القوط الشرقيون

فسيفساء تصور قصر ثيودوريك الأكبر في مصلى قصره في سان أپوليناره نوڤو.

القوط الشرقيون Ostrogoth، هم فرع من القوط (الفرع الرئيسي الآخر هم القوط الغربيون). تأسست مملكتهم تحت حكم ثيودوريك العظيم، في إيطاليا، في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس الميلادي. ترجع أصول القوط الشرقيين إلى الگريوثونگي ومملكتهم الشبه أسطورية شمال البحر الأسود في القرن الثالث والرابع.

قبل القرن الثالث كان القوط قبيلة واحدة إلا إنهم انفصلوا في القرن الثالث الميلادي إلى قبيلتين قوط شرقيون واستوطنوا سكثيا (حاليا أوكرانيا وروسيا البيضاء) وقوط غربيون وسكنوا المناطق الواقعة جنوب نهر الدانوب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انقسام القوط: گريوثونگي واوستروگوتي

انهيار الامبراطورية الرومانية

Eagle shape fibulae

في 1 يناير 193 اجتمع مجلس الشيوخ بعد ساعات قليلة من اغتيال كمودس، في نشوة البهجة والغبطة واختار للجلوس على عرش الإمبراطورية عضواً من أجلْ أعضائه واجدرهم بالاحترام، استطاع بإدارته العادلة وهو حاكم للمدينة أن ينهج منهج الأنطونيين ويواصل أحسن تقاليدهم. وقبل پرتناكس، وهو كاره، هذا المنصب الخطير الذي يرفع صاحبه إلى مكانة سامية إذا سقط منها هوى إلى الدرك الأسفل. ويقول فيه هيروديان إنه "سلك سلوك الرجل العادي"، فكان يستمع إلى محاضرات الفلاسفة، ويشجع الآداب؛ وقد ملأ خزائن الدولة بالمال، وخفّض الضرائب، وباع بالمزاد كل ما ملأ به كمودس القصر الإمبراطوري من ذهب وفضة، وأقمشة مطرزة وحرير، وجوارٍ حسان. وفي ذلك يقول ديوكاسيوس: "والحق أنه فعل كل ما يجب على العاهل الصالح أن يفعله. وائتمر المعاتيق الذين فقدوا بفضل سياسته الاقتصادية ما كان يعود عليهم من النفع مع الحرس البريتوري الذي ساءه عودة النظام. وفي الثامن عشر من شهر مارس اقتحم ثلثمائة من الجنود أبواب القصر وقتلوه، وحملوا رأسه إلى المعسكر على طرف رمح، وحزن الشعب ومجلس الشيوخ عليه وتوارى أعضاؤه عن الأنظار. [1]

وأعلن قواد الحرس أنهم سيضعون التاج على رأس الروماني الذي يمنحهم أكبر عطاء. وأقنعت دديوس جليانس زوجته وابنته بأن يغادر مائدة الطعام ويعرض على زعماء الحرس عطاءه، فسار إلى المعسكر، حيث وجد منافساً له يعرض خمسة آلاف درخمة (3000 ريال أمريكي) هبة لكل جندي ثمناً لعرش الإمبراطوريّة. وصار سماسرة الحرس ينتقلون من مثر إلى آخر، يشجعونهم على زيادة العطا، فلما أن وعد جليانس كل جندي بـ 6250 درخمة أعلن الحرس اختياره إمبراطوراً.

وثارت ثائرة أهل روما لهذه المذلة المنقطعة النظير، فأهابوا بالفيالق الرومانية المعسكرة في بريطانيا، وسوريا، وبنونيا أن تزحف على روما وتخلع جليانس. وغضبت هذه الفيالق لأنها حرمت من العطاء، فأخذ كل منها ينادي بقائده إمبراطوراً، وزحفت كلها على روما. وتفوق لوسيوس سبتميوس سفيرس جيتا قائد جيوش بنونيا على جميع القواد بفضل جرأته وسرعته، وما قدمه من رُشا. وقطع على نفسه عهداً أن يهب كل جندي 12000 درخمة حين يجلس على العرش؛ وزحف بهم من بلاد الدانوب حتى صار على بعد سبعين ميلاً من روما في شهر واحد؛ واستمال إليه الجنود الذين أُرسلوا لصده، وأخضع الحرس البريتوري بأن عرض عليهم أن يعفو عنهم إذا أسلموا إليه قوادهم، وخالف جميع السوابق بدخوله العاصمة ومعه جنود بكامل سلاحهم، ولكنه أرضى المستمسكين بالتقاليد القديمة بأن لبس ثياب المدنيين. وعثر طربيون على جليانس يبكي في قصره من هول تلك الحوادث، فأخذه إلى حمّام وقطع رأسه (2 يونيو سنة 193).

وكانت أفريقية في هذه الأثناء تهب المسيحية أعظم المدافعين عنها؛ وقد وُلد فيها وقتئذ 146 سبتميوس واجتاز فيها أولى مراحل تعليمه. وكانت نشأته في أسرة فينيقية تتكلم بهذه اللغة، ودرس الآداب والفلسفة في أثينة، واشتغل بالمحاماة في روما، وكان رغم لهجته السامية من أحسن الرومان تربية وأكثرهم علماً في زمانه، وكان مولعاً بأن يجمع حوله الشعراء والفلاسفة، ولكنه لم يترك الفلسفة تعوقه عن الحروب، ولم يدع الشعر يرقّق من طباعه. وكان رجلاً وسيم الطلعة، قوي البنية، بسيطاً في ملبسه، قادراً على مغالبة الصعاب، بارعاً في الفنون العسكرية، مقداماً لا يهاب الردى في القتال، قاسي القلب لا يرحم إذا انتصر. وكان لبقاً فكهاً في حديثه، نافذ البصيرة في قضائه، قديراً صارماً في أحكامه.

وكان مجلس الشيوخ قد أخطأ إذ أعلن تأييده لمنافسه ألبينس فذهب إليه سبتميوس وحوله ستمائة من رجال الحرس، وأقنعه بأن يؤيده في ارتقاء العرش؛ فلما تم له ذلك أعدم عشرات من أعضائه وصادر كثيراً من ضياع الأشراف حتى آلت إليه أملاك نصف شبه الجزيرة. ثم ملأ الأماكن التي خلت في مجلس الشيوخ بأعضاء اختارهم بنفسه من بلاد الشرق التي تدين بالنظام الملكي، وأخذ كبار رجال القانون في ذلك العصر - بابنيان وبولس ، وألبيان - يجمعون الحجج التي يؤيدون بها السلطة المطلقة. وأغفل سبتموس شأن المجلس إلا حين كان يبعث إليه بأوامره؛ وبسط سلطانه الكامل على أموال الدولة على اختلاف مصادرها، وأقام حكمه على تأييد الجيش دون خفاء، وحوّل الزعامة إلى مَلَكية عسكرية ورائية، وزاد عدد رجال الجيش، ورفع رواتب الجند، وعمد إلى الإسراف في أموال الدولة حتى كاد ينضب معينها. ومن أعمله أنه جعل الخدمة العسكرية إلزامية، ولكنه حرّمها على أهل إيطاليا، فأصبحت فيالق الولايات من ذلك الحين هي التي تختار الأباطرة لروما بعد أن فقدت العاصمة قدرتها على الحكم.

ومن العجائب أن هذا المحارب الواقعي كان يؤمن بالتنجيم، وأنه كان أكثر الناس براعة في تفسير النذر والأحلام. من ذلك أنه لما أن ماتت زوجته الأولى قبل أن يرتقي العرش بستة أعوام عرض على سوريّة غنية دل طالعها على أنها ستجلس على عرش أن تتزوجه. وكانت هذه الزوجة هي جوليا دمنا ابنه كاهن غني لإلجابال إله حمص. وكان نيزك قد سقط في تلك المدينة من زمن بعيد وأقيم له ضريح في هيكل مزخرف، وأخذ الناس يعبدونه على أنه رمز الإله إن لم يكن هو الإله نفسه مجسّماً. وجاءت جوليا إلى قصر سبتميوس، وولدت له ولدين هما كركلا وجيتا، وارتقت عرشها الموعود. وكانت أجمل من أن تقتصر على زوج واحد، ولكن مشاغل سبتميوس لم تكن تترك له من الفراغ ما يسمح له بأن يغار عليها. وقد جمعت حولها ندوة من الأدباء، وناصرت الفنون، وأقنعت فيلوسترانس بأن يكتب سيرة أبلونيوس التيانائي يخلع عليه الكثير من أسباب المديح. وكانت قوة أخلاقها ونفوذها مما عجل السير بالملكية نحو الأساليب الشرقية التي وصلت إلى غايتها من الناحية الأخلاقية في عهد إلجابالس ومن الناحية السياسية في عهد دقلديانوس.

وسُلخ سبتميوس من حكمه الذي دام ثماني عشرة سنة في حروب سريعة وحشية قضى فيها على منافسيه؛ ودك بيزنطية بعد حصار دام أربعة أعوام. فأزال بعمله هذا حاجزاً كان يقف في وجه القوط الآخذين في الانتشار، وغزا بارثيا، واستولى على طشقونة، وضم بلاد النهرين إلى الإمبراطوريّة، وعجّل سقوط الأسرة الأرساسية المالكة. وأُصيب في شيخوخته بداء النقرس. ولكنه لم يكن يرضى أن يضعف جيشه بعد أن قضى في السلم خمس سنين، فزحف به على كلدونيا، وانتصرت على الاسكتلنديين في عدة وقائع غالية الثمن، انسحب على أثرها إلى بريطانيا، ثم آوى إلى يورك حيث وافته المنية.

ومما قاله عن نفسه: "لقد نلت كل شيء ولكن ما نلته لا قيمة له". ويقول هيروديان إن "كركلا قد أغضبه أن تطول حياة أبيه... فطلب إلى الأطباء أن يعجلوا بموت الشيخ بأية وسيلة بمتناول أيديهم". وكان سبتميوس قد لام أورليوس حين سلم الإمبراطوريّة إلى كمودس، ولكنه هو نفسه أسلمها إلى كركلا وجيتا، بهذه النصيحة الساخرة: "وفرا المال لجنودكما ولا يهمكما شيء غير هذا". وكان آخر إمبراطور مات في فراشه في الثمانين عاماً التي سبقت وفاته.

ويبدو أن كركلا قد خلق، كما خلق كمودس، لكي يثبت أن نصيب الرجل من النشاط قلما يكفي لأن يجعله عظيم في حياته، وفي قوته الجنسية معاً. وقد كان في صباه وسيماً صيّعاً، فلما بلغ سن رشده أصبح همجياً مفتتناً بالصيد والحرب، يقنص الخنازير البرية، وينازل أسداً بمفرده، ويحتفظ بعدد من الآساد بالقرب منه في قصره، واتخذ منها رفيقاً له في بعض الأحيان يجالسه على مائدته وينام معه في فراشه. وكان يستمتع بصحبة المجالدين والجند بنوع خاص، ويبقي أعضاء الشيوخ زمناً طويلاً في حجرات الانتظار حتى يفرغ من إعداد الطعام والشراب لرفاقه. ولم يكن يرضى أن يشترك معه أخوه في حكم الإمبراطوريّة، فأمر بقتل جيتا في عام 212، فاغتيل الشاب وهو بين ذراعي أمه، خضب أثوابها بدمه. ويقال انه حكم بالموت على عشرين ألفاً من أتباع جيتا، وعلى كثيرين من المواطنين، وعلى أربع من العذارا الفستية، اتهمهن بالزنى. ولما تذمر الجيش على أثر مقتل جيتا أسكته بأن نفحه بهبة تعادل كل ما ادخره سبتميوس من الأموال، وكان يفضل الجنود والفقراء على رجال الأعمال والأشراف؛ ولعل ما نقرؤه عنه من القصص التي يرويها ديوكاسيوس ليست إلا انتقاماً كتبه عضو في مجلس الشيوخ واشتدّت رغبته في جمع المال فضاعف ضريبة التركات بأن جعلها عشرة في المائة من مقدار التركة؛ ولما رأى أنها لا تنطبق إلا على المواطنين الرومان وسّع دائرة هذه الحقوق حتى شملت جميع الراشدين من الذكور الأحرار في الإمبراطوريّة كلها؛ فنال هؤلاء حقوق المواطنين حين استتبعت أكثر ما يمكن أن تستتبعه من القروض وأقل ما تستتبعه من السلطان. وأضاف إلى زينات روما قوساً أقامه لسبتميوس سفيرس لا يزال باقياً إلى اليوم، وحمّامات عامة تشهد خرائبها الضخمة بما كانت عليه من عظمة وجلال، ولكنه ترك معظم شئون الحكم المدني لوالدته، وشغل نفسه بالحروب.

وكان قد عين جوليا دمنا أمينة سره لشئون العرائض والرسائل. وكانت تشاركه أو تحل محله في استقبال رجال الدولة أو ذوي المكانة العليا من الأجانب. وهمس الوشاة بأن سلطانها عليه ناشئ من مضاجعته إياها، وأثار الفكيهون الجبناء من أهل الإسكندرية بتشبيههم لها وله بجوكستا وأوديب. وأراد أن ينتقم من هذه الإهانة وأمثالها من جهة، ويأمن على نفسه من ثورة تتقد نارها في مصر أثناء حروبه لبارثيا من جهة أخرى، فزار المدينة وأشرف بنفسه (كما يؤكد المؤرخون) على قتل جميع أهل الإسكندرية القادرين على حمل السلاح.

ومع هذا فقد كان منشئ الإسكندرية المثل الذي احتذاه والمطمع الذي يأمل أن يبلغه. وللوصول إلى هذه الغاية أنشأ فيلقاً من 16000 جندي سمّاه "فيلق الاسكندر" وسلّحه بأسلحة مقدونية من الطراز القديم، وكان يأمل أن يُخضع به بارثيا كما أخضع الاسكندر فارس. وبذل كا ما يستطيع من الجهد ليكون جندياً عظيماً، فكان يشارك جنوده في طعامهم وكدحهم، وسيرهم الشاق الطويل، وكان يساعدهم في حفر الخنادق، وإقامة الجسور، ويظهر الكثير من ضروب البسالة في القتال، وكثيراً ما كان يتحدى أعداءه ويطلب إليهم أن يبارزوه رجلاً لرجل؛ ولكن رجاله لم يكن لهم مثل ما كان له من رغبة في قتال البارثيين، بل كان حبهم للغنائم أكثر من حبهم للقتال، فقتلوه في كارى التي هزم فيها كراسس. ونادى مكرينس قائد الحرس بنفسه إمبراطورياً، وأمر مجلس الشيوخ، بعد أن أظهر بعض التردد، بأن يتخذ كركلا إلهاً. ونفيت جوليا دمنا إلى إنطاكية بعد أن حرمت في خلال ست سنين من الإمبراطوريّة، ومن زوجها، ومن أبنائها، فأضربت عن الطعام حتى ماتت.

وكان لها أخت تدعى جوليا ميزا لا تقل عنها قدرة وكفاية. فعادت جوليا الثانية إلى حمص ووجدت فيها حفيدين يبشران بمستقبل عظيم. فأما أحدهما فكان ابن ابنتها جوليا سؤامياس، وكان كاهناً شاباً من كهنة بعل، يسمى فاريوس أفيتس، وهو الذي سمي فيما بعد الجابالس أي "الإله الخالق" . أما الثاني فكان ابن جوليا ماميا ابنة ميزا، وكان غلاماً في العاشرة من عمره يدعى الكسيانس وهو الذي أصبح فيما بعد الكسندر سفيرس. ونشرت ميزا الشائعة القائلة إن فاريوس هو الابن الطبيعي لكركلا، وإن كان في واقع الأمر ابن فاريوس مرسلس، وأطلقت عليه اسم بسيانس؛ ذلك أن الإمبراطوريّة كانت أفضل عندها من سمعة ابنتها، وماذا يضيرها بعد أن مات مرسلس والد الشاب. وكان الجنود الرومان في سوريا قد ألغوا الشعائر الدينية السوريّة، وكانوا يشعرون باحترام لهذا القس الشاب الذي لا يتجاوز الرابعة عشرة من العمر تبعثه في قلوبهم عاطفة دينية قوية. يضاف إلى هذا أن ميزا أوعزت إليهم بأنهم إذا اختاروا الجابالس إمبراطوراً فإنها ستنفحهم بعطية سنية. ووثق الجند بوعدها لهم وأجابوها إلى ما طلبت، وضمت ميزا بذهبها إلى صفها الجيش الذي سيّره مكرينس لقتالها، ولما أن ظهر مكرينس نفسه على رأس قوة كبيرة، تردد مرتزقة السوريين في ولائهم، ولكن ميزا وسؤامياس قفزتا من مركبتيهما، وقادتا الجيش المتردد إلى النصر؛ لقد كان رجال سوريا نساء، وكانت نساؤها رجالاً.

ودخل الجابالس روما في خريف عام 219 مرتدياً أثواباً من الحرير الأرجواني موشّاة بالذهب الإبريز، وحذاءين مصبوغين باللون القرمزي، وكانت عيناه تشعان بريقاً مصطنعاً وكان في ذراعه اسورتان غاليتا الثمن، وفي جيده عقد من اللؤلؤ، وعلى رأسه الجميل تاج مرصع بالجواهر، وركبت إلى جواره في مركب فخم جدّته وأمه. وكان أول ما فعله حين حضر إلى مجلس الشيوخ أول مرة أن طلب إليه الموافقة على جلوس أمه إلى جانبه لتستمع إلى المناقشات. وأوتيت سؤامياس من الحكمة ما أوحى إليها بالإنسحاب، وقنعت برياسة المجلس الأصغر مجلس النساء الذي أنشأته سابينا، والذي كان يبحث المسائل المتعلقة بأثواب النساء وحليهن، وترتيبهن في الحفلات الرسمية، وآداب اللياقة وما إليها، وترك حكم الدولة للجدة ميزا.

وكان في أخلاق الإمبراطور الشاب بعض العناصر المحببة. من ذلك أنه لم ينتقم ممن أيدوا مكرينس، وأنه كان يحب الموسيقى، ويجيد الغناء، وينفخ في المزمار والبوق، ويضرب على الارغن. وإن كان أصغر من أن يحكم الإمبراطوريّة فإنه لم يطلب أكثر من أن يستمتع بها. ولم يكن معبوده بعل بل كان هذا المعبود هو الشهوة، وكان معتزماً أن يعبدها بجميع صورها في الذكور والإناث على السواء. وكان يدعو كل طبقة من الأحرار إلى زيارة قصره، وكان أحياناً يأكل معهم ويشرب ويمرح؛ ويوزع عليهم من آن إلى آن جوائز لا باقتراع تختلف من بيوت مؤثثة إلى حفنة من الذباب. وكان يحب أن يمزح مع ضيوفه: من ذلك أنه كان يجلسهم على وسائد منفوخة تتفجر من تحتهم فجأة، ويسكرهم حتى يفقدوا وعيهم حتى إذا ما استيقظوا وجدوا أنفسهم بين فهود، ودببة، وآساد أليفة غير مؤذية. ويؤكد لمبريديوس أن إلجابالس لم ينفق مرة أقل من 100.000 سسترس (10.000 ريال أمريكي) على وليمة واحدة لضيوفه، وربما بلغت نفقات إحدى الولائم 3.000.000. وكان يخلط قطع الذهب البازلا، والعقيق بالعدس، واللؤلؤ بالارز، والكهرمان بالفول. وكان يهدي الخيل والمركبات، والخصيان؛ وكثيراً ما كان يأمر كل ضيف أن يأخذ معه إلى منزله الصحفة الفضية والكؤوس التي كان يقدم له فيها الطعام والشراب. وكان يختار لنفسه أحسن كل شيء. فكان الماء الذي في أحواض سباحته يعطر بروح الورد، وكانت المشاجب التي في حمّاماته من العقيق أو الذهب الخالص، وكان طعامه من أندر المأكولات وأغلاها ثمناً، وأثوابه مرصعة بالجواهر من تاجه إلى حذاءيه؛ وتقول الشائعات إنه لم يلبس قط خاتماً مرتين. وكان إذا سافر احتاج إلى 600 مركبة يحمل فيها متاعه وقواديه. ولما قال له عراف إنه سيموت ميتة عنيفة، أعد وسائل غالية للانتحار يستخدمها إذا لزم الأمر: منها حبال من الحرير الأرجواني، وأسياف من الذهب، وسموم في قنينات من الياقوت الأزرق أو الزمرّد. غير أنه اغتيل في مرحاض.

وأكبر الظن أن أعداءه من أعضاء مجلس الشيوخ ومَن في طبقتهم قد اخترعوا أو بالغوا في بعض هذه القصص؛ وما من شك في أن القصص الخاصة بشذوذه الجنسي مما لا يصدقه العقل. وسواء كانت صحيحة أو كاذبة فإنه كان يعطر شهراته بتقواه، ويعمل على أن ينشر بين الرومان عبادة إلهه السوري بعل. يضاف إلى هذا أنه إختتن وفكر في أن يخصي نفسه تكريماً لإلهه؛ وأحضر من حمص الحجر الأسود المقدس وأخذ يعبده بوصفه رمزاً لإلجابال، وشاد هيكلاً مزخرفاً ليضعه فيه، وحمل إليه الحجر مغلفاً بالجواهر في عربة تجرها ستة جياد بيض، ومشى الإمبراطور أمامها متجهاً بوجهه نحوها وهو صامت إجلالاً لهذا الحجر. ولم يكن يجد ما يمنعه أن يعترف بجميع الأديان الأخرى، فكان يبسط حمايته على اليهودية، وعرض أن يجعل المسيحية ديناً مشروعاً، وكل ما كان يصر عليه في إخلاص يدعو إلى الإعجاب هو أن يكون حجره أعظم الآلهة.

وكانت أمه منهمكة في علتها تنظر إلى هذه المهزلة الدينية نظرة المتسامح الذي لا يعنيه من أمرها شيء، ولكن جوليا ميزا صممت، حين عجزت عن وقفها، على أن تتعجل تلك الكارثة التي ستقضي على هذه الأسرة العجيبة من النساء السوريات. ولهذا أقنعت إلجابالس بأن يتبنى الاسكندر ابن عمه ويوصي به قيصراً وخليفة له، وأخذت هي ومامائيا تدربان الغلام على واجبات منصبه، وسلكتا كل السبل التي تجعل مجلس الشيوخ والشعب ينظران إليه على أنه خير بديل للقس المأفون الذي أساء إلى روما - لا بإسرافه أو فحشه - بل بإخضاعه جوبتر إلى بعل السوري. وكشفت سؤامياس المؤامرة وأثارت الحرس البريتوري على أختها وابن أختها. لكن ميزا ومامائيا كانتا أقوى منها حجة إذا بسطتا أيديهما للحرس بالمال الوفير، فقتل رجال الحرس إلجابالس وأمه، وجروا جثته في شوارع المدينة وحول ساحة الألعاب، وألقوها في نهر التيبر، ثم نادوا بالاسكندر إمبراطوراً ووافق مجلس الشيوخ على هذه البيعة.

وجلس ماركس أورليوس سفيرس الكسندر على العرش، كما جلس عليه سلفه، في الرابعة عشرة من عمره. وكانت أمه قد عنيت عناية منقطعة النظير بتدريب جسمه، وعقله، وخلقه. وزاد هو شهرته بالجد ورياضة الجسم، فكان يسبح في بركة من الماء البارد ساعة في كل يوم، ويشرب نحو نصف لتر من الماء قبل كل وجبة، ويقتصد في الطعام، ولا يأكل إلا ابسط الأطعمة. ونشأ غلاماً وسيماً، طويل القامة، قوي الجسم، ماهراً في جميع أنواع الألعاب وفنون الحرب، ودرس الآداب اليونانية واللاتينية، ولم يقلل من حبه لهما وانهماكه فيهما إلا إصرار مامائيا، إذ تلت عليه أشعار فرجيل التي تهيب بالرومان أن يدعوا جمال الثقافة لغيرهم من الأجناس، ويعدوا أنفسهم لإقامة دولة عالمية وحكمها في سلام. وكان بارعاً "ممتازاً" في التصوير والغناء، يعزف على الأرغن والقيثارة، ولكنه لم يكن يسمح لغير أهل بيته بمشاهدة هذه الأعمال. وكان بسيطاً متواضعاً في ملبسه وأخلاقه "معتدلاً في استمتاعه بالحب، ولم تكن له قط صلة بالمخنثين". وأظهر احتراماً عظيماً لمجلس الشيوخ، فكان يعامل أعضاءه كأنهم أكفاء له، ويستضيفهم في قصره، وكثيراً ما كان يزورهم في منازلهم وكان رحيماً، دمث الأخلاق، يعود المرضى أياً كان منزلتهم؛ ولم يسفك قط دماء مدني في الأربعة عشر عاماً التي قضاها في الحكم. وعابت عليه أمه لينه وقالت له: "لقد أسرفت في لين الحكم، وفي الإقلال من سلطان الإمبراطوريّة". فأجابها بقوله: "نعم، ولكنني جعلتها أبقى أمداً وأقوى دعامة". لقد كان رجلاً من ذهب مصفى، غير مشوب بزغل يقويه على احتمال صعاب هذا العالم.

وأدرك السخف الذي تنطوي عليه جهود سلفه والتي كانت تهدف إلى استبدال إلجابال بجوبتر، وتعاون مع والدته في إعادة الهياكل والشعائر الرومانية إلى سابق عهدها؛ ولكن عقله الفلسفي هداه إلى أن يرى أن الأديان جميعها أساليب مختلفة لعبادة قوة واحدة عليا، ولهذا أراد أن يعظّم جميع الأديان التي تدعوا إلى الخير، ووضع في معبده الخاص الذي كان يتعبد فيه كل صباح صوراً لجوبتر وأرفيوس، وأبلونيوس التيانائي، وابراهيم، والمسيح. وكثيراً ما كان يكرر النصيحة اليهودية - المسيحية القائلة: "لا تعامل غيرك بما لا تحب أن يعاملك به الناس"، وأمر بنقشها على جدران قصره وعلى كثير من جدران المباني العامة. وكان يوصي شعبه بالتخلّق بأخلاق اليهود والمسيحيين. ولكن الذين لم يتأثروا به من أهل إنطاكية والإسكندرية الفكهين كانوا يلقبونه "رئيس الكنيس" وكانت أمه تفضل المسيحيين على غيرهم، وقد بسطت حمايتها على أرجن، واستدعته ليفسر للناس أصول دينه المرن.

وإذا كانت جوليا ميزا قد توفيت بعد قليل من اعتلاء الإسكندر العرش، فقد كانت مامائيا وكان ألبيان معلّم الاسكندر هما اللذان يرسمان خططه السياسية، وإصلاحاته الإدارية. ومن أعمالهما أنهما اختارا ستة عشر من أعضاء مجلس الشيوخ البارزين وألفا منهم مجلساً إمبراطورياً وقررا ألا يُنفَّذ عمل من الأعمال الكبرى إلا إذا وافق عليه. ولما أن تزوج الاسكندر وأظهر تحيزاً ظاهراً لزوجته بسبب حبه لها أمرت مامائيا بنفيها ولم يرَ الاسكندر بداً من الاستسلام لوالدته. ولما كبر زاد نصيبه في إدارة شئون الدولة فكان "يعنى بالشئون العامة قبل مطلع الفجر"، كما يقول كاتب سيرته القديم، "ويوالي النظر في هذه الشئون زمناً طويلاً، دون ملل أو غضب، بل يبقى على الدوام مرحاً هادئاً راضياً".

وكانت خطته الأساسية تهدف إلى إضعاف سيطرة الجيش المؤدية إلى انحلال الدولة، وذلك بإعادة هيبة مجلس الشيوخ والأشراف؛ فقد كان يبدو له أن حكم الأشراف ذوي الأصول السامية هو البديل الوحيد من حكم المال، أو الخرافات، أو السيف؛ وقد استطاع بمعونة مجلس الشيوخ أن ينفّذ مئات الخطط التي أدت إلى اقتصاد كبير في نفقات الإدارة، ففصل عدداً كبيراً من الموظفين الزائدين على الحاجة في قصره، وفي المناصب الحكومية، وفي الولايات، وباع معظم ما كان في خزائن الإمبراطور من جواهر، أودع ثمنها في بيت المال.

وأصدر قرارات اعترف فيها بهيئات العمال والتجار، وشجعها وأعاد تنظيمها، وأجاز لهذه الهيئات أن تختار محامين عنها من بين أعضائها. ولعل مجلس الشيوخ كان أقل رضاءً عن هذا العمل منه عن أعماله الأخرى، وقد فرض رقابة شديدة على الأخلاق العامة فأمر بالقبض على العاهرات ونفى ذوي الميول الجنسية الشاذة. ومع أنه خفّض الضرائب فقد أعاد بناء الكلوسيوم وحمّامات كركلا، وشاد مكتبة عامة وقناة ماء طولها أربعة عشر ميلاً، وحمّامات للبلدية جديدة، وبذل المال بسخاء لإنشاء الحمّامات وقنوات الماء والطرق في جميع أنحاء الإمبراطوريّة، وعمل على تخفيض فائدة الديون التي كانت ترهق المدينين فأقرض المال من خزانة الدولة بفائدة أربعة في المائة، وأعطى الفقراء المال من غير فائدة ليشتروا به أرضاً زراعية. وكانت نتيجة هذه الأعمال أن عمّ الرخاء جميع أجزاء الإمبراطوريّة، وأن قدرت له وأثنت عليه، وأن خيل إلى جميع الناس أن أورليوس التقي العظيم قد عاد إلى الأرض وإلى السلطان.

ولكن الفرس والألمان اغتنموا فرصة وجود هذا الإمبراطور القدّيس على العرش، كما اغتنموا فرصة وجود سميه الإمبراطور الفيلسوف، فغزا أردشير رأس الأسرة الساسانية في فارس بلاد النهرين في عام 320 وهدد سوريا. وبعث إليه الاسكندر برسالة فلسفية يلومه فيها على عنفه ويقول له إنه "يجب على كل إنسان أن يقنع بما لديه من أملاك". واستنتج أردشير من هذه الرسالة أنه ضعيف خوار العود فرد عليه بأن طلب سوريا وآسية الصغرى، فما كان من الإمبراطور الشاب إلا أن امتشق الحسام ونزل إلى الميدان مصحوباً بوالدته، وخاض غمار موقعة غير فاصلة أظهر فيها من البسالة أكثر مما أظهر من الدهاء. ولا يذكر التاريخ إلا النزر اليسير عن انتصاراته وهزائمه، ولكن الحرب أسفرت عن انسحاب أردشير من بلاد النهرين، ولعله انسحب ليرد هجوماً وقع على حدوده الشرقية، وتصوّر النقود الرومانية الاسكندر متوجاً بأكاليل الظفر ومن تحت قدميه نهرا دجلة والفرات.

ورأت قبائل الألمان والمركمان أن حاميات الرين والدانوب قد سحبت لإمداد فيالق سوريا فاقتحمت الطرق الرومانية المحصنة وعاثت فساداً في بلاد غالة الشرقية، ولكن الاسكندر جاء إليها مع ماميا بعد الفراغ من احتفاله بالنصر على الفرس، وانظم إلى جيشه، وسار على رأسه إلى مينز. وعمل بنصيحة والدته فأخذ يفاوض العدو ويعرض عليه مبلغاً من المال سنوياً نظير احتفاظه بالسلم. ولكن جنوده رأوا في هذا العمل ضعفاً واستسلاماً فتمردوا عليه، ولم يكونوا قد غفروا له شحه، وتشدده في حفظ النظام، وإخضاعهم لمجلس الشيوخ ولحكم امرأة، ونادوا بيوليوس مكسمينس قائد فيالق بانونيا إمبراطوراً. واقتحم جنود مكسينس خيمة الاسكندر، وقتلوه هو وأمه وأصدقاءه.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انتشار الفوضى

لم يكن من نزوات التاريخ أن أصبح الجيش صاحب السلطة العليا في القرن الثالث، بل كان هذا أمراً طبيعياً. ذلك أن عوامل داخلية أضعفت الدولة وتركتها معرضة للغزو من جميع الجهات، وكان وقف التوسع بعد أيام تراجان ثم بعد أيام سبتوميوس، إيذاناً ببدء الهجوم عليها، فأخذ البرابرة يفتحون بلادها باتحادهم على غزوها، كما كانت روما تفتح بلادهم لتفريقهم. وزادت ضرورة الدفاع من قوة الجيش ورفعت مكانة الجندية، وجلس القواد على العرش محل الفلاسفة، وخضع آخر حكم الأشراف لعودة حكم القوة.

وكان مكسمينس جندياً طيباً لا أكثر، وكان ابن فلاح تراقي. ونشأ صحيح الجسم قوي البنية، ويؤكد المؤرخون أن طول قامته كان يبلغ ثماني أقدام، وأن إبهامه كانت من الغلظة بحيث كان يلبس فيها اسورة زوجته كما كان يلبس الخاتم. ولم ينل شيئاً من التعليم. وكان يحتقر المعلمين ويحسدهم في وقت واحد، ولم يزر روما مرة واحدة في الثلاث السنين التي تولى فيها الملك بل كان يفضل حياة معسكره على الدانوب أو الرين. وقد اضطرته حاجته إلى المال لينفق منه في حروبه وفي استرضاء جنوده إلى فرض ضرائب فادحة على الأغنياء أغضبتهم فلم يلبثوا أن ثاروا على حكمه، وقبل جرديانس حاكم أفريقية الثري المتعلم ترشيح جيشه له إمبراطوراً منافساً لمكسمينس. وإذا كان وقتئذ في الثمانين من عمره فقد أشرك معه ولده في هذا المنصب المهلك. وعجزا جميعاً عن الوقوف في وجه القوى التي سيرها عليهما مكسمينس وقتل الابن في ميدان القتال أما الأب فقتل نفسه، وثأر مكسمينس لنفسه بأن حكم على عدد كبير من الأشراف بالقتل والنفي، ومصادرة أملاكهم حتى كاد يقضي على هذه الطبقة. وفي ذلك يقول هروديان "وكان في وسع الإنسان أن يرى في كل يوم أغنى الأغنياء بالأمس يصبح متسولاً". وقاومه مجلس الشيوخ الذي أعاد سفيرس تكوينه وقواه أشد المقاومة، فأعلن أن مكسمينس خارج على القانون، واختار اثنين من أعضائه هما مكسمس وبلبينس إمبراطورين. وسار مكسمس على رأس جيش هزيل لملاقاة مكسميس، فانحدر هذا من جبال الألب وحاصر أكويليا. وكان مكسميس أفضل القائدين، وكانت لديه أكبر القوتين؛ ولاح أن مجلس الشيوخ وطبقات الملاّك سيلقيان مصيرهما المحتوم، ولكن جماعة من جنود مكسيمس الذين كانوا حانقين عليه لأنه وقع عليهم عقاباً وحشياً قتلوه غيلة في خيمته. وعام مكسمس ظافراً إلى روما حيث اغتاله الحرس البريتوري هو وبلبينس، واختار جرويانس الثالث إمبراطوراً وأيد مجلس الشيوخ هذا الاختيار.

ولسنا نريد أن نذكر بالتفصيل الممل أسماء الأباطرة الذين جلسوا على العرش في هذا العصر الدموي الذي سادته الفوضى، ولا أن نذكر وقائعهم الحربية وقتلهم ومماتهم. وحسبنا أن نقول إن سبعة وثلاثين رجلاً نودي بهم أباطرة في الخمسة والثلاثين عاماً الواقعة بين حكم الاسكندر سفيرس وأورليان. وقتل جرديان الثالث جنوده وهو يحارب الفرس، وهزم ديسيوس فليب العربي الذي خلفه على العرش وقتله في فرونا، وكان فليب هذا رجلاً من أهل إلبريا، وكان ثرياً مثقفاً مخلصاً لروما إخلاصاً خلقياً بالشرف الذي ناله في القصص القديم، وقد وضع فليب هذا في أثناء فترات السلم التي تخللت حرب القوط برنامجاً واسعاً ليعيد به إلى روما دينها وأخلاقها، وعاداتها الصالحة، وأصدر أوامره بالقضاء على المسيحية. ثم عاد إلى نهر الدانوب، والتقى بالقوط، وشهد بعينه مقتل ابنه إلى جانبه، وأعلن في جيشه الهياب المتردد أن خسارة فرد من الأفراد لا قيمة لها البتة، وهاجم جيش العدو وقتل هو في هزيمة من أقسى الهزائم التي أصابت الرومان في تاريخهم كله. وخلفه جالس الذي قتله جنوده، وجاء بعدهما إيمليانس وقد قتله هو الآخر جنوده في العام نفسه.

وكان ڤليريان الإمبراطور الجديد في سن الستين، ولما جلس على العرش اضطر لملاقات الفرنجة، والألمان، والمركمان، والقوط، والسكوذيين، والفرس في وقت واحد ولهذا عين إبنه جلينس حاكماً على الإمبراطوريّة الغربية، واحتفظ لنفسه بالشرق، وزحف بجيش على أرض النهرين ولكن كبر سنه أعجزه عن القيام بهذا الواجب الذي يحتاج إلى قوة أعظم من قوته فلم يلبث أن ناء به. وكان جلينس وقتئذ في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان شجاعاً، ذكياً، مثقفاً ثقافة لا تكاد تتفق مع أحوال ذلك القرن المليء بالحروب الوحشية. وقد أصلح دولاب الإدارة المدنية في الغرب، وقاد جيشه من نصر إلى نصر على أعداء الإمبراطوريّة عدواً بعد عدو، ووجد مع ذلك متسعاً من الوقت يأخذ فيه بناصر الفلسفة والآداب، وأحيا الفن القديم إحياء لم يدم طويلاً، ولكن عبقريته المتعددة الجوانب لم تقوَ على مغالبة الشرور التي تجمعت في ذلك الوقت.

ففي عام 254 أغار المركمان على بنونية وشمالي إيطاليا، وفي عام 255 غزا القوط مقدونية ودلماشيا، وهاجم الكوذيون والقوط آسية الصغرى، وأغار الفرس على سوريا. وفي عام 257 استولى القوط على مملكة بسبورس، ونهبوا المُدن اليونانية الواقعة على شواطئ البحر الأسود، وحرقوا طرابزون، وساقوا أهلها عبيداً وإماء، وأغاروا على بنطس. وفي عام 258 استولوا على خلدقون، ونقوميميا. وبروصه، وأياميا، ونيقية، واستولى الفرس في العام نفسه على أرمينية، ونادى بستيوس بنفسه حاكماً مستقلاً على گالة. وفي عام 259 أغار الألمان على إيطاليا، ولكن جالينس هزمهم عند ميلان. وفي عام 260 هزم الفرس فليريان عند الرها ومات أسيراً في زمان ومكان غير معروفين إلى اليوم. وتقدم شابور الأول وفرسانه الخفاف الكثيرين مخترقين سوريا إلى إنطاكية، وباغتوا أهلها وهم يشهدون الألعاب، ونهبوا المدينة، وقتلوا آلافاً من أهلها، وساقوا آلافاً آخرين عبيداً، واستولوا على طرسوس وخربوها، وعاثوا فساداً في قيليقية وكبدوكية، وعاد شابور إلى بلاد الفرس مثقلاً بالغنائم. وحلت بروما في مدى عشر سنين ثلاث مآس أذلتها وجللتها العار: ذلك أن إمبراطوراً رومانياً آخر لأول مرة صريعاً مهزوماً في ميدان القتال، وأسر العدو إمبراطوراً آخر وضحى بوحدة الإمبراطوريّة استجابة لضرورة ملاقاة الأعداء الذين أغاروا عليها من جميع الجهات. وضعضعت هذه الضربات وما صحبها من رفع الجنود الأباطرة على العرش واغتيالهم، أركان الإمبراطوريّة، وقضت على هيبتها، وفقدت هذه القوى النفسية التي أنزلها الزمان منزلة القداسة وخلع عليها سلطاناً يألفه الناس ولا يسألون عن مبارراته، تقول فقدت هذه القوى سيطرتها على أعداء روما بل فقدتها أيضاً على رعاياها ومواطنيها، فاندلع لهيب الثورة في كل مكان: ففي صقلية وغالة ثار الفلاحون الذين طال عليهم أمد الظلم ثورات عنيفة، وفي بنونيا نادى إنجينس بنفسه حاكماً مستقلاً على الولايات الشرقية. وفي عام 263 سار القوط بحراً بازاء سواحل أيونيا، ونهبوا إفسوس، وأحرقوا هيكل أرتميس الفخم، وساد الإرهاب جميع بلاد الشرق الهلنستي.

ولكن الإمبراطوريّة في آسية نجحت على يدي حليف غير متوقع. ذلك أن أوناثس، الذي كان يحكم تدمر خاضعاً لسلطان روما طرد الفرس من أرض الجزسرة، وهزمهم في طشقونة، ونادى بنفسه ملكاً على سوريا وقليقلة، وبلاد العرب، وكبدوكية، وأرمينية. ثم اغتيل في عام 266، وورث ابن له شاب ألقابه، وورثت أرملته سلطانه.

وقد جمعت زنوبيا، كما جمعت كليوبطرة التي تدعي هي أنها من نسلها، إلى جمال الخلق، براعة في الحكم، وكثيراً من أسباب ثقافة العقل. وقد درست آداب اليونان وفلسفتهم، وتعلمت اللغات اليونانية، والمصرية، والسريانية، وكتبت تاريخاً لبلاد الشرق. ويلوح أنها جمعت بين العفة والقوة والنشاط، فلم تبح لنفسها من العلاقات الجنسية إلا ما يتطلبه واجب الأمومة. وعودت نفسها تحمل التعب والمشاق، وكانت تستمتع بأخطار الصيد، وتسير على قدميها أميالاً طوالاً على رأس جيشها. وجمعت في حكمها بين الحكمة والصرامة، وعينت الفيلسوف لنجيبس رئيساً لوزرائها، وأحاطت نفسها في بلاطها بالعلماء والشعراء والفنانين، وجملت عاصمة ملكها بالقصور اليونانية - الرومانية - الأسيوية التي يدهش لها عابر الصحراء في هذه الأيام.

وأحست أن الإمبراطوريّة تتقطع أوصالها، فاعتزمت إقامة أسرة حاكمة ودولة جديدتين، وأخضعت لسلطانها كبدوكية، وغلطية، والجزء الأكبر من بيثينيا، وأنشأت جيشاً عظيماً وعمارة بحرية ضخمة، فتحت بهما مصر واستولت على الإسكندرية بعد حصار هلك في نصف سكانها. وتظاهرت "ملكة الشرق الداهية" أنها تعمل نائبة عن الدولة الرومانية، ولكن العالم كله كان يدرك أن انتصاراتها لم تكن إلا فصلاً من مسرحية واسعة النطاق هي مسرحية انهيار روما.

وعرف البرابرة ثروة الإمبراطوريّة وضعفها، فتدفقوا على بلاد البلقان واليونان. وبينما كان السرماتيون يعيثون فساداً من جديد في المُدن القائدة على شواطئ البحر الأسود، وكان فرع من فروع القوط يسير في خمسمائة سفينة مخترقاً مضيق الهلسبنت إلى بحر إيجة، ويستولي على جزائره جزيرة في إثر جزيرة، ويرسو في ميناء بيريه، وينهب أثينة، وأرجوس، وإسبارطة وكورنثة، وطيبة. وبينما كان اسطولهم يعيد بعض المغيرين إلى البحر الأسود، كانت جماعة أخرى منهم تشق طريقها براً نحو موطنها على نهر الدانوب. والتقى بهم جالينس على نهر نستس في تراقية، وانتصر عليهم في معركة فيها كثيراً، ولكن جنوده اغتالوه بعد سنة واحدة من هذا النصر. وانقضت جموع أخرى من القوط في عام 269 على مقدونة وحاصرت تسالونيكي، ونهبت بلاد اليونان، ورودس، وقبرص، وشواطئ أيونيا. وأنقذ الإمبراطور كلوديوس الثاني تسالونيكي، وطرد القوط إلى أعالي وادي الواردار، وهزمهم عند نايسس (وهي نيش الحديثة) هزيمة منكرة قتل فيها منهم مقتلة كبيرة. ولو أنه خسر هذه المعركة لما وقف جيش بين القوط وإيطاليا.

التدهور الاقتصادي

لقد عجلت الفوضى السياسية تدهور الإمبراطورية الإقتصادي، كما عجلت التدهور الاقتصادي انحلال البلاد السياسي، فكان كلاهما سبباً للآخر ونتيجة له. وكان سبب الضعف الاقتصادي أن ساسة الرومان لم يقيموا قط في إيطاليا حياة اقتصادية سليمة، ولعل سهول شبه الجزيرة الضيقة لم تكن في يوم من الأيام أساساً قوياً تبنى عليه آمال الدولة الإيطاليّة العالية. وكان يقلل من إنتاج الحبوب منافسة الحبوب الرخيصة الواردة من صقلية، وأفريقية، ومصر، كما أن الكروم العظيمة أخذت تفقد أسواقها التي استولت عليها كروم الأقاليم. وشرع الفلاحون يشكون من أن الضرائب الفادحة تستنفذ مكاسبهم المزعزعة ولا تترك لهم من المال ما يحفظون به قنوات الري والصرف صالحة، فانطمرت القنوات، وانتشرت المستنقعات، وأنهكت الملاريا سكان كمبانيا وروما. ويضاف إلى هذا أن مساحات واسعة من الأرض الخصبة قد حولت من الزراعة إلى مساكن للأثرياء أصحاب الضياع الواسعة، وكان أصحاب هذه الضياع البعيدون عنها يستغلون العمال والأرض إلى أقصى حدود الاستغلال، ويبررون عملهم هذا بمشروعاتهم الإنسانية في المُدن. وازدهرت العمائر الفخمة والألعاب الرياضية في المدائن في الوقت الذي أقفر فيه الريف، ومن أجل ذلك هجر كثيرون من ملاك الأراضي وعمال الريف الأحرار المزارع إلى المُدن وتركوا الجزء الأكبر من الأراضي الزراعية الإيطاليّة ضياعاً واسعة يقوم بالعمل فيها أرقاء كسالى مهملون. ولكن هذه الضياع نفسها قضت عليها السلم الرومانية ونقص عدد حروب الفتح في القرنين الأول والثاني، وما نشأ عن ذلك من قلة الإنتاج، وارتفاع النفقات، وكثرة الأرقاء.

وأراد كبار الملاّك أن يغروا العمال الأحرار بالعودة إلى الأعمال الزراعية، فقسموا أملاكهم وحدات أجروها إلى "الزراع"، يتقاضون منهم أجوراً نقدية منخفضة أو عشر المحصول، وجزءاً من الوقت يقضونه في العمل من غير أجر في بيت الملك الريفي أو في أرضه الخاصة. وقد وجد الملاّك في كثير من الأحيان أن من مصلحتهم أن يعتقوا العبيد ويجعلوهم زراعاً من هذا النوع، وأخذ هؤلاء الملوك في القرن الثالث يزدادون رغبة في سكنى بيوتهم الريفية يدفعهم إلى هذا أخطار الغزو الأجنبي والثورات الداخلية في المُدن، وحصّنوا بيوتهم فاستحالت قلاعاً منيعة أصبحت بالتدريج قصور العصور الوسطى.

وقوى نقص الأرقاء إلى وقت ما مركز العمال الأحرار في الصناعة وفي الزراعة على السواء. ولكن فقر الفقراء لم ينقص على حين أن موارد الأغنياء التهمتها الحروب ومطالب الحكومة. وكانت الأجور وقتئذ تتراوح بين 6 و 11 في المائة من نظائرها في الولايات المتحدة الأمريكية أوائل القرن العشرين، وكانت الأثمان نحو ثلاثين في المائة من أثمان الولايات المتحدة في ذلك الوقت. وكانت حرب الطبقات آخذة في الاشتداد لأن الجيش المجند من فقراء الأقاليم كثيراً ما كان ينظم إلى مَن يهجمون أصحاب الثروة وكان يشعر بأن ما يؤديه للدولة من خدمات يبرر ما تفرضه عليهم ضرائب تبلغ حد مصادرة أموالهم لتعطي منها هبات لهم. أو أن تنهب أ موال الأغنياء نهباً سافراً. وتأثرت الصناعة بكساد التجارة ونقصت تجارة الصادر الإيطاليّة حين انتقلت الولايات من عميلات لإيطاليا إلى منافسات لها؛ وجعلت الغارات والقراصنة لطرق التجارة غير مأمونة كما كانت قبل عهد بمبي، وكان انخفاض قيمة العملة وتقلب الأثمان من العوامل غير المشجعة للمشروعات الطويلة الأجل. ولما أصبحت إيطاليا عاجزة عن توسيع حدود الإمبراطوريّة، لم يعد في مقدورها أن تزدهر بأن تمد بالسلع دولة آخذة في الاتساع، أو أن تستغل موارد هذه الدولة. وكانت فيما مضى من الأيام تجمع سبائك الذهب والفضة من البلاد المفتوحة، وتملأ خزائنها بما تنهبه من أموال هذه البلاد؛ أما في الوقت الذي نتحدث عنه فإن النقود كانت تهاجر الولايات الهلنستية الأكثر تصنيعاً من إيطاليا، وأخذت هي تزداد على مر الأيام فقراً، في الوقت الذي كانت فيه ثروة آسية الصغرى المطردة الزيادة تحتم أن تستبدل بروما عاصمة شرقية للإمبراطوريّة. واقتصرت المصنوعات الإيطالية على الأسواق المحلية، ووجد الأهلين أفقر من أن يبتاعوا السلع التي كان في وسعهم أن ينتجوها. يضاف إلى هذا أن التجارة الداخلية كان يقف في سبيلها قطاع الطرق، والضرائب المتزايدة، وتلف الطرق لقلة العبيد وأضحت بيوت الأثرياء في الريف تنتج حاجتها من السلع وتكفي نفسها بنفسها، وحلت المقايضة في التجارة محل النقود، كما حلت الحوانيت الصغيرة عاماً بعد عام محل الإنتاج الكبير وكانت تسد حاجة الإنتاج المحلي بنوع خاص.

وزاد الطين بلة كثرة الصعاب المالية، وذلك بأن المعادن الثمينة أخذت تقل شيئاً فشيئاً لأن مناجم الذهب في تراقية ومناجم الفضة في آسية تناقص إنتاجها وكانت داشيا وما فيها من الذهب توشك أن تخرج من يد أورليان. وكانت الفنون والحلي تستنفذ كثيراً من الذهب والفضة. وواجه الأباطرة من سبتيموس سفيرس ومَن جاءوا بعده هذا النقص الشديد في الوقت الذي كانت فيه الحروب لا تخبو نارها أبداً، فلجئوا أكثر من مرة إلى إنقاص نسبة ما في النقود من ذهب أو فضة لكي يستطيعوا القيام بنفقات الدولة أو حاجات الحروب. فقد كان ما في الدينار من معدن خسيس أيام نيرون عشرة في المائة، وبلغ في عهد كمودس ثلاثين، وفي عهد سبتميوس خمسين، واستبدل به كركلا الأنطوننيانس المحتوي على خمسين في المائة من وزنه فضة؛ وقبل أن يحل عام 260 نقصت نسبة ما فيه من فضة إلى خمسة في المائة.

وأصدرت دور السك الحكومية كميات لم يسبق لها مثيل من العملة الرخيصة، وكثيراً ما كانت الدولة ترغم الناس على أن يقبلوا هذه النقود بقيمتها الاسمية، بدل قيمتها الحقيقية، وكانت في الوقت نفسه تأمر بأن تؤدى الضرائب ذهباً أو عيناً. وأخذت الأثمان ترتفع ارتفاعاً سريعاً، فزادت في فلسطين إلى ألف في المائة من القرن الأول إلى القرن الثالث. وفي مصر لم يعد في مقدور الحكومة وقف تيار التضخم، حتى صار مكيال القمح الذي كان يباع بثمان درخمات في القرن الأول يباع بمائة وعشرين ألف درخمة في أواخر القرن الثالث. ولم تصل الحال في الولايات الأخرى مثل هذا الحد، ولكن التضخم في عدد كبير منها خرب بيوت الكثيرين من أهل الطبقة الوسطى وأضاع أموال المواثقات والمؤسسات الخيرية وزعزع قواعد جميع الأعمال المالية، فأحجم الناس عنها، وأضاع جزءاً كبيراً من رؤوس الأموال المستخدمة في التجارة والاستثمار والتي تعتمد عليها حياة الإمبراطوريّة.

ولم يكن الأباطرة الذين جاءوا بعد برتناكس ليسوءهم انعدام طبقة الأشراف وطبقة الملاّك الوسطى على هذا النحو. ذلك بأنهم كانوا يشعرون بحقد طبقة أعضاء مجلس الشيوخ وكبار التجار عليهم بسبب أصلهم الأجنبي، واستبدادهم العسكري، واغتصابهم أموالهم. ولذلك تجددت الحرب بين مجلس الشيوخ والأباطرة وكانت قد خبت نارها من عهد نيرون إلى عهد أورليوس؛ وأقام الأباطرة سلطانهم قاصدين متعمدين على ولاء الجيش، وصعاليك المُدن، والفلاحين يشترونه بالهبات والأعمال العامة وتوزيع الحبوب عليهم من غير ثمن.

وعانت الإمبراطوريّة من البلاء مثلما عانته إيطاليا وإن نقص عنه بعض الشيء. نعم إن قرطاجنة وشمالي أفريقية البعيدين عن الغزاة، قد ازدهرتا، ولكن مصر اضمحلت بسبب ما حل بها من الخراب الناشئ من تنازع الأحزاب، ومن مذابح كركلا، ومن غزو زنوبيا، ومن فدح الضرائب، ومن السخرة والتراخي في العمل، وما كانت تبتزه روما من الحبوب في كل عام. وكانت آسية الصغرى وسوريا قد قاستا الأمرّين من الغزو والنهب، ولكن صناعاتهما القديمة التي تعودت الصبر على الشدائد لم تقضِ عليها هذه الاضطرابات. وكانت بلاد اليونان، وتراقية، ومقدونية، قد خربها البرابرة، ولم تكن بيزنيطية قد أفاقت من حصار سبتميوس. ولما جاءت الحرب بالحاميات الرومانية وبالمؤن إلى حدود القبائل الألمانية، قامت مدائن جديدة على شواطئ الأنهار - ويانة، وكارلزبرج، وستراسبرج ومينز. وكانت غالة قد اضطرب فيها النظام، وفترت همة أهلها بسبب غزو الألمان لها. ذلك بأنهم نهبوا ستين مدينة من مُدنها، وأخذت الكثرة الغالبة من المُدن والبلدان الأخرى تنكمش داخل أسوارها الجديدة، وتتخلى عن طراز الشوارع العريضة المستقيمة الرومانية التخطيط والطراز، لتحل محلها الأزقة الضيقة غير المستقيمة التي يسهل الدفاع عنها والتي كانت من مميزات العهود القديمة والعصور الوسطى. وحتى في بريطانيا نفسها، كانت رقعة المُدن آخذة في النقصان وكانت بيوت الريف آخذة في الاتساع؛ ذلك بأن حروب الطبقات والضرائب الفادحة بددت الثروة أو اضطرتها إلى الاختفاء في الريف. وقصارى القول أن الإمبراطوريّة بدأت بسكنى المُدن وبالتحضير، وها هي ذي تختتم حياتها بالعودة إلى الريف وبالهمجية.

انتشار المسيحية

يمكن القول بوجه عام أن الضعف الثقافي سار في إثر الضعف الاقتصادي والسياسي، ولكن حدث في هذه السنين البائسة أن نشأ علم الجبر ذو الرموز، وبرزت أعظم الأسماء في فقه القانون الروماني، وأروع نماذج النقد الأدبي القديم، وطائفة من أفخم المباني الرومانية، وأقدم قصص الحب، وأعظم الفلاسفة الصوفيين.

ويلخص الديوان اليوناني سيرة ديوفانتس الإسكندري تلخيصاً جبرياً فكهاً فيقول إن حداثته دامت سدس حياته، وإن لحيته نبتت بعد أن انقضى من عمره بعد سن الحداثة، وانه تزوج بعد أن مضى آخر من حياته، وإنه رزق بولده بعد خمس سنين أخرى، وإن هذا الولد عاش حتى بلغت سنه نصف سن أبيه، وإن الوالد مات بعد أربع سنين من موت الولد - أي إنه مات في سن الرابعة والثمانين، وأشهر ما بقي من مؤلفاته حتى الآن هو كتابه "الارثماطيقي" (الحساب) - وهو رسالة في الجبر. وفيه حل لمعادلات الدرجة الأولى، والمعادلات التي تؤدي إلى معرفة المجهول، والمعادلات التي لا يكن منها وحدها معرفة المجهول حتى الدرجة السادسة. وقد استخدم حرف سجما اليوناني للدلالة على الكمية المجهولة التي نرمز لها نحن بحرف سين (وفي الانجليزية بحرف X)، وسمى هذه العلامة أرثمس (أي العدد)، واستعمل حروف الهجاء اليونانية للدلالة على الأسس. وكان جبر من نوع ما معرفاً قبل أيامه: فقد اقترح أفلاطون لتدريب عقول الشبان وتسليتهم مسائل متنوعة كتوزيع تفاحة بنسب معينة على عدد من الأشخاص؛ وأذاع أرخميدس ألغازاً من هذا النوع في القرن الثالث قبل الميلاد، وكان المصريّون واليونانيون يحلون بعض المسائل الهندسية بالطرق الجبرية دون الالتجاء إلى رموز علم الجبر. وأكبر الظن أن ديوفانتس لم يفعل أكثر من تنظيم طرق كان يعرفها معاصروه، وإن مصادفات الزمن هي التي أبقت على أعماله؛ وفي استطاعتنا أن نرجع إليه عن طريق العرب تلك الطريقة الجريئة الغامضة التي تهدف إلى صياغة جميع النسب الكمية في العالم كله في قانون واحد.

وعلا نجم بابنيان، وبولس وألبيان، أعظم الأسماء الثلاثة في القانون الروماني في عهد سبتميوس سفيرس، وكانوا كلهم رؤساء الحرس البريتوري وكانوا بحكم منصبهم هذا رؤساء الوزارة في الدولة؛ وكانوا كلهم يبررون قيام الحكم المطلق بحجة أن الشعب قد عهد لحقوقه في السيادة إلى الإمبراطور، ويمتاز كتابا بانيان الأسئلة والأجوبة بوضوحهما، وإنسانيتهما وعدالتهما إلى حد جعل جستنيان يعتمد عليها في كثير من مجموعاته القانونية. ولما قتل كركلا جيتا أمر بابنيان أن يكتب دفاعاً قانونياً عن عمله هذا، فأبى بابنيان وقال إن "قتل الاخوة أسهل من تبرير هذا القتل". فأمر كركلا بقطع رأسه. ونفذ الجنود الأمر فقطع رأسه ببلطة في حضرة الإمبراطور. وواصل دومنيوس البيانس جهود بابنيان القضائية والإنسانية. وسخّر جهوده القضائية للدفاع عن العبيد لأنهم في رأيه أحرار بالفطرة، وعن النساء لأن لهن مثل ما للرجال من الحقوق، وكانت كتاباته في جوهرها تنسيقاً لأعمال مَن سبقوه شأنها في هذا شأن جميع الأعمال الهامة في تاريخ القضاء؛ ولكن أحكامه كانت باتّة جازمة إلى حد أبقي على ما يقرب من ثلثها في ملخص، ويقول عنه لمبرديوس: "لم يبلغ الإمبراطور الإسكندر سفيرس ما بلغه من سمو المنزلة إلا لأنه كان يحكم أكثر ما يحكم وفقاً لنصائح البيان". بيد أن البيان قد عمل على قتل بعض معارضيه، ومن أجل هذا فإن بعض أعدائه من رجال الحرس قتلوه في عام 288 انتقاماً منهم. وكانت أسباب قتله أقل انطباقاً على القانون من قتل معارضيه ولكنه أدى إلى نفس النتيجة. وشجع دقلديانوس مدارس القانون وأمدها بالمال، وألّف لجاناً لتقنين ما سنّ بعد تراجان من شرائع، وجمعها كلها في القانون الجريجزياني. ثم أتت على فقه القانون سنة من النوم دامت إلى أيام جستنيان.

وسار فن التصوير في القرن الثالث على الأنماط التي كان يسير عليها في بمبي والإسكندرية، والقليل الذي أبقى عليه الزمان فج، كاد الدهر أن يبليه. أما البحث فكان مزدهراً لأن الكثيرين من الأباطرة كانوا يطلبون أن تنحت لهم تماثيل، غير أنه جمد حتى أصبح المنظر الأمامي للشخص المصور بدائي الطراز، ولكن هذا العصر لم يفقه أي عصر بعده فيما أخرجه من صور تدهش الناظر إليها بصدقها وواقعيتها. ومما يدل على فضل كركلا، أو يدل على غباوته، أنه جاز لمثّال أن يصوّره في صورة شخص فظ، أكرث الشعر متجهّم الوجه، وهي الصورة المحفوظة إلى الآن في متحف نابلي. ولدينا تمثالان ضخمان من تماثيل ذلك العصر هما الثور الفرنيزي وهرقول الفرنيزي، وكلاهما مبالغ في حجمه، متوترة عضلاته توتراً غير مستحب، ولكنهما يشهدان بما كان في هذا العصر من إتقان فني لم ينقص قط عن إتقان العصور السابقة. ومما يدل على أن المثالين كانوا لا يزالون قادرين على النمط القديم تلك النقوش البارزة الناطقة بالعفة والطهارة والتي نراها على ثالوث الاسكندر سفيرس وهي ثالوث لدوفيزي. غير أن النقش الذي على قوس سبتميوس سفيرس في روما ليس فيه شيء مما يمتاز به الفن الأنكي من بساطة وظرف، بل يتصف بالخشونة والقوة الواضحتين اللتين تكادان تنبئان بعودة البربرية إلى إيطاليا.

وسار فن العمارة بالنزعة الرومانية التي ترى السمو في ضخامة الحجم إلى أقصى حد. فأقام سبتميوس على تل البلاتين آخر ما أقيم عليه من القصور الإمبراطوريّة وضم إليها جناحا جهة الشرق يعلو في الجو سبعة طباق - وهو المعروف بالسبتزينيوم. وقدمت جوليا دمنا ما يلزم من المال لإنشاء إيوان فستا، وإقامة هيكل فستا الصغير الذي لا يزال باقياً في السوق العامة. وشاد كركلا لسربيس زوج إيزيس ضريحاً ضخماً احتفظ الزمان بقطع جميلة منه إلى اليوم. ومن أعظم خرائب العالم روعة حمّامات كركلا التي تم بناؤها في عهد الاسكندر سفيرس. نعم إنها لم تضف شيئاً جديداً إلى هندسة البناء، لأنها تسير في جوهرها على طراز حمّامات طراجان، وكان البناء الضخم القائم يعبر أحسن تعبير عن صاحبها قاتل جيتا وبابنيان. وكان بناؤها الرئيسي المكون من الآجر والإسمنت المسلح يشغل 270.000 قدم مربعة - أي أكبر من مسطح مجلس البرلمان الإنجليزي وبهو وستمنستر مجتمعين. وكان درج حلزونية تؤدي إلى أعلى الجدران. وهناك جلس شلى وكتب قصيدة برمثيوس الطليق. وكان بداخل الحمّامات عدد كبير من التماثيل، ويحمل سقفها 200 عمود منحوتة من الحجر الأعبل والمرمر، والحجر السماقي، وكانت أرض الحمّامات وجدرانها المبنية من الرخام مطعمة بمناظر من الفسيفساء، وكان الماء يصب من أفواه ضخمة من الفضة في برك وأحواض تتسع لاستحمام 1600 شخص في وقت واحد. وأنشأ جلينس وديسيوس حمّامات مماثلة لهما، وفي هذه الحمّامات الأخيرة أقام المهندسون الرومان قبة مستديرة فوق بناء ضخم ذي عشرة أضلاع متساوية وسندوها بدعامات عند زوايا البناء ذي العشر الأضلاع. وهي وسيلة لم تكن تستعمل إلا قليلاً قبل ذلك الوقت ولكنها أصبحت كثيرة الاستعمال في المستقبل. وفي عام 295 شرع مكسميان في بناء الحمّام الحار الذي كان أضخم الحمّامات الإمبراطوريّة الحارة الأحد عشر، وسمّاه حمّامات دقلديانوس، وهو تواضع منه لم يكن معروفاً في وقته. وقد أعد لأن يستحم فيه 3600 شخص. وكان به فوق ذلك مدارس للتدريب الرياضي، وأبهاء للحفلات الموسيقية، وقاعات للمحاضرات: وأنشأ ميكل أنجلو من حجرة واحدة من هذا الحمّام كنيسة سانتا ماريا دجلي أنجيلي وهي أكبر كنيسة في إيطاليا بعد كنيسة القدّيس بطرس. وأنشأت في الولايات مبان لا تفوقها في ضخامتها إلا العمائر السالفة الذكر، وأقام دقلديانوس نفسه كثيراً من المباني في نيقوميديا، والاسكندرية، وإنطاكية. وزين مكسميان ميلان وزين جليريوس سرميوم وجمل قسطنطينيوس تريف.

وكان الأدب أقل ازدهاراً من العمارة، لأنه قلما كان في مقدوره أن يصل إلى الثروة التي تجمعت في أيدي الأباطرة. ومع هذا فقد زاد عدد دور الكتب ووسعها، وكان لطبيب من أطباء القرن الثالث مجموعة تبلغ 62.000 مجلّد، واشتهرت مكتبة البيان بما فيها من المحفوظات التاريخية؛ وبعث دقلديانوس بالعلماء إلى الإسكندرية لينسخوا ما فيها من المخطوطات الأدبية اليونانية والرومانية القديمة، ويأتوا بنسخ منها إلى مكتبات رومة. وكان العلماء كثيري العدد محببين إلى الأهلين، وقد أشاد فيلوستراتس بذكرهم في كتابه حياة السوفسطائيين؛ وواصل برفيري عمل أفلوطين، وهاجم المسيحية، وأهاب بالعالم أن يقتصر على أكل الخضر، وحاول أيمبليكس أن يوفق بين الأفلاطونية ومبادئ الديانة الوثنية، وأفلح في ذلك إلى حد استطاع معه أن يوحي بآرائه إلى الإمبراطور جوليان. وجمع ديجين ليرتيوس سير الفلاسفة وأراءهم في مقتطفات وقصص رائعة فاتنة، وبعد أن التهم أثينيوس النقراطيسي كل ما في مكاتب الإسكندرية أفرغ كل ما جمعه في كتابه المعروف سوفسطائيي مائدة الغداء وهو حوار ممل في الأطعمة، ومرق التوابل، والعاهرات، والفلاسفة والمفردات اللغوية، يخفف من ملله ما تجده في بعض أجزائه من كشف عن عادة قديمة، أو ذكرى عظيم، وكتب لنجينس، وهو كاتب من بلميريا في أغلب الظن، رسالة لطيفة في "السمو" قال فيها أن اللذة الخاصة التي يبعثها الأدب في الإنسان، منشؤها أنها "تسمو" بالقارئ عن طريق الفصاحة التي يستمدها الكاتب من قوة اقتناعه، وإخلاصه ووفائه لأخلاقه . وشرع ديوكاسيوس ككيانس من أهل نيقية بيثينيا يكتب تاريخ روما وهو في سن الخامسة والخمسين بعد أن قضى حياته يتقلب في مناصب الدولة. وأتم هذا الكتب في الرابعة والسبعين وقص فيه تاريخ المدينة من روميولوس إلى أيامه ولم يبقَ من هذا الكتاب إلا أقل من نصف أسفاره الثمانين، ولكن هذه الأسفار الباقية تشمل ثمانين مجلداً ضخماً. ويمتاز هذا العمل باتساع نطاقه أكثر مما يمتاز بعلو صفاته، وفيه قصص واضحة حية، وخطب مبينة، واستطرادات فلسفية ليست سخيفة المعنى رثّة العبارات مستمسكة بالقديم، ولكن النبوءات والنذر تفسد الكتاب كما تفسد كتاب ليفي، وهو مثل كتاب ناستس وصف مطول لمعارضة مجلس الشيوخ؛ وهو كجميع كتب التاريخ الرومانية يعنى أكثر ما يعنى بتقلبات السياسة والحرب كأن الحياة لم تكن في ألف عام إلا ضرائب وموت.

وأهم من هؤلاء الرجال الكرام في نظر مؤرخ العقل هو ظهور الرواية الغرامية في هذا القرن. وقد سبقها إعداد طويل تدرج من القيروبيديا لزنوفون، إلى القصائد الغزلية لكليماخوس، إلى القصص الخرافية التي تجمعت حول الاسكندر، و"الحكايات الميلسية" التي يرويها أرستيديز وغيره في القرن الثاني قبل الميلاد وما تلا ذلك القرن من أجيال. وقد أعجب بهذه القصص التي تروي أخبار المغامرات والحب جمهرة الأيونيين اليونان بتقاليدهم، الشرقيين بمزاجهم، ولعلهم وقتئذ قد أصبحوا شرقيين بدمائهم. وتطورت الرواية المنمقة تطورات شتى على ايدي بترونيوس في رومة وأبوليوس في أفريقية، ولوشيان في بلاد اليونان، ويامبليكوس في سوريا، ولم تكن في بادئ الأمر تعنى بالحب عناية خاصة، حتى إذا كان القرن الأول بعد الميلاد امتزجت رواية المغامرات برواية الحب، ولعل هذا الامتزاج كان استجابة منهما لزيادة عدد القارئات من النساء.

وأقدم الأمثلة الباقية من هذه الروايات هي "الإثيوبيكا" أو القصص المصرية التي كتبها هليودورس الحمصي، وقد ثار الجدل الكثير حول تاريخ هذه القصص، ولكن في وسعنا أن نعزوها إلى القرن الثالث، وتبدأ بأسلوب خلع عليه قدم العهد ثوباً من الجلال:

"أفتر ثغر النهار عن بسمات البهجة، وأرسلت الشمس أشعتها فأنارت قلل التلال، حين وقف جماعة الرجال يبدو من أسلحتهم وظهرهم أنهم قراصنة، وأخذوا ينظرون إلى البحر بعد أن صعدوا إلى قمة أحد المنحدرات المطل على مصب النيل الهرقليوتي. ولكنهم لم يجدوا هناك شراع سفينة يبشرهم بالغنيمة فوجهوا أبصارهم نحو الشاطئ الممتد من تحتهم، وكان هذا هو الذي رأوه.

ونلتقي على حين غفلة بثياجينس الشاب الغني الوسيم وبالأميرة كركليا الجميلة الباكية. وكان القراصنة قد قبضوا عليهما، وحلت بهما كثير من ضروب الشدائد المختلفة، من سوء التفاهم، والوقائع الحربية، والقتل واللقاء، تكفي لأن تكون مادة لجميع القصص التي تصدر في فصل من فصول السنة في هذه الأيام.

وتختلف هذه القصة عن قصص بترونيوس وأبوليوس في أن عفة العذارى في رواية هليودورس مسألة غير ذات خطر كبير، ويمر عليها القارئ بسرعة، بينما هي عند بترونيوس وأبوليوس جوهر القصة ومحورها الذي تدور عليه فترى هليودورس يحافظ على عفة كركليز وينجيها من عشرات الأخطار ويدبج عدداً من العضات القوية المقنعة في جمال الفضيلة النسوية ووجوب المحافظة عليها. ولعلنا نجد هنا شيئاً من تأثير المسيحية؛ بل إن الرواية المتواترة تجعل مؤلف القصة أسقف سالونيكي المسيحي فيما بعد. ولقد كانت الأثيوببكا، على غير علم أو قصد من مؤلفها، منشأ عدد لا يحصى من الروايات التي نسجت على منوالها؛ فلقد كانت هي أنموذج قصة سرفنتيز المسماةPesileey Sigismunda وقصة كورندا في رواية إنقاذ أورشليم لتاسو، وقصص السيدة ده اسكوديري. ففي هذه الرواية نجد جريمة الحب، ودلائله، والتوجع والإغماء، والخاتمة السعيدة التي نجدها في مئات الآلاف من القصص الممتعة؛ وهنا نجد رواية كلارسا هارلو قبل كاتبها رتشاردسن بألف وخمسمائة عام.

وأشهر قصص الحب جميعها في النثر القديم قصة دافنيس وكلوي. ولسنا نعرف عن مؤلفها إلا اسمه لنجس، كما اننا نظن مجرد ظن أنها ألقت في القرن الثالث بعد الميلاد. وتقول إن دفنيس عرض لتقلبات الجو القاسية وقت مولده، وإن راعياً أنقذه وعنى بتربيته وإنه أصبح هو الآخر راعياً. وفي القصة فقرات رائعة في وصف الريف توحي بأن لنجس كشف ما فيه من جمال بعد طول مقامه في المدينة، كما كشفه الشاعر ثيوكريتس الذي نسج هو على منواله. ويحب دفنيس فتاة حسناء أنقذت هي الأخرى بعد أن عرضت للجو القاسي في طفولتها. ويرعى الفتى والفتاة قطعانهما وتتوثق بينهما عرى الصداقة والألفة، ويستحمّان معاً وهما عريانين في طهر وبراءة، ويقبل كلهما الآخر أول قبلة يسكران منها. ويشرح لهما جارسنج نشوة حبهما، ويصف لهما ما لاقاه في أيام شبابه من آلام العشق فيقول: "لم أكن أفكر في طعامي، ولم أكن أذوق طعم الراحة، وهجر الكرا عيني، وأمضني الحزن، وأسرعت ضربات قلبي، وأحست أطرافي ببرودة الموتى. ويعرفهما أبواهما، وكان وقتئذ من أغنياء الناس، ويهبانهما الكثير من المال، ولكنهما لا يعبآن بالثراء، ويعودان إلى حياة الرعي المتواضعة. والقصة مكتوبة ببساطة الفن الجميل المصقول وقد ترجمها أميو إلى اللغة الفرنسية السلسلة المطواعة (1559) فكانت هذه الترجمة هي المثال الذي احتذاه سان بيير في بول وفيرجينيا كما أوحت بما لا يحصى من الرسوم والقصائد والقطع الموسيقية.

وشبيه بها قصيدة من الشعر تعرف باسم أمسية فينوس. ولا يعرف أحد اسم منشئها أو متى أنشأها، وأغلب الظن أنها من شعر ذلك القرن نفسه وموضوعها هو موضوع خطب لكريشيوس التي تمتاز بما فيها من التفات، ورواية لونجوس الغرامية - وخلاصتها أن ربة الحب تلهب قلوب جميع الأحياء بالرغبة الجامحة، وأنها لهذا السبب هي خالقة العالم الحقة!

غداً سيحب مَن لم يطف به طائف الحب،
غداً سيحب مَن ذاق قبل طعم الحب،
لقد أقبل الربيع النظر، أخذ يغني غناء الحب،
وولدت الدنيا من جديد، وها هو ذا حب الربيع،
يدفع كل طير إلى قرينه، وها هي ذي الغابات المترقبة
تنثر غدائرها لتستقبل شآبيب الربيع،
غداً سيحب مَن لم يطف به طائف الحب،
وسيحب مَن ذاق قبل طعم الحب،

وعلى هذا النحو يسترسل الكاتب في شعره العذب الصافي، ويجد الحب في المطر المخصب وفي أشكال الزهر، وفي أهازيج الأعياد البهجة، وفي التجارب الصعبة التي يعانيها الشباب المشتاق، وفي مواعيد اللقاء الوجلة، وسط الغابات، وبعد كل مقطوعة يتردد الوعد القوي الجامع: "غداً سيحب مَن لم يطف به طائف الحب، وسيحب مَن ذاق قبل طعم الحب". وإنا لنجد هنا في آخر القصائد الغنائية الكبرى التي تغنت بها الروح الوثنية الوزن الشعري لترانيم العصور التي تستبق أنغام شعراء الفروسية الغرليين بعدة قرون.

لما مات كلوديوس الثاني أثناء انتشار وباء كان يفتك بالقوط والرومان على السواء اختار الجيش خليفة له ابن فلاح إليراي. وكان دومتيوس أورليانس قد ارتفع من أوطأ الطبقات بقوة الجسم والإرادة؛ وقد لقبوه من قبيل السخرية "يد على سيف" وكان مما يشهد بعودة العقل إلى الجيش أنه اختار رجلاً يطلب عند غيره من النظام ما يطلبه عند نفسه.

وبفضل قيادته صد أعداء روما عن حدودها في كل مكان عدا نهر الدانوب، فهناك نزل أورليان عن داتشيا للقوط لعلهم بذلك يقفون حاجزاً بين الإمبراطوريّة وبين غيرهم من البرابرة. ولعل هذا الاستسلام قد شجع الألمان والوندال على غزو إيطاليا، ولكن أورليان انتصر عليهم في ثلاث معارك وشتت شملهم. وكان يفكر في القيام بحملات حربية على أجزاء قاصية، ويخشى أن يهاجم الأعداء روما في أثناء غيابه، فأقنع مجلس الشيوخ بأن يوافق على صرف المال اللازم لبناء أسوار جديدة حول العاصمة، كما أقنع النقابات الطائفية بأن تقوم بهذا العمل وأخذت المُدن في جميع أنحاء الإمبراطوريّة تشيد الأسوار حولها، وكان قيامها بهذا العمل شاهداً على ضعف قوة الرومان وخاتمة السلم الرومانية.

ورأى أورليان أن الهجوم أفضل من الدفاع، ولذلك اعتزم أن يعيد مجد الإمبراطوريّة بالهجوم على زنوبيا في الشرق، ثم على تتريكس الذي اغتصب السيادة على غالة بعد بستيوس. واسترد بروبس قائد أورليان مصر من ابن زنوبيا في الوقت الذي كان هو نفسه يخترق بجيوشه بلاد البلقان،

ويعبر الهلسبنت، ويهزم جيش هذه الملكة في حمص ويحاصر عاصمتها. وحاولت الملكة أن تفر، وتستنجد بالفرس ولكنها أسرت، واستسلمت المدينة ونجت من التدمير، ولكن لنجينس قُتل. وبينما كان الإمبراطور عائداً على رأس جيشه إلى الهلسبنت، ثارت تَدْمُر وقتلت الحامية التي تركها فيها. فعاد إليها مسرعاً كسرعة قصير، وحاصر المدينة مرة أخرى واستولى عليها بعد قليل من الوقت، وأباحها الجنود يسلبون ويعيثون فيها فساداً، ودك أسوارها، وقضى مرة أخرى على تجارتها، وتركها تعود قرية صحراوية، وهكذا ظلت من ذلك الحين إلى الوقت الحاضر. وسارت زنوبيا مكبلة بالأغلال تزين موكب أورليان وهو داخل منتصر إلى رومة؛ وسمح لها بأن تقضي البقية الباقية من عمرها حرة إلى حد ما في تيبور .

وفي عام 274 هزم أورليان تتريكس عند شالون وعاد بعدئذ إلى غالة. واغتبطت روما بعودة سيادتها إليها فرحبت بالقائد الظافر ولقبته "مرجع العالم". ثم وجه عنايته إلى واجبات السلم، فأعاد إلى الإمبراطوريّة سيئاً من النظام الاقتصادي بإصلاح النقد الروماني، وأعاد تنظيم الأداة الحكومية بأن طبق عليها نفس النظام الصارم الذي رد به الحياة إلى الجيش. وكان يعزو بعض ما تعانيه روما من الفوضى الأخلاقية والسياسية إلى تعدد الأديان والمذاهب فيها ويسعى لأن يوحد الأديان القديمة والجديدة ويوجهها إلى عبادة إله واحد هو إله الشمس، والإمبراطور نائبه في الأرض ولما أظهر الجيش ومجلس الشيوخ تشككهما، أبلغهما أن الله، لا اختيارهما، هو الذي جعله إمبراطوراً. وأنشأ في روما هيكلاً للشمس رائع الجمال، كان يرجو أن يمتزج فيه بعل حمص وإله المثراسية. وكانت الملكية المطلقة والتوحد تسيران وقتئذ جنباً إلى جنب، وكانت كلتاهما تسعى لأن تستعين بالأخرى؛ وكانت سياسة أورليان الدينية توصي بأن قوة الدولة آخذة في الاضمحلال، وأن قوة الدين آخذة في الارتفاع، وقد أصبح الملوك وقتئذ ملوكاً بنعمة الله. وكانت هذه هي فكرة الشرقيين عن الحكومة وهي فكرة وجدت في مصر، وبلاد الفرس، وسوريا؛ فلما قبلها أورليان عجل التيار الذي كان يحول الملكية إلى حكومة شرقية، وهو التيار الذي بدأ من عهد إلجابالس وانتهى عن دقلديانوس وقسطنطين.

وبينما كان أورليان يقود جيشاً مخترقاً به تراقية ليحسم الأمر بينه وبين فارس إذ اغتاله في عام 275 جماعة من ضباطه لأنهم خدعوا فظنوا أنه ينوي إعدامهم. وارتاع الجيش لكثرة ما ارتكبه هو نفسه من الجرائم فطلب إلى مجلس الشيوخ أن يختار مَن يخلف الإمبراطور القتيل؛ ولم يكن أحد يرغب في هذا الشرف الذي ينذر بالقتل على الدوام؛ وانتهى الأمر بأن رضي به تاستس لأنه كان وقتئذ في الخامسة والسبعين من عمره. وكان تاستس هذا يدعي أنه من نسل المؤرخ المسمى بهذا الاسم، وكانت تتمثل فيه جميع الفضائل التي كان ينادي بها ذلك الكاتب الموجز المتشائم؛ لكنه قضى نحبه من فرط الأعياء بعد ستة أشهر من جلوسه على العرش، وندم الجند على ندمهم، فعادوا إلى الاستئثار بالسلطة ونادوا بِبروبس إمبراطوراً.

وكان ذلك اختياراً موفقاً، كما كان بروبس خليقاً باسمه لأنه كان يمتاز بالشجاعة والاستقامة. فقد طرد الألمان من غالة، وطهر إليركم من الوندال، وشاد سوراً بين الرين والدانوب، وأرهب الفرس بكلمة منه، واستمتعت الإمبراطوريّة كلها في أيامه بالسلم؛ وسرعان ما عاهد شعبه على ألا تكون في البلاد أسلحة، ولا جيوش، ولا حروب، وعلى أن يعم الأرض كلها حكم القانون.

وبدأ هذه الطوبى بأن أرغم جنوده على أن يصلحوا الأراضي البور، ويجففوا المستنقعات ويغرسوا الكروم، ويقوموا بضروب أخرى من الأعمال العامة. واستاء الجيش من هذا التسامي الذي لم يكن له به عهد، فاغتاله عام 283، وحزن عليه؛ وأقام نصباً تذكارياً له.

ونادى برجل يدعى ديوقليز ابن معتوق دلماشي إمبراطوراً على الدولة. وكان ديوقليشيان أو دقلديانوس - وهو الاسم الذي اختاره بعد ذلك لنفسه - قد ارتقى بمواهبه الفذة ومبادئه الأخلاقية المرنة حتى عين، وحاكما في بعض الولايات، وقائداً لحرس القصر. وكان رجلاً عبقرياً أكثر دراية بشئون الحكم منه بالحرب. وقد جلس على العرش بعد عهد من الفوضى أشد من الفوضى التي عمت البلاد من أيام ابني جراكس إلى أيام أنطونيوس، ولكنه هدأ كل الأحزاب الثائرة المتنافرة، وصد الأعداء عن جميع الحدود، وبسط سلطان الحكومة وقواه، وأقام حكمه على تأييد الدين ورضاء رجاله. وكان ثالث ثلاثة تدين لهم الإمبراطوريّة بالشيء الكثير - أغسطس وأورليان؛ ودقلديانوس. وأما أغسطس فقد أنشأها، وأما أورليان فقد أنقذها، وأما دقلديانوس فقد نظمها تنظيماً جديداً.

وكان أول قراراته الحاسمة قراراً كشف عن المستور من أحوال الدولة وعن أفول نجم رومة، فقد هجر المدينة ولم يتخذها عاصمة لملكه، واتخذ مقامه في نيقوميديا وهي مدينة في آسية الصغرى تبعد عن بيزنطية بقليل من الأميال جهة الجنوب، وظل مجلس الشيوخ يعقد جلساته في روما كما كان يعقدها قبل، وظل القناصل يقومون بمراسمهم المألوفة، وظلت الألعاب الصاخبة تدور كسابق عهدها والشوارع تموج بمن فيها من الناس على اختلاف أجناسهم؛ ولكن السلطة والقيادة قد انتقلتا من هذه المدينة التي أضحت مركز الانحلال الاقتصادي والأخلاقي. وكان الذي دفع دقلديانوس إلى هذا العمل هو الضرورة الحربية. ذلك أنه كان لا بد من الدفاع عن أوربا وآسية، ولم يكن الدفاع عنهما مستطاعاً من مدينة في جنوب جبال الألب وتبعد عن تلك الجبال هذا البعد الشاسع. ولهذا أشرك معه في الحكم قائداً محنكاً يدعى مكسميان، وعهد إليه الدفاع عن الغرب؛ ولم يتخذ مكسميان روما عاصمة له بل اتخذ بدلاً منها مدينة ميلان. وبعد ست سنين من ذلك العام اتخذ كلا الأغسطسين "قيصراً" ليساعده في أعباء الحكم وليكون خليفة له من بعده. فاختار دبوقليشان جليريوس واتخذ هذا عاصمته مدينة سرميوم وهي متروفيكا على نهر الساف، وعهد إليه حكم ولايات الدانوب؛ وعين مكسميان قنسطنطيوس طلورس (الأصغر) خلفاً له. واتخذ هذا حاضرته مدينة أوغسطا ترفرورم (تريف). وتعهد كل أغسطس أن يعتزل الملك بعد عشرين عاماً ليخلفه قيصره؛ وكان من حق هذا القيصر أن يعين هو الآخر "قيصراً" يعاونه ويخلفه. وزوج كل أغسطس ابنته "بقيصره" فأضاف بذلك رابطة الدم إلى رابطة القانون. وكان دقلديانوس يرجو بذلك أن يسد الطريق على حروب الوراثة، وأن يعيد إلى الحكومة استقرارها ودوامها، وسلطانها، وأن تكون الإمبراطوريّة متأهبة لملاقاة الأخطار في أربع نقاط هامة، سواء أكانت هذه الأخطار ناشئة من الثورات الداخلية، أم من الغزو الخارجي. لقد كان تنظيماً باهراً، جمع كل الفضائل إذا استثنينا فضيلتي الوحدة والحرية. فقد انقسمت الملكية، ولكنها كانت ملكية مطلقة، وكان كل قانون يصدره كل حاكم من الحكام الأربعة يصدر باسمهم جميعا، ويطبق في أنحاء الدولة، وكان قرار الحكام يصبح قانوناً ساعة صدوره، من غير حاجة إلى تصديق مجلس الشيوخ في روما. وكان الحكام هم الذين يعينون جميع موظفي الدولة، ومدت أداة بيروقراطية ضخمة فروعها في جميع أنحاء الدولة. وأراد دقلديانوس أن يزيد من قوة هذا النظم فحول عبادة عبقرية الإمبراطور إلى عبادة شخصه بوصفه تجسيداً لجوبتر، وتواضع لكسمليان فرضي أن يكون هو هرقول؛ وهكذا هبطت الحكمة والقوة من السماء لتعيدا النظام والسلم إلى الأرض، واتخذ دقلديانوس لنفسه تاجاً - عصّابة عريضة مرصعة باللآلئ - وأثواباً من الحرير والذهب؛ وأحذية مرصعة بالحجارة الكريمة، وابتعد عن أعين الناس في قصره، وحتم على زائريه أن يمروا بين صفين من خصيان التشريفات والحجاب وأمناء القصر ذوي الألقاب والرتب، وأن يركعوا ويقبلوا أطراف ثيابه. لقد كان في الحق رجلاً يعرف العالم حق المعرفة. وما من شك في أنه كان يضحك في السر من هذه الخرافات والأشكال ولكن عرشه كان يعوزه ما يخلعه الزمان عليه من شرعية، وكان يأمل أن يدعمه وأن يقمع اضطراب العامة وعصيان الجيش بأن يخلع على نفسه مظاهر الألوهية والرهبة. وفي ذلك يقول أورليوس فكتور: "واتخذ لنفسه لقب السيد، ولكنه كان يسير في الناس سيرة الأب" وكان معنى إقامة هذا الطراز الشرقي من الحكم الاستبدادي على يد ابن عبد رقيق، وهذا الجمع بين الإله والملك في شخص واحد، كان معنى هذا عجز الأنظمة الجمهورية في العهود القديمة، والتخلي عن ثمار معركة مرثون، والعودة إلى مظاهر بلاط الملوك الأخمنيين، والمصريين، والبطالمة، والبارثيين، والملوك الساسانيين، وإلى النظريات التي كان يقوم عليها حكم هؤلاء الملوك كما عاد الاسكندر إليها من قبل. ومن هذه الملكية الشرقية الصبغة جاء نظام الملكيات البيزنطية والأوربية، وهو النظام الذي ظل قائماً إلى أيام الثورة الفرنسية. ولم يبقَ بعد هذا إلا أن يتحالف الملك الشرقي في عاصمة شرقية مع دين شرقي. ولقد بدأت الخواص البيزنطية في الظهور أيام دقلديانوس.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التاريخ

التأسيس

  گوتالاند التقليدية
  جزيرة گوتلاند
  حضارة ڤيل‌بارك، في مطلع القرن الثالث
  حضارة چرنياخوڤ، في مطلع القرن الرابع

أدى تصاعد نفوذ قبائل الهون في أوروبا الشرقية في القرن الرابع الميلادي وتحديدا عام 370 م أدى لدخول مملكة القوط الشرقيين تحت سيادتهم. في العقود التالية قطن القوط الشرقيون في البلقان وكانوا توابع للهون يحاربون معهم لصالحهم وليس لهم حق السيادة في الأراضي التي يسكنوا فيها.

استطاع القوط الشرقيون بمعاونة توابعهم السابقين الگپيد أن ينالوا استقلالهم من الامبراطورية الهونية بعد موت حاكمها أتيلا الهوني الذي هزم أبناؤه أمام القوط وأعوانهم في معركة نيداو عام 454م.

انتقل القوط الشرقيون للسكنى في أراضي پانونيا خلال النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي. لعب القوط الشرقيون أدوارا سياسية وثقافية وعسكرية في جنوب شرق أوروبا مشابهة لحد كبير لما أداه أقرانهم الغربيون في نفس البقعة ولكن قبل حوالي قرن من الزمن وكما فعل القوط الغربيون قبلهم فقد انتقلوا من شرق القارة الأوروبية إلى غربها مخترقين بذلك أجزاء من الإمبراطورية الرومانية.

لم تكن بلاد الفرس إلا قطاعاً من تخوم يبلغ طولها عشرة آلاف ميل تتعرض فيها الإمبراطورية الرومانية المؤلفة من مائة أمة مختلفة للغزو في أية نقطة وفي أية ساعة على أيدي قبائل لم تفسدها الحضارة، ولكنها تطمع في ثمارها. وكان الفرس وحدهم مشكلة مستعصية على الحل، فقد كانوا يزدادون قوة لا ضعفاً؛ ولم يمض إلا قليل من الوقت حتى استعادوا كل ما كان دارا الأول يبسط عليه سلطانه قبل ألف عام من ذلك الوقت - إلا قليلاً منه. وكان في غرب بلادهم العرب، ومعظمهم من البدو الفقراء؛ ولو إن إنساناً في ذلك الوقت قد قال إن أولئك الأقوام الرحل الواجمين قد كتب لهم أن يستولوا على نصف الإمبراطورية الرومانية وعلى بلاد الفرس كلها لسخر من قوله هذا أحكم الساسة وأنفذهم بصيرة. وكان في جنوب الولايات الرومانية الإفريقية الأحباش، واللوبيون، والبربر، والنوميديون، والمغاربة، وكان هؤلاء كلهم يتربصون بالإمبراطورية الدوائر، وينتظرون على أحر من الجمر تداعي الحصون الإمبراطورية أو قوى البلاد المعنوية. ولاح أن أسبانيا ستظل رومانية آمنة من الغزو وراء جبالها المنيعة وبحارها التي لا يستطيع المغبرون اجتيازها؛ ولم يكن أحد يظن أنها ستصبح في هذا القرن الرابع ألمانية، وفي القرن الثامن بلاداً إسلامية. أما غالة فقد كانت وقتئذ تفوق إيطاليا اعتزازاً برومانيتها، كما تفوقها في النظام وفي الثراء، وفي الآداب اللاتينية من شعر ونثر؛ ولكنها كان عليها في كل جيل أن تدفع عن نفسها غارات النيوتون الذين كانت نساؤهم أعظم خصباً من حقولهم. ولم يكن في وسع الدولة الرومانية أن تستغني إلا عن حامية قليلة لتدفع بها عن بريطانيا غارات الاسكتلنديين والبكتيين من الغرب والشمال؛ وغارات أهل الشمال والقراصنة السكسون من الشرق أو الجنوب؛ فقد كانت شواطئ النرويج بجميع أجزائها معششاً لهؤلاء القراصنة، وكان أهلها يرون الحرب أقل مشقة من حرث الأرض، ويعتقدون أن الإغارة على السواحل الأجنبية عملاً شريفاً لذوي البطون الخاوية وفي أيام الفراغ. ويدعي القوط أن موطنهم الأول هو جنوبي السويد وجزائرها الصغرى، ولا يبعد أن يكون ذلك الموطن هو الإقليم المحيط بنهر الفستيولا Vistula؛ ولكنهم أياً كان موطنهم انتشروا باسم القوط الغربيين نحو نهر الدانوب الجنوب، واستقروا باسم القوط الشرقيين بين نهري الدنيستر Dniester والدون Don. وفي قلب أوربا -الذي تحده انهار الفستيولا والدانوب، والرين- كانت تجول قبائل قدر لها أن تغير خريطة أوربا وتبدل أسماء أممها: هي قبائل الثورنجيين، والبرغنديين، والإنجليز، والسكسون، والقوت، والفريزيين، والجبيديين، والكوادي، والوندال، والجرمانيون، والسوڤي، واللمبارد، والفرنجة. ولم يكن للإمبراطورية كلها -عدا بريطانيا- أسوار تصد تيار هذه الأجناس، وكل ما كان لها من هذا القبيل هو حصون أو حاميات في أماكن متفرقة على طول الطرق البرية أو مجاري الأنهار التي كانت في أطراف الدولة الرومانية. وكانت تفوق البلاد الخارجية عن حدود الدولة الرومانية في نسبة مواليدها: وتفوقها هي على هذه البلاد في مستوى معيشة أهلها، مما جعل الهجرة إليها أو الإغارة عليها قضاء محتوماً لا مفر لها منه في ذلك الوقت، كما أنهما الآن قضاء محتوم على أمريكا الشمالية.

ولعل من واجبنا أن نعدل بعض التعديل تلك الرواية التي تصف تلك القبائل الألمانية بأنها قبائل متبربرة. نعم إن اليونان والرومان حين أطلقوا على أولئك الأقوام لفظ برابرة لم يكونوا يقصدون بذلك الثناء عليهم، وأكبر الظن أن هذا اللفظ يقابل لفظ فرفارا في اللغة السنسكريتية، ومعناه الفظ الجلف، غير المثقف؛ وهو شديد الصلة أيضاً بلفظ بربر؛ ولكن اتصال الألمان مدى خمسة قرون بالحضارة الرومانية عن طريق التجارة والحرب كان لا بد أن يترك فيهم أثراً قوياً؛ وقبل أن يحل القرن الرابع بزمن طويل كانوا قد تعلموا الكتابة وأقاموا لهم حكومة ذات قوانين ثابتة.وكانت مبادئهم الأخلاقية من الناحية الجنسية أرقى منها عند الرومان واليونان إذا استثنينا منهم قبائل الفرنجة المروفنجيين؛ وكثيراً ما كانوا يفوقون الرومان في الشجاعة، وكرم الضيافة، والأمانة، وإن كانت تعوزهم رقة الحاشية ودماثة الخلق، وهما الحلتان اللتان يتصف بهما المثقفون. (لسنا ننكر أنهم كانوا قساة القلوب، ولكنهم لم يكونوا أشد قسوة من الرومان؛ وأكبر الظن أنهم قد روعهم أن يعرفوا أن الشريعة الرومانية كانت تجيز تعذيب الأحرار لتنتزع منهم الشهادات أو الاعترافات. وكانت نزعتهم فردية إلى حد الفوضى، على حين أن الرومان كانوا في الوقت الذي نتحدث عنه رُوِّضوا على حسن المعاشرة والميل إلى السلم. وكان أهل الطبقات العليا منهم يقدرون الآداب والفنون بعض التقدير، وقد اندمج منهم استلكو، ورسمر، وغيرهما من الألمان في الحياة الثقافية العليا التي كانت تسود المجتمعات في روما، وكتبوا أدباً لاتينياً أقر سيماكوس أنه وجد فيه كثيراً من المتعة. وكان الغزاة بوجه عام -وخاصة القوط- يبلغون من الحضارة درجة تمكنهم من أن يعجبوا بالحضارة الرومانية ويعترفوا أنها أرقى من حضارتهم، ويسعون لاكتسابها لا لتدميرها؛ وظلوا قرنين من الزمان لا يطلبون أكثر من أن يسمح لهم بالدخول في بلاد الإمبراطورية والاستقرار في أراضيها المهملة؛ وطالما اشتركوا في الدفاع عنها بجد ونشاط. ولهذا فإنا إذا ما ظللنا نستخدم لفظ البراءة في حديثنا عن القبائل الألمانية في القرنين الرابع والخامس، فإنما نفعل ذلك بحكم العادة التي جعلت هذا اللفظ يجري به القلم، مع مراعاة هذه التحفظات والاعتذارات السالفة الذكر.

وكانت هذه القبائل التي تكاثر أفرادها قد دخلت بلاد الإمبراطورية في جنوب نهر الدانوب وجبال الألب بطريق الهجرة السلمية وبدعوة من الأباطرة في بعض الأحيان. وقد بدأ أغسطس هذه السياسة، فسمح للبرابرة أن يستقروا داخل حدود الإمبراطورية ليعمروا ما خلا من أرضها، ويسدوا ما في فيالقها من ثغرات بعد أن عجز الرومان عن تعمير أولاها وسد ثانيتها لقلة تناسلهم وضعف روحهم العسكرية. وجرى على هذه السنة نفسها أورليوس، وأوليان، وبروبوس. وقبل أن ينصرم القرن الرابع كانت كثرة السكان في بلاد البلقان وفي غالة الشرقية من الألمان. وكذلك كان الجيش الروماني، وكانت مناصب الدولة السياسية منها العسكرية في أيدي التيوتون. وكانت الإمبراطورية في وقت من الأوقات قد صبغت أولئك الأقوام بالصبغة الرومانية، أما في الوقت الذي نتحدث عنه فإنهم هم الذين بربروا الرومان؛ فقد أخذ الرومان أنفسهم يرتدون ملابس من الفراء على طراز ملابس البرابرة، وأخذوا كذلك يرسلون شعورهم مثلهم، ومنهم من لبسوا السراويل، (البنطلون)، واستثاروا بذلك غضب الأباطرة، فأصدروا في غيظهم مراسيم بتحريم هذه الثياب. (397،416). وجاءت القوة التي دفعت هذه القبائل إلى غاراتها الكبرى على الإمبراطورية الرومانية من سهول المغول النائية. وتفصيل ذلك أن الزيونج-نو أو الهيونج-نو أو الهون - وهم فرع من الجنس الطوراني، كانوا في القرن الثالث الميلادي يحتلون الأصقاع الواقعة في شمال بحيرة بلكاش وبحر آرال. وكانت سحنتهم، كما يقول جرادنيس هي أقوى أسلحتهم:

فقد كانت ملامحهم الرهيبة تلقي الرعب في قلوب أعدائهم؛ ولعلهم هم لم يكونوا أقدر على الحروب من هؤلاء الأعداء. فقد كان أعداؤهم يستول عليهم الفزع فيفرون من أمامهم لأن وجوههم الكالحة كانت تقذف الرعب في القلوب. ولأنهم كانت لهم في مكان الرأس كومة لا شكل لها فيها ثقبان بدل العينين. وهم يقسون على أولادهم من يوم مولدهم، لأنهم يقطعون خدود الذكر بالسيف حتى يعودهم تحمل ألم الجروح قبل أن يذوقوا طعم اللبن، ولهذا فإنهم لا تنبت لهم لحى إذا كبروا وتشوه ندب جروح السيوف وجوههم. وهم قصار القامة، سريعو الحركة، خفاف مهرة في ركوب الخيل، بارعون في استعمال الأقواس والسهام، عراض الأكتاف صلاب الرقاب؛ منتصبو الأجسام على الدوام.

وكانت الحروب صناعتهم، ورعاية الماشية رياضتهم، وبلادهم كما ورد في أحد أمثالهم "هي ظهور خيلهم". وتقدم أولئك الأقوام إلى الروسيا حوالي عام 355، مسلحين بالأقواس والسهام، مزودين بالشجاعة والسرعة، يدفعهم من خلفهم جدب بلادهم وضغط أعدائهم الشرقيين، فهزموا في زحفهم قبائل الألاني، وعبروا نهر الفلجا (372؟)، وهاجموا في أكرانيا القوط الشرقيين الذين كادوا أن يصبحوا أقواماً متحضرين. وقاومهم إرمنريك المعمر ملك القوط الشرقيين مقاومة الأبطال، ولكنه هزم زمات بيده لا بيد أعدائه كما يقول بعض المؤرخين. واستسلم بعض القوط الشرقيين وانضووا تحت لواء الهون، وفر بعضهم متجهين نحو الغرب إلى أراضي القوط الغربيين الواقعة شمال الدانوب. والتقى جيش من القوط الغربيين بالهون الزاحفين عند نهر الدنيستر، فأوقع به الهون هزيمة منكرة، وطلب بعض من نجوا من القوط الغربيين إلى ولاة الأمور الرومان في البلاد الواقعة على نهر الدانوب أن يأذنوا لهم بعبور النهر والإقامة من مؤيزيا وتراقية. وأرسل الإمبراطور ڤالنز إلى عماله أن يجيبوهم إلى طلبهم على شرط أن يسلموا أسلحتهم ويقدموا شبانهم ليكونوا رهائن عنده. وعبر القوط الغربيين الحدود، ونهب موظفو الإمبراطورية وجنودها أموالهم غير مبالين بما يجللهم عملهم هذا من عار. واتخذ الرومان الذين افتتنوا ببناتهم وغلمانهم، أولئك الغلمان والبنات عبيداً لهم وإيماء، ولكن المهاجرين استطاعوا بفضل الرشا التي نفحوا بها ولاة الأمور الرومان أن يحتفظوا بأسلحتهم. وبيع لهم الطعام بما يباع به في أيام القحط، فكان القوط الجياع يبتاعون شريحة اللحم أو رغيف الخبز بعشرة أرطال من الفضة أو بعبد، بل إن القوط قد اضطروا في آخر الأمر أن يبيعوا أطفالهم بيع الرقيق لينجوا من هلاك جوعاً. ولما بدت عليهم أمارات التمرد دعا القائد الروماني زعيمهم فرتجيرن إلى وليمة وفي نيته أن يقتله؛ ولكن فرتجيرن نجا وأثار حمية القوط المستيئسين وحرضهم على القتال، فأخذوا ينهبون، ويحرقون، ويقتلون، حتى أصبحت تراقية كلها تقريباً خراباً يباباً تعاني الأمرين من جوعهم وغيظهم. وأسرع فالنز من بلاد الشرق لملاقاتهم والتحم بهم في سهول هدريانوبل، ولم يكن معه إلا قوة صغيرة معظم رجالها من البرابرة الذين كانوا في خدمة روما (378). وكانت النتيجة، كما يقول أميانوس "أشنع هزيمة حلت بجيوش الرومان منذ معركة كاني" التي حدثت قبل ذلك اليوم بخمسمائة وأربع وتسعين سنة. وفيها تفوق الفرسان القوط على المشاة الرومان، وظلت حركات الفرسان وفنونهم العسكرية من ذلك اليوم حتى القرن الرابع عشر هي المسيطرة على فن الحرب الآخذ في الاضمحلال. وهلك في هذه المعركة ثلثا الجيش الروماني، وأصيب فالنز نفسه بجرح بالغ، وأشعل القوط النار في الكوخ الذي آوى إليه، ومات الإمبراطور ومن كان معه محترقين بالنار. وزحفت الجموع المنتصرة إلى القسطنطينية، ولكنها عجزت عن اختراق وسائل الدفاع التي أقامتها ومنيكا أرملة فالنز. وأخذ القوط الغربيون، ومن انضم إليهم من القوط الشرقيين والهون الذين عبروا الحدود غير المحمية عند نهر الدانوب، يعيثون فساداً في بلاد البلقان من البحر الأسود إلى حدود إيطاليا.

المملكة في إيطاليا

خريطة مملكة القوط الشرقيين في إيطاليا والبلقان.

لم تقفر الإمبراطورية في هذه الأزمة من الحكام القادرين. فقد نقل الجيش ومجلس الشيوخ تاج الإمبراطورية إلى فلنتنيان وهو جندي فظ مقطوع الصلة بالثقافة اليونانية يذكرنا بفسبازيان. وعين فلنتنيان أخاه الأصغر فالنز، بموافقة مجلس الشيوخ، أوغسطس وإمبراطوراً على الشرق، واختار هو لنفسه الغرب الذي كان يبدو أشد خطراً من الشرق. ثم أعاد تحصين حدود إيطاليا وگالة، وأعاد إلى الجيش قوته ونظامه، وصد مرة أخرى الغزاة الألمان إلى ما وراء نهر الرين، وأصدر من عاصمته ميلان تشريعات مستنيرة حرم فيها على الآباء قتل الأبناء، وأنشأ الكليات الجامعية، ووسع نطاق المساعدات الطبية الحكومية في روما، وخفض الضرائب، وأصلح النقد الذي انخفضت قيمته، وقاوم الفساد السياسي، ومنح جميع سكان الإمبراطورية حرية العقيدة والعبادة. وكان لهذا الإمبراطور عيوبه ونقاط ضعفه. من ذلك كان يقسو أشد القسوة على أعدائه؛ وإذا جاز لنا أن نصدق سقراط المؤرخ فإنه شرع الزواج باثنتين لكي يجيز لنفسه أن يتزوج جستينا، التي غالت زوجته في ووصف جمالها له. ومع هذا كله فقد كان موته العاجل مأساة كبرى حلت بروما. وخلفه ابنه جراتيان على عرش الإمبراطورية في الغرب، وسار فيها سيرة أبيه عاماً أو عامين، ثم أطلق العنان للهو والصيد، وترك أزمة الحكم إلى موظفين فاسدين عرضوا جميع المناصب والأحكام للبيع. لهذا خلعه القائد لكسموس عن العرش وغزا إيطاليا ليحاول تنحية فلنتنيان الثاني خلف جراتيان وأخيه غير الشقيق عن ولاية الملك، ولكن ثيودوسيوس الأول الأكبر الإمبراطور الجديد على الشرق زحف غرباً، وهزم الغاصب، وثبت الشاب فلنتنيان على عرشه في ميلان.

وكان ثيودوسيوس من أصل أسباني، أظهر مواهبه الحربية ومهارته في القيادة أسبانيا، وبريطانيا، وتراقية. وكان قد أقنع القوط المنتصرين بالانضواء تحت لوائه بدل أن يحاربوه، وحكم الولايات الشرقية بحكمة وروية في كل شيء إلا في عدم تسامحه الديني؛ فلما تولى الملك روع نصف العالم بما اجتمع فيه من صفات متناقضة هي جمال خلقه، ومهابته، وغضبه السريع ورحمته الأسرع، وتشريعاته الرحيمة، وتمسكه الصارم بمبادئ الدين القويم. وبينا كان الإمبراطور يقضي الشتاء في ميلان حدث في تسالونيكي (سالونيكا) اضطراب كان من خصائص تلك الأيام. وكان سببه أن بُثريك نائب الإمبراطور في ذلك البلد قد سجن سائق عربة محبوب من أهل المدينة جزاء له على جريمة خلقية فاضحة، فطلب الأهلون إطلاق سراحه، وأبى بثريك أن يجيبهم إلى طلبهم، وهجم الغوغاء على الحامية وتغلبوا عليها، وقتلوا الحاكم وأعوانه ومزقوا أجسامهم إرباً، وطافوا بشوارع المدينة متظاهرين يحملون أشلاءهم دلالة على ما أحرزوه من نصر. ولما وصلت أنباء هذه الفتنة إلى مسامع ثيودوسيوس فاستشاط غضباً وبعث بأوامر سرية تقضي بأن يحل العقاب بجميع سكان تسالونيكي. فدعى أهل المدينة إلى ميدان السباق لمشاهدة الألعاب، ولما حضروا انقض عليهم الجند المترصدون لهم وقتلوا منهم سبعة آلاف من الرجال والنساء والأطفال، (390). وكان ثيودوسيوس قد بعث بأمر ثان يخفف به أمره الأول ولكنه وصل بعد فوات الفرصة.

وارتاع العالم الروماني لهذا الانتقام الوحشي وكتب الأسقف أمبروز الذي كان يجلس على كرسي ميلان ويصرف منه على شؤون الأبرشية الدينية بالجرأة والصلابة الخليقتين بالمسيحية الحقه، كتب إلى الإمبراطور يقول إنه (أي الأسقف) لا يستطيع بعد ذلك الوقت أن يقيم القداس في حضرة الإمبراطور إلا إذا كفر ثيودوسيوس عن جرمه هذا أمام الشعب كله. وأبى الإمبراطور أن يحط من كرامة منصبه بهذا الإذلال العلني وإن كان في خبيئة نفسه قد ندم على ما فعل، وحاول أن يدخل الكنيسة، ولكن أمبروز نفسه سد عليه الطريق، ولم يجد الإمبراطور بداً من الخضوع بعد أن قضى عدة أسابيع يحاول فيها عبثاً أن يتخلص من هذا المأزق، فجرد نفسه من جميع شعائر الإمبراطورية، ودخل الكنيسة دخول التائب الذليل، وتوسل إلى الله أن يغفر له خطاياه (390). وكان هذا الحادث نصراً وهزيمة تاريخيين في الحرب القائمة بين الكنيسة والدولة.

ولما عاد ثيودوسيوس إلى القسطنطينية تبين أن فالنتنيان الثاني؛ وهو شاب في العشرين من عمره، عاجز عن حل المشاكل التي تحيط به. فقد خدعه أعوانه وجمعوا السلطة كلها في أيديهم المرتشية، واغتصب أربوجاست الفرنجي الوثني قائد جيشه المرابط السلطة الإمبراطورية في غالة، ولما قدم فلنتنيان إلى فين ليؤكد فيها سيادته قتل غيلة. ورفع أربوجاست على عرش الغرب تلميذاً وديعاً سلس القياد يدعى اوجنيوس وبدأ بعمله هذا سلسلة من البرابرة صانعي الملك. وكان أوجينوس مسيحياً: ولكنه كان وثيق الصلة بالأحزاب الوثنية في إيطاليا إلى حد جعل أمبروز يخشى أن يصبح يولياناً ثانياً. وزحف ثيودوسيوس مرة أخرى نحو الغرب ليعيد إلى تلك الأنحاء السلطة الشرعية ويردها إلى الدين القويم. وكان تحت لوائه جيش من الهون والقوط، والألاني، وأهل القوقاز، وأيبيريا، وكان من بين قواده جيناس القوطي الذي استولى فيما بعد على القسطنطينية، واستلكو الوندالي الذي دافع في المستقبل عن روما، وألريك القوطي الذي نهبها. ودارت بالقرب من أكويليا معركة دامت يومين، هزم فيها أربوجاست وأوجينوس؛ فأما أوجينوس فقد ذبح بعد أن أسلمه جنوده، وأما أربوجاست فقد قتل نفسه بيده. واستدعى ثيودوسيوس ابنه هونوريوس وهو غلام في الحادية عشرة من عمره ليقيمه إمبراطور على الغرب، ورشح ابنه أركاديوس البالغ من العمر ثماني عشر سنة ليكون إمبراطور معه على الشرق ثم مات بعدئذ في ميلان منهوكاً من كثرة الحروب ولما يتجاوز الخمسين من عمره. وانقسمت بعد موته الإمبراطورية التي طالما وحدها، ولم يجتمع شملها مرة أخرى بعد ذلك الوقت إلا في فترة قصيرة تحت حكم جستنيان.

وكان ولدا ثيودوسيوس شخصين ضعيفين مخنثين، درجا في مهد الأمن والدعة الموهن للعزيمة، فلم يكونا خليقين بأن يوجها سفينة الدولة فيما يحيط بها من عواصف، وإن كانت أخلاقهما لا تقلان طيبة عن نواياهما. وسرعان ما أفلت زمام الأمور من أيديهما، وأسلما أعمال الدولة الإدارية والسياسة -إلى وزيرهما- إلى روفينوس المرتشي الشره في الشرق، وإلى استلكو القدير المجرد من الضمير في الغرب. ولم يلبث هذا الشريف الوندالي أن زوج ابنته مارية بهونوريوس في عام 398 راجياً أن يصبح بهذا الزواج جداً لإمبراطور وصهراً لآخر. ولكن هونوريوس أثبت أنه مجرد من العاطفة تجره من الفطنة، فكان يقضي وقته في إطعام الدجاج الإمبراطوري ويحبو هذا الدجاج بحبه وعطفه، حتى ماتت مارة عذراء بعد أن لبثت زوجة عشرة سنين.

وكان ثيودوسيوس قد جعل القوط يجنحون إلى السلم باستخدامهم في الحرب، وبتقديم معونة سنوية من المال لهم بوصفهم حلفاء له؛ ولكن خلفه قطع عنهم هذه المعونة، ولما جاء استلكو سرح جنوده الوط؛ وقام المحاربون المتعطلون يطلبون المال والمغامرات وهيأ لهم ألريك زعيمهم الجديد كليهما واستعان على ذلك بمهارة بزَّ بها الرومان في الحرب وفي السياسة على السواء، وقال لأتباعه إنه لا يدري كيف يَخضع القوطُ ذوو الأنفة والرجولة ويعملون أجزاء عند الرومان أو اليونان الضعفاء المنهوكين، بدل أن يعتمدوا على بسالتهم وقوة سواعدهم فيقتطعوا من الإمبراطورية المتداعية المحتضرة مملكة لهم؟ وقاد ألريك في السنة التي مات فيها ثيودوسيوس قوط تراقية كلهم تقريباً وزحف بهم على بلاد اليونان، واجتاز ممر ترموبيلي دون أن يلقي مقاومة، وذبح كل من لقي في طريقه من الرجال الذين في سن العسكرية، وسبى النساء، وخرب بلاد البلوبونيز، ودمر هيكل دمتر في إليوسيز، ولم يبق على أثينة إلا بعد أن افتدت نفسها بفدية استنفدت معظم ثروتها غير العقارية. وجاء استلكو لينقذها ولكنه وصل إليها بعد فوات الفرصة، فاستدرج القوط إلى موقع غير حصين، ولكن ثورة شبت في إفريقية اضطرته إلى أن يعقد معهم هدنة عاد بعدها إلى العرب. ثم وقع ألريك ميثاق حلف مع أركاديوس أجاز فيه ثانيهما للأول أن يستقر أتباعه من القوط في إبيروس، وبسط السلم لواءه بعدئذ على الإمبراطورية أربع سنين.

وفي هذه السنين الأربع ألقى سينيسيوس القوريني، وهو أسقف نصف مسيحي ونصف وثني، خطاباً في القسطنطينية أمام حاشية أركاديوس المترفة وصف فيها في وضوح وقوة المشكلة التي تواجهها روما وبلاد اليونان والتي لا بد لها أن تختار فيها واحدة من اثنتين. وكان مما قاله في هذه الخطبة: كيف تستطيع الإمبراطورية البقاء إذا ظل أهلها يتهربون من الخدمة العسكرية، ويكلون الدفاع عنها إلى الجنود المرتزقة، تجندهم من الأمم التي تهدد كيانها؟ وعرض على الولاة الأمور أن يضعوا حداً للترف والنعيم، وأن يجيشوا جيشاً من أهل البلاد بالتطوع أو التجنيد الإجباري يدافع عنها وعن حريتها؛ وأهاب بأركاديوس وهونوريوس أن ينفضا عنهم غبار الخمول وأن يوجها ضربة قاصمة إلى جموع البرابرة الوقحين الذين في داخل الإمبراطورية، وأن يردوهم إلى مرابضهم وراء البحر الأسود ونهري الدانوب والراين. وصفق رجال الحاشية إعجاباً بما حواه خطاب سينيسيوس من عبارات منمقة بليغة، ثم عادوا من فورهم إلى ولائمهم وكان ألريك في هذه الأثناء يرغم صناع الأسلحة في أبيروس على أن يصنعوا لرجاله القوط كل ما هم في حاجة إليه من الحراب والسيوف والخوذ والدروع.

وفي عام 401 غزا إيطاليا، بعد أن نهب كل ما مر ب في طريقه من البلاد، وهرع آلاف من اللاجئين إلى ميلان ورافنا، ثم فروا منهما إلى روما. واحتمى الزراع في داخل المدن المسورة، وجمع الأغنياء كل ما استطاعوا نقله من ثروتهم، وحاولوا وهم في شدة الذعر أن يعبروا البحر إلى كورسكا، وسردينية، وصقلية. وجرد استلكو ولايات الدولة من حامياتها ليجمع منها جيشاً يستطيع صد تيار القوط الجارف، وانقض به عليهم في بولنتيا في صباح يوم عيد القيامة من عام 402 حين وقفوا أعمال النهب ليؤدوا الصلاة. ونشبت بين الجيشين معركة لم تكن فاصلة، ارتد على أثرها ألريك إلى روما التي لم تكن فيها من يدافع عنها، ولم يغادر إيطاليا إلا بعد أن نفحه هونوريوس برشوة سخية.

وكان الإمبراطور الوجل قد فكر أثناء زحف ألريك على ميلان أن ينقل عاصمته إلى غالة، أما الآن فقد أخذ يبحث له عن مكان آخر أعظم منها أمناً، فوجد ذلك المكان في رافنا، التي تجعلها المناقع والبحيرات الضحلة، منيعة من البر، والشواطئ الرقراقة مستعصية على العدو من جهة البحر. ولكن العاصمة الجديدة أخذت ترتجف من الخوف كالعاصمة القديمة حين زحف ردجيسيوس البربري بجيش تبلغ عدته مائتي ألف مقاتل من الألاني، والكوادي، والقوط الشرقيين، والوندال، وعبر بهم جبال الألب، وهاجم مدينة فلورنتيا الناشئة. وفي هذه العصيبة برهن استلكو مرة أخرى على براعته في القيادة، فهزم الجحفل المختلط بجيش أقل منه عدداً، وساق ردجيسيوس مكبلاً بالأغلال أمام هونوريوس، وتنفست إيطاليا الصعداء مرة أخرى، وعادت حاشية الإمبراطور، من أشراف وأميرات، وأساقفة، وخصيان، وطيور داجنة وقواد إلى ما ألفته من ترف، وفساد، ودسائس.

وكان أولمبيوس وزير الإمبراطور، يغار من استلكو ويرتاب في نواياه. فقد ساءه أن يتغاضى القائد العظيم، كما بدا له، عن هرب ألريك المرة بعد المرة. وخيل إليه أنه قد كشف ما بين القائد الألماني والغزاة الألمان من عطف كامن. واحتج على الرشا التي نفح بها ألريك أو وعد بها بناء على طلب استلكو. وتردد هونوريوس في إقصاء الرجل الذي لبث ثلاثة وعشرين عاماً يقود جيوش روما من نصر إلى نصر، والذي أنجى الغرب مما كان يتهدده من أخطار؛ فلما أن أقنعه أولمبيوس بأن استلكو يأتمر به ليجلس ابنه هو على العرش، وافق الشاب الوجل على قتل قائده، وأرسل أولمبيوس من فوره سرية من الجند لينفذوا قرار الإمبراطور. وأراد أصدقاء استلكو أن يقاوموا ولكنه أمرهم ألا يفعلوا ومد رقبته للسيف. وبعد بضعة أشهر من هذا الحادث عاد ألريك إلى إيطاليا.

كانت الدولة الرومانية الغربية في أواخر القرن الرابع تطالعنا بصورة معقدة مركبة من الانتعاش والاضمحلال، ومن النشاط والعقم الأدبي، ومن الأبهة السياسية والانحلال العسكري. وكانت غالة في هذه الأثناء تزدهر ويعمها الرخاء، وتنازع إيطاليا في جميع الميادين؛ فقد كان عدد الغاليين في الإمبراطورية عشرين مليوناً أو يزيدون من سكانها الذين يقربون من سبعين مليوناً، في حين أن الإيطاليين لا يكادون يبلغون ستة ملايين؛ وأما من عدا هؤلاء وأولئك فكانت كثرتهم من الشرقيين الذين يتكلمون اللغة اليونانية. وقد استحالت روما نفسها منذ بداية القرن الثاني بعد الميلاد مدينة شرقية من الأجناس التي تسكنها. لقد كانت روما من قبل تعتمد في حياتها على الشرق كما كانت أوربا الحديثة تعتمد في حياتها على فتوحها ومستعمراتها إلى أواسط القرن العشرين، وكانت الفيالق الرومانية تستحوذ على غلات ولاياتها التي تزيد على عشرة، وتنتزع منها معادنها الثمينة التي كانت تنساب في قصور الظافرين وخزائنهم. أما في الوقت الذي نتحدث عنه فقد انقضى عهد الفتوح وبدأ عهد التقهقر والتراجع، واضطرت إيطاليا إلى الاعتماد على مواردها البشرية والمادية التي اضمحلت اضمحلالاً ينذر بأشد الأخطار من جراء تحديد النسل، والقحط والوباء، والضرائب الفادحة، والإتلاف والحرب. ولم تزدهر الصناعة يوماً ما في شبه الجزيرة الصقلية؛ ولآن وقد أخذت تفقد أسواقها في الشرق وفي غالة، لم يعد في وسعها أن تعول سكان المدن الذين كانوا يحصلون على الكفاف من العيش بالكدح في الحوانيت وفي البيوت. وكانت الكجلييا أو نقابات أصحاب الحرف تعاني الأمرين من جراء عجز أفرادها عن بيع أصواتهم في دولة ملكية مطلقة كان التصويت فيها نادراً. وكسدت التجارة الداخلية، وانتشر قطاع الطرق، وأخذت الطرق التي كانت من قبل مضرب الأمثال في العظمة تضمحل وتتحطم وإن ظلت وقتئذ أحسن من أي طريق في العالم كله قبل القرن التاسع عشر.

وكانت الطبقات الوسطى قبل ذلك الوقت عماد حياة المدن في إيطاليا؛ أما الآن فقد ضعفت هي الأخرى من جراء الانحلال الاقتصادي والاستغلال المالي؛ فقد كان كل ذي مال يخضع لضرائب مطردة الزيادة لإعالة بيروقراطية آخذة في الاتساع، وأهم ما تقوم به من الأعمال هو جباية الضرائب. وكان الهجاءون الفكهون حين يشكون من هذه الحال يقولون إن "الذين يعيشون على الأموال العامة أكثر عدداً من الذين يمدونهم بهذه الأموال.

وكانت الرشا تستنفد الكثير مما يجبى من الضرائب؛ وسن ألف قانون وقانون لمقاومة اختلاس إيرادات الحكومة أو أملاكها، والكشف عن هذه الاختلاسات ومعاقبة مرتكبيها، وكان الكثير من الجباة يفرضون على البسطاء أكثر مما يجب أن يؤدوه؛ ويحتفظون بالزيادة لأنفسهم؛ وكان في وسعهم في مقابل هذا أن يخففوا الضرائب عن الأغنياء نظير جعل يأخذونه منهم.

وكان الأباطرة يبذلون غاية جهدهم لكي تراعى الأمانة في جبايتها؛ من ذلك أن فلنتيان الثاني عين في كل بلدة موظفاً يسمى "المدافع عن المدينة" ليحمي أهلها من حيل الجباة، وأعفى هونوريوس المدن التي كانت تعاني الأزمات المالية مما كان متأخراً عليها من الضرائب. ومع هذه فإن بعض سكان المدن -إذ صدقنا قول سلفيان - كانوا يفرون إلى خارج الحدود ليعيشوا تحت حكم الملوك البرابرة الذين لم يتعلموا بعد فن جباية الضرائب كاملاً؛ فقد بدا لهم أن عمال الخزنة أشد رهبة من العدو". وكان من أثر هذه الظروف أن قلت الرغبة في النسل فأخذ عدد السكان في النقصان، وبقيت آلاف الأفدنة من الأراضي الصالحة للزراعة بوراً لا تجد من يفلحها، فنشأ من ذلك فراغ اقتصادي اجتمع إلى ما بقي في المدن من ثروة فأدى إلى اجتذاب البرابرة الذين كانوا في أشد الحاجة إلى تلك الأرض. ووجد كثيرون من أصحاب الأراضي الزراعية أنهم عاجزون عن أداء الضرائب أو الدفاع عن مساكنهم ضد الغزاة أو اللصوص، فتخلوا عن أملاكهم لمن هم أكبر منهم من الملاك أو أعظم قوة، وعملوا عندهم زراعاً، وأخذوا على أنفسهم يقدموا لسادتهم قدراً معيناً من غلة الأرض ومن العمل والوقت، وعلى أن يضمن لك أولئك السادة ما يكفيهم من العيش، ويحموهم في وقتي السلم والحرب. وبهذا كانت إيطاليا، التي لم تعرف فيما بعد الإقطاع بمعناه الكامل، من أوائل الأمم التي عدت أسس هذا الإقطاع. وكانت خطة شبيهة بهذه تحدث في مصر وإفريقية وغالة.

وكان الاسترقاق آخذاً في الزوال على مهل، وسبب ذلك ألا شيء في الحضارة الراقية يعدل أجر الرجل الحر أو مرتبه أو مكتسبة من حيث هو دافع اقتصادي للعمل والإنتاج. ولم يكن كدح الأرقاء مجزياً من هذه الناحية إلا حين يكثر عددهم؛ وكانت أعباء الاحتفاظ بهن قليلة؛ ولكن نفقات الحصول عليهم زادت حين لم تعد الفيالق الرومانية تنقل إلى بلادها ثمار النصر من الآدميين؛ يضاف إلى هذا أن فرار الأرقاء من سادتهم أصبح الآن أمراً يسيراً بسبب ضعف الحكومة؛ هذا إلى أنه كان لا بد من العناية بهم إذا مرضوا أو تقدمت بهم السن. ولما أن زادت تكاليف الأرقاء رأى سادتهم أن يحافظوا على الأموال التي استثمروها فيه بحسن معاملتهم له؛ ولكن أولئك الأسياد كان لا يزال لهم على عبيدهم حق الحياة والموت، وإن كان هذا الحق مقيداً ببعض القيود، كما كان في مقدور السيد أن يستعين بالقانون للقبض على العبد الآبق، وأن يشبع شهوته الجنسية مع من يهوى منهم رجالاً كانوا أو نساءً؛ وهل أدل على هذا من أن بولينوس البلائي كان يفخر بطهارة ذيله في شبابه حين "كبحت جماح شهواتي... فلم أستجيب لعشق امرأة حرة... واكتفيت بالإماء اللاتي كن في بيتي".

وكان معظم الأغنياء يعيشون الآن في بيوتهم الريفية بمنجاة من ضجيج المدن وغوغائها، غير أن الجزء الأكبر من ثروة إيطاليا كان لا يزال ينصب في روما؛ ولم تكن المدينة العظيمة، كما كانت من قبل، عاصمة الدولة، وقلّما كانت ترى الإمبراطور، ولكنها ظلت مركز الحياة الاجتماعية والذهنية في الغرب. وفي روما كانت أعلى درجات الطبقة الأرستقراطية الإيطالية الجديدة. ولم تكن هذه، كما كانت من قبل، طبقة وراثية، بل كانت طائفة يختارها الأباطرة بين الفينة والفينة على أساس الملكية العقارية. وكان أعضاء مجلس الشيوخ يعيشون بأعظم مظاهر الأبهة والفخامة وإن كان مجلسهم قد فقد بعض هيبته وكثيراً من سلطانه. وكانوا يشغلون بعض المناصب الإدارية الهامة ويظهرون فيها كثير من المقدرة والكفاية، ويقيمون الألعاب العامة على نفقتهم الخاصة. وكانت بيوتهم غاصة بالخدم مملوءة بالأثاث الغالي الثمن، وليس أدل على ذلك من أن طنفسة واحدة قد كلفت صاحبها ما قيمته أربعمائة ألف ريال أمريكي. وتكشف رسائل سيماركوس وسيدنيوس. كما يكشف شعر كلوديان عن الناحية الطيبة من حياة أولئك الأشراف الجدد، وما تمتاز به من نشاط اجتماعي وثقافي، وخدمة للدولة وولاء لها؛ وما كان بينهم من صداقة ورقة، وإخلاص متبادل بينهم وبين أزواجهم، وحب لأبنائهم وعطف عليهم.

لكن قس من مرسيلية عاش في القرن الخامس قد صور الحالة في إيطاليا وگالة بصورة أقل جاذبية من الصورة السابقة. فقد عالج سلفيان في كتابه "عن حكومة الله" (حوالي 450) نفس المشكلة التي أوحت إلى أوغسطين بكتابه "مدينة الله" وإلى أورسيوس بكتابه "التاريخ ضد الوثنيين"-وهي كيف يستطاع التوفيق بين الشرور الناجمة من غزوات البرابرة وبين العناية الإلهية الرحيمة الخيرة؟ وقد أجاب سلفيان عن هذا السؤال بأن الآلام يقاسيها سكان الإمبراطورية إن هي إلا قصاص عادل لما كان متفشياً في العالم الروماني من استغلال اقتصادي، وفساد سياسي، واستهتار أخلاقي؛ ويؤكد لنا أنا لا نستطيع أن نجد بين البرابرة مثل ما نجده بين الرومان من ظلم الأغنياء للفقراء، لأن قلوب البرابرة أرق من قلوب الرومان؛ ولو أن الفقراء وجدوا وسيلة للانتقال لهاجروا بقضهم وقضيضهم ليعيشوا تحت حكم البرابرة. يواصل هذا الواعظ الأخلاقي وصفه فيقول إن الأغنياء والفقراء، والوثنيين والمسيحيين، في داخل الإمبراطورية كلهم غارقون في حمأة من الفساد لا يكاد التاريخ يعرف لها مثيلاً؛ فالزنى، وشرب الخمر قد أصبحا من الرذائل المألوفة في هذه الأيام، كما أضحت الفضيلة والاعتدال مثار السخرية ومبعث الآلاف من الفكاهات القذرة؛ وصار اسم المسيح لفظاً تدنسه أفواه الذين يسمونه إلهاً. ويمضي هذا التاستس الثاني فيدعونا إلى أن ننظر إلى الفرق بين هذا كله وبين ما يتصف به الألمان من قوة وشجاعة، ومن مسيحية مليئة بالتقي خالية من التعقيد، ومن لين في معاملتهم للرومان المغلوبين، ومن ولاء متبادل بينهم، ومن عفة قبل الزواج، ووفاء بعده. لقد ذهل جيسريك الزعيم الوندالي إذ وجد حين استولى على قرطاجنة المسيحية أنه لا يكاد يخلو ركن فيها من بيت للدعارة، فما كان منه إلا أن أغلق هذه المواخير وخير العاهرات بين الزواج والنفي. وجملة القول أن العالم الروماني سائر إلى الانحطاط جسيماً، وقد فقد كل ما كان يتصف به من شجاعة أدبية، وترك الدفاع عنه إلى الأجانب المأجورين. ويختتم سلفيان هذا الوصف بقوله إن الإمبراطورية الرومانية "إما أن اكون قد ماتت وإما أنها تلفظ آخر أنفاسها"؛ وإذ كنا نراها في ذروة ترفها وألعابها، فإنها تضحك حين تموت.

تلك هي صورة مروعة، ظاهر فيها الغلو، لأن البلاغة قلّما تصحبها الدقة، وما من شك في أن الفضيلة قد توارت حياء في ذلك الوقت كما تتوارى الآن، وأفسحت الطريق للرذيلة، والبؤس، والسياسة، والجريمة. ويرسم أوغسطين صورة لا تقل عن هذه الصورة قتاماً يهدف بها إلى مثل هذه الغاية الأخلاقية؛ فهو يشكو من أن الكنائس كثيراً ما تخلو من المصلين لأن البنات الراقصات في دور التمثيل يجتذبن الناس منها بما يعرضنه من فتنتهن السافرة. وكانت الألعاب العامة لا تزال تشهد قتل الأسرى والمجرمين ليستمتع الناس بهذه المناظر البشعة في أعيادهم. وفي وسعنا أن نتصور ما في هذه المناظر من قسوة حين نقرأ ما يقوله سيماكوس من أنه أنفق ما قيمته 900.000 ريال أمريكي في إقامة حفلة واحدة، ومن أن المجالدين السكسون التسعة والعشرين الذين وقع الاختيار عليهم ليقاتلوا في المجتلد قد فوتوا عليه غرضه بأن خنقوا بعضهم بعضاً فانتحروا جميعاً قبل أن تبدأ الألعاب. وكان لروما في القرن الرابع 175 عيداً في العام، منها عشرة تقام فيها مباريات المجالدين، وأربعة وستون تعرض فيها ألعاب الوحوش، وما بقي منها بعد ذلك تعرض فيه مناظر في دور التمثيل. واغتنم البرابرة فرصة ولع الرومان بهذه المعارك الزائفة فانقضوا على قرطاجنة، وأنطاكية، وترير Trier حين كان الأهلون منهمكين في مشاهدتها في المدرجات أو حلبات اقتتال الوحوش. وحدث في عام 404 أن أقيمت في روما ألعاب للمجالدين احتفالاً بذكرى انتصار استلكو في بولنتيا نصراً مشكوكاً فيه. وحين بدأ الدم يراق قفز راهب شرقي يدعى تلمكس من قاعدة النظارة إلى المجتلد ونادي بوقف القتال. ولكن النظارة استشاطوا غضباً فأخذوا يرجمونه بالحجارة حتى قتلوه؛ وأثر هذا المنظر في الإمبراطور هونوريوس فأصدر مرسوماً بإلغاء ألعاب المجالدين . أما السباق فقد بقي حتى عام 549 حين قضى عليه استنزاف الحروب القوطية لثروة المدن.

أما من الناحية الثقافية فلم تشهد روما منذ أيام بلني وتاستوس عصراً نشطت فيه الثقافة مثل ما نشطت في ذلك الوقت. لقد كان كل إنسان مولعاً بالموسيقى حتى لقد شكا أميانوس من أنها قد حلت محل الفلسفة، وأنها قد "حولت الكتب إلى مقابر"؛ وهو يصف لنا أراغن مائية ضخمة، وقيثارات في حجم المركبات. وكانت المدارس كثيرة العدد، ويقول سيماكوس إن كل إنسان كان يجد الفرصة سانحة لتنمية ملكاته. وكانت "جامعات" الأساتذة الذين تؤدي لهم الدولة رواتبهم تعلم النحو، والبلاغة، والأدب، والفلسفة لطلاب جاءوا إليها من جميع الولايات الغربية، وذلك في الوقت الذي كان فيه البرابرة المحيطون بالدولة يدرسون فنون الحرب. إن كل حضارة ثمرة من ثمار شجرة الهمجية الصلبة وهي تسقط حين تسقط عند أبعد نقطة من جزع هذه الشجرة.

وجاء إلى المدينة التي يبلغ عدد سكانها مليوناً من الأنفس حوالي عام 365 يوناني سوري، كريم المحتد، وسيم الخلق، يدعى أميمانوس مرسلينوس الإنطاكي. وكان من قبل جندياً تحت قيادة أرسينوس في أرض الجزيرة، واشترك بنشاط في حروب قنسطنطيوس ويوليان وجوفيان. وقد عاش هذا الرجل عيشة الجد والعمل قبل أن يشتغل بالكتابة. ولما عاد السلام إلى ربوع الشرق ارتحل إلى روما وأخذ على عاتقه إتمام العمل الذي بدأه ليفي وتاستوس، وذلك بكتابة تاريخ الإمبراطورية من عهد نيفا إلى عهد فالنز. وكتب بلغة لاتينية عسيرة معقدة، تشبه اللغة الفرنسية إذا ما كتبها ألماني؛ وكان من أسباب هذا العسر والتعقيد في كتاباته كثرة ما قرأه من كتابات تاستوس وطول الزمن الذي كان يتكلم فيه اللغة اليونانية. وكان هذا الرجل وثنياً سافراً، من المعجبين بيوليان، ومن الذين يزدرون الترف الذي كان يعزوه إلى أساقفة روما؛ ولكنه رغم هذا كله كان بوجه عام منزهاً عن الهوى فيما كتب، يمتدح كثيراً من فضائل المسيحية، ويلوم يوليان على تقييده الحرية العلمية، ويقول إن هذا خطأ يجب "أن يقضي عليه بالسكوت الأبدي". وكان قد حصل من العلم أقصى ما يسمح وقت الجندي له بتحصيله. وكان يؤمن بالشياطين والسحر، ويقتبس من شيشرون أكبر المعارضين للقدرة على معرفة الغيب مما يؤيده به هذه العقيدة. ولكنه كان إلى حد كبير رجلاً شريفاً لا يداجي ولا يجامل، عادلاً مع جميع الناس وجميع الأحزاب؛ "لا أزين قصتي بالألفاظ الخداعة، أمين على الحقائق إلى أبعد حدود الأمانة". وكان يكره الظلم، والبذخ، والمظاهر الكاذبة، ويجهر برأيه فيها أينما وجدت؛ وكان آخر المؤرخين اليونان والرومان الأقدمين، وكان كل من جاء بعده في العالم اللاتيني مجرد إخباريين.

لكن مكروبيوس قد وجد في هذه المدينة نفسها، أي في روما، التي كانت أخلاقها في نظر أميانوس وضيعة متعاظمة فاسدة، مجتمعاً من الناس، يجملون ثراءهم باللطف والكياسة، والثقافة، ومحبة الناس. وكان مكروبيوس هذا في أول الأمر من رجال العلم مولعاً بالكتب وبالحياة الهادئة، لكننا نجده في عام 399 يعمل مبعوثاً للإمبراطور في أسبانيا. وقد أصبح تعليقه على كتاب شيشرون المسمى "أحلام سبيو" الوسيلة التي انتقل بها تصوف الأفلاطونية الجديدة وفلسفتها إلى عامة الشعب. وخير كتبه على الإطلاق هو كتاب الساترناليا أو عيد زحل الذي لا يكاد كتاب تاريخي في الخمسة عشر قروناً الأخيرة يخلو من مقتبسات منه. وهو مجموعة من (غرائب الأدب) أورد فيه المؤلف ما حصله من معلومات غير متجانسة في أيام جده ودراسته، ولياليه الطوال التي قضاها ينقب في بطون الأسفار. وقد تفوق في كتاباته على ألوس جليوس في الوقت الذي كان يسطو عليه، ذلك بأنه صاغ المادة التي أخذها عنه في صورة حوار خيالي بين رجال حقيقيين هم پروتكستاتوس وسيماخوس، وفلافيان، وسرفيوس وغيرهم ممن اجتمعوا ليحتفلوا بعيد الساترناليا بالخمر الطيب، والطعام الشهي، والنقاش العلمي. وألقيت في هذا النقاش على الطبيب ديزاريوس أسئلة علمية منها: هل الطعام البسيط خير من الطعام المتعدد الألوان؟ ولم يندر أن ترى امرأة سكرى؟ ولم يسكر المسنون من الرجال على الدوام؟ هل طبيعة الرجال أقل أو أكثر حرارة من طبيعة الناس؟. ويدور النقاش حول التقويم، وفيه تحليل طويل لألفاظ فرجيل، ونحوه، وأسلوبه، وفلسفته، وسرقاته؛ وفيه فكاهات مأخوذة من جميع العصور، ورسالة عن الولائم الدسمة، والأطعمة النادرة. وتبحث في المساء مسائل أخف من هذه يتسلى بها هؤلاء العلماء منها: لم تحمر وجوهنا من الخجل وتصفر من الخوف؟-ولم يبدأ الصلع من أعلى الرأس؟ وأيهما أسبق من الآخر الفرخ أو البيضة؟

ونجد في مواضع متفرقة من هذا الخليط المهوش فقرات سامية كالتي يتحدث فيها بريتكستاتوس عن الرق فيقول:

لن أقدر الناس بمراكزهم بل بآدابهم وأخلاقهم، لأن الثانية ثمرة طباعنا أما الأولى فهي نتيجة الصدفة.. وينبغي لك يا إفنجيلوس أن تبحث عن أصدقائك في منزلك لا في السوق العامة ولا في مجلس الشيوخ. عامل عبدك بالرفق والحسنى، وأشركه في حديثك، وأدخله أحياناً في مجالسك الخاصة. وقد عمل أباؤنا على محو الكبرياء من نفس السيد والخجل من نفس العبد بأن سموا الأول "والد الأسرة" وسموا الثاني "أحد أفراد الأسرة" وإن عبيدك ليبادرون إلى احترامك أكثر من مبادرتهم إلى خوفك.

وكانت ندوة شبيهة بهذه الندوة هي التي رحبت في عام 394 بأن ينضمم إليها شاعر شاءت الأقدار أن يتغنى بمجد روما في ساعة احتضارها. ولد كلوديوس كلوديانوس كما ولد أميانوس، في بلاد الشرق، وكانت لغته الأصلية هي اللغة اليونانية. ولكنه تعلم اللاتينية بلا ريب في حداثة سنه، لأنه كان يكتب بها أسلوب سلس. وبعد أن أقام في روما زمناً قصيراً نزح إلى ميلان، واستطاع أن يجد له مكاناً في أركان حرب استلكو، ثم صار شاعراً غير رسمي لبلاط الإمبراطور هونوريوس، وتزوج سيدة ذات ثراء من أسرة شريفة. وكان كلوديوس يترقب أن تواتيه الفرصة الكبرى ولا يحب أن يموت وهو خامل الذكر. ولذلك كان يمدح استلكو بقصائد عصماء ويهاجم أعداءه بقصائد أخرى حوت أقذع الألفاظ. وعاد إلى روما في عام 400 ولقي منها أعظم آيات الشكر والترحاب حين مدح المدينة الخالدة في قصيدة "عن قنصلية استلكو" لا تقل روعة عن قصائد فرجيل نفسه:

أيا قنصل الناس جميعاً، ويا من تضارع الآلهة في المنزلة، وأنت حامي المدينة التي لا تدانيها مدينة يحيط بها الهواء الذي على سطح الأرض، ولا تبلغ مداها العين، ولا يتصور جمالها الخيال، ولا يوفيها صوت مهما علا حقها من الثناء. إنها ترفع هامتها الذهبية تحت ما جاورها من النجوم، وتحاكي بتلالها السبعة السبع السموات العلي. هي أم الجيوش والشرائع التي عنت لجبروتها الأرض بأجمعها وكانت أقدم مهد للعدالة على ظهر الأرض. تلك هي المدينة التي نشأت نشأة متواضعة، ولكنها امتدت إلى القطبين وبسطت سلطانها من مكانها الصغير حتى بلغ مداه منتهى ما يصل إليه ضياء الشمس... فهي دون غيرها من البلاد قد فتحت صدرها لاستقبال من غلبتهم على أمرهم، وعاملت الجنس البشري معاملة الأم الرؤوم لا معاملة الحاكم المتغطرس، فحمته وخلعت عليها اسمها، ودعت من هزمتهم إلى مشاركتها في حقوق المواطنية، وربطت الشعوب البعيدة برباط المحبة. وبفضل حكمها السلمي أصبح العالم كله وطناً لنا، نعيش فيه أينما شئنا، وأصبح في مقدورنا أن نزور ثول ونرتاد براريها التي كانت من قبل تقذف الرعب في القلوب، والتي أصبح ارتيادها الآن نزهة هينة، وبفضلها يستطيع كل من أراد أن يشرب من مياه الرون ويعب من مجرى نهر العاصي، وبفضلنا صرنا كلنا شعباً واحداً.

وأراد مجلس الشيوخ أن يعبر لكلوديوس عن شكره واعترافه بفضله فأقام في سوق تراجان تمثالاً "لأجَلّ الشعراء" الذي جمع بين سلاسة فرجيل، وقوة هومر. وقضى كلوديان بعض الوقت يقرض الشعر في موضوعات تدر عليه المال، ثم وجه مواهبه وجهة أخرى فأنشأ قصيدته "اغتصاب بسبرين" وقص فيها القصة القديمة وصور البر والبحر وأسبغ على تلك الصورة من رقيق النغم ما يعيد إلى الذاكرة روايات الحب اليونانية في العصر الذي ظهرت فيه أول مرة. وبلغه في عام 408 أن استلكو قد قتل غيلة، وأن الكثيرين من أصدقاء هذا القائد قد قبض عليهم وأعدموا. واختفى الرجل بعدئذ من ميدان التاريخ فلم نعرف باقي قصته.

وبقيت في روما كما بقيت في الإسكندرية أقليات وثنية كبيرة العدد، وكان فيها حتى نهاية القرن الرابع سبعمائة هيكل وثني. ويبدو أن جوفيان وفلنتنيان الأول لم يغلقا الهياكل التي فتحها يوليان؛ فظل القساوسة الرومان حتى عام 394 يجتمعون في مجامعهم المقدسة، وظلت أعياد اللوبركاليا يحتفل بها بكل ما فيها من شعائر نصف همجية، كما ظلت الطريق المقدسة نتردد فيها بين الفينة والفينة أصداء خوار الأثوار التي تساق للضحية.

وكان أعظم الناس إجلالاً بين الوثنيين في روما في أيامها الأخيرة هو فتيوس بريتكستاتوس، زعيم الأقلية الوثنية في مجلس الشيوخ. وكان الناس جميعاً يعترفون بفضائله-باستقامته، وعلمه، ووطنيته، وحياته العائلية اللطيفة. ومن الناس من يقول إنه يماثل كاتو وسنسناتوس؛ ولكن الزمان يذكر أكثر منه صديقه سيماخوس (345-410)، الذي ترسم رسائله صورة رائعة ساحرة للأرستقراطية التي كانت تظن نفسها مخلدة وهي تحتضر. وحتى أسرته نفسها قد بدت أنها من المخلدين: فقد كان جده قنصلاً في عام 364، وكان هو نفسه حاكماً في عام 384، وقنصلاً في عام 391. وكان ابنته بريتورا، وحفيده قنصلاً في عام 485 بعد وفاة جده، وكان اثنان من أحفاده قنصلين في عام 522. وكان هو ذا ثروة طائلة؛ فقد كانت له ثلاثة قصور ريفية بالقرب من روما، وسبعة أخرى في لاتيوم، وخمسة على خليج نابلي، فضلاً عن قصور أخرى مثلها في أماكن أخرى من إيطاليا؛ وبفضل هذه القصور "كان في وسعه أن يسافر من أقصى شبه الجزيرة إلى أقصاها ثم يأوي إلى منزله في كل مكان يحل به". ولا يذكر لنا التاريخ أن أحداً من الناس كان يحسده على ثروته، لأنه كان ينفق منها بسخاء وينميها بحياة الدرس، والخدمة العامة، والأخلاق الفاضلة، وأعمال البر والإنسانية، التي لا تعرف فيها شماله ما تفعل يمينه. وكان من أصدقائه الأوفياء مسيحيون ووثنيون، وبرابرة رومان. ولعله كان يضع وثنيته قبل وطنيته؛ فقد كان يظن أن الثقافة التي يمثلها ويستمع بها وثيقة الصلة بالدين القديم، وكان يخشى أن يؤدي سقوط أيهما إلى سقوط كليهما. ويعتقد أن المواطن بإخلاصه للشعائر القديمة يحس أنه حلقة في سلسلة مترابطة متصلة أعجب اتصال-تمتد من رميولوس إلى فلنتنيان، وأن هذا الإخلاص يبعث في نفسه حب المدينة وحب الحضارة التي نشأت بفضل الأجيال المتعاقبة خلال ألف عام. وقد استحق كونتس أورليوس سيماخوس بفضل أخلاقه الطيبة أن يختاره مواطنوه ممثلاً لهم في آخر كفاحهم الرائع في سبيل آلهتهم.

وقد استطاع أمبروز أن يجعل الإمبراطور جراتيان مسيحياً متحمساً لدينه، وأغراه تحمسه للدين القديم أن يعلن على الملأ أن العقيدة النيقية فريضة واجبة على جميع الشعوب الخاضعة لحكمنا الرحيم"، وأن إتباع غيرها من العقائد "مفتونون مسلوبو العقول"، وفي عام 382 أمر ألا تؤدي خزانة الإمبراطورية أو خزائن البلديات أية إعانات لإقامة الاحتفالات الوثنية، أو للعذارى الفستية أو الكهنة الوثنيين، ثم صادر الأراضي التي تملكها الهياكل، جماعات الكهنة، وأمر أتباعه بأن يرفعوا من قاعة مجلس الشيوخ في روما تمثال إلهة النصر الذي أقامه فيها أغسطس في عام 29 ق. م، والذي ظل اثنا عشر جيلاً من الشيخ يقسمون بين يديه يمين الولاء للإمبراطور؛ وانتدب مجلس الشيوخ وفدا برياسة سيماخوس يشرح لجراتيان قضية تمثال النصر هذا. ولكن جراتيان أبى أن يستقبل الوفد، وأمر ينفي سيماخوس من روما (382)؛ وفي عام 383 قتل جراتيان وبعث هذا الأمل في مجلس الشيوخ فأرسل وفداً إلى خليفته على العرش؛ وكانت الخطبة التي ألقاها سيماخوس بين يدي فلنتنيان الثاني آية من آيات الدفاع البليغ، وكان مما قاله فيها إنه ليس من الحكمة في شيء أن يقضي هذا القضاء العاجل المفاجئ على شعائر دينية ظلت طوال ألف عام مرتبطة أشد الارتباط باستقرار النظام الاجتماعي وبهيبة الدولة، ثم قال: "ماذا يهمنا، في آخر الأمر، أي طريق يسلكا إنسان ليصل به إلى الحقيقة؟ والحق أن في وسع الناس أن يصلوا إلى معرفة هذا السر العظيم من طريق واحد".

وتأثر فلنتنيان الشاب بهذا القول، ويقول أمبروز إن من كان في المجلس الإمبراطوري من المسيحيين أنفسهم قد أشاروا على الإمبراطور بإعادة تمثال النصر إلى مكانه، ولكن أمبروز، وكان في ذلك الوقت غائباً في بعثة دبلوماسية الدولة، تغلب على المجلس برسالة قوية مليئة بالكبرياء والغطرسة أسلها إلى الإمبراطور. وعدد فيها حجج سيماخوس حجة بعد حجة، ثم دحضها كلها بما وهب من قوة وبلاغة. وقد حوت هذه الرسالة ما يعد في الواقع تهديداً للإمبراطور بإخراجه من حظيرة الدين إذا أجاب الوفد إلى طلبه، "وقد يكون في وسعك أن تدخل الكنيسة ولكنك لن تجد فيها قساً يستقبلك، أو أنك قد نجدهم فيها ليحرموا عليك دخولها". وكان من أثر ذلك أن رفض فلنتنيان طلب مجلس الشيوخ.

وبذل الوثنيون في إيطاليا مجهوداً آخر في عام 393، فأعلنوا الثورة وخاطروا في سبيل غايتهم بكل شيء. وكان ثيودوسيوس قد أبى أن يعترف بالإمبراطور يوجنيوس نصف الوثني، فرأى هذا الإمبراطور أن يستعين بوثني الغرب في دفاعه عن نفسه، فأعاد تمثال النصر إلى مكانه. وتباهى بقوله إنه حين تم له النصر على ثيودوسيوس سيربط خيله في الكنائس المسيحية. وسار نقوماكس خوس فلافيانوس زوج ابنة سيماخوس، على رأس جيش ليساعد به يوجنيوس، فقاسمه الهزيمة وانتحر. وزحف ثيودوسيوس على روما، وأرغم مجلس الشيوخ على أن يعلن إلغاء الوثنية بجميع أشكالها (394). ولما نهب ألريك روما حسب الوثنيون أن ما أصاب هذه المدينة التي كانت من قبل سيدة العالم من إذلال كان نتيجة غضب الآلهة الذين تخلت عنهم. وفككت حرب الأديان هذه وحدة الشعب. وحطمت قواه المعنوية، ولما أن وصل إليهم سيل الغزو الجارف لم يجدوا وسيلة يواجهونه بها إلا تبادل اللعنات والصلوات المتنافرة.

الحرب القوطية

عملة معدنية مرسوم عليها Theodahad (534-536)، صُكت في روما. He wears the barbaric moustache.
توتيلا يزيل أسوار فلورنسا: صورة توضيحية من مخطوطة Chigi لكتاب كرونيكا ڤيلاني.

عقب أولمبيوس على الأمر القاضي بقتل استلكو بأمر آخر يقضي بقتل آلاف من أتباعه ومنهم رؤساء فيالقه البربرية. وكان ألريك يتحين الفرصة السانحة له وراء جبال الألب، فوجد في هذا فرصته السانحة ولم يدعها تفلت من يده؛ فقال إن الربعة الآلاف من الأرطال الذهبية التي وعد الرومان بأدائها إليه لم تصله بعد، وقال إنه في نظير هذا المال يرضى أن يقدم أنبل الشباب القوطي ضماناً لولاته في مستقبل الأيام. فلما رفض هونوريوس طلبه اجتازا جبال اللب ونهب أكويليا وكرمونا، وضم إليه ثلاثين ألفاً من الجنود المرتزقة الذين أغضبهم قتل زعمائهم، وزحف بطريق فلامنيوس حتى وصل إلى أسوار روما (408). ولم يلق في هذا الزحف مقاومة اللهم إلا من راهب واحد قال له إنه قاطع طريق، فرد عليه إلريك بجواب حيره إذ قال له إن الله نفسه قد أمره بهذا الغزو. وارتاع مجلس الشيوخ كما ارتاع في أيام هنيبال، ودفعه الروع إلى ارتكاب أعمال وحشية. فقد ظن أن أرملة استلكو كانت تساعد ألريك فأمر بقتلها؛ ورد ألريك على هذا بقطع كل الطرق التي يمكن أن يصل منها الطعام إلى العاصمة، وسرعان ما أخذ الناس يموتون فيها من الجوع، وشرع الرجال يقتل بعضهم بعضاً، والنساء يقتلن أبنائهن ليتخذنهم طعاماً. وسار وفد من أهل المدينة إلى ألريك ليسأله عن شروط الصلح، وهددوه بأن ألف ألف من الرومان على استعداد لمقاومته، فتبسم ضاحكاً من قولهم وأجابهم "كلما ازداد سمك القش كان حصده أيسر". ثم رق قلبه فرضى أن ينسحب إذا أعطى كل ما في المدينة من ذهب وفضة، وكل ما تحتويه من ثروة منقولة قيمة. ولما سأله المبعوثون: "وأي شيء بعد هذا يبقى لنا؟" أجابهم في ازدراء: "حياتكم". وآثرت روما أن تمضي في المقاومة؛ ولكن الجوع اضطرها أن تطلب شروطاً جديدة للاستسلام؛ فقبل ألريك منها 5000 رطل من الذهب وثلاثين ألف رطل من الفضة، وأربعة آلاف قباء من الحرير، وثلاثة آلاف من جلود الحيوان، وثلاثة آلاف رطل من الفلفل.

وفي هذا الوقت عينه فر عدد لا يحصى من البرابرة الأرقاء من أسيادهم الرومان وانضموا تحت لواء ألريك. وكأن الأقدار شاءت أن تعوض الرومان عن هذه الخسارة، ففر من جيش ألريك قائد قوطي يدعى ساروس وانضم إلى هونوريوس، وأخذ معه قوة كبيرة من القوط، وهاجم بها جيش البرابرة الرئيسي. وعد ألريك هذا العمل نقضاً للهدنة التي وقعها الطرفان، فعاد إلى حضار روما. وفتح أحد الأرقاء أبواب المدينة للمحاصرين؛ وتدفق منه القوط، واستولى العدو على المدينة الكبرى لأول مرة في ثمانمائة عام 410. ولبثت ثلاثة أيام مسرحاً للسلب والنهب بلا تمييز بين أماكنها أو أهلها اللهم إلا كنيستي القديسين بطرس وبولس فلم يمسسهما أحد بسوء، وكذلك نجا اللاجئون الذين احتموا فيهما. غير أنه لم يكن من المستطاع السيطرة على من كان في الجيش البالغ عدده أربعين ألف مقاتل من الهون والأرقاء. فذبح مئات من أغنياء المدينة، واغتصبت نساؤهم ثم قتلن، وبلغ من كثرة القتلى أن لم يعد من المستطاع دفن الجثث التي امتلأت بها الشوارع. ووقع في أيدي الغزاة آلاف من الأسرى بينهم أخت لهونوريوس غير شقيقة تدعى جلا بلاسيديا. وأخذ الفاتحون كل ما وقع في أيديهم من الذهب والفضة؛ وصهرت التحف الفنية للاستيلاء على ما فيها من معادن نفيسة، وحطم العبيد السابقون روائع فني النحت والخزف وهم فرحون مغتبطون انتقاماً منهم لما كانوا يعانونه من فقر وكدح، هما اللذان أثمرا هذا الجمال وهذه الثروة. ثم أعاد ألريك النظام وزحف بجيشه جنوباً ليفتح صقلية؛ ولكنه أصيب بالحمى في هذه السنة عينها ومات بها في كوسنزا. وحول الأرقاء مجرى نهر بوسنتو ليفسحوا مكاناً آمناً رحباً ينشئون فيه قبره، ثم أعيد النهر إلى مجراه الأصلي، وقتل العبيد الذين بهذه الأعمال مبالغة في إخفاء المكان الذي دفن فيه.

واختير أتلف (أدلف Adolf) صهر ألريك ليخلفه في ملكه ورضى الملك الجديد أن يسحب جيشه من إيطاليا إذا تزوج بلاسيديا، وأعطى القوط بوصفهم أحلاف روما المتعاهدين معها غالة الجنوبية بما فيه نربونة وطُلوشة (طولوز)، وبردو، ولتكون مملكة لهم يحكمونها مستقلة استقلالاً ذاتياً. ورفض هونوريوس الشرط الخاص بالزواج، لكن بلاسيديا قبلته، وأعلن الزعيم القوطي أنه لا يبغي تدمير الإمبراطورية، بل يريد المحافظة عليها وتقويتها، وسحب جيشه من إيطاليا، وأنشأ مملكة للقوط الغربيين في غالة مستعيناً على إنشائها بمزيج من الدهاء السياسي والقوة الحربية. وكانت هذه المملكة من الوجهة النظرية خاضعة للإمبراطورية، وتخذ طلوشة عاصمة لها عام 414. وقتل الزعيم القوطي بعد سنة واحدة، واعتزمت بلاسيديا من فرط حبها له أن تعيش من بعده أرملة طول حياتها ولكن هونوريوس وهبها للقائد قنسطنطيوس. ولما مات قنسطنطيوس عام 421 وهونوريوس عام 423 أصبحت بلاسيديا وصية على ابنها فلنتنيان الثالث، وحكمت الإمبراطورية الغربية ثلاثين عاماً حكماً يشرف بنات جنسها.

وكان الوندال حتى في أيام ناستون، أمة قوية كثيرة العدد تمتلك الأجزاء الوسطى والشرقية من روسيا الحالية. وكانوا قبيل حكم قسطنطين قد زحفوا جنوباً إلى بلاد المجر، ولما بدد القوط الغربيون شملهم في إحدى الوقائع الحربية، طلب الباقون منهم أن يؤذن لهم بعبور الدانوب ودخول الإمبراطورية الرومانية. ووافق قسطنطين على طلبهم هذا، وظلوا سبعين عاماً يتكاثرون ويتضاعف عددهم في بنونيا. وأثارت انتصارات ألريك حميتهم؛ ولما سحبت الدولة فيالقها من وراء جبال الألب لتدافع بها عن إيطاليا، تفتحت لهم أبواب الغرب واستهوتهم بثروته، حتى إذا كان عام 406 زحفت جموع كبيرة من الوندال، والألاني، والسيوفي وعبرت نهر الرين وعاثت فساداً في بلاد غالة، ونهبوا مينز وذبحوا كثيراُ من أهلها، ثم تحركوا شمالاً إلى بلجيكا، ونهبوا مدينة تيير Tier العظيمة وأحرقوها. ثم أقاموا الجسور على نهري الموز والآين ونهبوا ريمس، وأمين، وأراس، وتورناي، وواصلوا الزحف حتى كادوا يبلغون بحر المانش. ثم اتجهوا نحو الجنوب وعبروا نهري السين واللوار ودخلوا أكوتانيا وصبوا غضبهم الوحشي على جميع مدنها تقريباً ما عدا طلوسة، التي دافع عنها إكسبريوس دفاع الأبطال. ووقفوا عند جبال البرنس، ثم ولوا وجههم نحو الشرق ونهبوا نربونة، وشهدت غالة من التخريب والتدمير الكامل ما لم تشهد له مثيل من قبل.

وفي عام 409 دخلوا أسبانيا وكان عددهم وقتئذ نحو مائة ألف. وكان الحكم الروماني في تلك البلاد قد أثقل كاهل أهلها بالضرائب، وأدخل فيها إدارة منظمة، وجمع الثروة في ضياع واسعة، وجعل الكثرة الغالبة من سكانها عبيداً، أو رقيق الأرض، أو أحراراً يعانون ويلات الفقر المدقع. ولكن أسبانيا كانت بفضل ما فيها من استقرار وسلطان للقوانين أعظم ولايات الإمبراطورية رخاء، وكانت مريدة، وقرطاجنة، وقرطبة، وأشبيلية، وطركونه من أغنى مدائن الإمبراطورية وأعظمها ثقافة. وانقض الوندال والسيوفي والألاني على هذه الشبه الجزيرة التي كانت تبدو آمنة حصينة، وأعملوا فيها السلب والنهب عامين كاملين حتى لم ينجح فيها مكان من جبال البرنس إلى جبل طارق، بل إن فتوحهم امتدت إلى سواحل إفريقية الشمالية. وأدرك هونوريوس أنه عاجز عن حماية الأراضي الرومانية بالجيوش الرومانية، فأغرى القوط الغربيين بالمال الوفير ليردوا إليه أسبانيا. وقام ملكهم القدير واليا بهذا العمل بعد عدة وقائع حربية أحكم خططها عام 420، فارتد السويفي إلى شمالي أسبانيا، كما ارتد الوندال إلى إقليم الأندلس الذي لا يزال يسمى باسمهم حتى اليوم، وأعاد ولاية أسبانيا إلى حوزة الإمبراطورية، وكشف بذلك عما في أخلاق ساسة الرومان من غدر ونكث بالعهود.

وكان الوندال لا يزالون يتوقون إلى الفتح والخبز، فعبروا البحر إلى أفريقا عام 429. وإذا جاز لنا أن نصدق بروكبيوس، وجردانيس قلنا إنهم جاءوا إليها بدعوة من بنيفاس حاكم أفريقية الروماني ليستعين بهم على منافسه إيتيوس الذي خلف استلكو، لكن هذه القصة لا تعتمد على مصدر موثوق به. ومهما يكن من أمرها فإن ملك الوندال كان قادراً على خلق هذه الخطة. وكان جيرسيك ملك الوندال ابناً غير شرعي لعبد رقيق، وكان أعرج لكنه قوي الجسم، متقشفاً زاهداً، لا يهاب الردى في القتال، يلتهب غيظاً إذا غضب، ويقسو أشد القسوة على عدوه ولكنه عبقري لا يغلب في شؤون الحرب والمفاوضة. ولما نزل غلى أفريقية انضم إلى من كان معه من الوندال، والآلاني، من جند، ونساء، وأطفال المغاربة الأفريقيين الذي ظلوا عهوداً طوالاً حانقين على الحكم الروماني، كما انضم إليهم الدناتيون المارقون الذين كانوا يقاسون أشد أنواع الاضطهاد من المسيحيين أتباع الدين القويم. ورحب هؤلاء وأولئك بالغزاة الفاتحين وبالحكم الجديد. ولم يستطع بينفاس أن يحشد من سكان شمالي أفريقية الروماني البالغ عددهم ثمانية ملايين إلا عدداً ضئيلاً يساعد جيشه الروماني. ولما هزمته جحافل جيسريك هزيمة منكرة تقهقر إلى هبو حيث أثار القديس أوغسطين الطاعن في السن حمية السكان فهبوا يدافعون عن بلدهم دفاع الأبطال، وقاست المدينة أهوال الحصار أربعة عشر شهراً كاملة (430-431)، انسحب بعدها جيسريك ليلقي جيشاً رومانياً آخر، وأوقع به هزيمة منكرة اضطر على أثرها سفير فلنتنيان إلى أن يوقع شروط هدنة يعترف فيها باستيلاء الوندال على فتوحهم في أفريقية. وحافظ جيسريك على شروط الهدنة حتى غافل الرومان وانقض على قرطاجنة الغنية واستولى عليها دون أن يلقي أية مقاومة عام 439. وجرد أشراف المدينة وقساوستها من أملاكهم ونفاهم أو جعلهم أقنان أرض. ثم استولى على كل ما وجده من متاع سواء منه ما كان لرجال الدين أو لغيرهم من الأهلين، ولم يتردد في الالتجاء إلى التعذيب للوقوف على مخابئه.

وكان جيسريك لا يزال وقتئذ في شرخ الشباب، وكان إدارياً قديراً أعاد تنظيم أفريقية وجعل منها دولة ذات ثراء عليه المال الوفير، ولكن أسعد أوقاته كان هو الوقت الذي يشتبك فيه في القتال. وقد أنشأ له أسطولاً ضخماً، نهب به سواحل أسبانيا، وإيطاليا، وبلاد اليونان. وكان يفاجئ تلك البلاد حتى لم يكن أحد يدري أي الشواطئ سترسو فيها سفنه المثقلة بالفرسان، ولم تنتشر القرصنة في غرب البحر المتوسط طوال أيام الحكم الروماني دون أن تلقى مقاومة كما انتشرت في تلك الأيام. واضطر الإمبراطور في آخر الأمر أن يعقد الصلح مع ملك البرابرة ليحصل بذلك على القمح الذي تطعم منه رافنا وروما، ولم يكتف بذلك بل وعده أن يزوجه إحدى بناته. وكانت روما في هذه الأثناء لا تزال تضحك وتلعب لاهية عما سيحل بها بعد قليل من دمار.

وكانت ثلاثة أرباع قرن انقضت مذ دفع الهون أمامهم البرابرة الغزاة بعبورهم نهر الفلجا. ثم تباطأ بعد ذلك زحف الهون نحو الغرب فكان هجرة على مهل، وكان أشبه بانتشار المستعمرين في القارة الأمريكية منه بفتوح ألريك وجيسريك. وما لبثوا أن استقروا بعدئذ شيئاً فشيئاً في داخل بلاد المجر، وبالقرب منها، وأخضعوا لحكمهم كثيراً من القبائل الألمانية.

ومات روا ملك الهون حوالي عام 433 وأورث عرشه بليدا وأتلا ابني أخيه. ثم قتل بليدا- بيد أتلا كما يقول بعضهم- حوالي عام 444، وتولى أتلا (ومعنى اللفظ باللغة القوطية الأب الصغير) حكم القبائل المختلفة الضاربة شمال نهر الدانوب من الدن إلى الرين. ويصفه جردانس المؤرخ القوطي وصفاً لا نعرف مقدار ما فيه من الدقة فيقول:

هو رجل ولد في هذا العالم ليزلزل أقدام الأمم، هو سوط عذاب سلط على الأرض، روع سكان العالم أجمع بما انتشر حوله من الشائعات في خارج البلاد، وكان جباراً متغطرساً في قوله، يقلب عينيه ذات اليمين وذات الشمال، يظهر في حركات جسمه ما تنطوي عليه نفسه من قوة وكبرياء. وكان في الحق أخاً غمرات محباً للقتال، ولكنه يتمهل فيما يقدم عليه من أعمال، وكان عظيماً فيما يسدي من نصح، غفوراً لمن يرجو منه الرحمة، رؤوفاً بمن يضع نفسه تحت حمايته. وكان قصير القامة، عريض الصدر، كبير الرأس، صغير العينين، رقيق شعر اللحية قد وخطه الشيب. وكان أفطس الأنف، أدكن اللون، تنم ملامحه على أصله.

وكان يختلف عن غيره من البرابرة في أنه يعتمد على الختل أكثر من اعتماده على القوة. وكان يحكم شعبه باستخدامه خرافاته لتقديس ذاته العليا، وكان يمهد لانتصاراته بما يذيعه من القصص المبالغ فيها عن قسوته، ولعله هو الذي كان ينشئ هذه القصص إنشاء، حتى لقد سماه أعداؤه المسيحيون آخر الأمر "بسوط الله"، وارتاعوا من ختله ارتياعاً لم ينجهم من إلا القوط. وكان أمياً لا يستطيع القراءة أو الكتابة، ولكن هذا لم ينقص من ذكائه الفطري. ولم تكن أخلاقه كأخلاق المتوحشين، فقد كان ذا شرف، وكان عادلاً، وكثيراً ما أظهر أنه أعظم كرماً وشهامة من الرومان. وكان بسيطاً في ملبسه ومعيشته، معتدلاً في مأكله ومشربه، يترك الترف لمن هم دونه ممن يحبون التظاهر بما عندهم من آنية فضية وذهبية، وسروج، وسيوف وأثواب مزركشة تشهد بمهارة أصابع أزواجهم، وكان لأتلا عدد كبير من أولئك الأزواج ولكنه كان يحتقر ذلك الخليط من وحدة الزواج والدعارة الذي كان منتشراً عند بعض الطوائف في رافنا وروما. وكان قصره بيتاً خشبياً ضخماً أرضه وجدرانه من الخشب المسوى بالمسحج، ولكنه يزدان بالخشب الجميل الصقل والنحت، فرشت فيه الطنافس والجلود ليتقي بها البرد، وكانت عاصمة ملكه قرية كبيرة أغلب الظن أنها كانت في مكان بودا الحالية؛ وقد ظل بعض المجريين حتى هذا القرن يطلقون على هذه المدينة إتزلنبرج أي مدينة أتلا.

وكان في الوقت الذي نتحدث فيه عنه عام 444 أقوى رجل في أوربا، وكان ثيودوسيوس الثاني إمبراطور الدولة الشرقية، وفلنتنيان إمبراطور الغرب يعطيانه الجزية يشتريان بها السلام، ويتظاهرون أمام شعوبهما بأنها ثمن لخدمات يؤديها أحد أقيالها. ولم يكن أتلا، وهو قادر على أن ينزل إلى الميدان جيشاً خمسمائة ألف مقاتل، يرى ما يحول بينه وبين السيادة على أوربا كلها وبلاد الشرق بأجمعها. ففي عام 441 عبر قواده وجنوده نهر الدانوب، واستولوا على سرميوم ، وسنجديونوم (بلگراد) ونيسوس (نيش) وسرديكا Sardica (صوفيا)، وهددوا القسطنطينية نفسها. وأرسل ثيودوسيوس الثاني جيشاً لملاقاتهم، ولكنه هزم، ولم تجد الإمبراطورية الشرقية بداً من أن تشتري السلم برفع الجزية السنوية من سبعمائة رطل من الذهب إلى ألفي رطل ومائة. وفي عام 447 دخل الهون تراقية، وتساليا، وسكوذيا، (جنوبي روسيا) ونهبوا سبعين مدينة وساقوا آلافاً من أهلها أرقاء. وأضيفت السبايا إلى أزواج المنتصرين، ونشأ من ذلك جيل اختلطت فيه دماء الفاتحين والمغلوبين ترك آثاراً من الملامح المغولية في الأقاليم الممتدة من الشرق حتى بافاريا، وخرجت غارات الهون بلاد البلقان تخريباً دام أربعة قرون، وأتى على نهر الدانوب حين من الدهر لم يعد فيه كما كان طريق التجارة الرئيسي بين الشرق والغرب، واضمحلت لهذا السبب المدن القائمة على شاطئيه.

ولما أن استنزفت أتلا دماء الشرق بالقدر الذي ارتضاه ولى وجهه نحو الغرب وتذرع لغزوه بحجة غير عادلة. وخلاصة تلك الحجة أن هونوريا أخت فلنتنيان الثالث كانت قد نفيت إن القسطنطينية بعد أن اعتدى على عفافها أحد رجال التشريفات في قصرها. وتلمست هونوريا أية وسيلة للخلاص من النفي فلم تر أمامها إلا أن تبعث بخاتمها إلى أتلا وتستجيره ليساعدها في محنتها، واختار الملك الداهية، الذي كانت له أساليبه الخاصة في الفكاهة، أن يفسر إرسال الخاتم بأنه عرض منها للزواج بها، فطالب من فوره بهونوريا وبنصف الإمبراطورية الغربية بائنة لها، ولما احتج وزراء فلنتنيان على الطلب أعلن أتلا الحرب. هذا هو السبب الظاهري، أما السبب الحقيقي فهو ان مرسيان Marcian الإمبراطور الجديد في الشرق أبى أن يستمر على أداء الجزية وان فلنتنيان قد حذا حذوه.

وفي عام 450 زحف أتلا ومعه نصف مليون رجل على نهر الرين، ونهبوا تريير ومتز وأحرقوها وقتلوا أهلها. فقذف ذلك الرعب في قلوب غالة كلها فقد علموا أن الغزاة ليس على رأسهم جندي متمدين كقيصر، أو مسيحي -ولو كان من أتباع أريوس- مثل ألريك أو جيسريك، بل كان الزاحف عليهم هو الهوني الرهيب، سقوط الله المبعوث لعذاب المسيحيين والوثنيين على السواء لما هنالك من فرق شاسع بين أقوالهم وأعمالهم. وجاء ثيودريك الأول ملك القوط المعمر لينقذ الإمبراطورية من محنتها وانضم إلى الرومان بقيادة إيتيوس، والتقت الجيوش الضخمة في حقول قطلونيا بالقرب من ترويس، ودارت بينها معركة من أشد معارك التاريخ هولاً، جرت فيها الدماء انهاراً، حتى ليقال إن 162.000 رجل قد قتلوا فيها من بينهم ملك القوط البطل المغوار؛ وانتصر الغرب في هذه المعركة نصراً غير حاسم، فقد تقهقر أتلا بانتظام، وأنهكت الحرب الظافرين، أو لعلهم كانوا منقسمين على أنفسهم في خططهم، فلم يتعقبوا أتلا وجنوده ولهذا غزا إيطاليا في العام التالي.

وكانت أول مدينة استولى عليها في زحفه هي أكويليا، وقد دمرها تدميراً قضى عليها قضاء لم تقم لها بعده قائمة حتى اليوم، أما فرونا وفبسنزا فقد عوملنا بشيء من اللين والرحمة واشترت بافيا وميلان نفسيهما من الغزاة بتسليم كل ما فيهما من ثروة منقولة. وبعد هذا فتحت الطريق إلى روما أمام أتلا؛ وكان جيش إيتيوس قليل العدد لا يقوى على أية مقاومة جدية، ولكن أتلا تباطأ عند نهر البو، وفر فلنتنيان الثالث إلى روما، ثم أرسل إلى ملك الهون وفداً مؤلفاً من البابا ليو الأول واثنين من أعضاء مجلس الشيوخ. وما من أحد يعلم ما جرى حين اجتمع هذا الوفد بأتلا. وكان ليو رجلاً مهيب الطلعة، يعزو إليه المؤرخون معظم ما أحرزه الوفد من نصر لم ترق فيه دماء. وكل ما يذكره التاريخ عن هذا النصر أن أتلا قد ارتد لأن الطاعون فشا بين جنوده، ولأن مئونتهم كانت آخذة في النفاد، ولأن مرسيان كان المدد من الشرق عام 452.

وقاد أتلا جحافله فوق جبال الألب وعاد بها إلى عاصمته في بلاد المجر، متوعداً إيطاليا بالعودة إليها في الربيع التالي إذا لم ترسل إليه هونوريا، ليتخذها زوجة له. وقد استعاض عنها في هذه الأثناء بشابة تدعى إلديكو ضمها إلى نسائه. وكانت هذه الفتاة هي الأساس التاريخي الواهي لقصة المسماة نِبل أنجليد. واحتفل بزفافها له احتفالاً أثقلت فيها الموائد بالطعام والشراب. ولما أصبح الصباح وجد أتلا ميتاً في فراشه إلى جانب زوجته الشابة، وكان سبب موته انفجار أحد الأوعية الدموية، فكتم الدم الذي تدفق منه نفسه وقضى عليه عام 453. وقسمت مملكته بين أولاده، ولكنهم عجزوا عن المحافظة عليها، فقد دبت الغيرة بينهم ورفضت القبائل التي كانت خاضعة لأبيهم أن تظل على ولائها لهؤلاء الزعماء المتنازعين، ولم تمض إلا بضع سنين حتى تقطعت أوصال الإمبراطورية التي كانت تهدد بإخضاع اليونان والرومان والألمان والغاليين لحكمها، وتطبع وجه أوربا وروحها بطابع آسية، ومحيت اليونان من الوجود.

سقوط روما

توفيت بلاسيديا في عام 450، وانفرد فلنتنيان بالملك يخبط فيه خبط عشواء، وكان من اوخم أخطائه عاقبة أن استمع إلى نصيحة بترونيوس مكسموس فقتل إيتيوس الذي وقف زحف أتلا عند ترويس كما استمع هونوريوس إلى أولمبيوس فقتل استلكو الذي وقف زحف ألريك عند يولتثيا. ولم يكن لفلنتنيان ولد ذكر ولم يرتح إلى رغبة إيتيوس في أن يزوج ابنه بودوشيا ابنة فلنتنيان. وانتابت الإمبراطور نوبة جنونية من الغضب فأرسل في طلب إيتيوس، وذبحه بيده عام 454. وقال له رجل من رجال الحاشية: "مولاي، لقد قطعت يمينك بشمالك" ولم تمض على هذا العمل بضعة أشهر حتى استطاع بترونيوس أن يغري رجلين من أتباع إيتيوس بقتل فلنتنيان، ولم يهتم أحد بتعقب القاتلين لأن القتل كان قد اصبح من عهد بعيد البديل الوحيد للانتخاب. واختار بترونيوس نفسه للجلوس على العرش، وأرغم يودكسيا أرملة فلنتنيان على ان تتزوجه؛ كما أرغم بودوشيا على أن تتزوج ابنه بلاديوس. وإذا جاز لنا أن نصدق أقوال بروكبيوس، فإن يودكسيا استعانت بجيسريك، كما استغاثت هونوريا قبل ذلك بأتلا. وكان لدى جيسريك من الأسباب ما يجعله يلبي هذه الاستغاثة: فقد أصبحت روما غنية مرة أخرى على الرغم من انتهاب ألريك لها، ولم يكن الجيش الروماني بالجيش القوي الذي يستطيع الدفاع عن إيطاليا. وأبحر ملك الوندال بأسطول قوي لا يغلب عام 455، ولم يقف أحد بينه وبين أستيا وروما إلا بابا أعزل ومعه بعض قساوسة روما. ولم يقو البابا ليو في هذه المرة على إقناع الفاتح بالارتداد عن روما، وكل ما استطاع أن يحصل عليه منه هو وعده بأن يمتنع عن ذبح السكان وتعذيبهم وإحراق المدينة. وأسلمت المدينة أربعة أيام كاملة للجند ينهبون فيها ويسلبون؛ ونجت الكنائس المسيحية، ولكن كل ما كان باقياً في المعابد من كنوز نقل إلى سفن الوندال، وكان من بين هذه الغنائم المناضد الذهبية، والماثلات ذات الشعب السبع، وغيرها من الآنية المقدسة التي جاء بها تيتوس Titus من هيكل سليمان إلى روما منذ أربعة قرون. ونهب كذلك كل ما كان في القصر الإمبراطوري من المعادن الثمينة، والحلي، والأثاث وكل ما كان باقياً في بيوت الأغنياء من أشياء ذات قيمة واتخذ آلافاً من الأسرى عبيداً، وفرق بين الأزواج وزوجاتهم، وبين الأبناء وآبائهم، وأخذ جيسريك الإمبراطورة يودكسيا وابنيهما معه إلى قرطاجنة؛ وزوج يودوسيا ابنه هونريك؛ وأرسل الإمبراطورة وبلاسيديا (صغرى ابنتيهما) إلى القسطنطينية استجابة لطلب الإمبراطور ليو الأول. ولم يكن انتهاب روما على هذا النحو في واقع الأمر تخريباً لا يراعي فيه عرف أو قانون، بل كان يتفق مع الشرائع القديمة للحروب. لقد ثأرت قرطاجنة لنفسها من قسوة روما عليها في عام 146 وكانت في انتقامها هذا رقيقة رحيمة.

وضربت الفوضى وقتئذ أطنابها في إيطاليا. ذلك أن خمسين عاماً من الغزو والقحط والوباء قد تركت آلاف الضياع مخربة، وآلاف الأفدنة بوراً؛ ولم يكن هذا لأن تربتها أنهكت من الاستغلال، بل لأن هذا الأراضي أعوزها الرجال؛ وأخذ القديس أمبروز (حوالي عام 420) يرثي لخراب بولونيا ومودينا، وبياسنزا ونقص عامرها، ووصف البابا جلاسيوس (حوالي 480) أقاليم واسعة في شمالي إيطاليا بأنها تكاد تكون مقفرة من الآدميين.

ونقص سكان روما نفسها من مليون ونصف إلى ثلاثمائة ألف في قرن واحد؛ واختص الشرق وقتئذ دون غيره بجميع المدائن الكبرى في الإمبراطورية. وهجر الناس الكمبانيا المحيطة بروما والتي كانت من قبل ملآى بالضياع الخصبة والقصور الصغيرة ولجأوا إلى المدن المسورة ليحتموا فيها من غارات العداء؛ وانكمشت المدن نفسها فلم تعد تزيد مساحة أرضها على أربعين فداناً أو نحوها كي تكفي موارد أهلها تسويرها وحمايتها من العداء؛ وكثيراً ما كانت السوار يبنى على عجل من أنقاض دور التمثيل والباسلقات والهياكل التي كانت من قبل بهجة المدن الإيطالية وسبب رونقها. على أن روما قد بقي فيها قليل من الثروة حتى بعد جيسريك، وانتعشت هي وغيرها من المدن الإيطالية فيما بعد تحت حكم ثيودريك واللمباردين: ولكن الفقر العام الذي حل في عام 470 بالحقول والمدن، وبأعضاء مجلس الشيوخ والعامة على السواء، سحق أرواح الشعب الذي كان من قبل عظيماً وأذل نفسه، فملك عليه اليأس والاستسلام قلبه، وتشكك في الآلهة كلهم عدا بريابوس واستولى عليه وجل كوجل الأطفال جعله يهاب تبعات الحياة، وجُبْنٌ غاضب ثائر يندد بكل استسلام ويفر من جميع الواجبات الحربية، وكان يصحب هذا الانحطاط الاقتصادي والحيوي عفن ينخر سوسه في جميع طبقات الشعب، في أرستقراطية في وسعها أن تخدم لكنها عاجزة عن أن تحكم، وفي رجال الأعمال المنهمكين في مكاسبهم الشخصية انهماكاً يحول بينهم وبين العمل لإنقاذ شبه الجزيرة، وفي قواد ينالون بالرشوة أكثر مما يستطيعون نيله بقوة السلاح، وبيروقراطية متشعبة متخمة خربت رواتبها خزائن الدولة، وفسدت فساداً مستعصياً على العلاج وقصارى القول أن جذع هذه الشجرة العظيمة قد تعفن، وآن لها أن تسقط.

وتوالت على عرش الإمبراطورية في السنين الخيرة من حياتها طائفة من الأباطرة ليس فيهم من هو فوق المتوسط. فقد أعلن القوط في غالة قائداً لهم يدعى أفتوس إمبراطوراً عام 455، ولكن مجلس الشيوخ أبى أن يقره، فاستحال أسقفاً؛ ولم يدخر ماجوريان (456-461) جهداً في إعادة النظام، ولكن رئيس وزرائه رسمر القوطي الغربي أنزله عن العرش. وكان سفيروس (461-466) آلة صماء في يد رسمر يفعل ما يشاء، وكان أنثيميوس (467-472) فيلسوفاً نصف وثني لا يرضى بالغرب؛ فما كان من رسمر إلا أن ضرب عليه الحصار وقبض عليه وأمر بقتله وحكم أوليبريوس برعاية رسمر شهرين عام 472؛ ثم مات ميتة غريبة في ذلك الوقت إذ كانت ميتة طبيعية. وسرعان ما خلع جليسريوس عام 473، وظلت روما عامين يحكمها يوليوس نيبوس. وبينا كانت هذه الأحداث جارية في إيطاليا، انقض عليها خليط آخر من البرابرة -الهرولي، والإسكيري ، والروجي (وغيرهم من القبائل التي كانت من قبل تعترف بحكم أتلا. وقدم في الوقت نفسه بنونيائيٌّ يدعى أرستيز Orestes فخلع نيبوس، وأجلس ابنه رميولوس (الملقب أوغسطولس استهزاء به) على العرش عام 475. وطلب الغزاة الجدد إلى أن يعطيهم ثلث إيطاليا، فلما أبى ذبحوه وأجلسوا قائدهم أدوسر على العرش بدل رميولوس عام 476، ولم يكن هذا القائد -وهو ابن إدكون وزير أتلا- مجرداً من الكفايات. وقد بدأ بأن جمع مجلس الشيوخ المرتاع، وعن طريقه عرض على زينون الإمبراطور الجديد في الشرق أن تكون له سيادة على جميع الإمبراطورية على شرط أن يحكم أدوسر إيطاليا بوصفه وزيراً له، ورضى زينون بهذا العرض وانتهت بذلك سلسلة الأباطرة الغربيين.

ويبدو أن أحداً من الناس لم ير في هذا الحادث "سقوطاً لروما" بل بدا لهم على عكس هذا أنه توحيد مبارك للإمبراطورية وعودتها إلى ما كانت عليه في عهد قسطنطين. وقد نظر مجلس الشيوخ في روما إلى المسألة هذه النظرة، وأقام في روما تمثالاً لزينون، ذلك أن اصطباغ الجيش، والحكومة، والزراع، في إيطاليا بالصبغ الألمانية قد ظل يجري زمناً بلغ من طوله أن بدت معه النتائج السياسية تحولاً عديم الشأن على سطح الحياة القومية.

أما الحقيقة التي لا نزاع فيها فهي أن أدوسر كان يحكم إيطاليا بوصفه ملكاً عليها دون أن يعبأ بزينون. ذلك أن الألمان قد فتحوا في واقع الأمر إيطاليا، كما فتح جيسريك أفريقية، وكما فتح القوط الغربيون أسبانيا، وكما كان الإنجليز والسكسون يفتحون بريطانيا: والفرنجة يفتحون غالة، ولم يعد للإمبراطورية العظمى في الغرب وجوب.

وترتب على فتوح البرابرة هذه نتائج لا حصر لها، لقد كان معناها من الناحية الاقتصادية تحول الحياة من المدن إلى الريف. ذلك أن البرابرة كانوا يعيشون على الحرث، والرعي، والصيد، والحرب، ولم يكونوا قد تعلموا بعد العمال التجارية المعقدة التي تنتعش بها المدن، وكان انتصارهم إيذاناً بالقضاء على الصبغة المدنية للحضارة الغربية قضاء دام سبعة قرون. وأما من الوجهة العنصرية فإن هجرات البرابرة المتعددة أدت إلى امتزاج جديد بين العناصر البشرية -وإلى دخول دم ألماني غزير في إيطاليا، ودم غالي في أسبانيا، ودم أسيوي في روسيا والبلقان وبلاد المجر. ولم يعِد هذا الامتزاج للقوة والنشاط إلى الإيطاليين أو الغاليين بطريقة خفية معجزة الدرك، بل إن ما حدث لم يزد على إفناء الأفراد والسلالات الضعيفة بسبب الحروب وغيرها من ضروب التنافس، وعلى اضطرار كل إنسان لأن ينمي قوته. وحيويته، وشجاعته، وصفات الرجولة التي طمس معالمها طول الاستسلام إلى الأمن والسلام؛ وعلى تأثير الفقر في عودة أساليب للحياة أصح وأكثر بساطة من الأساليب التي ولدها ترف المدن واعتماد الأهلين على الرزاق التي تقدمها لهم الحكومة.

وأما من الوجهة السياسية فقد أحلت الفتوح صورة دنيا من الملكية محل صورة عليا منها. فقد زادت من سلطان الأفراد وقللت من سلطان القوانين ومن اعتماد الناس عليها لحمايتهم. واشتدت النزعة الفردية وازداد العنف. وفي الناحية التاريخية حطمت الفتوح الهيكل الخارجي لذلك الجسم الذي تعفن من الداخل، وأزالت من الوجود، بوحشية يؤسف لها، نظاماً من الحياة، شاخ ووهن وبلي، وفقد كل قدرة على التجدد والنماء، رغم ما كان فيه من فضائل النظام والثقافة، والقانون؛ وبهذا أصبح من المستطاع أن تبدأ حياة جديدة غير متأثرة بالماضي. فانمحت إمبراطورية الغرب ولكن دول أوربا الحديثة قد ولدت- لقد دخل إيطاليا قبل المسيح بألف عام غزاة من الشمال، أخضعوا أهلها لسلطانهم، وامتزجوا بهم وأخذوا عنهم حضارتهم، وبنوا وإياهم في خلال ثمانية قرون حضارة جديدة. وبعد المسيح بأربعمائة عام تكررت العملية نفسها، ودارت عجلة التاريخ دورة كاملة، وكانت البداية هي نفسها النهاية، ولكن النهاية كانت على الدوام بداية.

الثقافة

حلي أقراط قوطية شرقية، متحف متروپوليتان للفنون.

حكام القوط الشرقيين

أسرة أمال

الملوك اللاحقون

انظر أيضاً

الهوامش

  1. ^ ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

المصادر