المسرح في النمسا

بعد أن تمكنت المؤسسة الكنسية المسيحية الفتية في مطلع القرون الوسطى من القضاء على المسرح، بعده فعل غواية شيطانياً يقود إلى الضلال - بحسب رأي آبائها الأوائل - عاد المسرح في أواخر تلك القرون للظهور مجدداً. واللافت في الأمر هو أن ولادته الجديدة كانت في رحم الكنيسة، وفي بلدان أوربية عدة في الوقت نفسه، ومنها النمسا حيث تبدت البوادر الأولى للمشهدية المسرحية في قداسات الفصح، أي في التمثيل المجازي لقيامة السيد المسيح من قبل الكهنة، ترتيلاً وغناءً وحركة. وكلما تقدم الزمن باتجاه عصر النهضة صار الأداء التمثيلي أكثر واقعية وتفصيلاً، ولاسيما في مسرحيات آلام المسيح في منطقتي ڤيينا والتيرول Tyrol حيث كانت مواكب العروض تستمر أياماً عدة، إما على العربات وإما على منصات مؤقتة نصبت لهذا الغرض في ساحة السوق أمام الكنيسة. وما يثير الاهتمام بهذه العروض هو أن الممثلين كانوا من شخصيات المجتمع المحترمة، ومَنْ صمَّم المشاهد والأزياء كانوا من كبار الفنانين. والأكثر إثارة في الأمر هو التخلي عن اللغة اللاتينية والتمثيل باللهجة المحلية التي تحولت تدريجياً إلى لغة قومية، كالإيطالية والألمانية والفرنسية وغيرها، وإقدام النمساويين منذ مطلع القرن السادس عشر على السماح للمرأة بأداء الأدوار النسائية بدلاً من الغلمان، على حسب ما جرت العادة حتئذٍ، عدا إيطاليا.[1]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المسرح الديني

أدت حركة الإصلاح الديني إلى تراجع الاهتمام بالمسرحيات الدينية الموكبية، إلا أن هذه المسرحيات عادت إلى الازدهار في عصر الباروك على يد الجماعات الكاثوليكية، ولاسيما منها جماعة الجزويت (اليسوعيون) الذين استخدموا فخامة مسرحيات آلام المسيح وأبهتها ومسرحيات موكب خميس الجسد للتأثير في المؤمنين ضد حركة الإصلاح البروتستنتية. وكلما ازداد إقبال الريفيين على هذه الاحتفالات الموكبية صارت أكثر خشونة وغلظة، مما أدى مرات عديدة إلى منعها في أثناء القرن الثامن عشر. إلا أن بعضها مازال يقام حتى اليوم برعاية مالية وفنية كبيرة.

إضافة إلى مسرحيات آلام المسيح، ظهرت في النمسا مسرحيات دينية مؤثرة أخرى مثل مسرحيات الميلاد ومسرحيات الرعاة ومسرحيات الأسرار والمسرحيات الموكبية ومسرحيات ليلة الصيام . كما تعود إلى القرن الرابع عشر جذور أولى المسرحيات الدنيوية، وهي مسرحيات نايدهارت (احتفالاً بقدوم الربيع وانبعاث الحياة). وبمرور الزمن صارت نصوصها شعرية تتخللها الأغاني ويرافقها الرقص والموسيقى مع ملابس فخمة.


المسرح العلماني

منذ مطلع القرن السادس عشر جهد بعض العلماء الإنسانيين لإحياء مسرح روما اللاتيني، فقدموا في قصور النبلاء وفي باحات الجامعة مسرحيات لپلوتوس وترنز، إضافة إلى بعض مسرحيات المديح . ثم راجت المسرحيات المدرسية البروتستنتية التعليمية للكاتب ڤ. شملتسل في الريف، في حين هيمن المسرح اليسوعي الكاثوليكي الفخم في المدينة.

عصر الباروك

بدأ مسرح الباروك النمساوي عام 1584 بعرض مسرحية مرآة الحياة البشرية بقلم الأمير فرديناند الثاني وفي بلاطه في إنسبروك ، وهي أول ملهاة نثرية في اللغة الألمانية. ولقد اصطبغ مسرح الباروك بسمات المسرح المدرسي ومسرح اليسوعيين إلى جانب مؤثرات الملهاة المرتجلة الإيطالية والفرق الجوالة الإنكليزية التي تجوب المدن والبلدات والقرى مشجعة على تأسيس فرق محترفة محلية. إلا أن أكبر تأثير تعرض له هذا المسرح هو الأوبرا الإيطالية، ولاسيما على صعيد تصميم المناظر والأزياء والحيل المسرحية النابعة من خيال واسع والمنفذة بتقانات مدهشة. أما العروض الأوبرالية فقد بقيت حكراً على الطبقة الأرستقراطية حتى عهد الامبراطورة ماريا تريزا التي حولت قاعة الرقص الملكية عام 1741 إلى مسرح أسمته مسرح القلعة Burgtheater وسمحت للبرجوازية بمشاهدة عروضه الأوبرالية والمسرحية. وفي الوقت نفسه انفتحت مسارح الجماعات المسيحية المتعددة على جميع الشرائح الاجتماعية، ولاسيما مسرح البندكتيين بمسرحيات الكاتب س. رتن‌باخر في مدن وبلدات عدة في الوقت نفسه. وفي تلك المرحلة خرج من تقاليد الفرق الجوالة والمسرح الشعبي الممثل الكوميدي الكبير شترانيتسكي الذي طوَّر الشخصية الشعبية الفكاهية هانس ڤورست واستقر عام 1709 في مسرح كِرْنْتنَرتور . وقد صمد هذا المسرح الشعبي المعتمد على الارتجال أكثر من أي ظاهرة مشابهة أخرى - في منطقة اللغة الألمانية - في وجه هجوم المصلح المسرحي گوتشد في لايپزيگ، الذي عدَّ نموذج «التراجيديا» الفرنسية الكلاسيكية قدوة لمستقبل المسرح الألماني، وعلى الرغم من أن السلطات قد انصاعت لآراء گوتشد والمصلح النمساوي الآخر زونن‌فلز، ومنعت المسرحيات الشعبية المرتجلة، فقد تمكن الكاتب هافنر P.Hafner من تأليف مسرحيات لأدوار شعبية محددة بأسلوب ذكي لم تجد الرقابة عليه مأخذاً يسوغ منعه، فاستمرت المسرحية الشعبية النمساوية بوصفها نوعاً أدبياً جديداً ومستقلاً عن الأنواع السائدة.

ونتيجة جهود حثيثة في نهاية القرن الثامن عشر تأسست في محيط ڤيينا مسارح عدة، كان أهمها «مسرح مدينة ليوبولد» - معقل المسرح الشعبي - الذي صار اسمه على لسان الناس «مسرح كاسبِرل»، على اسم أبرز ممثليه الفكاهيين. وفي هذا المسرح قُدمت معظم مسرحيات الكاتب الملهم فرديناند رايموند ت(1790-1836). أما آخر كتاب المسرح الشعبي النمساوي وأبرزهم يوهان نستروي فقد عرضت معظم مسرحياته في مسارح محيط ڤيينا. ولما كان نستروي في الوقت نفسه ممثلاً كوميدياً بارعاً ومرتبطاً بعقد عمل مع «مسرح كارل» فقد لعب فيه أربعمئة وعشرة أدوار مختلفة، جانحاً نحو الارتجال وموجهاً نقده إلى جميع مظاهر الفساد في البلاط والحكومة، من وجهة نظر البرجوازية المتوسطة والصغيرة. وبصفته مديراً لهذا المسرح (1854- 1860) فقد مهد الطريق لفن الأوبريت بإعداداته عن المؤلف الموسيقي الفرنسي جاك أوفنباخ. ومنذ عرض هلنا الجميلة (1865) باللغة الألمانية صارت الأوبريت فناً مميزاً لمدينة ڤيينا، وموجهاً خاصة إلى جمهور الطبقة الوسطى. وفي عام 1776 كان الامبراطور يوزف الثاني قد اتخذ قراراً ذا أهمية تاريخية على صعيد الفن المسرحي في النمسا، بأن أعلن تحويل «مسرح القلعة» إلى «مسرح بلاط الملك والامبراطور والمسرح القومي» لتقدم فيه عروض مسرحية باللغة الألمانية بدلاً من الأوبرا والباليه الإيطاليتين، وتعاقد مديره بروكمان مع أبرز الممثلين والممثلات من جميع مسارح منطقة اللغة الألمانية للنهوض بالفن المسرحي شكلاً ومضموناً. وعلى الرغم من هيمنة الأوبرا الإيطالية على هذا المسرح مجدداً في ظل الامبراطور ليوپولد الثاني فقد استعاد فعاليته المسرحية القومية بإدارة شراي‌فوگل ت(1814-1832) الذي برمج لمواسمه عرض نصوص أوربية مهمة بإعدادات محلية معاصرة. ومن مآثره أيضاً اكتشاف الكاتب گريلبارتسر، وعرض مسرحياته. وفي مرحلة إدارة لاوبِه للمسرح (1849- 1867) طُبقت أول مرة مفاهيم الإخراج المسرحي بالمعنى المعاصر لهذا الفن الحديث. وفي حين ركّز لاوبِه على الإلقاء اللغوي - سواء بالفصحى أم بالمحكية - أولى خَلَفه ف. فون دينگل‌شتت اهتمامه للمشهدية البصرية. أما الخلف الثاني ڤيلدبرانت فقد ركّز على استعادة المآسي اليونانية الكبرى للجمهور المعاصر، وقدم بذلك خدمة كبيرة لهذا المسرح ببناء جسر ثقافي بين الماضي والحاضر.

نحو نهاية القرن التاسع عشر فتح «مسرح القلعة» في مقره الجديد أبوابه لمسرحيات الحركة الطبيعية، وتبنى بشجاعة تقديم مسرحيات شنيتسلر. وعلى أثر انهيار النظام الملكي في النمسا استعاد «مسرح القلعة» اسمه الأول، وصار تدريجياً المسرح الذي يمثل توجهات الجمهورية الحديثة رسمياً، وفي عام 1922 صار «مسرح الأكاديمية» تابعاً لـ«مسرح القلعة» فتوسع تمثيل فكر الدولة عن طريق فن المسرح، وضاقت في الوقت نفسه إمكانات التعبير الأدبي الفني الحر. إلا أن المسارح الخاصة الأخرى في العاصمة وخارجها لم تأبه لتوجيهات السلطة الجمهورية، وتابعت عروضها بتوجهاتها المختلفة ما بين المسرح الشعبي والمسرح الحديث والأوبريت والأوبرا. وكان المسرح الأكثر إثارة للاهتمام بينها هو «مسرح مدينة جوزف» في قلب ڤيينا، بأسلوبه الذي طوره ماكس راينهاردت منذ عام 1924 والذي أسهم كذلك في تأسيس مهرجانات سالسبورگ الشهيرة، وفي تأسيس «معهد راينهاردت للتمثيل» الذي اتحد لاحقاً مع الأكاديمية الحكومية للفنون المسرحية.

تراجعت الروح الديمقراطية النقدية في أثناء الحكم النازي وحلّت مكانها «ديماغوجية» شعبية لا علاقة لها بالفن الأصيل. كما هاجر كثير من الكتاب والفنانين، ولم يعد معظمهم إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ولم ينج من قبضة الرقابة النازية سوى القليل من دور الكباريه السياسي الصغيرة وذات التأثير المحدود، مثل ڤينر ڤركل.

ولكن سرعان ما عادت المسارح ودور الأوبرا إلى تقديم عروضها عقب الحرب مباشرة، وصار «مسرح الشعب» منذ عام 1945 يقدم عروضه في الولايات الأخرى خارج العاصمة أيضاً. ومنذ مطلع الخمسينيات عادت المهرجانات المسرحية والفنية إلى نشاطها مع قيام مهرجانات جديدة في ڤيينا وگراتس وبريگنتس إضافة إلى سالسبورغ، كما اُفتتح كثير من المسارح الجديدة في معظم المدن الكبيرة والصغيرة. ومنذ سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين ظهرت بعض المسارح ذات التوجهات التجريبية الحديثة، وصارت النمسا عامة أحد أهم المراكز الناشطة مسرحياً على صعيد القارة الأوربية، على الرغم من تطور الحركة السينمائية و«الدراما» التلفازية فيها.

انظر أيضاً

الهامش

  1. ^ نبيل الحفار. "النمسا (المسرح في ـ)". الموسوعة العربية. Retrieved 2012-08-13.