وطائفة المنجمين بقيام ثورة عام 1524 وكأنها كانت بهذا تعطي إشارة البدء في العمل. ومما يذكر أن يوهانس كوكلايوس وهو عالم إنسانيات كاثوليكي حذر لوثر عام 1523 بأن "عامة الناس في المُدن والفلاحين في الأقاليم سوف يقومون لا محالة بثورة... إذ سممت أفكارهم الكتيبات والخطب التي لا تحصى والحافلة بالسباب والتي نشرت أو أعلنت بينهم بفصاحة وإطناب ضد السلطة البابوية والسلطة الزمنية على السواء"(10). ولكن لوثر والوعاظ ومؤلفي الكتيبات لم يكونوا السبب في الثورة لأن الأسباب إنما تكمن بحق في المظالم التي حاقت بطبقة الفلاحين، وإن كان من الممكن أن يقال إن إنجيل لوثر وأتباعه المتطرفين قد "صبوا الزيت على اللهب"(11) وحولوا استياء المضطهدين إلى أوهام يوتوبية وإلى عنف لم يكن في الحسبان وإلى انتقام شديد.

وتشبث سلوك توماس منتسر بكل إثارة حفل بها العصر، فما أن عين واعظاً في آلشتدت (1522) حتى طالب بإبادة الكفار - أي الأرثوذكس أو المحافظين - بحد السيف وقال: "إن الكفار لا حق لهم في العيش إلا بقدر ما تسمح لهم بهذا الصفوة"(12). واقترح على الأمراء أن يقودوا الشعب في ثورة شيوعية ضد رجال الدين والرأسماليين وعندما لم يظهر الأمراء أنهم أهل لانتهاز هذه الفرصة استنفر الناس لقلب الأمراء أيضاً "ولكي يقيموا مجتمعاً مهذباً كالمجتمع الذي كان يفكر فيه أفلاطون... وأبيليوس مؤلف "الحمار الذهبي"(13) وكتب يقول: "إن كل الأشياء على المشاع ويجب أن توزع حسب ما تقتضيه الحاجة وطبقاً للاحتياجات العديدة للجميع. وأي أمير أو كونت أو بارون يرغب عن قبول هذه الحقيقة بعد تذكيره بها في حزم يجب أن تقطع رأسه أو يشنق"(14). وتسامح الأمير المختار فردريك في هذا الإنجيل وعدّه من قبيل الهزل، ولكن أخاه الدوق جون وابن عمه الدوق جورج إنضما في الرأي إلى لوثر بضرورة إقصاء منتسر عن وظيفته كراعي أبرشية (1524) وأخذ الرسول الحانق يضرب في الأرض وينتقل من مدينة إلى مدينة ويعلن خلاص "إسرائيل" وقرب ظهور مملكة الرب على الأرض(15).

ووجد في مدينة ميلهاوزن الحرة في نورينجيا مناخاً سياسياً لطيفاً. فهناك جمعت صناعة النسيج عدداً كبيراً من طبقة الكادحين، وكان هينريخ بفيفر، وهو راهب سابق، قد بدأ هناك حركة لانتزاع المجلس البلدي من أيدي الأقلية من الأشراف. وبشر منتسر ببرنامجه المتطرف عمال المدينة وطبقة الفلاحين في المناطق المجاورة، وفي يوم 17 من مارس عام 1525 خلع أتباع بفيفر ومنتسر المسلحون الأشراف وأقاموا "مجلساً دائماً" ليحكم ميلهاوزن.


وطبقاً لما يقوله ميلانكتون طرد المتطرفون المظفرون الرهبان وجردوا الكنيسة من أملاكها(16)، ومهما يكن من أمر فلم يكن من المستطاع الوثوق بعالم من علماء اللاهوت في هذا العصر، ليقدم بلا تحيز تقريراً عن أعمال الخصوم ووجهات نظرهم ولم تنشأ جامعة أمم (كومونويلث) شيوعية، وأثبت بفيفر أنه أقدر في الناحية العملية من منتسر، وطوع الثورة للوفاء بحاجات الطبقة المتوسطة. وتوقع منتسر مسبقاً مهاجمة الفرق الإمبراطورية، فنظم جيشاً من العمال والفلاحين وأعد له طائفة من رجال المدفعية الثقيلة في دير "الرهبان الحفاة" وكانت الصيحة التي أطلقها بين رجاله هي "إلى الأمام والحديد لا يزال ساخناً واجعلوا سيوفكم دائماً ساخنة بالدماء"(17).

وفي نحو هذا الوقت نفسه كانت ثورات الفلاحين تزلزل جنوب ألمانيا، ولعل عاصفة البرد الهوجاء (1524) التي قضت على كل الآمال المعقودة لجني محصول في شتيلنجن كانت بمثابة الزناد الذي أشعل نار الثورة. ولم تكن هذه المقاطعة القريبة من شافهاوزن تبعد كثيراً عن سويسرة لكي يشعر أهلها مثل الفلاحين الأشداء الذين كانوا قد حرروا أنفسهم هناك من كل شيء إلا مظاهر السلطة الإقطاعية. وفي 24 أغسطس عام 1524 جمع هانزميلر حوله بعض الفلاحين من شتيلنجن بناء على إيحاء من منتسر وكون لهم رابطة باسم "الأخوة الانجيلية" وتعهد بتحرير المزارعين في أرجاء ألمانيا، وسرعان ما انظم إليهم المستأجرون الساخطون من راهب ريخيناو أسقف كونستانس وكونتات فردينبورج مونتفورت ولوبفين وسولتس. وما أن انتهى عام 1524 حتى كان هناك حوالي 30000 فلاح مدججين بالسلاح في جنوب ألمانيا، ورفضوا دفع الضرائب التي تفرضها الدولة وضرائب العشور الكنسية والضرائب الإقطاعية وأقسموا على الظفر بالحرية أو الموت.

"إلى سلام القارئ المسيحي ورحمة الله من خلال المسيح". هناك الكثيرون من المناهضين للمسيحية انتهزوا أخيراً فرصة انعقاد مجلس للفلاحين لازدراء الإنجيل قائلين أليس هذا ثمرة الإنجيل الجديد؟ وهل لابد ألا يمتثل أحد وأن يتمرد الجميع... لقلب السادة الروحيين والزمنيين أو ربما لقتلهم؟ إن كل النقاد الكافرين والأشرار يجدون الجواب على هذه الأسئلة في البنود التالية لكي يزيلوا أولاً هذا اللوم عن كلمة الله وثانياً ليبرروا بطريقة مسيحية عدم امتثال الفلاحين بل وثورتهم.

فأولاً نعرب أن ملتمسنا وطلبنا المتواضع وأن إرادتنا ومشيئتنا جميعاً هي أن يتحقق لنا في المستقبل قوة وسلطان يهيئان لجماعة بأسرها أن تختار راعياً وأن تعينه وأن يكون لها الحق في عزله...

ثانياً: بما أن ضريبة العشور قد نص عليها العهد القديم ووردت في العهد الجديد فإننا سوف... ندفع ضريبة العشر من الحبوب ولكن بطريقة صحيحة... وسوف يجمع هذه في المستقبل ويتسلمها رئيس كنيستنا الذي تعينه الجماعة ومن هذه الضريبة يجب أن يمنح الراعي... مرتباً متواضعاً وكافياً لمعيشته هو وأسرته... وأن يوزع الباقي على الفقراء والمحتاجين الذين يعيشون في القرية نفسها... أما ضريبة العشر الصغيرة فلن ندفعها على الإطلاق، لأن الله قد خلق الماشية لكي ينتفع بها الناس دون قيد...

ثالثاً: لقد جرت العادة حتى الآن على أن يعتبرنا الناس متاعاً خاصاً لهم، وهذا أمر يدعو للأسى، لأن المسيح كفّر عن سيئاتنا جميعاً وافتدى بدمه الزكي المراق الأدنياء والعظماء على السواء... ومن ثم فإنه مما يتفق وتعاليم الكتاب المقدس أن نكون أحراراً ولسوف نحون أحراراً (هكذا)... ونحن نخضع عن طواعية لحكامنا المختارين والمعينين (الذين عينهم لنا الله) في جميع الأمور المسيحية الصحيحة ولا تخالجنا أية ريبة في أنهم سوف يحررونا من نير العبودية أو يريننا في الإنجيل أننا أرقاء...

سادساً: أن لنا شكوى مريرة بسبب الخدمات التي تتزايد من يوم إلى آخر...

ثامناً: لقد لحق بنا ضرر بليغ لأن الكثيرين منا مستأجرون أراضي لا تكفي غلتها لسداد قيمة ما ندفعه من إيجار لها ولأن الفلاحين يتعرضون للخسارة والخراب. فليدع السادة أناساً من الشرفاء يفحصون الأراضي المستأجرة المذكورة ويحددون الإيجار العادل... لأن كل عامل يستحق أجره...

عاشراً: لقد أصبنا بضرر بالغ لأن البعض انتزعوا لأنفسهم ملكية مراعٍ من الحقول المشاعة والتي كانت يوماً ملكاً للجماعة...

حادي عشر: سوف نعمل على إلغاء الضرائب المفروضة على الوفاء إلغاءً تاماً. ولن نتحملها ولن نسمح بنهب أموال الأرامل والأيتام على هذا النحو المخجل.

ثاني عشر: إذا تبين لنا أن ثمة خطأ في بند أو أكثر من البنود الموضحة بفضل كلمة الله فإننا نتراجع عنها إذا أيدت لنا هذا أدلة من الكتاب المقدس(18).

وتشجع زعماء الفلاحين بتصريحات لوثر نصف الثورية وبعثوا إليه بنسخة من البنود وطلبوا منه أن يناصرهم، فرد عليهم بكتيب نشر في أبريل عام 1525 وعنوانه: "تنبيه إلى السلام" وأثنى على عرض الفلاحين بالخضوع لأي قصاص ينص عليه الكتاب المقدس وتعرض للاتهامات التي وجهت وقتذاك إلى خطبه ومقالاته بأنها قد أشعلت نار الثورة فأنكر مسئوليته عنها وأشار إلى أنه كان يحث الناس على الخضوع للسلطة الدينية ولكنه لم يسحب نقده للطبقة الحاكمة وقال: "لا يوجد على ظهر البسيطة مَن نشكره على هذه الثورة الخبيثة إلا أنتم أيها الأمراء والسادة، وبخاصة أنتم أيها الأساقفة العميان والقساوسة والرهبان المجانين يا مَن قست قلوبكم على الإنجيل المقدس رغم أنكم تعلمون أن ما جاء به صحيح وأنكم لا تستطيعون أن تدحضوه. وفضلاً عن هذا فإنكم في حكومتكم الزمنية لم تفعلوا شيئاً إلا التنكيل برعاياكم وسلب أموالهم لكي تنعموا بعيشة رغدة ترضي كبرياءكم. لقد فاضت الكأس حتى لم يعد الفقراء من عامة الناس يتحملون أكثر من ذلك. وإذن ما دمتم السبب في سخط الله فإن غضبه تعالى سوف يحيق بكم لا محالة إذا لم تصلحوا من وسائلكم في الوقت المناسب.

إن الفلاحين يحشدون قواهم ولابد أن يؤدي هذا إلى خراب ألمانيا ودمارها وتحطيمها بقتل الناس في قسوة وسفك الدماء ما لم يقبل الله توبتنا ويجنبنا هذا المصير(19).

ونصح الأمراء والسادة الإقطاعيين بأن يعترفوا بعدالة كثير من البنود وحثهم على انتهاج سياسة تتسم بالرأفة، ووجه إلى الفلاحين خطاباً صريحاً أقر فيه بما أصابهم من أضرار، ولكنه توسل إليهم أن يحجموا عن استخدام العنف وعن الانتقام، وتنبأ بقوله إن الالتجاء إلى العنف سوف يترك الفلاحين في وضع أسوأ مما كانوا فيه من قبل. وتنبأ أيضاً بأن أي ثورة سوف تصم بالعار حركة الإصلاح الديني وأنه سوف يلام على كل شيء. وعارض استيلاء كل أبرشية على ضرائب العشور وقال إنه يجب على الناس الخضوع للسلطات إذ أن لها الحق في فرض ما تراه من ضرائب لمواجهة نفقات الحكومة وأن حرية الرجل المسيحي يجب أن تفهم على أنها حرية روحية لا تتعارض مع العبودية بل ولا الرق. وقال:

ألم يتخذ إبراهيم وأبناؤه الآخرون والأنبياء عبيداً؟ اقرأ ما يعلمه لنا القدّيس بولس عن الخدم الذين كانوا جميعاً أرقاء في ذلك العهد... ومن ثم فإن بندكم الثالث لا يسري على الإنجيل فهذه المادة تساوي بين الناس جميعاً وهذا مستحيل، ذلك لأن مملكة دنيوية لا تستطيع أن تقف على قدميها ما لم تكن هناك درجات متفاوتة بين الأشخاص بحيث يكون البعض منهم أحراراً والبعض مسجونين والبعض سادة والآخرون رعايا(20). ولو اتبعت نصيحته الأخيرة لجنبت ألمانيا كثيراً من سفك الدماء والدمار:

"تخيروا من الأشراف بعض الكونتات واللوردات ومن المُدن بعض أعضاء المجلس وعالجوا هذه الأمور واحسموها بطريقة ودية. وأنتم أيها السادة تخلوا عن عنادكم واقلعوا قليلاً عن طغيانكم واضطهادكم حتى يتنفس الفقراء من الناس ويجدوا متسعاً للعيش. وعلى الفلاحين بدورهم أن يعلموا أنفسهم وأن يتخلوا عن بعض المطالب التي تدق على فهمهم وترتفع عن مستوى إدراكهم"(21).

ومهما يكن من أمر فإن زعماء الفلاحين شعروا بأن الأوان قد فات للتراجع عما اعتزموه لأنهم سيتعرضون للعقاب عاجلاً أو آجلاً في أية مصالحة. وأحزنهم هذا التحول من لوثر وعدّوه خائناً واستمروا في الثورة. وتشبث بعضهم حرفياً بحلم المساواة: كان على الأشراف أن يجردوا قلاعهم من السلاح ويعيشوا كما يعيش الفلاحون وأوساط الناس وكان عليهم أن يكفوا عن امتطاء صهوات الجياد لأن هذا يرفعهم فوق مصاف أتباعهم. وكان لابد من إبلاغ القساوسة أنهم منذ ذلك الوقت خدم لرعايا أبرشياتهم لا سادة لهم وأنهم سوف يُطردون إذا لم يتشبثوا بنصوص الكتب المقدس فحسب(22). وانهالت المطالب بالبريد من العمال في المُدن، ونددت باحتكار الأغنياء للوظائف في المدينة، وباختلاس الموظفين المنحرفين للأموال العامة وبارتفاع الأسعار الدائم في الوقت الذي ظلّت فيه الأجور ثابتة لا تتغير. وقال أحد المتطرفين لسوف يكون من الخير لخلاص الروح ألا يكون البطارقة على هذه الدرجة من الثراء وألا يعيشوا في مثل هذه الرفاهية وأن تقسم أملاكهم على الفقراء. واقترح فندل هبلر وفردريك فايجانت تصفية كل أملاك الكنيسة للوفاء بالحاجات الدنيوية وأن تُلغى كل الرسوم للنقل والرسوم الجمركية وألا يُستخدم في كل أنحاء أوروبا إلا نوع واحد من السكة ونظام واحد من الأوزان والمكاييل(24).

وكان يتزعم هذه الحركة زعماء مختلفو المشارب: كان هناك إثنان من أصحاب الحانات هما جورج ميتزلر وميترن فويرباخر، وكان هناك جيكلاين رورباخ الخراط الطروب، وبعض قدامى الجنود والقساوسة السابقين وفارسان من عصبة سيكنجن المهزومة - فلوريان جيير وجيتزفون برليخنجن "ذو اليد الحديدية" وشاء القدر أن يقع اختيار هاوبتمان وجيته فيما بعد على هذين الرجلين فجعلا منهما بطلين لمسرحيات شائقة. وكان كل زعيم مطلق السلطان بين جماعته، وقلما كان يوفق بين عمله وعمل الآخرين، ومع ذلك فإن الثورة اشتعلت في ربيع عام 1525 في اثنتي عشرة منطقة متفرقة في نفس الوقت، واستولت جماعة من العمال على السلطة الإدارية في البلدية في هايلبرون وروتنبرج وفيرتسبورج، وأعلنت حكومة الكومون الظافرة في فرانكفورت على الماين أنها سوف تمثل منذ ذاك سلطة المجلس البلدي والعمدة والبابا والإمبراطور مجتمعين. وفي روثنبورج طرد القساوسة من الكاتدرائية وحطمت التماثيل الدينية وهدمت بيعة وسويت بالأرض (27 مارس سنة 1525) وأفرغ الناس مخازن النبيذ التي يملكها رجال الدين وهم منتشون بخمر النصر(25). وتخلت المُدن الخاضعة للسادة الإقطاعيين عن ولائها لهم ونادت المُدن الخاضعة للأساقفة بإنهاء امتيازات رجال الدين، وثارت غضباً مطالبة بتخصيص أملاك رجال الدين للأغراض الدنيوية، وانضمت دوقية فرانكونيا بأسرها تقريباً إلى الثورة. وأقسم كثير من السادة والأساقفة ممن لم يستعدوا للمقاومة، أنهم يقبلون المطلوبة منهم، وذلك من أمثال أساقفة سبيير وبامبرج ورهبان دير كمبتين ودير هرتسفيلد واعتنق الكونت ويليام الهنييرجي أرقاءه واستدعى الكونت جورج والكونت ألبرخت الهوهنلوهي للمثول أمام زعماء الفلاحين للانخراط في سلك الهيئة الجديدة وقالوا: "تعال هنا أيها الأخ جورج والأخ ألبرخت واقسما للفلاحين أن تكونا لهم كإخوة لأنكما لم تعودا الآن سيدين بل أصبحتما فلاحين"(26). واستقبلت معظم المُدن ثورات أهالي الريف بترحيب قلبي، وأيد الثورة كثير من رجال الدين من الرتب الدنيا الذين كانوا يمقتون السلطة الكهنوتية، ووقعت أول مواجهة خطيرة في لايبهايم على نهر الدانوب قرب أولم (4 أبريل سنة 1525) إذ استولى على المدينة 3000 فلاح تحت لواء قسيس ناشط هو جاكوب فيهى واحتسوا كل ما عثروا عليه من نبيذ ونهبوا الكنيسة وحطموا الأرغن وصنعوا لأنفسهم طزالق من الثياب الكهنوتية وبايعوا في سخرية واحداً من جمعهم أُجلس على المذبح، وارتدى مسوح قسيس(27). وقام بحصار لابهايم جيش من الجنود المرتزقة استأجرته العصبة السوابية ويقوده جورج فون تروخسيس وهو قائد قدير، وأفزع الفلاحين غير المدربين فاستسلموا وقطعت رؤوس فيها وأربعة من الزعماء الآخرين. أما الباقون فقد عفت العصبة عنهم، وإن كانت فرقها قد أحرقت كثيراً من أكواخ الفلاحين.

وفي يوم الجمعة الحزينة 15 أبريل سنة 1525 قام بحصار مدينة فايتسبرج (قرب هايلبرون) ثلاثة من جماعات الثوار تحت قيادة متسلر جيير ورورباخ، وكان يحكم هذه المدينة الكونت لودفيج فون هلفشتاين الذي كان يمقته الناس بسبب قسوته وشدته. واقترب من الأسوار وفد من الفلاحين وطلب المفاوضة فقام الكونت وفرسانه بهجوم مفاجئ وذبحوا كل أعضاء الوفد. وفي يوم الأحد الموافق لعيد الفصح اقتحم المهاجمون الأسوار بمساعدة بعض أهالي المدينة ومزقوا أجساد الأربعين رجلاً المدججين بالسلاح، والذين اهتموا بالمقاومة وأسر الكونت وزوجته (وهي ابنة الإمبراطور الراحل ماكسمليان) وستة عشر فارساً، وأصدر رورباخ، دون مشاورة متسلر أو جيير، أمراً للسبعة عشر رجلاً بالمرور بين صفين من الفلاحين المسلحين بالحراب لتأديبهم، وعرض الكونت أن يقدم كل أمواله فدية لهم ولكن هذا العرض رفض كوسيلة مؤقتة، وتوسلت إليه الكونتيسة في تذلل محموم أن يبقي على حياة زوجها ولكن رورباخ أمر اثنين من رجاله بأن يسنداها حتى تشهد نشوة الانتقام. وبينما كان الكونت يسير إلى حتفه وصل وابل من الخناجر والرماح ذكره الفلاحون بما ارتكب من أعمال وحشية وصاح أحدهم: "لقد ألقيت بأخي في غياهب اسجن لأنه لم يرفع قبعته من على رأسه وأنت تمر به". وصرخ آخرون: "لقد سخرتنا كالثيران في نير العبودية... لقد قطعت يدي والدي لأنه قتل أرنباً في حقلك... لقد داست خيولك وكلابك وصيادوك محاصيلي... لقد استنزفت منا آخر بنس لدينا". وفي خلال نصف الساعة القادمة لقي الستة عشر فارساً دتفهم بالمثل. أما الكونتيسة فقد سمح لها بأن تنسحب إلى دير(28).

كانت عصابات الفلاحين تثير الشغب في كل أرجاء ألمانيا تقريباً. ونهبت الأديرة أو أكرهت على دفع مبالغ كبيرة على سبيل الفدية. ويقول بعضهم في خطاب أرسل يوم 17 أبريل عام 1525: "في كل مكان يجاهر الثائرون... بنيتهم في قتل كل رجال الدين الذين لا يتنصلون من ولائهم للكنيسة ويعلنون عن عزمهم على تدمير كل الأديرة وقصور الأساقفة واستئصال شأفة الدين الكاثوليكي تماماً من البلاد"(29). ولعل في هذا شيئاً من المبالغة ولكن في وسعنا أن نسجل أن الثوار استولوا على كثير من المُدن وأكرهوا الأرشيدوق فرديناند على الموافقة على أن يكون الوعظ منذ ذلك الوقت طبقاً لنصوص الكتاب المقدس - وهو مطلب بروتستانتي خاص وذلك في بافاريا والنمسا والتيرول حيث لقيت البورتستانتية اضطهاداً ظاهراً. وفي ماينز فر كبير الأساقفة ألبرخت ولم يستطع مواجهة العاصفة وإن قام نائبه بإنقاذ كرسي الأسقفية وذلك بتوقيع المطالب الاثني عشر وبدفع فدية قدرها 15000 جيلدر، وفي الحادي عشر من شهر أبريل رفض أهالي مدينة بامبرج الاعتراف بسلطة الأسقف الإقطاعية ونهبوا قصره وأحرقوه وجردوا بيوت المحافظين من رجال الدين مما فيها وانتشرت الثورة في الألزاس انتشار النار في الهشيم، وما أن أشرف شهر أبريل على نهايته حتى أصبح كل كاثوليكي وكل ملك ثري في المقاطعة يخشى على حياته. وفي الثامن والعشرين من شهر أبريل هاجم جيش عدته 20000 من الفلاحين زايرن مقر أسقف ستراسبورج ونهبوا ديره وفي يوم 13 مايو استولوا على المدينة وأجبروا كل رجل رابع على الانضمام إليهم ورفضوا دفع كل ضرائب العشور وطالبوا بانتخاب جميع الموظفين فيما بعد عدا الإمبراطور عن طريق الاقتراع الشعبي وبأن يكونوا عرضة للعزل(30).

وفي بريكسين بالتيرول نظم ميكائيل جاسماير، وهو سكرتير سابق للأسقفية، ثورة هاجمت كل رجال الدين المحافظين ونهبت الدير المحلي (12 مايو) وظلّت عاماً تهدد الأمن، ولا يستطيع أحد قمعها. ويقول أحد المؤرخين في هذا العهد ممن كانوا لا يتعاطفون مع الثوار إنه في جميع أودية نهري اين واتش كانت هناك - جماهير غفيرة وصراخ وهرج شديدان وكان من الصعب على أي إنسان صالح أن يسير في الطرقات وقال إن السلب والنهب أصبحا شائعين إلى الحد الذي كان فيه الأتقياء يشعرون بالإغراء للاشتراك فيهما"(31). وفي فرايبورج - أم - برايسجاو نهب الفلاحون القلاع والأديرة وأكرهوا المدينة على الانضمام إلى "الاخوة الانجيلية"، (24 مايو) وفي الشهر نفسه أقصت عصابة من الفلاحين أسقف فيرتسبورج عن قصره وأقاموا وليمة بما عثروا عليه في مخازنه. وفي شهر يونيو أقي ماتياس لانج كبير الأساقفة المعروف بحبه للقتال من قصره إلى قلعته التي تشرف على المدينة، وفي نيوشتادت في البلاتينيت دعا الأمير المختار لودفيج زعماء الفلاحين للعشاء بعد أن أحاط به 8000 منهم واستجاب لمطالبهم دون امتعاض(32). وفي هذا قال أحد المعاصرين: "ها نحن أولاء نرى أهالي القرى وسيدهم يجلسون جنباً إلى جنب ويأكلون ويشربون معاً ويبدو أنه يكن لهم مشاعر الود وأنهم يبادلونه هذا الشعور.

وفي وسط هذا السيل من الأحداث أصدر لوثر من مطبعة فيتنبرج نحو منتصف مايو عام 1525 كتيباً عنوانه: "معارضة لجموع الفلاحين التي تقوم بالسلب والقتل". وأفزعت لهجته الحادة الأمير والفلاح والأسقف وعالم الإنسانيات على السواء فقد راعَ لوثر تزايد العصاة الساخطين وخشي وقوع انقلاب ضد كل سلطة شرعية وحكومة في ألمانيا وآلمته الاتهامات التي تقول إن تعاليمه الخاصة قد أطلقت الفيضان من عقاله فتحول وقتذاك دون تحفظ إلى جانب السادة المعرضين للخطر وقال: "لم أجسر في كتاب سابق على الحكم على الفلاحين لأنهم عرضوا أن يسلكوا الطريق المستقيم وأن يتعلموا... ولكن قبل أن أتطلع حولي تناسوا ما عرضوه وعمدوا إلى العنف وقاموا بالسلب والنهب واسلموا قيادهم إلى الهياج وتصرفوا كالكلاب المسعورة... إن ما يقومون به من عمل الشيطان بل إنه بصفة خاصة من عمل إبليس (منتسر) الذي يحكم في ميلهاوزن... يجب أن أبدأ بوضع خطاياهم أمام أعينهم... ثم يجب أن أعلم الحكام كيف يسوسون أنفسهم في هذه الظروف...

إن أي إنسان يمكن إثبات شغبه يعد خارجاً على سنة الله وقانون الإمبراطوريّة ومن ثم فإن أول مَن يقتله ويفعل خيراً ولا يرتكب إثماً... ذلك لأن الثورة تأتي معها بأرض مليئة بالقتل وسفك الدماء وترمل النساء وتيتم الأطفال وتقلب كل شيء رأساً على عقب... ولهذا دعوا أي إنسان يستطيع أن يقتل ويذبح ويطعن، سراً وعلناً، وضعوا نصب أعينكم أنه لا شيء أكثر فتكاً أو ضرراً أو خبثاً من الثورة... إن هذا لا يختلف عن حالة المرء الذي يجد نفسه مضطراً إلى قتل كلب مسعور وإذا لم تضربه فإنه سوف يقضي عليك ومعك بلد بأسره... ورفض التسليم بإجازة الكتاب المقدس المزعومة للشيوع وقال: "إن الإنجيل لا يجعل الأمتعة على الشيوع إلا بالنسبة لمن يفعلون، بإرادتهم الحرة، ما كان الرسل والحواريون يفعلونه في الإصحاح الرابع. إنهم لم يطلبوا مثل فلاحينا المجانين في سورة غضبهم عندما يطالبون بأن تكون أمتعة الآخرين سواء كانت لبيلاطس أم لهيرود - مشاعاً لهم وأنهم لم يطلبوا تطبيق هذا إلا على أمتعتهم. ومهما يكن من أمر فإن فلاحينا سوف يحصلون على أمتعة الآخرين باعتبارها مشاعاً لهم ويحتفظون بأمتعتهم لأنفسهم، فما أروع هؤلاء من مسيحيين! أعتقد أنه لم يبق الشيطان في الجحيم وان الشياطين جميعاً قد انطلقت إلى الفلاحين".

أما الحكام الكثالكة فإنه عرض عليهم غفرانه إذا قضوا على العصاة دون محاكمة. وأوصى الحكام البروتستانت بالصلاة والندم والمفاوضة ولكن إذا ظل الفلاحون على عنادهم: "عندئذ سارعوا بامتشاق الحسام لأن أي أمير أو سيد يجب أن يتذكر في هذه الحالة أنه كاهن لله وأنه أداة نقمته تعالى (الرومان 13) الذي يمتشق من اجله الحسام لضرب رقاب هؤلاء الأتباع... وإذا كان في وسعه أن يعاقب ولا يفعل - حتى لو كان العقاب أن يستل الحياة ويسفك الدماء - فإنه يبوء بإثم كل جرائم القتل والشرور التي يرتكبها هؤلاء الأتباع... وعندئذ على الأتباع أن يستمروا بلا اكتراث ودون أن يعذبهم الضمير في النضال كالأبطال مادامت قلوبهم تحقق بين ضلوعهم... وإذا خطر لأحد أن هذا صعب جداً فليتذكر أن الثورة لا تحتمل وأن دمار العالم أمر متوقع في كل ساعة"(33).

وكان من سوء حظ لوثر أن تصل هذه الرسالة الغاضبة إلى قرائها في الوقت الذي بدأت فيه الطبقات المالكة في إخضاع الثورة. وتلقى المصلح ثناء لا يستحقه على الإرهاب بالقمع ومن غير المحتمل أن يكون السادة المعرضون للخطر قد تأثروا بالكتيب إذ كانوا بطبعهم يميلون إلى معاملة العصاة بقسوة تكون رادعاً لهم ولا تمحى ذكراها من أذهانهم وقد أخذوا بعض الوقت يعللون الفلاحين البسطاء بالوعود والأماني وبهذا أغروا الكثير من العصابات بالتفرق وفي غضون ذلك نظم السادة جيوشهم وسلحوها.

وفي ذروة الفتنة مات فردريك الأمير المختار (5 مايو عام 1525) وكان رجلاً هادئاً يؤثر السلام ويسلم بأنه هو وباقي الأمراء قد ظلموا الفلاحين ورفض أن ينضم إليهم في اتخاذ إجراءات الانتقام وترك لخلفه الدوق جون نصائح ملحة بالتزام الاعتدال، بيد أن الأمير المختار الجديد شعر بأن سياسة أخيه كانت تعتمد على اللين وهو أمر يجافي الحكمة فانضم بقواته إلى قوات هنري دوق برونزفيك وفيليب لاندجريف الهسي وزحفوا جميعاً لمهاجمة معسكر منتسر خارج ميلهاوزن. وكانت جيوش الخصوم لا تفوقهم إلا عدداً - كان كل منها يتكون من 8000 رجل من الأشداء بيد أن معظم الرجال في قوات الدوقات كانوا من الجنود المدربين، بينما كان الفلاحون، على الرغم من مدفعية منتسر البسيطة، يتسلحون بأسلحة ليست جيدة أو رديئة ويفتقرون إلى النظام ويتفشى بينهم الاضطراب بسبب ما يساورهم من رهبة بالسليقة. واعتمد منتسر على فصاحته ليقوي من عزائم الفلاحين وأمهم في الصلاة وفي ترتيل الأناشيد وأطلقت مدفعية الأمير أول ستار من نيرانها فصرعت مئات من الثوار وفر الباقون مذعورين إلى مدينة فرانكنهاوزن (15 مايو سنة 1525) وطاردهم المنتصرون وقتلوا منهم 5000 وحكم على ثلاثمائة أسير منهم بالإعدام فتشفع لهم نساؤهم والتمسوا العفو عنهم رحمة بهن، فأُجبن إلى طلبهن على شريطة أن تحطم النساء رأسي قسيسين كانا قد حرضا على الثورة وتم تنفيذ هذا بينما كان الدوقات المنتصرون يرقبون هذا المشهد(34). واختفى منتسر ثم قبض عليه وعذب حتى أقر بخطأ وسائله ثم قطع رأسه أمام القادة والأمراء ودافع بفيفر ومعه 1200 جندي عن مدينة ميلهاوزن ولكنهم غلبوا على أمرهم، وأُعدم بفيفر وباقي القواد أما المواطنون فقد نالوا العفو على أن يدفعوا فدية إجمالية قدها 40.000 جيلدر (1.000.000 دولار؟).


وفي غضون ذلك استولى طروخسيس على مدينة بيبلنجن (Boblingen) بطريقة المفاوضة وحول مدافعه من داخل أسوار المدينة وأطلقها على معسكر للثوار خارجها (12 مايو)، وأجهز فرسانه على الفلاحين الذين نجوا من نيران هذه المدفعية وقضى هذا على الثورة في فيرتمبرج. ثم تحول تروخسيس إلى فاينزبرج وأحرفها حتى سويت بالأرض وشوى في بطئ جسد جيكلاين رورباخ الذي تزعم "مذبحة فاينزبرج". ثم زحف طروخسيس ليهزم قوات الفلاحين في كينجز هوفن وأنجولشتادت هزيمة منكرة، واستولى على فيتسبورج وأطاح برؤوس واحد وثمانين من الثوار اختارهم ليكونوا عبرة للآخرين (5 يونيه). وفر فلوريان جيير من فيرتسبورج ليعيش في غياهب النسيان وظل أسطورة يرددها الناس في اعتزاز واستسلم جيتزفون برليخنجن في الوقت الملائم وعاش ليحارب مع شارل الخامس ضد الأتراك ومات على فراشه وفي قلعته بالغاً من العمر إثنين وثمانين عاماً (1526) وسقطت مدينة روثنبرج في 20 يونيه وسرعان ما تلتها مدينة ممينجن وسحقت الثورة في الألزاس بعد مصرع 2000 إلى 6000 رجل في ليبشتلين وتسابيرن (Zabern) (17-18 مايو) وما أن حل يوم 27 مايو حتى كان قد قتل نحو 20.000 فلاح في الألزاس وحدها وفي كثير من الحالات كان هواء المُدن تشيع فيه رائحة الموت(35) وأمر ماركجراف كاسينير Markograf Casimir بقطع رؤوس بعض مَن استسلم من فلاحيه وشنق البعض الآخر. وفي الحالات المخففة قطع أيديهم أو سمل عيونهم(36)، وتدخل الأمراء العقلاء في آخر الأمر في تخفيف همجية الانتقام، وفي نهاية شهر أغسطس أصدر المجلس النيابي في أوجسبورج أمراً كتابياً حث فيه على الاعتدال في توقيع العقوبات وفرض الغرامات وتساءل شريف فيلسوف قائلاً: "أين نجد فلاحين يقومون بالوفاء لأغراضنا إذا قتل كل الثوار؟"(37).

واستمرت الثورة عاماً في النمسا وفي يناير عام 1526 أعلن ميكائيل جاسمايين في أنحاء التيرول أعظم البرامج الثورية تطرفاً وقال: "يجب القضاء على كل الكفار (أي غير البروتستانت) الذين يضطهدون "كلمة الله" الحقة أو يظلمون الرجل العادي. ويجب أن تزول الصور والمزارات من الكنائس وأن تتلى القداسات ويجب أن تُهدم أسوار المُدن والأبراج والحصون وألا تبقى إلا القرى وأن يتمتع جميع الناس بالمساواة. ويجب اختيار الموظفين والقضاة بالاقتراع العام الذي يشترك فيه الذكور البالغون كما يجب إيقاف دفع الإيجارات والمكوس للسادة الإقطاعيين فوراً وأن تجمع ضرائب العشور على أن تُعطى لسلطات الكنيسة التي خضعت للإصلاح الديني وللفقراء. ويجب أن تحول الأديرة إلى مستشفيات أو مدارس، أما المناجم فيجب أن تؤمم وعلى الحكومة أن تحدد الأسعار(38). وقدر لجاسمايير أن يهزم التي أرسلت لقتاله باستراتيجية ذكية، واستمر هذا الحال بعض الوقت غير الفرق أن أعداءه تفوقوا عليه أخيراً في الدهاء وفر إلى إيطاليا وأفرد الأرشيدوق فرديناند ثمناً لرأسه وفاز بالمبلغ إثنان من القتلة الإسبانيين عندما اغتالاه في غرفته ببادوا (1528). ولم تفقد ألمانيا من الأرواح والأملاك ما فقدته في ثورة الفلاحين إلا في حرب الثلاثين عاماً. فقد هلك من الفلاحين وحدهم نحو 130.000 في ساحة القتال أو على نطع التكفير، وتم تنفيذ حكم الإعدام في 10.000 رجل تحت حكم العصبة السوابية. وامتلأت أعطاف جلاد تروخسيسس زهواً لأنه قتل بيديه المدربتين 1200 رجل محكوم عليه بالإعدام. أما الفلاحون أنفسهم فقد دمروا مئات القلاع والأديرة وأقفرت مئات القرى والمُدن من ساكنيها أو أصبحت خراباً بلقعاً أو فرضت عليها تعويضات باهظة، وتشرد ما يزيد على 50.000 فلاح وأخذوا يهيمون في الطرقات العامة أو يختبئون في الغابات، وترملت آلاف النساء وتيتم الآلاف من الأطفال ولكن قلوب المحسنين لم ترق لهم، أو لعل جيوبهم كانت خاوية وكان المتمردون قد أحرقوا في كثير من الحالات المواثيق التي تسجل الضرائب المستحقة عليهم للسادة الإقطاعيين فحررت وثائق جديدة أحيت من جديد هذه الالتزامات وكانت في بعض الحالات أكثر رفقاً بهم وفي أحيان أخرى أكثر تشدداً عما كانت عليه من قبل ومنحت امتيازات للفلاحين في النمسا وبادن وهس أما في المناطق الأخرى فقد اشتد أزر العبودية وقدر لها أن تستمر شرق الألب حتى القرن التاسع عشر. وأجهضت بوادر الديمقراطية وقمع الحركات الفكرية واشتدت الرقابة على النشر في عهد السلطات الكاثوليكية والبروتستانتية على السواء. وفقدت النزعة الإنسانية قوتها وأخلت لهجة عصر النهضة في الحياة والأدب الحب السبيل إلى اللاهوت والورع والتأمل في الموت.

واندثر الإصلاح الديني نفسه أو كاد يندثر في حرب الفلاحين. وعلى الرغم من المتنصلين من لوثر والتشهير به فغن الثورة تألقت بألوان وأفكار بروتستانتية: وكانت التطلعات الاقتصادية تغلف بعبارات أضفى عليها لوثر مسحة من القداسة ولم تكن الشيوعية إلا مجرد عودة إلى الإنجيل. وفسر شارل الخامس "الثورة" بأنها "حركة لوثرية"(39) واعتبر المحافظون نزع البروتستانت ملكية رجال الدين بمثابة أعمال ثورية تقف على قدم المساواة مع نهب الفلاحين للأديرة. وفي الجنوب جدد الأمراء والسادة الذين استبد بهم الفزع ولاءهم للكنيسة الرومانية. وفي أماكن عديدة مثل بامبرج وفيرتسبورج اعدم رجال حتى من طبقة الملاّك لأنهم اعتنقوا اللوثرية(40). وقلب الفلاحون أنفسهم ظهر المجن للإصلاح الديني وعدوه غواية وخيانة، وأطلق بعضهم على لوثر اسم "الدكتور ليجثر" أي "الدكتور الكذاب" و "المنافق صنيعة الأمراء"(41). وظل سنوات بعد الثورة لا يحظى بأي شعبية حتى انه قل ما كان يجرؤ على مغادرة فيتنبرج ولو كان هذا لكي يحضر وفاة والده على فراشه (1530). وكتب يقول (15 يونيه عام 1525) "لقد نسوا كل ما فعله الله للناس عن طريقي والآن ها هم السادة والقساوسة والفلاحون يتجمعون كلهم ضدي ويتوعدونني بالموت"(42).


ولم يكن من شيمته أن يسلّم أو يعتذر. وفي يوم 30 مايو عام 1525 كتب إلى نيكولاس أمسد ورف يقول: "في رأيي أنه من الخير أن يُقتل الفلاحون جميعاً ولا يهلك الأمراء والحكام لأن أهل الريف امتشقوا السيف دون أن يعتصموا بسلطان إلهي"(43). وفي يوليو عام 1525 نشر "خطاباً مفتوحاً بشأن الكتاب الصعب ضد الفلاحين". وقال إن مَن ينتقدونه لا يستحقون الرد عليهم فقد كشفت انتقاداتهم أنهم ثائرون في قرارة نفوسهم مثل الفلاحين وأنهم لا يستحقون الرحمة، وقال: "ينبغي أن يأخذ الحكام بتلابيب هؤلاء الناس ويجبرونهم على إمساك ألسنتهم"(44). "دار بخلدهم أن هذا الرد صعب جداً وأن هذا تحريف للكلام ولا يقصد به غلا تكميم أفواه الناس فإني أجيب بأن هذا صحيح، إن أي ثائر لا يستحق عناء الرد عليه لأنه لن يتقبل الجدل. والرد على مثل هذا الفم هو لكمة تدمي الأنف، إن الفلاحين لن يصيخوا السمع، ففي آذانهم وقر ويجب أن تفتح بطلقات الرصاص حتى تقفز رؤوسهم من فوق أكتافهم. إن مثل هؤلاء التلاميذ في حاجة إلى تأديب بمثل هذه العصى. إن مَن لا يستمع إلى كلمة الله عندما ترتل برفق يجب أن يستمع إلى الجلاد عندما يأتي ومعه الفأس... أما عن الرحمة فأنا لن اسمع أو أعرف شيئاً ولكني سوف أهتم بإرادة الله التي تتضمنها كلمته... إذا شاء جل وعلا أن يصب عليك جام نقمته وأن يحجب عنك رحمته، فيما تفيدك الرحمة؟ ألم يأثم شاؤول بإبداء الرحمة لعماليق عندما فشل في تنفيذ غضب الله كما أمر؟ وأنتم يا مَن ترفعون عقيرتكم مطالبين بالرحمة وتمتدحونها مدحاً شديداً لماذا لم تنادوا بها عندما كان الفلاحون ساخطين، يقتلون ويسرقون ويحرقون وينهبون حتى أصبح الناس يفزعون لمرآهم أو عند سماع أخبارهم؟ لماذا لم يبدوا الرحمة للأمراء والسادة الذين أرادوا أن يقضوا عليهم قضاء مبرماً؟". واستطرد لوثر يقول إن الرحمة واجبة على المسيحيين في شؤونهم الخاصة، أما باعتبارهم من موظفي الدولة فيجب أن يراعوا العدالة أكثر من الرحمة لأن الإنسان منذ عصى آدم وحواء ربهما، فطر على الشر إلى حد أنه غدا في حاجة إلى حكومة وقوانين وعقوبات لكبح جماحه. إننا ندين بالاحترام للجماعة التي تتهددها الجريمة أكثر مما ندين للمجرمين الذين يهددون الجماعة.

"لو تحققت نيات الفلاحين فلن يكون هناك رجل شريف في مأمن منهم ولكن على كل مَن يملك فلساً أكثر من أي إنسان آخر أن يقاسي بسبب هذا. لقد بدأوا هذا الأمر وما كانوا ليتوقفوا هناك، لسوف يجلل العار النساء والأطفال ولسوف يتعودون أيضاً على قتل أحدهم الآخر، ولن يكون هناك سلام أو أمان في أي مكان. هل سمع أحد عن شيء لا يمكن كبح جماحه أكثر من غوغاء من الفلاحين عندما تمتلئ بطونهم ويملكون زمام السلطة؟... إن الحمار يتلقى الضربات أما الناس فيحكمون بالقوة"(45).

وقد تصدمنا اليوم عبارات لوثر المتطرفة حول حرب الفلاحين لأن النظام الاجتماعي توطد بحيث نفترض استمراره ونستطيع أن نعامل برفق هؤلاء القلائل الذين يعكرون صفوه بعنف، ولكن لوثر واجه الحقيقة القاسية وهي أن عصابات الفلاحين تحول شكاواها العادلة إلى نهب لا يفرق بين العدو والصديق وتهدد بخرق القانون وقلب الحكومة والإنتاج والتوزيع في ألمانيا. وبررت الحوادث تحذيره بأن الثورة الدينية التي خاطر من أجلها بحياته سوف تتعرض للخطر الشديد بسبب الرجعية المحافظة التي كانت مضطرة إلى أن تتبع ثورة فاشلة. وربما شعر بأنه مدين شخصياً بعض الشيء للأمراء والأشراف الذين كانوا قد أسبغوا عليه الحماية في كينبرج ورومس والفارتبورج، ولعله كان يتساءل مَن ينقذه من شارل الخامس وكليمنت السابع إذا كفت سلطة الأمراء عن حماية الإصلاح الديني، والحرية الوحيدة التي رأى إنها تستحق الكفاح من أجلها هي حرية عبادة الله والتماس الخلاص طبقاً لما يمليه ضمير المرء.

وأية أهمية في أن يكون المرء أميراً أو عبداً في هذا الموجز للحياة الأبدية؟ إننا يجب أن نتقبل حالتنا هنا دون تذمر مرتبطين بالجسد والواجب ولكن متحررين روحياً وبرحمة الله.

ومع ذلك فقد كان للفلاحين قضية ضده إذ أنه لم يتنبأ بالثورة الاجتماعية فحسب بل قال إنها لن تسوءه وإنه سوف يحييها بابتسامة حتى لو غسل الناس أيديهم في دماء الأساقفة، ثم إنه كان قد قام بثورة أيضاً وعرض النظام الاجتماعي للخطر بل وسخر من سلطة لا تقل قداسة عن سلطة الدولة. ولم يقم بأي اعتراض على نزع السلطة الزمنية للملكية رجال الدين فكيف كان في وسع الفلاحين أن يكون لهم حظ أفضل إذا لم يلجأوا إلى القوة ما دام حق التصويت كان محرماً عليهم ومادام مضطهدوهم كانوا يلجأون إلى القوة. لقد أحس الفلاحيون أن الدين الجديد قد أضفى صفة القداسة على قضيتهم، وأثار فيهم الأمل ودفعهم إلى العمل ثم تخلى عنهم في الساعة الحاسة الحاسمة. وفي يأس غاضب اصبح بعضهم ملحداً ساخراً(46) وعاد كثيراً منهم أو من أطفالهم برعاية اليسوعيين إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية. واتبع بعضهم المتطرفين الذين أدانهم لوثر وسمعوا وهم يتلون العهد الجديد دعوة إلى الشيوعية.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً

الهامش