قصة أبوقير وأبوصير
من قصص ألف ليلة وليلة.
في سالف الزمان وفي مدينة الاسكندرية العظيمة، الميناء المصري المشهور على ساحل البحر المتوسط كان حلاق اسمه أبو قير وصبّاغ اسمه أبو صير يعملان في حانوتين متجاورين ..
كان أبا قير طيب القلب نشيطا ً يهتم بزبائنه ويحرص على ارضاءهم , يحلق ذقونهم .. ويقص شعورهم بخفة ونظافة وحسن تهذيب
أما أبو صير فـ قد كان مخادعا ً خبيثا ً واشتهر عنه ذلك فانفض عنه الزبائن الا الأغراب وعديمي التبصّر
كان من عادة أبو قير أن يطلب اجر صباغ القماش أو الثوب الذي يأتي به الزبون سلفا ً .. فما يكاد الزبون يمضي حتى يذهب أبو قير بالقماش إلى السوق فيبيعه وينفق ثمنه في ملذاته وعبثه
وكان اذا عاد الزبون لاخذ حوائجه مصبوغة ادّعى أبو قير ان القماش قد سُرِق وان سوء الحال لا يمكنه من التعويض بـ ثمن القماش لصاحبه . فـ كان المسالمون يسكتون على مضض شاكين امرهم إلى الله . بينما كان آخرون يثورون عليه ويأخذون بخناقه
ذات يوم كان ضحية أبو قير رجل من اصحاب النفوذ فرفع شكواه إلى ضابط الشرطة وهرع ضابط الشرطة ورجاله إلى حانوت أبو قير فلم يجدوا فيه احدا ً اذ كان أبو قير كامنا ً كـ عادته في دكان جاره أبو صير ....فما كان من ضابط الشرطة ورجاله الا ان وضعوا ألواح الخشب على باب دكان أبا قير واغلقوه ووضعوا اعلان مفاده
( اذا اراد صاحب الحانوت دخول حانوته فليراجع مخفر الشرطة )
جلس أبو قير مهموما ً في دكان جاره أبو صير . فلم تكن لديه الجرأة على الاعتراف بأنه صاحب الحانوت . وما ينتظره في مخفر الشرطة لا يشجع على الاعتراف بأي شيء ٍ بَدَر َ منه ُ !!
فـ قال لصاحبه أبا صير : ( أترى سوء حظي يا أبا صير ؟ .. اللصوص يداومون على سرقة حاجات زبائني !! وها أنا اليوم يمنعني القانون من مزاولة مهنتي . لقد حان الوقت لأنشد رزقي في مكان آخر ) .
لم يكن أبا صير غافلا ً عن ما يفعله المُخادع جاره ... ولكنه آثر الصمت في هذا الأمر أبا صير أيضا ً يريد السفر لينشد رزقه ... فـ أعجبه رأي أبا قير
فأجاب . ( وأنا أيضا ً سئمت هذا المكان . أنا امهر حلاقي الاسكندرية وما اكسبه لا يسد رمقي فلنسافر معا ً وننشد رزقنا في مكان ٍ آخر . وسنقتسم ما نصيب من كسب فيما بيننا )
أتفق الجاران أبا صير و أبا قير على مغادرة المدينة في اليوم التالي .
فأقفل أبا صير دُكّانه .. بينما ترك أبا قير دكانه في قبضة الشرطة
حمل الرجلان أمتعتهما وانطلاقا إلى المرفأ بانتظار أول سفينة تغادر . وتركز حديثهما خلال تلك الفترةعلى ضرورة اقتسام ما يكسبانه مهما طالت غيبتهما .
وأخيرا ً حان موعد المغادرة , فـ ركبا السفينة التي سـ تتجه بهما إلى بلاد بعيدة وفي غُمرة الاستعجال للسفر . لم يهيئ أبو صير و أبو قير احتياجاتهما لـ سفرة تستغرق أسابيع فـ ما حملوه من طعام وشراب لم يدم طويلا ً ،
لكن الحظ كان حليفهما , إذ لم يكن بين الركاب حلاق غير أبي صير . فـ نشط هذا العمل وراح يحلق للمسافرين ويتقاضى بدل المال طعاما ً أو شرابا ً . وكان المسافرون يثدّمون له ذلك مسرورين وشاكرين له صنيعه .
لم يكن لدى ابي قير ما يشغله , فـ كان ينام معظم أوقات النهار بينما رفيقه يعمل بـ جد ويقاسمه الكسب حسب الاتفاق . وفي يقظته كان أبو قير يلتهم بشراهة غريبة كلما يقايض به زبائن ابي صير على حلاقتهم فـ كان يأكل وكأنه مضى عليه اسبوع بلا زاد .
أخيرا ً رست السفينة في ميناء كبير بعد عشرين يوما ً في عرض البحر فـ نزل أبو صير وابو قير إلى البر وجالا في ارجاء المدينة وقررا الإقامة فيها .
أستأجر الرجلان غرفة في نُزل يعج بالمسافرين وعوائلهم وغالبيتهم من التجار وسرعان ما بدأ أبو صير يحصل كسبا ً جيدا ً من صنعته الحلاقة . وكان يبكر في النهوض إلى عمله بينما يبقى أبو قير نائما ً متمارضا ً مُدعيا ً أن دُوار البحر لم يفارقه بعد .
فـ ظلا اربعين يوما ً على هذا الحال .
_ أبو صير يعمل بجد في طلب الرزق , وابو قير يلازم الفراش للنقاهة .
استطاع أبا صير توفير بعض الدريهمات في كيس لـ كي يستخدمها وقت الحاجة وذات يوم قال أبو صير لـ صاحبه . ( انك لو تمشيت في شوارع المدينة , فـ قد يفيدك ذلك ويعيدك إلى نشاطك . حيث ان مجالات العمل هنا واسعة )
لكن أبا قير يتقلّب على فراشه ويردد : ( ان قولك هذا يثقّل عليا مرضي .... آه ) وراح يتأوه وحدث ان اصيب أبو صير بـ مرض ٍ اضطره لملازمة الفراش عدة ايام فـ ضاق أبو قير ذرعا ً بـ حاله وقد عضه الجوع , فـ نهض يبحث عن طعام فلم يجد ،لكنه وجد كيس الدراهم الذي كان قد احتفظ به أبو صير لـ نفسه فـ ما كان منه الا ان اخذ الكيس في غفلة أبو صير وخرج للمدينة هذه المرة بـ نفسه فـ راح يتمشّى في ارجائها وينفق من الكيس في شراء ملابس له ويأكل في أرقى دور الأكل .
استرعى انتباه أبو قير امر غريب بالنسبة اليه كـ صباغ ماهر فـقد رأى انا جميع الأقمشة والملابس التي يرتديها الكل في هذه المدينة كانت بـ لونين فقط هما الأزرق والأبيض ... فـ لما استفسر عن ذلك .. قيل له أن صبّاغي المدينة لا يتعاملون بـ غير هذه اللونين فـ ذهب أبا قير وقصد حانوت صبّاغ وعرف عن نفسه قائلا ً :
( أنا صبّاغ بالمهنة , واذا قبلتني أجيرا ً أعلمك على اسرار الصباغة بألوان الطبيعة المختلفة الأحمر والأصفر والأخضر والبرتقالي وأيما لون ٍ تريده ) فـ رد عليه الصباغ قائلا ً : ( نقابتنا تضم أربعين صباغا ً في هذه المدينة . ونحن لا نقبل غريبا ً بين ظاهرينا . الأزرق هو اللون الذي نتعامل به . طاب يومك ) دار ابوقير على جميع الصباغين وعرض عليهم بـ نفس العرض ولكن لم يأبه له أحد واكن جوابهم مثل جواب الأول فـ ما كان منه الا ان قصد قصر الوالي لـ يشرح له الأمر وانه يريد ان تظهر المدينة بألوان أخرى غير اللون الأزرق فـ قال :
( يا ملك الزمان أنا صباغ من بلاد بعيدة اجيد صبغ القماش بأي لون من ألوان الطبيعة بينما الصباغون هنا يصرّون على قصر الصباغ على اللون الأزرق فقط . ساعدني على نشر الألوان البديعية في ثياب رعيتك )
طابت للملك الفِكرة , فـ رد قائلا ً ( سأمنحك المال والإمكانات اللازمة لإقامة مصبغة بالمواصفات التي ترتئيها في المكان الذي تختاره . مالي وخدمي في تصرفك أيها الصباغ )
هكذا تم لأبي قير امتلاك مصبغة فخمة في احسن شوارع المدينة وكان الاقبال عليه هائلا ً فـ هذا يريد ثوبا ً أخضر حشيشيّا ً وذاك يريد أحمر فاقعا ً أو اصفر أو قرمزيا ً أو اسود فاحما ً . ازدهرت صناعة ابي قير واشغاله , فكان يجلس في صدر مصبغته كالأمير وفوق دكة مزينة بالسجّاد والطنافس , يوزع تعليماته واوامره وحين جاءه وفد ٌ من نقابة الصباغين يلتمس إطلاعهم على اسرار المهنة تجاهلهم أبو قير كما تجاهلوه , وكان له في ذلك لذة وسرور بالغين
لم يخطر في بال ابي قير وقد تم له كل ذلك . ان يفكر في صديقه ابي صيراو يقاسمه كسبه حسب العهد أو على الاقل ان يستفسر عمّا آلت إليه حاله وكان أبو صير المسكين قد ظل طريح الفراش اياما ً . ولاحظ صاحب الخان تغيّب المستأجرين فـ ظن حين رأى الباب مقفلا ً أنهما فرا تهربا ً من دفع الأجر . وحين استخدم مفتاحه لفتح الحجرة تملكته الدهشة والفزع لـ رؤية ابي صير هزيلا ً شاحبا ً وقد انهكه المرض والجوع
ورق صاحب الخان لحال ابي صير فأخذ يعتني به حتى تحسنت صحته . ولم يكن يطمع بمال لأنه فَطِن َ باكرا ً إلى ان أبا قير لم يتخل عنه فقط بل انه سلبه ماله قبل أن يقفل الباب عليه وكان أبو صير في محاولته تبرير غياب زميله ويقول ( لعله تعرض لحادث رهيب اخره عني ) وبعد قرابة الشهرين استعاد أبو صير قواه وقدراته على مزاولة العمل . فأخذ عدة الحلاقة وخرج إلى السوق عله يلقى ما يسد به رمقه وبعض ما لصاحب الخان عليه من اجر ٍ وفضل
ولحظ أبو صير ازدحاما ً شديا ً امام حانوت مجلل بالقماش الفاخر فاقترب للاستطلاع . وكم كانت دهشته عظيمة حين شاهد صاحبه أبا قير متأبها في مصبغته الكبيرة فوق دكة مزخرفة يتداول بتشامخ مع عديد من الزبائن وكل منهم يلج في جلب اهتمامه
فرح أبو صير بما صار اليه زميله من النجاح وقال في نفسه : ( ان انشاء هذه المصبغة الضخمة وضغط العمل فيها . ومشاكل ادارتها هي التي اشغلت أبا قير عني )
وتقدّم أبو صير باشّا نحو صاحبه القديم . ولكن .. تلقاه بـ نظرة جافيه وصاح مؤشرا ً اليه بغضب ( أوا تتجرأ أيها اللص الخبيث على العودة إلى مصبغتي ؟ اني قد اتساهل مع لص حقير مرة أو مرتين . ولكن يعلم الله ان صبري لن يطيق في المرة الثالثة )
ثم التفت أبو قير نحو خدامه في المصبغة وصرخ فيهم ( ارموا هذا الوغد ناكر الجميل خارجا ً واذيقوه بعض ما سيلقاه ان عتّب هنا ثانية ً )
وكان ان قُبِضَ على ابي صير المسكين فـ جُر َّ إلى الطريق وضُر ِب َ بـ قسوة
أفاق أبو صير من غشيته قرابة العصر منكسر النفس معفرا ً بالغبار من أعلى رأسه حتى اخمص قدميه ... وشعر بـ حاجة ماسّة إلى حمام بخار جيد يخفف آلامه ويعيد اليه النشاط فـ سأل أحد المارة ان يدله على طريق الحمام فـ رد العابر مستغربا ً ( حمام ؟؟ ... ماذا تقصد بـ ذلك ) فأجاب أبا صير ( انه مكان يغتسل فيه الناس في مغاطس باردة أو ساخنة فـ ينعمون بـ نظافة مُنعشة . وقد يطيب لهم الاسترخاء في غرفة تعبق بالبخار الساخن )
فقال له الرجل العابر : ( اذهب إلى البحر الجميع يقصدون البحر للاستحمام _ حتى الملك )
استغرب أبو صير .. كيف أن مدينة كبيرة وعظيمة لا تحوي حماما ً . فـ قرر مقابلة الملك في اليوم التالي لـ عرض مشروع الحمّام عليه استقبل الملك أبا صير بـ تلطف واستمع إلى شرحه عن مواصفات الحمام وفوائده وكان مما قاله أبو صير : ( الخلاصة يا مولاي . ان الحمام من أعظم . وأهم الاشياء للإنسان _ ولا تكون المدينة عظيمة حقا ً بدونه )
فـ رد الملك : ( اذن . ابن لنا حماما ً يكون فخر المدينة , وباشر العمل على الفور ولك منا المال والمساعدة التي تطلب )
وهكذا لم تمض ِ بضعة اسابيع الا وكان أبو صير يدير حماما ً فخما ً كامل التجهيزات ومنذ اليوم الأول لافتتاح الحمام اقبل الناس هليه زَرافات وَ وُحدانا ً يستمتعون بـ مباهج لم يعهدوها
وجعل أبو صير حمامه الملكي مفتوحا ً للجميع فقراء واغنياء وكل زبون يدفع حسب طاقته وقناعته
وقدر الناس لابي صير طيبة قلبه وحسن معاملته فكانوا كرماء في عطاياهم وفي مقدمتهم الملك الذي اخذ يزور الحمام مرة كل اسبوع
وطارت شهرة الحمام في المدينة حتى بلغت اسماع ابي قير فقرر زيارة الحمام دون ان يعرف ان صاحب هذا الحمام هو أبو صير فتقدم في حاشيته متباهيا حتى بلغ الحمام
وكم كانت دهشته حين رأى أبا صير جالسا ً في وسط البهو بين مقاصر الحمام يلبي طلبات زبائنه فأقبل عليه بلهجة المعاتب : ( أخيرا ً هذا انت أيها الصديق العزيز لكأنك نسيت صديقك المسكين أبا قير طوال هذا الوقت )
وحين اعاد أبو صير على صديقه المدّعي . أحداث اللقاء السيئ والضرب والاهانة التي استقبله بها أبا قير في مصبغته
فارتبك أبا قير واحمر خجلا ً وهو يقول ( لست اذكر ذلك . لابد أن الأمر اشتبه علي فـ حسبتك لصا ً . بل لعل المرض غير من ملامحك . كان ينبغي ان تنبهني إلى خطئي وتعرفني بنفسك . وحقي ان ألومك في ذلك )
وما كان أبا صير لـ يحمل ضغينة على أحد . فـ قام هو شخصيا ً بـ خدمة ابي قير في مقصورته يفرك جسده بالصابون ويدلكه بالزيوت وتارة يناوله ل فوطا ً ساخنة وتارة باردة
ثم تبادلا اطراف الحديث عن نجاحهما . ودور الملك وتلطفه معهم ومعاونتهما في مشروعيهما وعز ّ على ابي قير ان ينال أبو صير مثل حظوته عند الملك . فـ سولت نفسه الشرية له تدبير مكيدة يقضي بها على أبا صير زميله القديم
فـ تكلف الابتسام وقال يحمّس أبا صير : ( هناك شيء يجب ان تكمل به حمامك يا أبا صير ! أتذكر ذلك المرهم من دهن الصنوبر وزيت الليمون الذي كنا نستنمتع به في حمام الاسكندرية . أن الملك سـ يسره جدا ً ان يدلك جسده بهذا المروخ المنعش بعد حمامه وسيقدر ذلك )
فـ تحمس أبو صير قائلا ً : ( حقا ً انها فكرة رائعة سأعد هذا المروخ واعرضه على الملك في زيارته القادمة )
وغادر أبو قير الحمام متجها ً إلى قصر الملك فورا ً وحين اذن له بالدخول قال بـ نَفَس ٍ متقطع ( جئت أحذرك يا ملك الزمان من صاحب الحمام الجديد اني اعرفه منذ زمن وما جاء مدينتك الا مبعوثا ً من قبل اعدائك لقتلك ولن يثنيه عن ذلك عطفك عليه وقد استدرجته بالحديث واكتشفت المكيدة التي ينتوي تنفيذها لقتلك )
فـ هز الملك رأسه باهتما وقال . ( وما هي هذه المكيدة. ؟ )
فـ أجاب أبو قير متابعا ً ( زيارتك التالية للحمام سـ يعرض أبو صير ان يدلكك بمروخ صنوبري التمويه _ هو في الحقيقة سم زعاف , لا ينفع معه علاج . فـ خلال ثلاثة ايام من عملية الدلك يخترق السم الجلد إلى القلب . وبذلك تكون النهاية . وحينئذ يكون الغدار قد ابتعد عن شواطئنا اميالا ً . فـ لا تطاله يد العدالة )
أخذ الملك تحذير ابي قير بـ بالغ الاهتمام والجد . وهكذا فإنه ما ان عرض عليه أبو صير في زيارته الاسبوعية ان يدلكه بالمروخ المنعش حتى امر رجاله بالقبض عليه وزجّه في السجن فورا ً
وصدر حكم الاعدام على ابي صير , على ان ينفذ الحكم غرقا ً . وكلف قائد بحرية الملك بوضع ابي صير مقيدا ً في كيس مُعبّأ بالجير الحي غرقا ً . واخذه إلى عرض البحر وعندما يعطي الملك إشارة التنفيذ من شرفة قصره المُطل ّ على الميناء يلقي القائد الكيس ومحتوياته في الماء . وكان قائد البحرية من زبائن ابي صير وقد كان يعرف ان أبا صير رجل خلوق وطيب بل من المستحيل ان يحدث هذا الأمر من أبا صير وعرف أيضا ً ان هذه مؤامرة دنيئة فما كان منه إلا أن هرّبه في قارب إلى جزيرة قريبة ليختبيء فيها وناول القائد أبا صير شبكة صيد وهو يودعه قائلا ً : ( تصيّد من السمك ما تستطيع إن بعض مهماتي هو تزويد مطبخ الملك بالسمك . فإن اصطدت شيئا ً تكن قد سهلت مهمتي )
وانطلق قائد البحرية . حسب تعليمات الملك . والى عرض البحر ينتتظر إشارة الملك في تنفيذ حكم الإعدام على أبا صير ... وماهي الا هنيهات حتى اطل الملك واعطى الاشارة خافضا ً يده المرفوعة إلى الاسفل بـ سرعة وللتو تناول القائد كيسا ً معبأ بالحجر والجير ( تمويه للملك بأنه أبا صير ) فرمى بالكيس في البحر مبتعثا ُ رشاشا ً قويا ً . وقد جلب انتباه القائد جسم صغير سقط من يد الملك وألقى بـ وميض خاطف وسقط هذا الجسم في الماء .
وفي تلك الأثناء .. كان أبو صير يتنقل بـ شبكته في المياه الضحلة حول الجزيرة ويتصيّد ما يتيسر له من السمك . وقد وفقه الله بـ صيد ٍ وفير وشعر أبو صير بالجوع . فقال في نفسه ( هذا رزق يفيض عن حاجة مطبخ الملك فـ لأعدّن شواء ً أدعو إليه القائد عند عودته ) وتناول موسا ً فـ شق به السمكة الأولى . وبينما هو ينظفها وجد في بلعومها خاتما ً ذهبيا ً شديد التألق . !!
وجعل أبو صير الخاتم في اصبعه السبابة . وراح يعد النار للشواء ويشكر المولى على ما حباه من عطفه ورحمته .
وفي تلك الأثناء وصل رجلان في قارب ارسياه قريبا ً من الشاطئ . واخبرا أبا صير انهما قادمان لأخذ السمك إلى مطبخ الملك
وحين سأله احدهم : ( أين القائد ) . رفع أبو صير إصبعه المتألقة بالخاتم وأشر إلى قارب بعيد باتجاه قاربهما . وهنا انبثق شعاع ثاقب من الخاتم وصرع الرجلين . فخرّا على الأرض ميتين !
وعاد القائد إلى الجزيرة لـ يجد أبا صير مدهوشا ً والخادمان صريعان على مقربة منه وحين أنبأه أبو صير بـ ما جرى . عرف القائد على الفور سر ما حدث .
لقد كان البريق الذي لمع في أثناء إشارة الملك ... كان سقوط الخاتم من يد الملك وشاء القدر أن تلتقفه إحدى الاسماك التي صادها أبا صير
وشرح القائد لأبي صير كيف انا الملك يحمي البلدة بـ هذا الخاتم السحري وأن الاشارة به إلى اي كائن ترديه قتيلا ً للحال . كما حدث مع أبو صير والخادمان من غير قصد !!
واردف القائد : ( ان ملكنا يسيطر على اعدائه ويحفظ سلامة بلدنا بـ هذا الخاتم ) ورد أبو صير : ( اذن ينبغي ان اعيد الخاتم إلى الملك دون تأخير )
عندما مثل أبو صير امام الملك . دهش الملك وغضب . وكاد يأمر بالقبض على ابي صير والقائد لو لم يُرِهُ أبو صير الخاتم بـ تحفّظ شديد وهنا امتقع لون الملك خوفا ً فـ صمت .
حكى أبو صير للملك مفصلا ً كيفية حصوله على الخاتم . ثم اعاده للملك دون تردد قائلا ً : ( فقط أريد أن اعرف يا ملك الزمان ما الذي أسأت به إليك حتى تحقد علي َّ )
فأخبره الملك بما رواه أبو قير _ الذي تبيّن كذبه ومكره وعلى الفور ارسل الملك في طلب ابي قير مخفورا ً
وتكشفت تفاصيل مكيدة ابي قير امام الملك وحاشيته . وصدر الحكم عليه بالاعدام غرقا ً _ بالطريقة نفسها التي كان سيموت بها أبو صير لو لم ينقذه قائد البحرية .
وتوسّل أبو صير إلى الملك وقال : ( رحماك يا ملك الزمان . اني غفرت لـ هذا الرجل وألتمس عفوك . وان كان لابد من عقابه كي يأخذ الحق مجراه . فـ ليكن بغير الموت )
لكن الملك رفض توسلات ابي صير وقال : ( يمكنك ان تصفح عنه . لكن مثل هذا التصرف الشنيع هو جريمة ضدي انا شخصيا ً _ بل ضد الشعب بكامله _ ولا يمكن العفو عنه )
وهكذا لاقى أبو قير المصير الذي دبّره لـ صديقه
اجزل الملك لأبي صير المكافأة على امانته واخلاصه . وجعله من المقربين إليه ولكن أبا صير وقد تم له جمع ثرة متواضعة . لم يطق البقاء بعيدا ً عن وطنه فـ قرر العودة إلى الاسكندرية .
وحاول الملك ان يثنيه عن ذلك عارضا ً عليه الثراء والرفاه والمركز الرفيع . ولكن دون جدوى . فودعه الملك بـ حرارة وزوده بـ سفينة محمّلة بالنفائس وملاحين مهره ليوصلوه إلى وطنه .
عاد أبو صير إلى الاسكندرية سالما ً غانما ً . وعاش في راحة بال واحسن حال .
وذات يوم عثر على كيس من الحجارة والجير ملقًى على الشاطئ قرب الاسكندرية وعرف الناس قصة الكيس ومحتوياته . فصار الموقع يسمى ( خليج أبو قير ) ولا يزال يحمل الاسم حتى اليوم !!