صعود الامم

قالب:نهاية مسدودة


صعود الأمم.. سباق التقدم وصناعة المستقبل هو اسم الكتاب الجديد الذي صدر في ديسمبر 2011 عن مكتبة الآداب للكاتب السفير عمرو مصطفى كمال حلمى ويعد من بين أكثر الكتب مبيعاً وفقاً لإحصاءات "مكتبة الديوان " بالقاهرة. ويتناول هذا الكتاب، عبر فصوله، مجموعة من القضايا التي تحظى بثقل متزايد في نسيج العلاقات الدولية على تنوعها والتي يدخل في إطارها قضية تغير موازين القوى وانتهاء الحقبة الزمنية الطويلة التي إتسمت باستئثار الدول الغربية بمقاليد العالم، في ظل ما تشمله قصة صعود مجموعة من الدول البازغة وعلى رأسها الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، من تحولات نوعية غير مسبوقة، تؤدى إلى انتقال مراكز النمو الاقتصادى والإنتاج والإبداع والابتكار إلى خارج ما يطلق عليه بالعالم الحر، ذلك مع التطرق إلى مجموعة من القضايا ذات الصلة بكيفية تحقيق التقدم وبالسباق المحموم بين الدول للوصول إلى القمة، وهو سباق حول القوة والثروة والنفوذ والقدرة على التأثير، وفى إطار هذا السباق هناك مجموعة من الدول القلقة على تنافسيتها وريادتها، وهناك مجموعة صاعدة بقوة تطور مواردها البشرية والعلمية بما يسمح لها بمواصلة الصعود، وهناك مجموعة ساكنة وأخرى تتراجع رغم وضوح مقتضيات التقدم وركائزه خاصة بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتى عام 1991.

كما يتطرق الكتاب إلى الاقتصاد القائم على المعرفة والنظرية الحديثة للنمو وإلى التطور العلمى وصناعة المستقبل وملامح التطور التكنولوجى المستقبلى وإلى مختلف التكنولوجيات الخالقة للثروة، والتي يقصد بها تحديداً التكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المواد وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والتكنولوجيا فائقة الصغر" النانو" وهى التكنولوجيات التي تمثل ركائز الاقتصاد الحديث، وهى في ذات الوقت من بين أهم متطلبات مواجهة التحديات المستقبلية التي ستواجه العالم خلال العقود والقرون القادمة.

ويتناول هذا الكتاب أيضاً قضية العولمة وركائزها ومسبباتها ومظاهر إخفاقاتها، فعلى الرغم من الآراء التي تبنت مفاهيم تدور حول مسئولية العولمة عن خلق مستقبل أفضل للجميع في ضوء ما تحويه من آليات تسمح بانتقال رؤوس الأموال والسلع والخدمات والأفراد والأفكار بسهولة ويسر فيما بين مختلف الدول، فلقد ظهرت آراء سواء في الدول المتقدمة ذاتها أو في الدول النامية تحذر من مخاطر العولمة والتداعيات السلبية لترك الأمور دون ضوابط حاكمة في ظل تعاقب الأزمات المالية التي يشهدها العالم، فضلاً عن فشل العولمة في القضاء على الفقر وفى تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فهناك ما يقرب من مليار نسمة يعيشون بأقل من دولار واحد يومياً، فضلاً عن 2,7 مليار نسمة يعيشون بأقل من 2 دولار يومياً وهو ما يؤكد أن أكثر من نصف عدد سكان كوكبنا والذي يقدر بـ 7 مليار نسمة يعيشون تحت خط الفقر، يضاف إلى ما سبق ما يثار حول مسئولية العولمة عن تآكل سيادة الدول وعن خلق أزمات اجتماعية في ضوء ما يمثله تزايد الهجرة الدولية من مسببات لحدوث العديد من المصادمات الثقافية والدينية.

كما يتطرق الكتاب إلى التحديات المستقبلية التي ستواجه الاقتصاد العالمي، وهى التحديات الناجمة عن توقع حدوث زيادة مطردة في عدد السكان ونقص متواصل في الموارد الإستراتيجية العالمية من المياه والغذاء ومصادر الطاقة، فضلاً عن تغير طبيعة النزاعات الإقليمية والدولية وما يمكن أن تشهده " الحوكمة" من تطورات مستقبلية، وما يمثله التطور التكنولوجى وثورة المعلومات من أهمية لمواجهة العديد من التحديات.

وتؤكد التغيرات الجوهرية التي يشهدها العالم أن كافة المجتمعات يمكنها تحقيق التقدم والارتقاء بمكانتها الدولية، إذا ما توافرت للنخب السياسية والثقافية في تلك الدول الرؤية المستنيرة التي تكفل تحقيق هذا الهدف بما في ذلك قراءة واقعية لما يشهده العالم من تطورات، حولت مجموعة من الدول الفقيرة إلى دول صاعدة ومتقدمة في فترة زمنية وجيزة، كما حولت، في العديد من الأحيان، ما كان يوصف بالخيال العلمى إلى واقع ملموس، الأمر الذي يدعو للإشارة إلى تأكيد الاستخلاصات الآتية:- أولاً: انتهاء احتكار الغرب للتقدم: لم تعد الدول الغربية أو ما يطلق عليه " العالم الحر" تستأثر بمقاليد العالم السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتكنولوجية بنفس الدرجة التي سادت لقرون طويلة، فبعد أن اتسمت الفترة الممتدة من القرن الخامس عشر إلى التاسع عشر بما يُعرف بصعود الغرب The Rise of the West، والتي بدأت بصعود أوروبا لتكون المركز الرئيسى للتحديث والتطوير في مجالات العلوم والتكنولوجيا والتجارة والرأسمالية والثورة الصناعية والزراعية ثم انتقلت للولايات المتحدة الأمريكية مع بداية القرن التاسع عشر التي تحولت تدريجياً إلى أكبر قوة في العالم، حيث مثلت هيبتها بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتى، حالة غير مسبوقة في تاريخ العالم منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية، إلا أننا نشهد حالياً في واقع الأمر مرحلة انتقالية بالغة الأهمية في تغير موازين القوى؛ إذ لم يعد الأمر كما يمكن وصفه بصيغة " الغرب/ وبقية الدول " The West and the Rest، حيث إنقلب الحال ليسجل صعود مجموعة هامة من الدول وهو ما يطلق عليه The Rise of the Rest؛ إذ تمثل تجربة الاقتصاديات البازغة

The Emerging Economies وعلى رأسها مجموعة BRICS، التي تتكون من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، واحدة من أهم التحولات في موازين القوى العالمية التي يجب أن تحظى بالدراسة والتقييم، في ضوء ما تمثله من بارقة أمل للعديد من الدول النامية، التي تتطلع إلى بناء مستقبل أفضل، أخذاً في الاعتبار العوامل الآتية:-

1- أنه بعد أن شهدنا خلال المراحل الأخيرة من القرن العشرين انهيار القوة العظمى الثانية في العالم، والذي بدأ بسقوط حائط برلين عام 1989، فوحدة الألمانيتين عام 1990، فانهيار وتفكك الاتحاد السوفيتى في عام 1991، فإننا نشهد الآن تجربة هائلة تتمثل في" الصعود السلمى للصين" The Peaceful Rise of China، والتي لم تقتصر على مجرد تحول دولة فقيرة إلى دولة تسعى بخطى ثابتة وبمعدلات إنجاز

غير مسبوقة إلى اللحاق بركب الدول المتقدمة، بل إنها في حقيقة الأمر ترتبط " بولادة قوى عظمى جديدة"، ويزيد من خصوصية قصة الصعود الهائل التي تحققه الصين، أنها لا تنتمى إلى ما يطلق عليه " العالم الحر" سياسياً أو ثقافياً أو جغرافياً، فضلاً عن اعتمادها على سياسات تختلف إلى حد كبير عن تجارب التطور الإنسانى التي شهدتها مختلف الدول الغربية؛ إذ أنها تقدم للعالم نظاماً اقتصادياً مستحدثاً يتمثل في "رأسمالية الدولة" الذي بدأ يكتسب مصداقية كبيرة في ضوء ما أظهرته الأزمة المالية العالمية التي تفجرت عام 2008 من أوجه قصور هائلة في مختلف الأنظمة الرأسمالية المطبقة في الدول الغربية.

2- وقد أدى تصاعد ثقل الدول البازغة ونجاحها الملحوظ في احتواء تداعيات الأزمة المالية العالمية، إلى تحولها لتصبح مسئولة عن 50% من إجمالي معدل نمو الاقتصاد العالمي، الذي تحقق خلال الأعوام الماضية، كما أدى ذلك إلى تصاعد ثقل مجموعة G.20؛ بعد أن ثبت عدم قدرة مجموعة الدول الصناعية الرئيسية المعروفة باسم G.7 على الاستئثار بمقاليد العالم الاقتصادية بنفس القدر الذي ساد خلال العقود الماضية، وبدأت الدوائر الاقتصادية العالمية ومنها صندوق النقد الدولي، في النظر إلى الدول البازغة خاصة مجموعة الـ BRICS باعتبارها القاطرة الدافعة لنمو الاقتصاد العالمي.

3- إن مراكز النمو الاقتصادى والإنتاج والإبداع والابتكار تنتقل بشكل مطرد إلى خارج الدول الغربية، وقد بدأ الأمر بالتوجه إلى القارة الآسيوية والذي عزز من مصداقية استخدام مصطلح " الصعود الآسيوى"، إلا أن الأمر امتد نطاقه إلى عدد آخر من الدول غير الآسيوية، سواء في أمريكا اللاتينية أو القارة الأفريقية أو منطقة الشرق الأوسط، فسلاسل العرض والإنتاج والعولمة وتطور الإمكانيات العلمية، قد فتح المجال أمام العديد من الدول للمشاركة في الاقتصاد الحديث وإلى تطوير الأداء وتحقيق التقدم، ويؤيد تلك التطورات الاقتناع بأن كافة المجتمعات بمكنها تحقيق التطور والنمو، وأنه ليس هناك احتكار غربي للتقدم، كما أن تحقيق التقدم لا يتطلب محاولة استنساخ الغرب أو التخلى عن الهوية أو الذاتية الثقافية أو الدينية أو الجغرافية للمجتمعات، وإذا كانت قصة صعود مجموعة من الدول تمثل تحولاً نوعياً كبيراً في موازين القوى العالمية، إلا أنه لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن هناك تحولاً مماثلاً يتعلق باللاعبين الجدد على المسرح الدولي، فبعد أن إستأثرت "حكومات الدول" بمكانة القوى الفاعلة الوحيدة في العلاقات الدولية، ظهرت خلال العقود الماضية مجموعة اللاعبين الجدد الذين يتخطى ثقلهم، في بعض الأحيان، أهمية العديد من الحكومات ويدخل في إطار هؤلاء كل من الشركات عبر الوطنية ومنظمات المجتمع المدنى والمنظمات غير الحكومية وكذلك بعض وسائل الإعلام النافذة والمؤثرة، وهو ما يطلق عليه Non State Actors، لذا فإن إدارة العلاقات الخارجية للدول يجب أن تشتمل على مهارات كافية للتعامل مع مختلف القوى الصاعدة الجديدة، التي لا يمكن تجاهل وجودها أو محاولة التقليل من شأن ثقلها في نسيج العلاقات الدولية على تنوع مجالاتها.

ثانياً: التعليم الحديث وصناعة المستقبل: في الاقتصاد الزراعى تعتبر "الأرض" أهم عامل من عوامل الإنتاج، وفى الاقتصاد الصناعي تعتبر

" المواد الأولية" أهم عامل من عوامل الإنتاج، وفى الاقتصاد الحديث تعتبر " المعرفة " أهم عامل من عوامل الإنتاج، والتي لا يمكن خلقها إلا من خلال التعليم الحديث والمتميز، الذي يصاحبه تطوير للقيم الثقافثية السائدة للتفاعل مع مقتضيات العصر، دون التخلى عن الهوية التي تتسم بها المجتمعات سواء من الناحية الثقافية أو الدينية أو الجغرافية، فاصطلاح " اليد العاملة" الذي ظل سائداً منذ الثورة الصناعية يتحول تدريجياً إلى " العقول المبتكرة" التي تقوم بالتحديث وخلق الرفاهية والثروة، فاستخدامات الأيدى أو القوة الجسمانية في الاقتصاد الحديث في تضاؤل مطرد، مقارنة بالعقول المتميزة وإسهاماتها في طرح منتجات جديدة من السلع والخدمات، فرأس المال البشرى في الاقتصاد الحديث، ما هو إلا محصلة تعليم يسهم في بناء عقول متميزة قادرة على الإبداع والابتكار وخلق الثروة.

ورغم شيوع استخدام عبارة أن التعليم يمثل الركيزة الأساسية لصناعة المستقبل ولتحقيق التقدم، إلا أن تلك العبارة يجب أن يصاحبها توضيح يحدد ماهية المقصود بها وكيفية التحرك لتفعيله، فالتعليم الحديث هو الذي يسهم في خلق الكوادر القادرة على الإنتاج والإبداع والابتكار والمنافسة دولياً، فارتفاع جودة التعليم، وفقاً للمعاير الدولية، من شأن أن يدعم من فرص تحقيق التطور الاقتصادى من خلال زيادة الإنتاجية وتحسين بيئة الأعمال وزيادة الناتج المحلى الإجمالي، فالمؤسسات التعليمية من جامعات ومعامل ومراكز أبحاث هي التي ستحدد شكل الحياة ونوعيتها خلال العقود والقرون القادمة، لذا فإن ارتقاء الدول اقتصادياً وعلمياً إنما يتوقف على مدى تطور التعليم في أربعة مجالات مترابطة يطلق عليها STEM، وهى اختصار لكلمات علوم Science وتكنولوجيا Technology وهندسة Engineering ورياضيات Mathematics، وهو ما يحدد نوعية بعض المدخلات الأساسية لتطوير رأس المال الفكرى والموارد البشرية اللازمة للاقتصاد القائم على المعرفة.

فالتعليم الحديث والمتميز هو الذي يسهم في إرساء دعائم الأنشطة الاقتصادية الخالقة للثروة وتطويرها بشكل مطرد، ويقصد بذلك تحديداً التكنولوجيا الحيوية Bio Technology وتكنولوجيا المواد Material Technology، وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات ICT، والتكنولوجيا فائقة الصغر Nano Technology والتي تمثل جوهر الاقتصاد الحديث، فجانب كبير من مخرجات التعليم الحديث يجب أن تمثل مدخلات للصناعات التكنولوجية، السابق ذكرها، لس فقط من أجل الإنتاج القائم على التجميع، وإنما من أجل التطوير والتحديث وطرح منتجات جديدة.

فالجامعات ومراكز الأبحاث المرموقة تمثل حضانات للإبداع والابتكار والتطوير والتحديث، لذا فإن زيادة الانفاق على التعليم وتخصيص نسبة متزايدة من الناتج المحلى الإجمالي لتمويله مع تطوير المناهج الدراسية لتتواكب مع العصر، مع زيادة البعثات الدراسية للخارج بهدف الاستحواذ على المعرفة من أفضل مصادرها، وتطوير منظومة البحث العلمى، وحصول القائمين على العملية التعليمية من مدرسين وأساتذة جامعات على أعلى فئة من المرتبات والحوافز، والتوسع في البحوث المشتركة مع الجامعات المرموقة، وربط التعليم باحتياجات سوق العمل، وخلق الكوادر القادرة على المنافسة دولياً، يعد من بين أهم العوامل التي يمكن أن تساعد على تحقيق التقدم وتحقيق طفرة نوعية في الثروات الحقيقية للأمم، ولا يجب أن يغيب عن أذهاننا أن ثروات الأمم لا يجب النظر إليها من منظور الثقل الديموجرافى المتمثل في عدد السكان أو فيما تمتلكه من ثروات طبيعية، فإمكانات الدول العلمية والتكنولوجية هي التي تمثل في واقع الأمر أساس قوتها ومفتاح تطورها، لذا فإن المدارس والجامعات ومراكز الأبحاث التي تقوم بصناعة العقول هي التي تمثل أساس تحقيق النمو بمفهومة الشامل، فأرصدة الدول من العلماء والخبراء والكوادر المتخصصة تعد أهم ركائز قوتها وثقلها وقدرتها على التجديد والتحديث.

ثالثاً: بدائل النظم الاقتصادية التي تكفل تحقيق التقدم:

ظل العالم حبيساً في إطار مناقشات مطولة حول ثلاثة بدائل هي : الرأسمالية والسوق الحرة، والشيوعية، والاقتصاد القائم على إدارة الأسواق Market Economy Managed، إلا أنه مع سقوط حائط برلين عام 1989 فوحدة الألمانيتين عام 1990، فانهيار وتفكك الاتحاد السوفيتى عام 1991، فإن بدائل النظم الاقتصادية المطروحة تقلصت إلى مدرستين، تدعو الأولى إلى ما يعرف باستراتيجية توافق واشنطن للتنمية Washington Consensus Strategy for Development إلى ضرورة الدفع بأفكار اقتصاد السوق، والتوسع في عمليات الخصخصة، مع التحرك نحو تحرير التجارة والأسواق المالية، وضرورة تعزيز دور مؤسسات الأعمال الخاصة، على أن يتم تقليص دور الحكومات في النشاط الاقتصادى ليقتصر فقط على مجرد العمل على استقرار الاقتصاد الكلى، لذا فإن تلك الاستراتيجية ركزت على ثلاثة عناصر رئيسية هي: الاستقرار والخصخصة والتحرير ٍٍStabilize, Privatize and Liberalize والاستقرار المقصود في هذه الحالة انصب على محاولة العمل على استقرار الأسعار وخفض التضخم دون إيلاء الاهتمام الواجب باستقرار العمالة أو مقتضيات تحقيق العدالة الاجتماعية فالحكومات مدعوة إلى خصخصة كل شيء من مشروعات صناعية وخدمية إلى مؤسسات الضمان الاجتماعى، ويعتبر غياب البعد الإنسانى والاجتماعى من أبرز عيوب تلك الاستراتيجية التي تبنتها لفترات طويلة بعض مؤسسات التمويل الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، والتي أدت في العديد من الحالات إلى إثارة القلاقل السياسية والاجتماعية في الدول التي أخذت بها، وهو الأمر الذي دفع بالبعض إلى محاولة تطويرها، خاصةً بعد أن كشفت الأزمات المالية المتعاقبة، سواء الآسيوية خلال النصف الثاني من تسعينات القرن المنصرم، أو العالمية التي تفجرت في ديسمبر 2008، عن مخاطر تهميش دور الحكومات في إدارة النشاط الاقتصادى.

وتدعو المدرسة الثانية التي تتمسك بنموذج الاقتصاد القائم على إدارة الأسواق Managed Market Economy إلى التأكيد على مركزية دور الحكومات في تحقيق التنمية وفى حماية الفقراء؛ فمع الاعتراف بأن التطوير الاقتصادى لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تفاعل قوى السوق، إلا أن دور الحكومات يجب أن يركز على خلق المناخ الذي يكفل ازدهار النشاط الاقتصادى بما يساعد على خلق فرص عمل جديدة مع وضع القوانين التي تضمن سلامة النظام المصرفى وأسواق المال الوطنية فضلاً عن مقتضيات مكافحة ظهور الاحتكارات ومتطلبات الحفاظ على البيئة وزيادة الاستثمار في التعليم، وتركز تلك المدرسة على قضايا العمالة والعدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر واحترام حقوق الإنسان.

ونظراً لتأرجح السياسات الاقتصادية المطبقة في الغاليية العظمى من الدول بين هاتين المدرستين، إلا أن الأحداث التي تمر بها العديد من الدول والتحولات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، تؤكد أن السياسات الاقتصادية التي تركز على مجرد محاولة تطوير مجموعة من المؤشرات الاحصائية ذات الصلة بمعدلات النمو وزيادة الصادرات لن تحقق النجاح المنشود في تحقيق التقدم، إلا إذا وضعت القضايا المتصلة بالقضاء على الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية وتوازن توزيع الدخل وإرساء قواعد الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان كركيزة أساسية لتحقيق التقدم الذي يجب أن يستهدف رفع مستويات المعيشة لكافة اطياف المجتمع دون استثناء، وعدالة توزيع عوائد التقدم بدرجات متساوية سواء على المستوى الشعبي أو مستوى مختلف الأقاليم الجغرافية للدولة.

وتقدم الصين بتجربتها الهائلة نظاماً اقتصادياً يقوم على رأسمالية الدولة، الذي يختلف تماماً عن سياسة ترك الأمور دون تدخل لتفاعل قوى السوق، وقد خلصت الصين إلى ذلك، بعد دراسة عميقة لتجارب التنمية التي طبقتها العديد من الدول، والتي أكدت أوجه القصور الكبيرة في سياسة " توافق واشنطن" والتي أدت إلى نتائج عكسية، خاصة في العديد من دول أمريكا اللاتينية، كما أنها قامت بتقييم السياسات الاقتصادية التي قام بإدخالها بوريس يلتسين في روسيا، والتي قامت على تكثيف الصدمات من أجل إحداث التغيرات الأيديولوجية، دون توفير سياسات متكاملة لمعالجة المشكلات الاقتصادية التي نجمت كرد فعل للتطبيق السريع للسياسات الرأسمالية، ويكتسب ما تطرحه الصين من بديل أهمية كبيرة في ضوء ما أثبتته الأزمة المالية العالمية التي تفجرت عام 2008 م أوجه قصور هائلة في الأنظمة الرأسمالية المطبقة فيما يطلق عليه دول العالم الحر. والذي يقابله نجاح صينى متواصل، رغم خطورة التحديات الداخلية الناجمة عن ارتفاع معدلات الهجرة الداخلية وتردى الأوضاع البيئية، في تحقيق معدلات نمو تتراوح بين 9 إلى 11% طوال العقود الثلاث الماضية، وهو أعلى معدل للنو المتواصل تحققه دوله على مر العصور، كما أنها استطاعت خلال تلك الفترة القضاء على الفقر بالنسبة لـ 400 مليون نسمة، في تجربة فريدة لم يشهدها العالم من قبل، كما نجحت في مضاعفة حجم اقتصادها الوطني كل ثمانية أعوام، فالقيمة الإجمالية لصادراتها عام 1987 تعادل قيمة ما تقوم حالياً بتصديره في يوم واحد، فبعد حالة الفقر

التي سادت البلاد، انطلقت الصين منذ بداية ثمانينيات القرن المنصرم في تجربة فريدة للتنمية والتطور إلى أن أصبحت الآن تمتلك أكبر رصيد من احتياطيات النقد الأجنبى على مستوى العالم يقدر بـ 8 ر2 ترليون دولار، وهو ما يفوق بـ 50% الدولة التالية من حيث قيمة الاحتياطيات من النقد الأجنبى وهى اليابان، ويعادل رصيد الصين ثلاثة أمثال احتياطات دول الاتحاد الأوروبى مجتمعة.

وخلاصة القول أنه إذا كانت مجموعة من الدول قد نجحت خلال فترة وجيزة لا تتعدى ثلاثة عقود، في التحول من دول فقيرة إلى دول صاعدة ومتقدمة فإن ذلك يفتح المجال أمامنا إلى العمل الجاد من أجل الانضمام بقوة إلى قائمة الدول التي تطور مواردها البشرية والعلمية على أسس راسخة وتختار من بين المدارس الاقتصادية المتاحة الأنسب لظروفها، وذلك في ضوء رغبة حقيقية في تحقيق التقدم، بكل

ما يقتضية ذلك من تضافر للجهود، ودور رئيسى للنخب السياسية والثقافية للتحرك نحو تحقيق هذا الهدف وفقاً لبرنامج زمنى محدد يحقق طموحات المجتمعات في مستقبل أفضل وحياه حرة كريمة والانضمام إلى الدول التي تسعى إلى تعزيز مكانتها الدولية، ليس على أسس نابعة من مجرد ثقلها السكانى أو موقعها الجغرافى أو إمكاناتها من الموارد الطبيعية، وإنما على أساس تطورها العلمى والتنولوجى وقدرتها على التجديد والتحديث وامتلاك وسائل التعامل مع العصر بكلا ما فيه من إيجابيات وسلبيات، والمشاركة بقوة في سباق التقدم، سباق من أجل الوصول إلى القمة.