الفن في النمسا

يصعب على المهتم بالنمسا وفنونها أن يقطع جازماً بأن للنمسا قبل مرحلة الباروك Baroque وحركات الانقطاع (عن الماضي) sezession فناً أصيلاً، إذ كان فنانو هذا البلد على الدوام متأثرين غاية التأثر بالفنين الألماني والإيطالي، وكان نتاجهم الفني بعيداً كل البعد عن المحلية، ما أدى إلى تعذر تكوين فن نمساوي متماسك ومتسق، في حين صار الفن النمساوي في مرحلتي الباروك وحركات الانقطاع (في نهاية القرن التاسع عشر) غنياً ومفعماً بالحياة وذا طابع وطني أصيل، بل إنه بلغ في بعض الأحيان درجة من التعقيد فأوشك أن يكون مَرَضياً.

ليس ثمة ما يميز القرون الوسطى النمساوية من مثيلتها الألمانية، سواء كان ذلك في الفنون وأساليبها أم في العمارة، باستثناء أمثلة نادرة في العمارة الرومية Romane الواضحة في أديرة الرهبان وصومعاتهم، إذ إن التأثير الكارولنجي Carolingienne بادٍ فيها، وقد سبق هذا الطراز الكنائس القوطية Gothique الأولى التي بناها البندكتيون Bénédictins، واستمر الطراز الرومي طويلاً في النمسا وفي ألمانيا على السواء حتى المرحلة القوطية المتأخرة في القرن السادس عشر. وثمة كنائس كثيرة في النمسا شيدت وفق نموذج كنائس القاعات Hallenkirchen الألمانية.

تعود بواكير أعمال التصوير الجديرة بالاهتمام إلى نهاية القرن الثاني عشر (جداريات كاتدرائية غورك Gurk)، وفي نهاية القرن الرابع عشر قدم أحد المصورين المعلمين لوحة لمذبح كنيسة هايليگن‌كرويتس Heiligenkreutz تلفت الانتباه بدقة رسمها ورهافة ألوانها، وفي القرن الخامس عشر بدأ التصوير النمساوي يكتسب بعض سماته الشخصية بظهور مدرسة سالتسبورغ Salzburg والمنحوتات متعددة الألوان مثل منحوتة مذبح كفرماركت Kefermarkt (نحو عام 1476)، وصار بلاط هابسبورغ Habsburg بدءاً من مطلع القرن السادس عشر مركزاً رفيع المقام لمناصري الفنون ومشجعيها؛ ما أدى إلى ظهور مدرسة نمساوية حقيقية وتكلفية Maniériste اتسمت بالدقة المفرطة وجموح الخيال، وكان من أبرز مصوريها: يوزف هاينتس Joseph Heintz (ڤينوس النائمة - ڤيينا) والإيطالي أرشيمبولدو Arcimboldo والألماني آخن Achen والثلاثة كانوا في خدمة رودولف الثاني Rudolph II.

البلڤدير العالي

كانت الساحة النمساوية مستعدة لاستقبال الباروك القادم في البداية من إيطاليا، ولكنه ما لبث أن تطور ذاتياً وعلى نحو مستقل. أما في العمارة وبعد أن عُهد إلى فنانين إيطاليين مثل مارتينلي Martinelli وتنكالا Tencala وأليپراندي Aliprandi وسانتيني Santini تشييد أبنية مستوحاة من العمارة الرومانية ظهرت أبنية مدنية ودينية ذات مرونة ومهارة لا مثيل لها، أقيمت بأيدٍ نمساوية، وكان من أشهر المعماريين فيشر فون إرلاخ J.B.Fischer von Erlach ت(1656-1723) الذي صمم مجمع سالتسبورگ ونفذه (1696- 1707) وقصر شڤارتسن‌برگ Schwarzenberg ت(1705) وبناء قنصلية پراگ، وكنيسة سان شارل بوروميه Saint- Charles- Borromée في ڤيينا (1737) وهي من روائع أعماله. والمعمار الثاني كان يوهان لوكاس فون هيلدبرانت von Hildebrandt ت(1668-1745) وله من المنشآت قصر كينسكي Kinsky ت(1716) وبناء بلڤدير Belvédère ڤيينا، وبناء البلڤدير العالي (1719)، والبلڤدير السفلي (1922) وقصر ميرابل Mirabell في سالتسبورگ (1721). والمعمار الثالث هو الفرنسي نيكولا جادو N.Jadot الذي صمم وأنشأ قصر أكاديمية العلوم في ڤيينا (1755).

وفي مجال النحت الباروكي اشتهر في ڤيينا دونَّر G.R.Donner ت(1693-1741) وكان قد نفذ منحوتات قصر ميرابِل وزخارفه في سالتسبورگ (1726) ونافورة السوق الجديد في ڤيينا (1739). وفي براتسلاڤا نفذ منحوتاته في كاتدرائية سان مارتان، وهي مجموعة تمثل القديس سان مارتان ممتطياً فرساً، مسكوبة بالرصاص وليس من الرخام (1734).

ومن أشهر المصورين النمساويين كان پوزو P.Pozzo، فمنذ العام 1702 أنجز زخارف كنيسة الجامعة وقصر ليختنشتاين Liechtenstein. وكان من أتباعه والمتأثرين بأسلوبه مجموعة من المصورين المزخرفين مما جعل الفن الزخرفي مزدهراً في ذلك العصر، ومثال هذه المنجزات الزخرفية يُرى في البلفدير السفلي مما أنجزه الرسام ألتومونته M.Altomonte، وسقف الصالة الكبرى للمكتبة الوطنية في ڤيينا التي أنجزها المصور د. گران D.Gran ت(1694-1757)، وزخارف قبة كنيسة سان شارل للرسام روتماير J.M.Rottmayer ت(1660-1730)، ويذكر أيضاً بصورة خاصة زخارف در گوت‌ڤگ Gottweg التي أنجزها مِلْك Melk.

وقد تقدم هذا الفن التزييني بتأثير ماولپرتش A.F.Maulpertsch ت(1724-1796). ويعد پلاتسر J.G.Platzer ت(1702-1761) مؤسس تيار الروكوكو في ڤيينا.

وفي مجال تصوير الوجوه برز المصور هـ. فوگر H.Fuger ت(1751-1818) إلى جانب المصور لامبي القديم Lampi ت(1751-1830)، كما برز الرسام والمزخرف كرويتسينغر J.Kreutzinger ت(1757-1829) بتصوير المنمنمات والرسوم الإيضاحية في المؤلفات.

وفي عام 1718 أُسس في ڤيينا مصنع الخزفيات بإدارة زورگنتال Sorgenthal. كما نمت في ڤيينا الصناعات الزجاجية - الكريستال - على غرار الكريستال البوهيمي.

وبين عامي 1815- 1848 صارت المملكة النمساوية-المجرية تحت هيمنة مترنيخ، وصارت ڤيينا أهم مركز ثقافي ولاسيما في نطاق الموسيقى حيث استقر بيتهوڤن وفرانتس ليست في ڤيينا. وفي هذه المدينة العاصمة استقر النحات كانوڤا Canova قادماً من البندقية.

وأنجز تساونر F.Zauner ت(1746-1822) تمثال الملك يوزف الثاني، وكان مديراً لأكاديمية الفنون، كما أنجز الصرح المأتمي للملك ليوبولد الثاني. وفي مجال التصوير كان تأثير تيار الاتباعية الجديدة (الكلاسية المحدثة) الذي ظهر في فرنسا واضحاً على المصورين النمساويين، ولا سيما فوگر.

وفي الوقت ذاته فإن عدداً من المصورين الأوربيين قدموا إلى ڤيينا حاملين أساليبهم الفنية، من أمثال لورانس[ر] Th. Lawrence مصور الوجوه الإنكليزي، ومصور المنمنمات الفرنسي إيزابي J.B.Isabey بأسلوبه الرومانسي، وتركوا العديد من اللوحات الوجهية للحكام والدبلوماسيين والنساء الجميلات، مما ترى آثاره في المصورين النمساويين ومنهم ڤالدمولر F.Waldmuller في لوحاته الوجهية التي تأثر فيها بالمصور لورانس، وكان ممثلاً لأسلوب أطلق عليه أسلوب طراز بيدرماير Biedermeier.

وفي جانب آخر ظهر تصوير المشاهد الطبيعية بأسلوب مبسط قريب من السذاجة في لوحات م. لودر M.Loder ت(1781-1868) والمصور ف. لوس F.Loos ت(1797-1890) وكوخ J.A.Koch ت(1768-1839) في لوحاته الأسطورية.

وتأثر عدد من المصورين بالمدرسة الإنكليزية التي أسست تحت اسم الناصريين أو النازاريين Les Nazaréens.

ومنذ عام 1864 انقطعت صناعة الخزف أو البورسلين في ڤيينا بعد إغلاق مصنع الدولة. أما صناعة الزجاج الملون أحياناً، والشديد التزيين فحافظت على جودتها.

وجدت التحولات التي تمت في أوربا بعد الثورة الفرنسية (1789-1794) وحروب نابليون (1799- 1815) ما يسمى بأوربا الجديدة، حيث ظهرت المشاعر القومية عند الشعوب الأوربية، وبدت ضرورات الإصلاح والتجديد، وتتالت المدارس الفنية، من الكلاسية المحدثة التي جاء بها داڤيد L.David إلى الرومانسية التي أسسها دولاكروا Eu. Delacroix وصولاً إلى الانطباعية.

وكانت الوحدة النمساوية المجرية قد انتصرت على تبعية الدولتين لملك واحد هو فرانتس-يوزف Franz- Joseph، وفي عهده تطور العمران في ڤيينا، ونسقت الشوارع العريضة بتصميمات ل. فورستر L.Forster ت(1797-1836)، كما أنشئت محطات القطار في الشمال بتصميم هوفمان Th. Hoffmann، وفي الجنوب محطات من تصميم فلاتيش W.Flattich بأسلوبه المرتبط بعمارة عصر النهضة المثقل بزخارف غير ضرورية، ثم ظهرت في العمارة تأثيرات الأسلوب «القوطي الحديث» مما يرى في عمارة بناء البلدية (1883) من تصميم فون شميت von Schmidt ت(1825-1891).

ومن أكثر المنشآت أهمية بناء البرلمان الذي صممه فون هانسون von Hanson ت(1813-1891) بأسلوب كلاسي محدث، وبناء الجامعة الذي صممه فرستل Ferstel وأنجزه في العام 1874، متأثراً بأسلوب عصر النهضة، وبناء الأوبرا (1869) الذي صممه ڤان در نول E.Van der Noll وفان سيكاردسبورگ Sicardsburg مشابهاً لبناء الأوبرا في باريس. ولقد أنشأا معاً بناء الآرسنال (دار السلاح) أيضاً.

بناء مايوليكا هاوز

وينتقل فن العمارة في النمسا باتجاه ما سمي بالفن الحديث على يد أوتو ڤاگنر Otto Wagner ت(1841-1918)، تجلى ذلك بعمارة محطة كاريس بلاتس Karisplatz ت(1901) وبزخارف بناء مايوليكا هاوز Majolica Haus ت(1898) الذي أكد ظهور عمارة الحداثة، وفي عمارة البنك البريدي Postbank ت(1906)، ومن جهة أخرى كان أولبريش J.M.Olbrich ت(1867-1908) قد أسس للأسلوب الوردي في عمارة معرض جماعة الانقطاع Sécession ت(1899).

واستمرت حركة الحداثة في النمسا بالانتشار بفضل مدرسة الانقطاع بعد أن ترأسها المعمار أولبريش (1867- 1908) وأنشأ لهذه الجماعة بناء أطلق عليه اسم دارمشتات Darmstadt.

ولم يزدهر النحت الحديث في النمسا، بل ظهر مدرسياً، ويذكر من النحاتين شلنگ Schilling في عمله التذكاري عن الشاعر شيلر في ڤيينا، وهلمر Hellmer في نصب الشاعر گوته Goethe، وتسومبوش Zumbusch في نصب بيتهوڤن Beethoven.

وفي مجال التصوير كان الاهتمام بتصوير الوجوه مما يرى عند رومكو A.Romeko ت(1832-1889) بأسلوبه الشاعري الغريب، وكان له تأثير في كوكوشكا Kokoschka. وظهرت مدرسة الانقطاع عن طريق المصور كليمت Klimt ت(1862-1918) وكان أول رئيس لجماعة الانقطاع في ڤيينا وأسهم في تحرير مجلة «ربيع مقدس» Ver Sacrum، وكان الأب الشرعي للحداثة الفنية في النمسا.

بعد الحرب العالمية الأولى (1914- 1918) تحول الفن باتجاه الإبداع والحداثة، وصار الاهتمام به أوضح بعد أن تكاثرت المتاحف والمعارض والإعلام الفني، وظهر فن التصوير الضوئي على يد نادار Nadar في فرنسا كما ظهرت السينما.

وكان تأثير المعمار ڤاگنر Wagner واضحاً في تكوين عمارة حديثة، بدت في أعمال تلاميذه من أمثال المعمار هوفمان Hoffmann الذي تزعم إدارة جناح بلاده في معرض باريس عام 1925.

واتبع هذه المدرسة النحات هاناك A.Hanak ت(1875-1934)، أما النحات ڤوتروبا Wotruba ت(1907) فقد ابتدأ نحته كلاسياً ثم تحول نحو التعبيرية المبسطة ثم عاد إلى الواقعية. واستعمل النحات لاينفلنر Leinfellner ت(1911) المعادن بأسلوبه الهندسي الجاف. وكذلك شأن هوفلينر Hoflehner ت(1916) الذي تمادى في تحطيم الأشكال باستعماله المعادن المختلفة.

وفي مجال التصوير لمع اسم كوكوشكا وكان شاعراً ومصوراً درامياً تظهر في لوحاته الألوان المتضادة بشدة، وإگون شيله Egon Schiele ت(1890-1918) الذي برع في الرسم والتصوير ونزعته التعبيرية، وتأثر الفن في النمسا بالتيارات التي ظهرت في فرنسا، وكان الموسيقي شونبرگ Schonberg ت(1874-1951) على اتصال بجميع تلك التيارات بوصفه مصوراً أيضاً، ثم هاجر إلى الولايات المتحدة. وما زالت تيارات الحداثة الفنية سارية في النمسا وأوربا الغربية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

  • عفيف البهنسي. "النمسا (الفن في ـ)". الموسوعة العربية.