جمعية بيروت السرية

"سر مملكة" عنوان الكتاب الذي نشره في القاهرة سنة 1895 الكاتب سليم سركيس (المتوفى عام 1927) والذي يقدم لنا شهادة أشبه بالحكاية مفادها: "عندما كان سليم سركيس مقيما في دمشق سنة 1887 علم أنا شابا نصرانيا كان يوزع مناشير سرية، ترك لأمه قبل وفاته بعضا من الأوراق التي تحتفظ بها أمه في صندوق خاص. وعندما اطلع على هاتيك الأوراق تبين له أنها "وقائع جلسات الجمعية السرية التي أذاعت المناشير والاعلانات، فنصح أمه باتلافها، لأن اكتشاف هذه الأوراق "خطر على الأم وعلى كل من ذكرت أسماؤهم في الأوراق". ثم يقول سركيس: "وهكذا ، ذهبت تلك الوثائق الترايخية، ولم يبق منها الا القليل أدونه في هذا التاريخ". والتاريخ الذي حبره سركيس "أنقذ" من الضياع هذا الخبر: "ان مدحت باشا أراد اختبار استعداد السوريين للثورة توطئة لاستقلاله بشؤون سورية على نحو استقلال مصر. فاستخدم من خاصته أحمد مهدي الأيوبي وحسن فائز الجابي، لاجتذاب بعض الشبان الأذكياء وتأليف جمعية سورية لنشر اعلانات يختبر مدحت باشا بواسطتها ميول السوريين".

بعد رواية سركيس هذه، شاع في الأدبيات العربية رأي سقيم مفاده أن جمعية سورية نشطت في البلاد السورية في أواخر السبعينات اسمها "الجمعية السورية لنشر الاعلان" كان قد بادر الى انشائها باشا عثماني، فلم تكن لها أية علاقة بالحركة القومية التحررية العربية.

وبعد أربعة عقود من السنين انقلبت الأمور رأسا على عقب يوم تحولت "الجمعية السورية لنشر الاعلان" الى ما عرف اصطلاحا في علم الاستعراب باسم "الجمعية السرية الثورية البيروتية". كان هذا التحول جذابا جدا لدرجة لم يجد أي من الباحثين من واجبه النظر في التساؤلات العديدة التي طرحت نفهسا موضوعيا، أو على الأقل لفت الانتباه الى واقع أشد غرابة ونقصد به ابراز هوية الأعضاء القياديين – المؤسسين أو العاديين، خاصة أن العمر امتد ببعضهم فنشطوا وعملوا حتى فترة ما بعد السقوط الحتمي لسياسة القمع والاستبداد التي مارسها السلطان عبد الحميد، وفي عهد العثمانيين الجدد، لا بل وحتى في الوقت الذي أصبح فيه العداء للأتراك من الشعارات الرائجة – ومع ذلك لاذ هؤلاء الأشخاص بالصمت المطبق يوم كانت بلادهم وشعبهم بأمس الحاجة الى صوتهم في أعظم حقبة من حقب التاريخ العربي.

ومهما يكن من أمر، فان جدار الصمت تحطم بعد مرور ستين عاما على تلك الوقائع التاريخية، وأربعين عاما على صدور كتاب سليم سركيس في أواسط 1930. فكان فارس نمر (1856-1851) أحد أبرز رجالات النهضة العربية، ناشر مجلة "المقتطف" في مصر، هذا الرجل الذي رفع عقيرته محطما جبروت الصمت. كان فارس نمر الذي عد نفسه واحدة من خمسة أعضاء بارزين قياديين في الجمعية السرية (وهم: يعقوب صروف 1852-1927، ابراهيم الحوراني 1844-1916، ابراهيم اليازجي 1847-1906، شاهين مكاريوس 1853-1910) قد قدم للمستشرق الانكليزي جورج أنطونيوس شهادات حية عن الجمعية ونشاطها وأعضائها ومناشيرها واعلاناتها ونداءاتها. وسرعان ما اكتشف أنطونيوس في أرشيف وزارة الخارجية البريطانية وفي ملفات تقارير القنصليات العامة البريطانية، ثلاثة من تلك المناشير، كان اثنان منها قد أذيعا في 27 حزيران (يونيو) و3 تموز (يوليو) والثالث عشية 31 كانون الأول (ديسمبر) لسنة 1880.

بفضل ذلك تمكن جورج أنطونيوس في كتابه المعنوان "يقظة العرب" 1938 من الاعلان لأول مرة وبكل تجرد وموضوعية أن تلك الجمعية "كانت أول منظمة لبعث الحركة العربية القومية". وفي فترة متأخرة أدلى فارس نمر ببعض من ذكرياته الى زين نور الدين زين الذي نشر بعد وفاة نمر – كتابا بعنوان "العلاقات العربية التركية ونشوء القومية العربية" (1958)، ألقى فيه نظرة عابرة نسبيا على تاريخ الجمعية، متخذا موقفا سلبيا وداحضا للراي الذي أبداه أنطونيوس أعلاه باعتباره "مبالغة لا تستنتد الى البراهيم التاريخية".

وفي مطلق الأ؛وال أصبحت رواية سركيس ولاسيما الجانب المتعلق بمساعي مدحت باشا لاختبار مشاعر السوريين القومية – في خبر كان اذ لم يبق منها سوى الخبر عن وجود جمعية سورية معادية للأتراك في السبعينيات. يبقى أمريستوقف الانتباه، وهو تحويل تلك الواقعة التاريخية الى حقيقة كاملة – نهائية. وهذا يتطلب – ولا شك – معطيات ومستندات جديدة. ولاسيما أن ثمة أسئلة تطرح نفسها بالحاح منتظرة أجوبة قاطعة تتعلق بالاسم الأصلي ل"جمعية بيروت السريت (الثورية)". والاطار الزمني الذي نشطت فيه ، والهوية الاجتماعية لمن وردت أسماؤهم في عضوية الجمعية، والتوجه السياسي – التعبوي لتلك الجمعية والمطالب التي طرحتها وغير ذلك من الأسئلة؟

بعد التقييم المتحفظ، كلا لا نقول السلبي، الذي قدمه الزين "لجمعية بيروت السرية" شرع الكتاب العرب بالبحث عن الوثائق الجديدة التي شقت طريقها في بيداء الفكر السياسي – الاجتماعي والقومي لسكان سورية، اذ احتوت مفاهيم سياسية جديدة لا عهد للأفكار السائدة بها. فللمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث برزت الدعوة الى الثورة على الأتراك واستقلال "الوطن السوري". واذا استثنينا الجهد المشكور الذي قام به الباحث المصري عبد اللطيف الطيباوي بنشره النص العربي الأصلي للمناشير الثلاثة، فان الاسهام الوحيد الذي قام به الكتاب العرب الآخرون تجلى في التلميح بعدة سطور الى جمعية بيروت السرية خلال حديثهم عن مسيرة النهضة العربية الثقافية القومية، دون أن يقدموا أي جديد عما ذكرته مراجع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وعلى تأكيدات أنطونيوس والزين. ولاسبب على ما يظهر كامن في "عدم وجود أية معلومات في المصادر عن نشاط جمعية بيروت السرية ، التي أشبعها أنطونيوس درسا وتمحيصا.

في ظروف غياب المصادر والمراجع الكفيلة بتقديم أجوبة شافية عن التساؤلات التي طرحت نفسها في الواقع، اكتفى المستعربون السوفيين بتقييم الجمعية من منطلقات علمية بحتة عن طريق الاستدلال الآني واللمي أي الربط بين هاتيك الوثائق وبانوراما الحياة الفكرية لدى العرب في الأزمة الحديثة. فالمستشرقان زلمان ليفين وكوتلوف مثلا تتبعا عملية صيرورة وسيرورة الاتجاهات الأساسية في الفكر السياسي – الاجتماعي العربي وأيديولوجية حركة النضال القومي – التحرري، واكتفيا بتحليل الوثائق والمستندات الموجودة بحوزتهم، معتمدين – من حيث الجوهر – على منهج التركيب التاريخي التعليلي للظواهر والحوادث، واستخراج ما بينها من علاقات وأسباب ونتائج . ومهما يكن من أمر، فان الوزن النوعي والعددي للمشاكل العصية على الحل ترك أثره السلبي على التقييمات التي قدماها. فقد أصاب ليفين حين قال: "ويتميز برنامج الجمعية بأهمية خاصة، بوصفه أول برنامج قومي خالص من غير صبغة دينية"، ولكنه سارع للربط بين هذه الجمعية و"النزوع الى الاستقلال الذي كان محسوسا بشكل خاص لدى موارنة لبنان الذي تمتع منذ سنة 1860 بالاستقلال الذاتي". وهذا يدل على الالتباس الذي وقع فيه الكاتب. ومع اعتراف كوتلوف بأن الجمعية السرية في بيروت "كانت أول جمعية عربية سياسية طرحت قضية استقلال العرب القومي" وبأن "الوثائق التي نشرتها تعد تجسيدا حيا لفكرة القومية العربية"، ولكنه استطرد قائلا: "وهي عبارة عن تنظيم عديم الهيكلية والمبادئ التنظيمية ولا حتى تسمية محددة" ثم يضيف "وقد اكتنف الغموض أفكارها وشعاراتها وأهدافها السياسية حتى النهاية". وهذا لعمري راي جزئي ومخالف للواقع.

ومن وجهة نظرنا، فان معطيات المصادر والحقائق التاريخية الجديدة عن جمعية أديب اسحاق – رغم ندرتها – تسمح لنا اليوم بطرح فرضية حول الصلة أو بالأحرى التماثل التقريبي بين "جمعية زهرة الآداب" و"جمعية بيروت السرية". واثبات هذه الفرضية يقودنا موضوعيا الى حل اللغز القائم حول مسألة سرية الجمعية البيروتية، وبالتالي الى استنتاج منطقي وحيد بشأن عظمة تلك الجمعية وأهميتها.

بادئ ذي بدء نقول ان جميع الباحثين بلا استثناء اظهروا حتى اليوم لا مبالاة فظيعة فيما يخص مسألة تحديد تاريخ ميلاد الجمعية السرية، وتوقفها عن العمل، وهي – كما سنرى – قضية حيوية ذات أهمية مفتاحية ومحورية.

يرى المؤرخ جورج أنطونيوس وكل من اقتفى أثره العام 1875 تاريخا لنشوء الجمعية السورية. وفي الحقيقة أن التأريخ لظهور الجمعية لا تكتنفه أية صعوبات بالغة، اذ لم يكن بمقدور الجمعية ان تتأسس قبل بداية صيف عام 1874. كل ما في الأمر أن فارس نمر استعاد في ذكرياته ان إلياس حبالين أستاذ اللغة الفرنسية في الكلية السورية الانجيلية كان يغذي طلابه بالأفكار السياسية التحررية المعادية للأتراك: "فكان يمر مرور الكرام على درس اللغة الفرنسية، لينتقل فجأة الى السياسة فيتحدث عن مظالم ومفاسد الأتراك داعيا للتخلص من حكمهم العفن". فكان كل واحد منهم يحلم بالتشبه بأستاذه حبالين. لا بل وأعظم من حبالين، فصاروا يرجون أفكاره بين الناس". وقد أكد الزين، اعتمادا على شهادة نمر أو غيره من المصادر، أن حبالين درس في الكلية في غضون دراسته في الكلية سنة 1874 ، وعين معاونا للدكتور فانديك في المرصد الفلكي في بيروت. ومن هنا نستنج أن تأسيس الجمعية السورية حدث فعلا قبل انتهاء العام الدراس 73/1874، أي في أواسط عام 1874، وبمعنى آخر في ذات الوقت الذي انتخب فيه أديب اسحاق رئيسا "لجمعية زهرة الآداب" بدلا من سليمان البستاني، بعد أن كان "عضوا هاما في السابق، فاستحق اسحاق وأقرانه من النهضويين الأحرار مكانة مرموقة، فسعوا لتحويل جريدة "التقدم" لصاحبها يوسف الشلفون الصادرة في غرة كانون الثاني (فبراير) 1874، الى صحيفة ناطقة باسم الجمعية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

  • يغيا نجاريان (1986). "الجمعية العلمية السورية". النهضة القومية – الثقافية العربية. يريڤان، أرمنيا: أكاديمية العلوم الأرمنية.