الكرمس الفلمنكي (روبنز)

الكرمس الفلمنكي، پيتر پول روبنز.
ابراهيم العريس.jpg هذا الموضوع مبني على
مقالة لابراهيم العريس
بعنوان مقالة.

الكرمس الفلمنكي، هي احدى لوحات الرسام البلجيكي پيتر پول روبنز وتصور مهرجان الكرمس Kermesse الذي يحتفل به في هولندا والأجزاء الشمالية من فرنسا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الرسام

كان پيتر پول روبنز رسام قصور ومدن وحياة رغدة في المقام الأول. بالكاد كان يعرف الريف أو يعرف شيئاً عنه. أو لنقل إنه كان يعرف الريف من خلال لوحات سلفه بروغل العجوز، ذاك الذي كان - وسيظل - من أعظم الرسامين الذين خلّفوا لوحات تصف حياة الفلاحين، لتقول في نهاية الأمر إنها لم تكن حياة الفرح والدعة التي يؤمثلها أهل المدينة ويحلمون بها. حتى في أعيادهم، كان أهل الريف - كما رآهم بروغل على الأقل - تعساء متألمين، عاجزين عن التأقلم مع حياة تأكلهم لمجرّد أنها تعطيهم ما يأكلون. بالنسبة الى بروغل، وسط صعود المدن الهولندية الثرية في ذلك الحين، لم يعد الريف مكاناً مثالياً للتمازج الخلاق بين الطبيعة والإنسان، على الشكل الذي يعرف المهتمون بعصر النهضة كان مفكرو ذلك العصر قد بدأوا يحلمون به ولا سيما منهم مفكرو النهضة ورساموها. فالحال انه فور الخروج من العصور الوسطى، أضحى الريف مكاناً للحزن والأسى ومحاولة العيش الفاشلة. ولعل هذا ما يمكننا أن نلمحه إن نحن دققنا النظر في لوحات بروغل الريفية (وما أكثرها!)، حيث، حتى وسط الصخب والرقص والأعياد والأفراح، يهيمن الحزن والخوف من الغد والتآكل البشري اليومي على نظرات وملامح عرفت ريشة بروغل الواقعية القاسية كيف تعبر عنها.

ضمن هذا الإطار نفسه أراد روبنز التلميذ النجيب لبروگل، بدوره أن يغوص ذات مرحلة من حياته، في ثنايا حياة الريف، فتأمل لوحات بروغل كثيراً، وكذلك شاهد جيداً لوحات ريفية رسمها معاصره أدريان بروير، ثم بدأ جولة قادته الى أعماق الريف ومعه ألوانه وريشه، فإذا به يفاجأ: ليست الأمور على الصورة التي تركها لنا بروغل. ليس الريف تعيساً الى هذا الحد! هل كان هذا، على أية حال، ناتجاً من وجود فارق زمني يحسب بعشرات الأعوام بين الزمن الذي حقق فيه بروغل روائعه الريفية الحزينة، وبين الزمن الذي زار فيه روبنز الريف؟ أبداً، فالأمور في الريف لم يكن أصابها أي تبديل.

التبديل وبشكل يبدو لنا مؤكداً في أيامنا هذه، حدث في النظرة. بروگل كان يرى الأمور من الداخل أي أنه كان يعتبر نفسه ومعايشته للريف جزراً من كينونته الخاصة، أما بالنسبة روبنز فلا شك أنه كفنان ومفكر عاش في المدينة أكثر سنوات عمره فإن قصد الريف قصده كسائح ينظر إليه نظرة من الخارج ومن فوق فإن حياة الريف منظوراً إليها من ذلك الخارج لا يمكن أبداً أن تشبه حياته كما عبّر عنها سلفه الكبير بروغل. وكأننا هنا في الحالين والنظرتين معاً وسط ذلك السجال المدهش الذي ثار في الحياة الفنية المصرية حين غنى محمد عبدالوهاب رائعته «محلاها عيشة الفلاح» فشتم وانتقد، لأنه رسم في أغنيته صورة كاذبة: فحياة الفلاح ليست على تلك «الحلاوة» بالتأكيد.


أما بالنسبة الى سيرة حياة الرسام بيتر بول روبنز، فإنها تقول لنا إن الفنان رسم هذه اللوحة خلال السنوات الأخيرة من حياته، حيث كان ينعم، أخيراً وبعد تجوال طويل، بحياة عائلية هانئة وفّرتها له زوجته وحبيبته الأخيرة هلن فورمان. وكان ذلك الهناء العائلي قد منح أعمال روبنز خلال تلك المرحلة نوعاً من الدعة والعمق، ما جعله يبحث عن احتكاك أكثر حميمية بالطبيعة، خصوصاً أنه كان، في ذلك الحين، يمضي جل وقته في الريف، وتحديداً في القصر الذي كان اشتراه غير بعيد عن آنگر.

عندما رسم روبنز هذه اللوحة كان في الثامنة والخمسين من عمره، هو الذي ولد عام 1577 في مدينة سايگن (التي تعتبر اليوم جزءاً من الأراضي الألمانية). تلقى دراسته الابتدائية، كما بدأ يهتم بفن الرسم، في ألمانيا وفي انتورب. قام عام 1600 بزيارة الى إيطاليا تمكّن خلالها من الحصول على وظيفة في بلاط فنشنزو دي گونزاگا. وخلال ذلك راح يمضي بعض الوقت في روما، وزار إسبانيا - سفيراً للبلاط الإيطالي -. وفي عام 1608 عاد روبنز الى انتورب وقد صار متعمقاً في فنون النهضة الإيطالية، وعلى اطلاع على الفنون الإسبانية. وكان اتجاهه في الرسم قد أصبح باروكياً خالصاً. وفي انتورب وضع نفسه في خدمة آل هابسبرغ رساماً، ثم سفيراً أيضاً. وهو إذ تجول بهذه الصفة الأخيرة في الكثير من العواصم الأوروبية راح يرسم الملوك. وفي عام 1635 عاد واستقر في أنتوِرپ (آنگر) حيث بقي هناك، يرسم حتى وفاته في عام 1640.


تفاصيل اللوحة

السجال نفسه تقريباً، يمكننا أن نتخيل أنه قام حين عرضت لوحة روبنز الأشهر، من بين «أعماله الريفية» القليلة، أي لوحة «الكرمس»، التي رسمها بين عامي 1635 - 1637. وبدت مناقضة تماماً للجوهر الذي بنى عليه بروغل عالمه الريفي، وبالتحديد «الكرمس» الذي صوره في عام 1568. إذاً، اللوحتان تحملان الاسم نفسه. وهما معاً تقدّمان مشهداً يدور خارج حانة ريفية: مشهداً يتضمن الرقص والموسيقى والطعام والشراب، الحركة في أوجها. وبما أن موضوعنا هنا هو لوحة روبنز لا بد لنا من أن ننتقل الى الحديث عنها بعد هذه المقاربة الأوّلية التي نعتقدها مفيدة بين عالمين يحملان العنوان نفسه ولكن شتّان ما بينهما! فلننتقل إذاً الى اللوحة التي نحن في صددها!...لننتقل الى العالم الذي صوّره روبنز في لوحته التي لا تقل شهرة، بالتأكيد، عن لوحة «أستاذه» الكبير.

في لوحة «الكرمس» حافظ روبنز، كما نلاحظ، على أسلوبه الباروكي الصاخب الذي ميز أعماله الفنية كافة. هنا استحوذ روبنز على هذا المشهد التقليدي من الحياة الريفية الفلامندية، لكنه وضعه ضمن إطار حركة كلية تستبعد الابتذالية التي كان يمكن لمثل هذا المشهد أن يحملها. إن أول ما استبعده روبنز هنا هو النزعة الطبيعية - التي ميزت عمل المدارس النهضوية السابقة عليه - ليقدم نوعاً من «باليه» جماعي تدور رحاه في لحظات متعددة - تؤكدها الحركة الدائرية للمشهد - تحت سماء مفعمة بالشاعرية. إننا هنا أمام حركة دائرية لا نهاية لها تنطلق من يمين اللوحة الى يسارها، في وسط إطار طبيعي من الواضح إنه يتحدى الزمن، ليبدو وكأنه صخب لا نهاية له، كما إنه لا بداية له. إن الوجوه هنا، إذا دققنا النظر فيها، تبدو وكأنها نسيت كل شيء غير اللحظة الآنية: نسيت الزمان والمكان في لحظة معلقة. إن ما نراه هنا إنما هو «الفرح بالحياة» عند كائنات مفعمة بالصحة، «لم يحدث، كما كتب أحد الباحثين في أعمال روبنز، إن تمكنت الحضارة من صرفهم عن مسار حياتهم». إن الحب والنهم - الى الطعام ولكن أيضاً الى بقية اللذائذ - هما ما يهيمن على حركة الأزواج والأفراد. وهذان يعبر عنهما روبنز في الحركة الكلية للوحة: إنها حركة إعصار منطلق في دائريته المؤلفة من أجساد متلاصقة ومتلاحمة، من الواضح أن خط انطلاقتها يسير بها من المبنى والكتلة الجماعية الى اليمين، في اتجاه اليسار حيث الامتداد اللانهائي للمشهد الطبيعي: حيث الطبيعة والهدوء الساكن الصامت للحقول ينم عن لا مبالاة الطبيعة بالصخب البشري، وهي تعيش حالتها الأبدية. أما في الفضاء فلدينا، إضافة الى صور الغسق الأول، طيران عصفورين من الواضح أن حضورهما هنا إنما الهدف منه تثمين الجاذبية الأرضية التي تمثل الكتلة البشرية ثقلها.

هذه اللوحة (يصل عرضها الى 261 سم، وارتفاعها الى 149 سم)، كان الملك الفرنسي لويس الرابع عشر اشتراها عند نهاية حياته، ولذلك توجد اليوم في متحف اللوفر الباريسي وتعتبر من أهم مقتنياته، إضافة الى أنها تعتبر من أوائل اللوحات الفلامندية التي دخلت مجموعات اللوحات الملكية الفرنسية.

المصادر