مما جرى في بر مصر

مما جري في بر مصرpdf

مما جرى في بر مصر (2006) هو كتاب من تاليف الكاتب المصري يوسف الشريف

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مقدمة الكتاب المؤلف

في هذا الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ .. حاولت قدر الجهد اختبار مادته لا عبر الكتب وأرشيف الصحف والمكتبات العامة ، وإنما عبر الرصد الصحفي أو العفوي لملامح المتغيرات التي طرأت على حياتنا خلال القرن العشرين ، وتحديدا منذ منتصفه الأخير الذي شهد اندلاع ثورة ۲۳ يوليو عام ۱۹۵۲ ، وتأثيرها وانعكاساتها المباشرة أو الضمنية على المناشط الاجتماعية والثقافية والوجدانية عبر منهج انتقائي لا يعتمد على تسلسل الوقائع ، وإنما أقرب إلى الومضات المعرفية السريعة عملا بالمثل القائل ما لا يدرك كله لا يترك له ؟

سوف تجد عزيزي القارئ أنني أفسحت صفحات خاصة على سبيل المثال الرصد المتغيرات التي طرأت على مقاهي القاهرة بوجه خاص ، كونها أشبه بالمنابر الشعبية الديمقراطية ، خصوصا وكانت متعتي ولا تزال المشاركة في أنشطتها السياسية والثقافية والاجتماعية ، كما أسعفتني صلات القربی بال « النشارة إلى کشف الستار عن بعض أسرار ثورة يوليو وجوانب خفية في سيرة حياة الرئيس جمال عبد الناصر، وعرضت فصولا من تجربتي في عالم الصحافة وأحوالها في واحدة من مؤسساتها العريقة ، وسلطت الضوء على حياة عدد من الفنانين والأدباء سواء الذين تربعوا على قمة التألق والشهرة ، أو غيرهم من المجهولين الذين كان حظهم الانزواء في الظل ومتاهات النسيان .

حكيت شهادتي عن كثير من الفنانين والأدباء والصعاليك النبلاء ، وعن معايشتي الأم كلثوم عن قرب خلال زيارتها المثيرة وغنائها المبهر في السودان، وعند وشعبها الذي يعرف جيدا كيف يثرى الحياة ويستمتع بمباهجها ، وعن حياة الرهبان الذين يتعبدون في البرية وغيرهم ممن يعيشون وراء أسوار الأديرة في وادی النساك.

لعلی من هنا .. أحسب بعد أن انتهيت من وضع هذا الكتاب ، أن لكل إنسان تجربته الخاصة التي تستحق التسجيل وتستدعي القراء للإطلال على وقائعها و دروسها المستفادة ، وذلك ما نشهده في الدول المتقدمة ، حيث تفاجأ بأن أكثر الكتب توزيعا ورواجا وشهرة من تأليف أعلام أو مجهولين تجرعوا على الكتابة عن تجاربهم الذاتية بشكل عفوي وبأسلوب لا تنقصه الإثارة والصراحة والشفافية .. وهو ما يذكرني بمقولة الشيخ النقاد الدكتور محمد مندور، من أن أعظم الكتاب وأرق الشعراء وأعقل الحكماء في مصر لم نعرفهم بعد ، لأن أحدا لم يهتم باکتشافهم والحفاوة بعطائهم وإبداعاتهم ، أو لأنهم لا يزالون أسرى الخوف والتردد في البوح عن مكنوناتهم الشخصية .

والشاهد أن فكرة هذا الكتاب ظلت تراودني وتختمر على مهل في عقلی وفي ضمیری کلما تيسر لي قراءة ابن بطوطة وابن إياس والجبرتي وإدوارد لين، وبعض المترجمات لمؤلفات علماء الحملة الفرنسية ووصفهم البانورامي التفصيلي لمصر وأحوالها ، حيث كان أبرز ما شد انتباهي وأثار حنینی ، ذلك الرصد الواعي الباهر للعمارة والتقاليد والعادات والمهن والحرف المختلفة ، وكشف الستار عما غاب عن اهتمام المؤرخين من معالم و أسرار الشخصية المصرية ووجدانياتها .

حتى وقع في بدى مخطوط کتاب مجهول يحمل عنوان « خبايا القاهرة » فما إن انتهيت من قراءته حتى كان قرارى الشروع في النسج على منواله ولو بشكل مختلف ، أو بمعنى أكثر واقعية النهوض بمهمة وصل ما انقطع بعد التطورات والأحداث ومتغيرات المجتمع وخباياه خلال الحقب الزمنية اللاحقة .... يوسف الشريف


اقتباسات

مما جرى في بر مصر متراصة ، يضم كل منها أربعة منهم ونصفهم الأعلى عار ، وبأيديهم سلاسل يضربون بها صدورهم ، وخلفهم صفوف أخرى على نفس النسق يضربون جباههم بالسيوف والسكاكين ، وتسيل دماؤهم على صدورهم ووجوههم وهم يرددون عبارات الحزن على مقتل الحسن والحسين حيث يخترق الموكب شارع الموسکی حتی المعبر ، وعند منزل يقع في أوله فتزداد ضرباتهم ونزف دمائهم ، حتى إذا وصل الموكب إلى المشهد الحسینی وحاولوا اقتحامه منعهم البوليس بقوة وحالت الأبواب المغلقة دون دخولهم .. وعند نهاية الطواف كان ينتظرهم قنصل إيران ووجهاء الجالية الإيرانية وكبار رجال الدولة والسائحين ، وعندئذ يأوي المصابون إلى الاغتسال من دمائهم وتضميد جراحهم ، وينتهي الحفل الدموي الذي أبطلته الحكومة عام 1914 ، وخلال حكم الفاطميين كانت ذكرى مذبحة كربلاء ص٣٠

..

لقد رأيت هذا الفلاح بأم عيني في هذه الفترة وهو يصطاد الفئران الغيطيه على حواف الترع بعصا تنتهي بحربة من الحديد المسنون ، وكنت شاهدا عليه أو على زوجته وهي تشوي تلك الفئران على الحطب وتقدمها طعاما لأفراد الأسرة ! ص ٣٥

ومصر كانت في تقدير الغرب « بلد العميان » إذ كان مرض الرمد الحبيبی منتشرا وسط الطبقات الفقيرة ، حتى أن الإنجليز إبان استعمارهم لمصر شيدوا العديد من مستشفيات ومراكز طب العيون في الريف والحضر أشهرها مستشفى « الإنكلستوما » بالجيزة ، ومصر كانت كذلك « بلد الحفيان » ، ونادرا ما كان للفقراء أحذية ، وكانت أقدام المصرى الفقير الحافي تكتسب أحيانا طبقة من الجلد الجاف

..

ويروى أن الفاطميين على الرغم من تزمتهم الديني كانوا أكثر الذين حكموا مصر فهما لطبائع المصريين ومجاراتها على حد رصد العديد من المؤرخين والدارسين ، إذ كانوا ولا يزالون يغلب عليهم حب التنفيس عما يدور في عقولهم وتضيق به صدورهم ، ولذلك يسعدون بالتحشد والأفراح والتهاليل ، ومن هنا ظلت آثار الفاطميين والتقاليد الموروثة عنهم باقية ومتجددة حتى يومنا هذا .. مثل احتفالات عاشوراء والاحتفالات الرمضانية ومناسبة شم النسيم وموالد أهل البيت ، ولا يزال أهل القاهرة يحبون المرح والسهر والحديث والسماع واللهو البريء والاختلاف إلى المقاهي التي تلبي هذه المشارب وما توفره من المتع الإنسانية المشروعة ! من أعرق مقاهي القاهرة وأكثرها قدما وشهرة ، تلك التي كان يرتادها أرباب الحرف ، فكان للخطاطين والنساخين والرسامين والمجلداتية والمذهبية مقهى في حي الحسين على مقربة من مكتبة « الحلبي الشهيرة المتخصصة في طبع أمهات الكتب وعيون التراث العربي والإسلامي . كما كان للحلاقين مقهى وآخر للبنائين والمبلطين والمنجدين والسفرجية ، وكذا مقاهي الآلاتية التي تجمع العازفين للموسيقى والمطربين والملحنين وكانت في شارع محمد على . . ولا يزال حتى الآن العديد من المقاهي الخاصة بأبناء محافظات الصعيد والدلتا والنوبة ، وتنهض كذلك بدور مكاتب تشغيل العمالة وحل مشكلاتهم ! من المعالم التاريخية لأهل الفكر والسياسة وأصحاب العقائد والرسالات مقهى متاتيا » أو قهوة البوستة في ميدان العنبة فكان من روادها سعد زغلول باشا والعقاد والمازني وحافظ إبراهيم والبارودي والهلباوي والمويلحي وبعقوب صنوع وعبد الله النديم والشيخ الداعية والمفكر الإسلامي الثائر جمال الدين الأفغاني الذي كان يوزع عليهم السعوط » بيمينه والثورة بشماله وينسج من تفاعلات الحوارات المتبادلة مناهج وأساليب للنضال والتغيير و مهام وطنية وقومية جاهزة للتنفيذ ، بينما كان للسينمائيين والكومبارس والمسرحيين مقاهبهم الخاصة بشارع عماد الدين، فكان الناس يمرون عليها أو يقفون أمامها حتى يشاهدوا النجوم والكواكب ويبادلوهم التحايا والفوز بصورهم أو توقيعاتهم !

..

حرب الشوارع ، حرب الروح هل للكتابة معني ؟ السؤال يثقل على يدي ؟ تنظم دوريات جمارك على الكلمات ، محارق للكلمات ، مقابر للكلمات . لماذا تذعن لنعيش حياة ليست حياتنا ، جبر على قبول ذاكرة غريبة كأنها لنا . حقيقة مقنعة ، تاریخ مروي من قبل المنتصرين : ربما ليست الكتابة في زمن العار أكثر من محاولة إنقاذ ، الأصوات التي تشهد بأننا كنا هنا وكنا هكذا . طريقة للانتظار بالنسبة لنا نحن الذين ما زلنا لا نعرف ، كما أراد إسبيرو : " اسم كل واحد من الأشياء " . من لا يعرف من أين جاء ، كيف سيستطيع أن يعرف إلى أين سيذهب ؟ص٢١١

..

مقهى متاتيا » كان مقهى من الدرجة الثانية لكن شهرته طبقت الآفاق ، إذ كان أشهر رواده السيد جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، وسعد زغلول باشا .. وإبراهيم الهلباوي، ثم جاء بعدهم إمام العبد الرجال الظريف وقرينه الزجال خلیل نظير الذي كان لا يفيق من الخمر، والأستاذان المازني والعقاد والشاعر حافظ إبراهيم والشيخ فهیم قندیل صاحب « جريدة عكاظ » ونفر غفير من الأدباء الفقراء الذين كانوا يجدون حاجتهم من طعام الفول المدمس المستكن في قدور النحاس في المطعم الذي كان يحتل ركنا قصيرا من هذا المقهى !

الهامش