جولي، أو إلواز الجديدة

جولي، أو إلواز الجديدة
RousseauJulie.jpg
First edition title page
المؤلفجان-جاك روسو
العنوان الأصليJulie, ou la nouvelle Héloïse
البلدFrance
اللغةFrench
الصنفرواية رسائلية
الناشرمار-ميشل ري
تاريخ النشر
1761
نوع الوسائطPrint
ISBNN.A.

جولي، أو إلواز الجديدة (فرنسية: Julie, ou la nouvelle Héloïse) هي رواية مكونة من رسائل من جان-جاك روسو، نشرها في 1761 مارك-ميشل ري في أمستردام. الطبعة الأصلية كان عنوانها Lettres de deux amans habitans d'une petite ville au pied des Alpes ("رسائل من حبيبين يعيشان في بلدة صغيرة على سفح الألپ").

العنوان الثانوي للرواية يشير إلى تاريخ إلواز دارجنتوي وپيتر أبلار، وهي قصة من العصور الوسطى عن العشق والرفض المسيحي. وقد أُدرجت الرواية ضمن Index Librorum Prohibitorum (قائمة الأعمال المحظورة).

وبالرغم من أن روسو كتبها كرواية، إلا أنها متشبعة بنظرية فلسفية حول الأصالة، إذ يستكشف الذاتية والأصالة كقيم أخلاقية. وثمة تفسير شائع هو أن روسو كان يُعلي من قيمة خـُلـُق الأصالة على المبادئ الأخلاقية العقلانية، كما يبيّن مبدأ أن على المرء أن يفعل ما يمليه عليه المجتمع فقط طالما تماشى ذلك مع "المبادئ والأحاسيس السرية" للمرء، وطالما اتسق ذلك مع لب هويته. السلوك غير الأصيل سيمهد الطريق لتدمير الذات.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

استعراض

إن الكتاب الذي أخطأ فولتير في تسميته كان طوال ثلاث سنين ملاذا لروسو من أعدائه، وأصدقائه، والعالم. بدأه عام 1756 وفرغ منه في سبتمبر 1758، وأرسله إلى ناشر في هولندا، وظهر في فبراير 1761 باسم "جولي أو إلواز الجديدة، رسائل عاشقين جمعها ونشرها ج.ج روسو". وصياغة الرواية في شكل رسائل كانت عادة قديمة، ولكن لعل الذي دعا روسو إلى التصميم عليها هو محاكاته رواية رتشاردسن "كلاريسا".

والقصة بعيد الاحتمال ولكنها نسيج وحدها. فجولي هي ابنة بارون ديتانج، وهي في السابعة عشرة أو نحوها. وتدعو أمها الشاب الوسيم سام-برو ليكون معلمها الخاص. ويقع أبيلار الجديد هذا في غرام إلواز الجديدة، كما كان يمكن أن تتوقعه أي أم في دنيا الواقع. ولا يلبث أن يرسل إلى تلميذته رسائل حب حددت اللحن لقرن من القصص الرومانسي:

Cquote2.png "إني لأرتعد كلما تصافحت أيدينا، ولا أدري كيف يحدث هذا، ولكنها تتصافح دوماً. وإني أجفل حالما أحس لمسة إصبعك، وتأخذني حمى أو قولي حمى مصحوبة بهذيان بهذه المتع؛ وتتخلى عني حواسي شيئاً فشيئاً، فإذا خرجت هكذا عن طوري فماذا أستطيع أن أقول، أو أفعل، وأين أختبئ، وكيف أكون مسئولاً عن سلوكي؟"(56) Cquote1.png

ثم يقترح أن يرحل ولكنه يكتفي بالكلام دون الفعل:

"وداعاً إذن يا جولي المفرطة الفتنة...غداً سأكون رحلت إلى الأبد. ولكن ثقي أن غرامي العنيف الطاهر بكي لن ينتهي إلا بانتهاء حياتي، وأن قلبي المفعم بهذا المخلوق الملائكي، لن يهبط بنفسه إلى إفساح مكان فيه لحب ثانِ، وأنه سيوزع كل ولائه المستقبل بينك وبين العفة، وأنه لن يدنس لهيب آخر المذبح الذي عبدت عليه جولي(57).

وقد تبتسم جولي لهذا التعبد، ولكن فيها من الأنوثة ما يمنعها من إقصاء مثل هذا الكائن المبهج عن المديح. فتطلب إليه أن يؤجل قراره. فالاتصال الكهربائي بين الذكر والأنثى قد احدث بها على أي حال اضطراباً مماثلاً، وسرعان ما تعترف بأنها هي أيضاً قد أحست باللدغة الغامضة: "منذ أول يوم التقينا فيه تشربت السم الذي يسري الآن في حواسي وعقلي، شعرت به فوراً وعيناك، وعواطفك، وحديثك، وقلمك المذنب-كلها تزيد كل يوم أذاه(58)". ومع ذلك يتعهد بألا يطلب مطلباً أشد إثماً من قبلة "كوني عفيفة وإلا احتقرت، وسأكون جديراً بالاحترام وإلا عدت كما كنت، ذلك هو الأمل الوحيد الباقي لي، والذي يفضل الأمل في الموت". ويوافق سان-برو على أن يجمع بين الهذيان والعفة، ولكنه يعتقد أن هذا يتطلب معونة خارقة من السماء.

"أيتها القرى السماوية،...انفخي فيّ روحاً تطيق السعادة العظمى! أيها الحب الإلهي! يا روح وجودي، آواه، أسندي لأنني أوشكت على السقوط تحت وطأة الوجد!...آواه كيف احتمل سيل السعادة المتدفق الذي يفيض به قلبي؟ كيف أطرد هواجس عاشقة خائفة؟(59). وهكذا طوال 657 صفحة. فإذا بلغنا صفحة 91 قبلته. والكلمات تقصر عن وصف "حالي بعد ذلك بلحظة، حين شعرت-إذ ارتعشت يداي-برعدة رقيقة-وشفتاي المعطرتان-شفتا جولي حبيبتي-تضغطان شفتي، وأنا بين ذراعيها! وبأسرع من البرق انطلقت من كياني نار مباغتة(60). فإذا وصلنا الرسالة التاسعة والعشرين وجدنا أنه أغواها، أو أنها أغوته. ويهيم هو في عوالم من النشوة، ولكنها تحسب كل شيء قد ضاع. "إن لحظة غفلة واحدة قد أسلمتني إلى تعاسة أبدية. لقد سقطت في وهدة العار التي لا مخرج منها"(61).

وتموت أم جولي كمداً حين تعلم بأن بكارتها فضت. ويقسم البارون أن يقتل سان-برو، فيخرج هذا في رحلة بحرية حول الأرض. وتتزوج جولي فولمار، وهو روسي كريم المولد. متقدم السن، تكفيراً عن ذنبها وطاعة لأبيها، ولكنها تظل تراسل سان-برو خفية، وتشعر نحوه بعاطفة أقوى من حبها الواجب عليها لزوجها. ويدهشها أن تجد فولمار إنساناً طيباً، وفياً حريصاً على راحتها، منصفاً كريماً مع الجميع، وذلك رغم إلحاده.وفي رسالة كتبتها لسان-برو تؤكد له أن الرجل والمرأة قد يجدان الرضى في "زواج المصلحة" ولكنها لن تعرف السعادة الكاملة أبداً. فانحرافها قبل زواجها يثقل ذاكرتها وأخيراً تعترف لزوجها بلحظة الإثم تلك. ويقول أنه علم بها، وصمم على ألا يذكرها أبداً. ويخبرها أنه لم يكن إثماً قط. وتأكيداً لغفرانه لها يدعو سان-بور للحضور والإقامة مع الأسرة معلماً خاصاً لطفلهما، ويحضر سان-بو؛ ويؤكد لنا المؤلف أن الثلاثة يعيشون معاً في وفاق حتى يفرق بينهم الموت. ويغيب الزوج العجيب أياماً. وتخرج جولي وسان-برو للتجديف في بحيرة جنيف، ويعبران إلى سافوي، ويريها الصخور التي كتب عليها اسمها في منفاه، ويبكي؛ وتمسك بيده المرتعشة، ولكنهم يعودان بريئين من الإثم في كلارنس في إقليم فو(62).

ويعجبان كيف يمكن لفولمار أن يكون بهذه الطبيعة دون إيمان ديني. ويفسر سان-برو هذه الظاهرة الشاذة، وهو كجولي بروتستنتي متمسك بدينه:

Cquote2.png "إن فولمار الذي أقام في أقطار كاثوليكية رومانسية لم يغره ما خبره من إيمان أهلها. بأن يرى في المسيحية رأياً أفضل. فقد رأى أن مذهبه لا يتجه إلى لمصلحة كهنتهم، وهو يتألف بجملته من حركات مثيرة للسخرية ورطانة بألفاظ لا معنى لها. ولاحظ أن ذوي الفطرة السليمة والأمانة مجمعون على رأيه، وأنهم لا يتحرجون من الجهر برأيهم، لا بل أن القساوسة أنفسهم في الخفاء كانوا يهزؤون سراً بما يعلمون ويثبتون في الأذهان علانية، ومن ثم فكثيراً ما أكد لنا أنه بعد أن أنفق كثيراً من الوقت والجهد في البحث، لم يلتقِ قط بأكثر من ثلاث قساوسة يؤمنون بالله(63)". Cquote1.png

ويضيف روسو في حاشية، معاذ الله أن أوافق على هذه التأكيدات القاسية الطائشة! ومع ذلك يذهب فولمار بانتظام إلى الشعائر الدينية البروتستانتية مع جولي، بدافع من احترامه لها ولجيرانه. وترى جولي وسان-برو فيه "أغرب اللامعقول-إنساناً يفكر تفكير ملحد ويسلك مسلك مسيحي(64)".

وهو لا يستحق اللطمة الأخيرة، ذلك أن جولي تعهدت إلى فولمار وهي على وشك الموت بحمى أصابتها وهي تنقذ ابنها من الغرق-بخطاب غير مختوم يعلن لسان-برو أنه كان على الدوام حبها الوحيد. وفي وسعنا أن نفهم دوام ذلك الحب الأول ولكن لن نجزي طول وفاء زوجها وثقته بها بمثل هذا الرفض القاسي وهي على فرش الموت؟ أن هذا لا يكاد يتفق والنبل الذي أضفاه المؤلف على خلق جولي.

ومع ذاك فهي من أعظم اللوحات في القصص الحديث. وقد استلهمها روسو من محي ذكرياته الخاصة رغم أن (كلاريسا) وتشاردسن أوحت بها في أغلب الظن، الفتاتان اللتان قادا جواديهما عبر النهير في آنسي، والذكريات التي احتفظ بها في إعزاز لمدام دفاران حين كانت تبسط عليه حمايتها في سنوات صباه، ثم لمدام دودتو، التي أشعرته بفيض الحب حين وقفت سداً أمام شهوته، وبالطبع ليست جولي واحدة من هاتين المرأتين، ولعلها ليست أي امرأة التقي بها روسو طيلة حياته، بل مثالاً مخلقاً من أحلامه. وقد أفسد الصورة إصرار روسو على جعل شخوصه كلها تقريباً تتكلم كروسو، فجولي تزيدها الأمومة عمقاً تغدو حكيمة من الحكماء، فتطيل الحديث في كل شيء من التدبير المنزلي إلى الاتحاد الصوفي بالله. وهي تقول لابد أن نفحص صحة هذه الحجة، ولكن أي امرأة جديرة بالحب نزلت يوماً ما إلى مثل هذه التفاهة.

أما سان-برو فهو بالطبع أشبه الشخوص بروسو، حساس لكل مفاتن النساء، تواق للركوع عند أقدامهن التي يحلم بها، ويسكب عبارات الولاء والحب البليغة التي رددها في وحدته. ويصفه روسو بأنه لا يفتأ يأتي عملاً مجنوناً ثم يحاول أن يثوب إلى رشده(65). وسان-برو إنسان متزمت أشد التزمت بالقياس إلى لفليس الوغد السافر كما صوره وتشاردسن. وهو الآخر لابد أن ينطق بلسان روسو، فهو يصف باريس بأنها دوامة من الشرور-غنى فاحش، وفقر مدقع، وحكومة عاجزة، وهواء فاسد، وموسيقى رديئة، وأحاديث تافهة، وفلسفة باطلة، وانهيار كامل تقريباً للدين، والفضيلة، والزواج، وهو يردد مقال روسو الأول عن صلاح الإنسان الفطري وتأثيرات الحضارة المفسدة المحطة، ويهنئ جولي وفولمار على إثارهما حياة الريف الهادئة الصحية في كلارنس.

أما فولمار فأكثر الأشخاص أصالة في معرض روسو. فمن كان النموذج الذي حاكه المؤلف على غراره؟ لعله دولباخ، "الملحد اللطيف"، والبارون الفيلسوف، والمادي الفاضل، والزوج الوفي لزوجة واحد ومن بعدها لأختها. أو لعله سان-لامبير، الذي صدم روسو بتبشيره بالإلحاد، ولكنه صفح عنه لمغازلته خليلته. ويعترف روسو صراحة باستخدامه النماذج الأصلية الحية والذكريات الشخصية:

"إن قلبي المفعم بما وقع لي، والذي لم يزل جياشاً بالكثير من الانفعالات العنيفة، أضاف الشعور بآلامه إلى الأفكار التي أوحى إلي بعها التأمل... وعلى غير وعي مني وصفت المواقف التي كنت فيها آنئذ، ورسمت صوراً لگريم، ومدام ديينيه، ومدام دودتو، وسان-لامبير، ولشخصي(66)".

وخلال لوحات الأشخاص هذه عرض روسو جوانب فلسفته كلها تقريباً. فأعطانا صورة مثالية للزواج السعيد، ولضيعة تدار بكفاية، وعدالة، ورحمة؛ ولأطفال بيربون ليكونوا مزيجاً مثالياً من الحريو والطاعة، ومن ضبط النفس والذكاء. واستبق الحجج التي سيوردها في كتابه "إميل":أن يوجه التعليم أولاً لتربية البدن ليكون صحيحاً، ثم لتربية الخلق ليعود النظام الصارم، وبعد ذلك فقط لتربية الذهن ليعود الجدل العقلي. تقول جولي "إن السبيل الوحيد لجعل الأطفال طيعين ليس سبيل الجدل العقلي معهم، بل إقناعهم بأن الجدل العقلي فوق سنهم(67). وينبغي ألا نلجأ إطلاقاً للجدل العقلي، أو ألا يكون هناك أي تعليم عقلي، قبل سن البلوغ. وحرصت القصة حرصاً شديداً على مناقشة الدين. فترى إيمان جولي يغدو الأداة لخلاصها، وقد ألهمها الاحتفال الديني الذي قدس زواجها إحساساً بالتطهر والوفاء. ولكنه إيمان بروتستانتي خالص ذلك الذي يشيع في الكتاب. فسان-برو يسخر مما يبدو له من نفاق القساوسة الكاثوليك في باريس؛ ويندد فولمار بعزوبة الكهنة لأنها قناع يخفي وراءه الفجور، ويضيف روسو بشخصه هذه العبارة: "إن فرض العزوبة على جماعة كبيرة مثل قساوسة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ليس لمنعهم من أن يكون لهم زوجات، بقدر ما هو لأمرهم بأن يقنعوا بزوجات غيرهم من الرجال(68)". ويصرح روسو بهذه المناسبة بتأييده للتسامح الديني، ويبسطه حتى على الملحدين، "أن المؤمن الحقيقي لا يتعصب ولا يضطهد غيره. ولو كنت قاضياً؛ ولو قضى القانون بعقوبة الموت على الملحدين؛ لبدأت بحرق كل مبلغ يشي بإنسان آخر، لأنه هو نفسه ملحد(69)".

Le premier mouvement de la Nature [حركة الطبيعة الأولى]

وكان للقصة تأثير بالغ في تنبيه أوربا لمفاتن الطبيعة وروائعها. ففي فولتير؛ وديدرو، ودالامبير، لم تشجع حمى الفلسفة وحياة الحضر الإحساس المرهف بجلال الجبال وجمال ألوان السماء. أما روسو فقد تميز بولادته في أحضان أروع مناظر أوربا وقعاً في النفوس. وكان قد مشى من جنيف متجولاً في سافوي عبر الألب إلى تورين، ومن تورين إلى فرنسا؛ واستمتع بمشاهد الريف وأصواته وعبيره؛ وأحس بكل شروق شمس كأنه انتصار الإله على الشر والشك. وقد تصور توافقاً صوفياً بين حالات مزاجه والمزاج المتغير للأرض والهواء؛ وعانقت نشوة حبه كل شجرة وزهرة، وكل ورقة عشب. وتسلق الألب إلى نصف ارتفاعها، ووجد نقاء في الهواء، خيل إليه أنه يطهر أفكاره ويجلوها. وقد وصف هذه التجارب بإحساس وحيوية جعلا من تسلق الجبال، ولا سيما في سويسرا، رياضة من أكبر رياضات أوربا.

ولم يحدث من قبل في الأدب الحديث أن ظفر الوجدان، والعاطفة المشبوبة، والحب الرومانسي، بمثل هذا العرض والدفاع المستفيضين البليغين. فلقد أعلن روسو، في تمرده على عبادة العقل من بوالو إلى فولتير، مكانة الوجدان العليا وحقه في أن يسمع في ترجمة الحياة وتقييم القصائد، وبرواية "إلواز الجديدة" أعلنت الحركة الرومانسية تحديها للعصر الكلاسيكي. وقد سبقتها بالطبع لحظات رومانسية حتى في عز الكلاسيكية، مثال ذلك أن أوتوريه دورفيه داعب الريفي في قصته "لاستريه" (1610-1627)، وأن الآنسة سكوديري أسهبت في وصف الغراميات في قصتها "أرطمين، أو قورش العظيم" (1649-1653)، كذلك زاوجت مدام دلافاييت في الحب والموت في قصتها "أمير كليف" (1678)، وأدخل راسين هذا الموضوع في مسرحيته "فيدرا" (1677)، وهي قمة العصر الكلاسيكي، ونحن نذكر كيف ورث روسو الروايات الغرامية القديمة عن أمه، وقرأها مع أبيه. أما جبال الألب فإن ألبرشت فون هالر كان قد تغنى بجلالها (1729)، كذلك تغنى جيمس طومسن بجمال الفصول ورهبتها (1726-1730). ولابد أن جان-جاك قرأ قصة بريفوست "مانون لسكو" (1731)، وأحاط علماً برواية رتشاردسن "كلاريسا" في ترجمة بريفوست (1747-1748) (لأنه كان يقرأ الإنجليزية بصعوبة). ومن قصة الإغواء تلك إلى ألفي صفحة (ولم تكتمل بعد) اقتبس شكل الرسائل في الرواية لصلاحيته للتحليل النفسي، وكما دبر رتشاردسن لكلاريسا نجية تدعى الآنسة هاو، كذلك دبر روسو لجولي نجية هي ابنة عمها كلير. ولاحظ روسو في غيظ أن ديدرو نشر تقريظاً حماسياً لرتشاردسن (1761) عقب نشر جولي، فحجب بذلك سناء قصته جولي.

ولا تقل رواية جولي عن كلاريسا أصالة ومآخذ، وهي تسمو عنها كثيراً في أسلوبها والروايتان غنيتان في شطحات الخيال مثقلتان بالمواعظ. ولكن فرنسا، التي تبرز العالم أسلوباً، لم ترَ قط اللغة الفرنسية تتخذ مثل هذا اللون، والحرارة، والنعومة، والإيقاع، فروسو لم يكن مجرد مبشر بالوجدان، وإنما كان يملكه، فكل ما يمسه مشرب بالحساسية والعاطفة. وقد نبتسم لنشواته ولكننا نجد أن ناره تدفئنا. وقد نكرر الخطب المقحمة ونمر بها مرور الكرام، ولكنا نمضي في القراءة، وبين الحين والحين تتجدد حياة القصة بمشهد شعر بع المؤلف شعوراً حاداً. كان فولتير يفكر بالآراء ويكتب بالأبجرامات، أما روسو فكان يبصر بالصور ويؤلف بالأحاسيس. ولم تكن عباراته ووقفاته بريئة من الصنعة، فقد اعترف بأنه كان يقلبها وهو في فراشه حين تقصي النوم عن جفنيه عاطفة الفنان المشبوبة(70). يقول كانت "لابد من أن أقرأ روسو إلى أن يكف جمال عباراته عن فتنتي، وعندها فقط أستطيع أن أفحصه في روية وتعقل(71)".

ولقيت جولي النجاح في أعين الجميع إلا الفلاسفة. فوصفها جريم بأنها تقليد هزيل لكلاريسا، وتنبأ بأن النسيان سيطويها سريعاً(72). وقال فولتير وهو يهدر غضباً (21 يناير 1761) لا تزدني حديثاً عن رواية جان-جاك من فضلك، فلدق قرأتها لشدة أسفي، ولشدة أسفه لو كان لدي من الوقت ما يتسع لإبداء رأيي في هذا الكتاب السخيف(73). وبعد شهر أفصح عن رأيه في كتابه "رسائل حول هلويز الجديدة" الذي نشر باسم مستعار. فنبه إلى الأخطاء اللغوية، ولم تبد منه أي إشارة تدل على تقديره لوصف روسو للطبيعة-وإن كان سيقلد جان-جاك بعد حين بتسلقه ربوة ليتعبد للشمس المشرقة. وتبينت باريس قلم فولتير، وحكمت بأن "الشيخ" عضته الغيرة بأنيابها.

وإذا ضربنا صفحاً عن هذه الوخزات، فأن روسو ابتهج بالاستقبال الذي ليقه أول عمل مطول له. يقول ميشليه "لم يعهد في تاريخ الأدب كله نجاح عظيم كهذا(74)". وظهرت الطبعة تلو الطبعة، ولكن المطبوع كان أقل كثيراً من الطلب ووقف الجمهور في طوابير أمام المكتبات لشراء الكتاب، وكان القراء الملهوفون يدفعون اثني عشر سواً في الساعة ليستعيروه، وقراء النهار يؤجرونه لغيرهم يقرؤونه في الليل(75). وروى روسو في اغتباط أن نبيلة طلبت مركبتها وقد تهيأت للذهاب إلى مرقص في الأوبرا، وشرعت تقرأ جولي خلال ذلك، وشوقتها القصة تشويقاً أغراها بالمضي فيها حتى الرابعة صباحاً بينما الخادمة والجياد في انتظارها(76). وقد عزا انتصاره إلى اللذة التي يجدها النساء في قراءة قصص الغرام، ولكن كان هناك أيضاً نساء مللن حياتهن خليلات، وتقن إلى أن يكن زوجات، وأن يكون لأطفالهن آباء. وتلقى روسو مئات الخطابات في نمورنسي يشكره فيها أصحابها على كتابه، وكثر عدد النساء اللائى عرضن عليه حبهن حتى انتهى به خياله إلى أنه "ما من امرأة في المجتمع الراقي لم أكن ألقى التوفيق في الاتصال بها لو حاولته(77)".

وكان من الطريف أن يكشف إنسان عن سريرته كشفاً كاملاً كما فعل روسو خلال سان-برو وجولي، وليس هناك أكثر طرافة وإمتاعاً من نفس إنسان تتجرد أمام الناظرين ولو تجريداً جزئياً أو لا شعورياً. تقول مدام دستال "هنا مزقت كل أقنعة القلب(78)". وبدأ الآن سلطان الأدب الذاتي، تلك السلسلة الطويلة الممتدة إلى زماننا، من إفشاءات الذات، من القلوب المحطمة في صفحات مطبوعة، من " النفوس الجميلة" التي تسبح في المأساة جهاراً نهاراً. وفشا بين الناس الإفصاح عن حرارة العاطفة، والإعراب عن الانفعال والشعور، لا في فرنسا وحدها بل في إنجلترا وألمانيا أيضاً. وبدأ يتلاشى الأسلوب الكلاسيكي، أسلوب ضبط النفس، والنظام، والعقل، والشكل، وأوشكت دولة "الفلاسفة" أن تدول. لقد أصبح القرن الثامن عشر بعد عام 1760 ملكاً لروسو(79).


المصادر والهامش

  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.


وصلات خارجية