رينزي

ابراهيم العريس.jpg هذا الموضوع مبني على
مقالة لابراهيم العريس
بعنوان مقالة.


حين ترك ريتشارد ڤاگنر، مدينة ريگا، في صيف عام 1837 متوجهاً الى باريس، وهو في الرابعة والعشرين من عمره، كان على وشك أن يبدأ المرحلة الثانية من مراحل كتابته لأوبرات شبابه. وكان يأمل بأن توفّر له العاصمة الفرنسية شهرة وجاهاً كبيرين، هو الذي كان يعتبر نفسه في الموسيقى الأوبرالية في ذلك الحين، شكسبير عصره. ومن هنا كان يحمل معه في جعبته موضوعاً فخماً وبطولياً مستقى مباشرة من التاريخ الروماني خلال القرن الرابع عشر، ويستند في نصه الى رواية كتبها الانگليزي ادوارد بالور، حول حياة ومغامرات بطل ونبيل روماني ينتمي الى تلك المرحلة وهو كولا دي رينزي. بالنسبة الى فاگنر، كانت شخصية رينزي هذا شخصية شكسبيرية بامتياز، أي شخصية درامية تتيح له معالجتها أن يكتب تلك «الأوبرا الضخمة ذات الإخراج الحافل» التي تمكّنه، وفق تعبيره في ذلك الحين، من تحقيق رغبته في «عدم الاكتفاء بمحاكاة الأعمال الاستعراضية الكبرى»، بل انتاج ما يفوقها إسرافاً وضخامة، ولكن من دون أن تفوته ضرورة أن تأتي الضخامة «وليدة للتأثيرات الموسيقية». صحيح أن النتيجة أتت عملاً ضخماً، حافلاً بالأحداث الجسيمة والمواقف الفردية والجماعية الصاخبة، لكنها أتت أيضاً خالية من الروح ومن الأحاسيس... تماماً كما هي حال الأعمال الضخمة، إذ تنتجها السينما الهوليوودية اليوم فتأتي مبهرة للأنظار، انما من دون أن تترك أي آثار حقيقية في نفوس المتفرجين. إذاً، لدينا هنا في «رينزي» عمل احتفالي ضخم، لكن هذا العمل لم يعلن حقاً ولادة ريتشارد ڤاگنر كشكسبير حقيقي لفن الأوبرا. ولعل باحثنا العربي د. ثروت عكاشة كان على حق حين قال: «لعل معظم ما اشتملت عليه أوبرا «رينزي» من كبوات كان وليد تصور فاگنر أيامها لأوبرا باريس، وجمهور باريس».


الأصل في أوبرا «رينزي» إذاً، هو حكاية ذلك النبيل الروماني الذي تخبرنا مدوّنات لتاريخ روما كتبت في القرن الرابع عشر أنه أتى من أصول متواضعة، إذ كان أبوه صاحب حانة، وكانت أمه غسالة. لكنه منذ شبابه الباكر راح يحلم بالعظمة، وبأن يتمكن من اعادة مجد روما القديمة بعدما أصبحت روما مدينة ثانوية في ايطاليا، إذ هجرها البابوات الى آفينيون الفرنسية. وإذ تروي لنا تلك المدوّنات حكاية رينزي هذا وصولاً الى تحقيق حلمه الروماني ثم انتفاضة النبلاء فالشعب عليه، وموته، فإن فاگنر اختار من سيرة الحياة تلك أجزاءها الأخيرة، ليجعلها موضوع الأوبرا.

ففي عمل فاگنر، المؤلف أصلاً من خمسة فصول، تبدأ الأحداث خلال غياب رينزي عن روما، بعدما صار سيداً كبيراً من سادتها، وخاض صراعاً وتنافساً مع عائلات النبلاء الكبيرة فيها، ولا سيما عائلة النبيل أورسيني. وفي الفصل الأول يطالعنا أورسيني وأنصاره وهم يستعدون لاختطاف ايرينا الحسناء، شقيقة رينزي رغبة في اهانتها، ومن ثم اهانة شقيقها... غير ان مرادهم لا يتم في تلك الليلة، إذ يفاجأون بوصول جماعة من آل كولونا المنافسين، ومن بينهم الشاب ادريانو الذي سرعان ما نعرف انه مغرم بإيرينا التي تحبه بدورها. ويحتدم الجدال ثم القتال بين العائلتين، فيما تحاول الجموع بقيادة الكاردينال البورنوس مصالحة الطرفين. وفي هذه الأثناء يصل رينزي الى روما، فيثور الشعب لمناصرته... كما ان ادريانو، على رغم انتمائه الى عائلة النبلاء، سرعان ما يقف الى جانب تلك الثورة التي تنتصر ما إن يظهر رينزي مدجّجاً بالسلاح وهو في رفقة مندوب البابا، الذي يعلن أن هذا الأخير اختار رينزي لإدارة عقوده ومواثيقه في روما، ما يعني، في لغة العصر، أنه صار سيدها من دون منازع. وهنا تثور ثائرة النبلاء ويتمادون في التآمر للتخلص من رينزي، غير أن ادريانو يرفض الانضمام الى مؤامرتهم بسبب حبه لإيرينا، ووقوفه مسبقاً مع ثورة الشعب. وأثناء ذلك يفتضح أمر نبيل من آل كولونا كاد يتمكن من رينزي ويتم القبض عليه. ولكن في الوقت الذي تروح فيه الجموع مطالبة بإعدام ذلك النبيل، يخضع رينزي لتوسلات ادريانو وإيرينا ويصفح عن المعتقل بكل كبرياء وعنجهية. والحال أن هذا الصفح بدلاً من ان يهدئ من غائلة النبلاء، يستفزهم بسبب ما فيه من اذلال للمعتقل ولهم، ويتحولون الى الشعب مثيرينه ضد رينزي، على اعتبار أن هذا الأخير، إذ صفح عن المتآمر انما خان الشعب وثورته... وتفلح هذه الخطة هذه المرة، حيث تبدأ الانشقاقات بالظهور في صفوف الشعب وفي صفوف حلقة الأنصار المقربين من رينزي. وإذ يتدخل البابا بدوره في الأمر، فارضاً الحرمان على رينزي، يجد هذا الأخير نفسه وحيداً وقد تخلى عنه الجميع: البابا والشعب والنبلاء بالطبع... وهو، في الوقت الذي يدرك فيه أن أخطاءه المتراكمة هي التي تودي الآن بطموحاته، يكتشف أنه في عزلته الرهيبة تلك لم يعد يملك من يناصره سوى أخته الوفية ايرينا، التي باتت الآن مستعدة لرفض حبها لأدريانو كرمى لعيني أخيها... ولكن كل هذا لا يبدو مفيداً الآن... ذلك أن الشعب واصل ثورته وتمكن من محاصرة قصر رينزي وشن الهجوم تلو الهجوم عليه وصولاً الى إحراقه. وإذ يصر رينزي على البقاء في القصر المحترق تحذو أخته ايرينا حذوه فيحترقان معاً... ولكنهما لا يحترقان وحدهما، إذ إن ادريانو، الذي ظل يحب ايرينا حتى الرمق الأخير، يتقدم بدوره وسط النيران التي تلتهمه لعله يجتمع بحبيبته أخيراً في الآخرة.

هذه هي، في اختصار أحداث الأوبرا التي من الواضح أن كل ما في أحداثها كان يؤهلها الى أن تكون تلك «الأوبرا الكبيرة» التي كان فاگنر يحلم بكتابتها باكراً في حياته. وينقل ثروت عكاشه، في كتابه «موسوعة الموسيقي فاگنر»، عن الباحث ارنست نيومان قوله: «ان «رينزي» هي أحط أعمال فاگنر. وهي أقل امتاعاً من «الجنيات» و «تحريم الحب» - وهما اثنتان من أول أعمال فاگنر الأوبرالية - وإذا كنا نغفر لفاگنر، في مؤلفاته الأولى، نزوات الشباب في محاولته محاكاة كبار الموسيقيين، فإننا كنا ننتظر منه وهو في سن السادسة والعشرين أو السابعة والعشرين أعمالاً تكشف عن الاستقرار والجدة في أسلوبه. وتختلف «رينزي» عن الأوبراتين السابقتين عليها في معارضتها للأوضاع المألوفة، فقد جاءت في جملها الموسيقية في صورة مسرفة في ضخامتها وعمق معانيها الى الحد الذي يبعث على الضيق بها. ومن المدهش حقاً ألا نجد بين جملها الموسيقية التي تملأ 600 صفحة، غير القليل الذي نعدّه ذا قيمة، وهو ما لا يتعدى أصابع اليد الواحدة».

  • والحال أن فاغنر نفسه اعترف لاحقاً بأن «رينزي» لم تكن على الجودة التي أرادها لها، إذ قال: «على رغم كل شيء، هذا العمل الذي كتبته في شبابي، لم يكن من الأعمال التي يمكن الاحتفاظ بها». ومع هذا، فإن دارسين أكثر موضوعية وإنصافاً رأوا دائماً ان من الممكن اعتبار افتتاحية «رينزي» عملاً كبيراً، كما يمكن المباهاة ببعض صفحاتها وأغانيها الثنائية... حتى من دون أن نقول انها مهدت حقاً لما سيصبح عليه فاغنر لاحقاً.

وريتشارد ڤاگنر (1813 - 1883) لم يكن على أي حال الوحيد الذي اهتم بتحويل فصل من حياة كولا دي رينزي الى عمل موسيقي، إذ نعرف انه عدا عن صاحب «الهولندي الطائر» و «ذهب الرين» و «المركب الشبح» و «تريستان وايزولت» وغيرها من الأوبرات العظيمة التي ستوصل اسم فاغنر لاحقاً الى أعلى درجات المجد، كتب الروسي فلاديمير كاشبروف (1827 - 1894) أوبرا حول هذا الموضوع قدمت في فلورنسا في عام 1863، أي قبل أربع سنوات من تقديم الايطالي آكيلي بيري (1812 - 1880) أوبرا بالعنوان والموضوع نفسهما في ميلانو، علماً أن أوبرا فاغنر قدمت للمرة الأولى في عام 1842.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

انظر أيضاً