جريدة أخبار الأدب

قصة


الذباب 2


عبد العزيز نايل



تركوه ملقى على سريره, بعد أن تشارك جميع سكان الحارة في انقاذه ولا زال بعضهم يطارد فلول القتلة من الذباب بالهش والنش , وللأطفال مهمة جمع ما تبقى من اللحم النتن والخروج به لإلقائه بعيدا في مجاهل الخرابة التي على مشارف حي الأمراء والخلفاء

أما هو فلا زال يتطلع الى يديه المحترقتين مدمدما بنهنهات العتاب على انه استمرأ العيش في بلاد ليست كالبلاد معتذراً لليوم الذي اعتزم فيه الرحيلَ ليعود إلى قريته بعد أربع سنوات قضاها هنا , منذ أن انتهى به المطاف إلى شارع المحجر بحي الخليفة بالقاهرة هارباً من البلدة الصغيرة إلى بلاد الله العريضة الوسيعة , تَذَكَّّر يومَ جلسَ يكتبُ الخطابَ الأولَ لأسرته بعد أن أمضى تسعةَ أشهرٍ في القاهرةِ , كان ذلك أول يوم يستشعر فيه , أنه اصبح يسير معتدل القامة , يسير على قدميه ويتطلع الى الناس والأشياء والمباني من فوق , فعلى مدار الشهور التسعة الفائتة , كان يبدو وكأنه يسير مقلوبا ويبدو غريبا لكل من يراه أو يسمعه , لم يهتم لكونه يسير مقلوبا ويبدو لكل من يراه كغريب , متميز عن الآخرين بسحنة ولون ومسلك الآتين من كوكب آخر , وإنما استمر في جهاده يحاول أن تألف عيناه المباني الكبيرة وهي التي لم تألف سوى المباني الصغيرة يحاول أن يكون ككل القاطنين في هذه المدينة بألف وجه وألف ضمير ويتكلمون بالعين والحاجب , وهو الذي جاء من قريته لا يحمل الا وجها واحدا وضميرا واحدا ولم تُدرَب عيناه على الغمز واللمز على الاشتراك في محاوراته ولأن يصبح شبيها بهم كان يحاول أن يثقبَ تلك الحصون من العادات والتقاليد والطرائق بإبرةٍ صغيرةٍ من الصلبِ , رغبة في استيعابِ أسرار القاهرة , و الاستغراق فيها شكلا وروحا , رافضا أن يعيش أبدا ضيفا عليها ,غريبا ومقلوبا , بدأ الجملة الثانية في خطابه لأمه وأخوته قائلا : في غرفتي نافذةٌ , أي نعم هى تطلُ على حارة ضيقةٍ , إلاّ أنني عندما ترنو عيناي فوق مستوى البيوت , تبين القلعةُ شامخة بهيةُ , ومن أجل أن تظل في عينيَّ شامخة بهية , أهزُّ رأسي متعمدا أن تتساقط صورةٌ رأيتُها للسجونِ التي مازال أنين أشباح الآلاف من المصريين والذين ماتوا مكبلين بالجنازير ,في سجون القلعة ,يصدح بالعدودة الحزينة فوق أسوراها و كان فوقهم كلّ تلك المآذن والقباب الشامخة ولا تشفعُ لصراخهم ,بل تبدو وكأنها اسْتُخدِمتْ , ليرتفعَ بها الآذانُ خمس مرات في اليوم عاليا .. عالياً , لكي لا تستمع القاهرةُ , لهديرِ الموت وهو يلتهم أجملَ أبنائها تحت هذه القلعة الشامخة البهية , أو ربما ..حتى لا تتأذى آذانُ الجواري والإماء والغلمان فيها , وضَعَ فاصلةً تَفْرقُ بين جملتين وفي حركة غاضبة هوى بالقلم الجاف ليرشقه في خشب الطاولة المتهالك , وهو يردد بعد أن استدار , أبعد تسعة أشهر لا أعرف عن أمي وأخوتي شيئا , وهم لا يعرفون عني , يصبح جُلّ همي أن أكاتبهم عن الموتى !!!!! فاستدار يواجه طاولته , ليمزق خطابه ,ثم يفتح نافذة الغرفة المغلقة دوما , ولأول مرة , منذ اتخذها مسكنا , ليلقي بخطابه قِطعاً صغيرة ممزقة ,طارت مزق الخطاب كالعصافير من نافذته , نظر اليها يراقبها وهي تتنزل على ارضية الشارع كان خائفا ان تتجمع مرة اخرى ثم ترحل الى امه وأخوته فلا يأكلون حتى الموت من مرارة ما جاء في خطابه ولكن كيف لها ان تصنع ذلك وهي لا تملك اجنحة كما كاتبها , تساقطت قطعة قطعة فاطمأن وزحفت عيناه لأول مرة على البيوت المجاورة , الاّ أنه تراجع سريعا للخلف فقد هاله ما رأى , رأى ساقيها تتأرجحان في الهواء , لفتاة في السابعة عشر من عمرها تقريبا هذا الجسد لا يكون الاّ لفتاة في هذا العمر , كانت راقدة على ظهرها في إحدى نوافذ البيت الذي أمامه , ساعده على أن يراها جيدا , اقتراب المسافة بين النافذتين , فَعَرْضُ الحارة لا يزيد عن المترين ونصف تقريبا , كانت الفتاة تَتَقلبُ في سريرها فَتفَحّصَها جيدا , فرأسها يتوارى خلف الجزء المغلق من نافذتها , لابد أن تكون هذه البنت معزوزة في مأكلها ومشربها , وجدُّها وربما جدتها كان تركيا أو تركية وربما في قراءة أخرى كان جدها واحدا من المماليك , على جسدها كُتبت كل هذه المعلومات ,أغلق نافذته بعد أن احتفظ بصورة فخذيها اللتين تؤرجحهما في الهواء ومازال لون ملابسها الداخلية الحمراء والتي لم تقوى على احتواء كامل ردفيها عالقا في ذاكرته , حتى بعد أن مرت السنواتُ الأربعة , عليه في هذه الغرفة .. رجال الحارة ونساؤها يتقولون عليه , بأنه الأفضل أخلاقا وأدبا من بين كل الذين سكنوا في هذه الغرفة , كان يتأوه قائلا : آهِ لو عرفوا أنني ثقبتُ خشبَ النافذة ثقبا يعادل بؤبؤ العين فقط , ومن خلاله لا تنجو امرأة من مراقبتي إياها أنَّى اختلتْ بجسدها .. إلا أنه تخلى عن مراقبة النسوة العجائز , وذوات الكروش , والصدور المتهدلة , وكلَّ ذات لون قاتم .. السمراءُ والقمحيةُ لم تَرُقْ له مراقبتهما , فقط هذه البنتُ البيضاءُ , البيضاءُ جداً , لونها ليس له مثيلٌ في الصعيد , حتى وإن كان في الصعيد موجودا , فليس هناك فرصة لاكتشافه أو رؤيته , وما تلك المهارة في مراقبة النساء إلا نتيجة للرعب الذي أتى به من الصعيد وخاصة عندما يتعلق الأمر بامرأة , قال موبخاً نفسه , تتناسى ولا تنسى , ولماذا تسمح أن يتنطط الصعيد أمامك في كل صغيرة وكبيرة ؟ أما كان كافيا ما عشته , وما رأيته !! أنهيتَ مراحل التعليم , ولم تعرف من البنات غير أخواتك , ثم ارتميتَ , خمسُ سنواتٍ في وحدة عسكرية , وتأكيدا لحظك التعس يجيء توزيعك في قيادة الدفاع الجوي إلى الصعيد أيضا , تَظلَّمْتُ ورفضوا مطلبي بإعادة توزيعي إلى أي مكان في مصر غير الصعيد , فلم أرى غيرَ وجوه العساكر الكالحة من التراب والغبار متراكميّن على شواربهم وشعر رؤوسهم , ثم هذا الخبز الذي يحتاج إلى مطرقة حتى تفصله عن الرمال التي علقت به , ناهيك عن تلك الطبخة السوداء , وما أدراك ما الطبخة السوداء !!! عبرنا القنال في حرب أكتوبر , لنسترد سبعة عشرة كيلو مترا من أرضنا ونحن نقتاتُ على الطبخة السوداء , كان من الممكن أن نستردَ مائةً وخمسين كيلومترا لو أننا كنا نأكل طبخة بيضاء , وعندما تَرَدَدتْ على لسانه ... بيضاء .. بيضاء , تذكر ساقيها إنهما أيضا بيضاوين , لكنه بياض غير بياض الطبيخ وغير بياض الثلج , ولا يشبهه بياض القمر , انه البياض المصنَّعُ خِصيِصاً لإثارة وإنعاش الروح والجسد , وإلاَّ لماذا وفي حدود معرفتي , أن نبيا أي نبي لم يتزوج امرأةً سوداء , حتى الأنبياء أنفسهم , لم نسمع ولم نقرأ عن نبي واحد كان اسوداً ,بحثت عمن يصحح هذه المعلومة فلم أجد , أيضا كانت معجزة نبي الله موسى في يده التي خرجت بيضاء بيضاء من غير سوء وأي سوء يشين البياض إلا السواد , كذلك تضَمنَ وعيدُ الله لكل من كان ابيض وعصى الله , انه سيُبعَثُ يوم القيامة ملوَّنا باللون الأسود , وسيصبح وجهُ الأفارقة والزنوج المؤمنين يوم القيامة أبيض , إذن فطوبى لكل من كان ابيض في الدنيا وبُعِث بنفس لونه في الآخرة , قال يخاطب روحه : أعرف بأنه لا ينازعنك في ألتوق إلى المعرفة إلا بياض ساقيها فهيا نرى ... احتل برج المراقبة ليرى أفخاذها وهي تعجن الهواء على ردفين يظهران تارة ويختفيان تارة , بسراويل حمراء وسوداء وزرقاء وبلون الورد أحيانا , لم يرى السواد جميلا أبدا إلا عندما رأى سراويلها السوداء وهي تُظهِر بياض ساقيها في كماله المطلق , شكرا لك يا سروالها الأسود , لكنها لماذا لا تنام اليوم على ظهرها ولا تتأرجح ساقاها في الهواء ,هي تروح وتجيء , وقد تسمّرتْ أمام مرآتها , وسرعان ما بدأت احتفالات العري , ككل ليلة , في هذه الليلة أخلفت عاداتها فقد بدأت تخلع ملابسها وهي واقفة , واحدة.. واحدة , اتكأ بخده على خشب النافذة وهو ممسك بقبضتها خوف أن تنفتح فتسقط رأسه أمام الجالسين على المقهى الواقع أسفل غرفته , ولما هاله بياض نهديها , وهو يفوق بياض ساقيها , وبغير إرادة منه صار يلعق خشب النافذة , لم يتفل آثار التراب العالق بالخشب بل ابتلعه وما حوى من عَرَقٍ مُمَلّحٍ كالندى فوق صدرها , فقد تلاشت من حوله النافذة والجدران , وكأنه الآن في غرفتها بشحمه ولحمه , وطعم حلمتيها في لسانه خاف أن تُدِرَّ الحليب في فمه , فَتَحْرُم عليه بالرضاع , راح يطوّف بفمه ولسانه أقطار هاتين الرمانتين , تنبه للزمان وللمكان بعد أن ارتعش رعشته التي انثنت على آثارها ركبتاه , فابتعدت عيناه عن ثقب نافذته , تراجع متثاقلا إلى سريره تمدد عليه وعيناه مُعَلَّقتان بسقف الغرفة ليرتفع سقف الغرفة ثم يطير في فضاء بعيد , فيرى وجهها مالئا هذا الفراغ , يتنزل وجهها ليستقر إلى جواره على مخدة واحدة , تاركا كل هذا الفراغ لنهديها , رأى نهديها بلا جسد وهما يسبحان على بحيرة من الزئبق الأحمر , ثم يهبطان ليلتصقا برأسها النائم إلى جواره , والآن يراها مكتملة في جواره ,مساوية في الطول والعرض لخريطة الوطن التي علقها بجوار سريره , ابتسم مرتاحا لهذه المفارقة ,فاجتذب البطاطين على جسدها , وراح يدفن وجهه بين نهديها , استدرك عند سماعه قرقرة التحام سقف غرفته وهو يعود من الفضاء البعيد , فوق جدرانها , أنها تركته وحيدا على سريره , ليقوم واقفا , كانت قيامته أسرع من سرعة وصول دمه إلى رأسه , جلس مرة أخرى من جراء دوخة اعترته , إلى أن توازن جسده بوصول الدماء إلى رأسه وجمجمته لم يتمهل جرى إلى النافذة يفتحها على مصراعيها , فإذا بها واقفة في شرفتها , صار يدوّر رأسه يمينا ويسارا بينما عيناه مثبتتان على شرفتها , يرقبها خلسة , عله يجد منها ما يشجعه لأن يومئ برأسه بادئا بالتحية , وبعدها تصبح إجراءات التعارف سهلة , قطع عليه مخططاتِ الالتقاء بها , صوتُ بابِ شرفتِها وهي تغلقه بطريقة استهجنها أبوها ليعلو صوته وهو جالس على المقهى , فيصرخ , ستكسرين البابَ يا بنت الكلبْ , لم ينكسر باب الشرفة وتكسَّرت البواباتُ الأربعةُ في قلبه , سحب أجنحة نافذته , وبخطوة جنائزية تقدم إلى مرآته الصغيرة المعلقة بجوار سريره , تفحص ملامحه , فإذا به ينتقد تلك الملامح لأول مرة في حياته , بشرته السمراء الداكنة , وصلعته التي تتمدد على كامل جمجمته , خاطب الله قائلا , يقينا وزعت لكل واحد منا شكلا ولونا لحكمة أردتها يارب ,هل هذه حكمتك أن أظل وحيدا ؟؟ هل من الحكمة أن اكتفي بثقب في نافذة !!! وقَّّعَ بعلامة الإيمان , مرتضيا بأية نتيجة تتأتى بسبب لونه وشكله , ثم عاد يخاطب نفسه بعد أن جلس القرفصاء , ولو كنت غنيا , لأصبحت متميزا وفريدا بشكلي ولوني , فقد رأيت شواهد كثيرة على ذلك , رأيت الكثيرات من نساء أوربا يتعلقن في شوارع الأقصر بسواعد الرجال من الزنوج , وكأنهن ذائبات في هذه السواعد , وكذلك رأيت في الرجال رجالا يحلّون من المشنقة , وسامة وطولا وعرضا , رأيتهم عشاقا هائمين لفتيات سوداوات بلون القار ولهن مناخير تصلح أعشاشا للعصافير , وكيف سأصبح وأنا المعلم للأجيال غنيا في بلد تصبح فيه الراقصة أكثر غنى من إلف معلم مجتمعين في سنة واحدة , بل إنني ابن أُمّةٍ , لم يغتنِ فيها معلمٌ واحدٌ , إلا من كان معلماً لأولاد الخلفاء , نهض من حالة القرفصاء يخطر شامخا في اتجاه طاولته ليلتقط دفاتر التحضير وكتبَ السنوات الدراسية التي يُدَرِسُها , وتوجيهاتِ الإدارة , بادئا بجدول حصصه في المدرسة , تمزيقا ومنتهيا بدفاتره كلها , وبعزم أبطال الأساطير , ودون مراجعة أو تفكير , فيما ستؤول إليه حالته بعد أن أقال نفسه بنفسه , من هذه الوظيفة السامية ذات التقدير الحقير في بلادنا , جمعها ليُلقِي بها كلها من النافذة غير عابئٍ بِرَدِّ فعل الجالسين على المقهى , تطايرت كلُّ أوراقه , ولا يعلم لماذا هبطت أوراقُه كلها , في شرفة البنت البيضاء , وكأنها تنتظرها , تتنقل وهي جالسة في شرفتها تجمع أوراقه من أطراف الشرفة وتقرأ في بعضها , توقفتْ عند إحدى الوريقات , ثم ارتفعت رأسها وعيناها في اتجاه نافذته رمقته طويلا , أدرك أنها قد قرأتْ اسمَها , ففي الكثير من أوراقه كان يكتب اسمَها , كان يرسم اسمها , كان يحفر اسمها , سرتْ في جسده برودة الفضيحة المقبلة , ولكنه استدرك لها تبريرا وحلا , فهي ليست الوحيدة في القاهرة التي اسمها رباب , عادت الحرارة إلى أعضائه , ولما أطال النظر في اتجاهها , رآها تقذف بأوراقه إلى الحارة , مستبقية ورقتين في يديها , وقبل أن تدخل , رفع يديه ليدخل سبابتيه في أذنيه , حتى لا يسمع باب شرفتها وهي تدقه إغلاقا , ولكنه سمع صوت أبيها , يعود بجملته الأثيرة , ستكسرين الباب يا بنت الكلب , في هذه المرة ترك نافذته مفتوحة واستدار باكيا بكاء الخيول والرجال , يحدّث نفسه , أو جئتُ من الصعيد بعد إضراب عن الطعام ثلاثة أيام , عقب محاولات أغنياء إحدى قرى دشنا أن يقتلوني عندما قمت بتعليم الفلاحين القراءة والكتابة , متحديا إدارة التعليم وناظر المدرسة وإرادة الأغنياء والقائمين على الجمعية التعاونية ولولا تعاطف الممرضات والمدرسين من حولي لقتلني مدير المستشفى المتواطئ معهم , في اللحظة التي لم أكن خارج دائرة الانتقاد من بعض الصبية اليساريين والمتشدقين بأولوية الولاء للحزب متنكرين للأسرة ولتركيبة الفنان التي أصبحت وصفا ووصمة أبعدتني عن اجتماعتهم وكذلك تحرمني اقتناء النشرات السرية الخاصة بهم ,عانيت كثيرا من كوني بروجوازيا صغيرا في نظرهم , وأحمق من فيهم أفتى للمقربين مني بمشروعية الاستيلاء على ما املكه , ولم يحررني انا وأشباهي من هذا البرواز الا انهيار سور برلين , حتى هم ترجلّوا واحدا واحدا من بروازيهم إلى التجارة والسمسرة , ومنهم من أصبح لصا بالمعنى الحقيقي , ومنهم الذي أثرى بصداقات السياح , والأغبى فيهم أصبح ثريا الآن من بقشيش الفنادق , وما زال هذا اليساري القديم والذي كان يعمل في وزارة إسلامية وفي نفس الوقت يعمل نادلا بارعا يبيع الخمور في الفنادق والملاهي الليلية ثم يعشق المتنبي إلا في أشعاره عن كافور يتكلم عن الثورة حتى اليوم ثم يصنع لنفسه تماثيل بيضاء عند تجار " الانتيكة " مشترطا أن تكون سحنته ثلاثية الأبعاد لتتطابق مع أوضاعه الثلاث ,لا يكترث باكتئاب القوصي ولا بالجنون يطارد عبد الحق من يومها ولا بهجرة اخناتون ابن المنشية ...... والآن تكتمل المعاناة بإقالة نفسي من وظيفتي كمعلم فما الجدوى من تعليم لا يصنع الاّ المسوخ والأشباح و أنا مرفوض من القاهرة ومن هذه البنت البيضاء كل هذا الرفض , وما أفاق من هذيانه الاّ عندما تشمم بقوة رائحة الشياط والاحتراق الآتي من مطبخه , نهض رَمحاً إلى المطبخ , وجده وقد امتلأ بدخان كثيف , ولأنه يحفظ خريطة هذا المكان , امتدت يده متخللة سحب الدخان , لتطفئ "بابور الجاز " , ثم أمسك بطاجن الفخار ليضعه تحت " حنفية " لم تغلق أبدا وتُسرِب الماءَ ليلَ نهار , ازداد تصاعد الدخان , ثم رآه يتسرب من الشقوق الواسعة , فوجئ بأسراب من الذباب الصغير والكبير تخرج هائجة , من مكمن لها تتوالد فيه خلف دولاب صغير في مطبخه, اتسع بالكاد لطاجن الفخار وخمسة من ألأطباق الصفيح ,وكوبين من الزجاج المضلع , وكنكة الشاي النحاسية , وقد خبأت مظهر النحاس خلف طبقات سوداء من الداخل والخارج , تدحرجت كل هذه الأشياء على الأرض وهو يهش الذباب في معركة غير متكافئة , قيل أن الكثرة تغلب الشجاعة , وبدا أن ذبابه لا يود مفارقة المكان , حيث أن صغاره من الذباب الصغير ويرقاته التي على وشك الانعتاق قابعة في عجزها خلف دولابه , في كومة العفن من بقايا الطبيخ والخضار القديم , وأدهان مواسير اللحم التي يعشقها , توقف عن القتال , حيث برقت في ذهنه فكرة هي أقوى من الجنون نفسه , مَهَدَ لها وهو يقهقه : أنا ملك الذباب , وأملك في غرفتي مصنعا للذباب , أليس جميلا , أن أشرع الآن في تطويره , تراجعت ضحكاته حتى صارت ابتسامة للشر على فمه , قال وهو يضغط مصفوفة أسنانه العلوية على المصفوفة السفلية فتخرج الكلمات من بين أسنانه حاملة الوعيد والنذير للحكومة وناظرة المدرسة وهذه البنت البيضاء , سأصنع في مواجهة الجميع قنابل من الذباب , بل سأصنع قنابل من الذباب بعيدة المدى , لتطال حتى هذا الذي يتاجر بالخمر والدين والثورة وبتماثيله البيضاء , قال : أعرف سيقتلني الذباب ولكن سعادتي بقتلهم جميعا , ستجعل موتي ضئيلا أمام موت الخونة , خرج مسرعا بعد أن أغلق باب غرفته في اتجاه المذبح , وهناك امتلأت تلك الحقيبة من الورق المقوى ببقايا اللحم الملقى في مجاري المذبح , احتضنها , وقبل أن يصعد إلى غرفته وقف على ناصية الحارة يتأمل لحظاتها الأخيرة وهى تنعم بالسكون المخزي والهدوء الجبان , طوّق الحارة بنظرة ساخرة وهو يردد , إن غداً لناظره قريب , ثم في داخل غرفته توجه إلى دولابه الصغير في مطبخه وألقى بكومة اللحم النتن خلف دولابه وببقايا الخِرَقْ القديمة أخذ يسدُّ كلَّ الشقوق وكلَّ الفتحاتِ الموجودة في خلفية الغرفة حتى لا تتسرب قنابله , إلا ساعة الصفر والتي سيحددها هو , ولهذه الطاقة الصغيرة صنع لها بََكَرَةً بحيث يستطيع فتحها وإغلاقها ليلقي من خلالها قنابله إلي الخارج دون أن تمر على غرفته , كذلك اخرج البابور وعدة الشاي خارج هذا المطبخ , فمنذ هذه اللحظة أعتبر هذا المطبخ مصنعا لتخصيب قنابل الذباب الذكية , ولابد أن يُحكم إغلاقه ,وعندما يتم التكاثر المريع سيقوم بإطلاق القنابل مرة كل أسبوع ,على ان يكون في الهزيع الأخير من الليل , ثم خرج منه بعد أن مرر الحبل من ثقبين في باب المطبخ وقد ثبته على بكرة في الطاقة الخلفية , أغلق الباب , لينام طويلا استعدادا لإعلان الحرب عندما ينتهي التخصيب ......

في هذه الليلة تعفف أن يراقب البنت البيضاء فقد تبنى منطق المحاربين النبلاء في ألا يستبيح حرمة أعدائه ,  بعد أن أعلنهم بالحرب , ظل يتقلَّب في سريره غير قادر على مقاومة الآلاف من الصور والأوضاع التي هي مسجلة ومحفورة في خياله , اعتدل وهو ساخط على ضعفه ,قال لنفسه ليحسم الأمر : لستُ أقل من الرهبان في الأديرة , وقد عشق صحبتهم في زمن ما , أحبوه ولكنهم لم يخبروه كيف يسمو بطاقته الجنسية , ثم تذكر انه يمتلك كتابا يشرح فيه خبراء الهندوس , ممارساتهم في كيفية الارتفاع بمقام الجنس إلى الأعلى , أسموه " ختم اليوني " بأن يركز الفكر  على دائرة القاعدة مع شهيق  قوي ثم يبدأ في تقليص " اليوني " وهي المنطقة الواقعة ما بين المخرج والعضو التناسلي , فبواسطة ختم " اليوني " يقول كهنة براهمن , لا يتلوث التلميذ بالخطيئة حتى ولو  أكل لحماً ,ولم يستجب للتحذير من ممارسة اليوجي المبتدئ لهذه الطريقة  فجلس في الوضعية التامة إحدى  أوضاع اليوجا ممارساً  "ختم اليوني" فاستشعر ثِقل الرغبة يتصاعد إلى أعلى مرتقيا , لترحل صور البنت من رأسه ثم  نام ........ ليستيقظ في الصباح على هذا الطنين , ذهب وتطلع من ثقب دقيق في باب المطبخ لم يرى شيئا سوى الذباب , جذب الحبل دون تفكير , فانفتحت الطاقة , فانشطرت قنابله خارجة منها جذب الحبل سريعا لإغلاق الطاقة بعد أن خرجت آخر ذبابة مقاتلة  , وعاد مسرعا يفتح نافذة غرفته فَسُرَّ لما رأى , رأى الناس في الحارة يهشون الذباب , الرجال والنساء عن وجوههم , أما الأطفال فيجرون خلف الذباب ثم يجرون منه , والجميع في حالة من الذعر و الهلع الراقص ,استكملت اللوحة جمالها بالصياح , لتصير رقصة شعبية , جديرة بتسجيلها فتفوق رقصات رضا الشعبية جمالا وروعة أن استثنيت تلك الآلام التي يعانون الآن منها  , وهم يخرجون من الشرفات ومن الشبابيك في حالة من الذهول , الجميع يهش ويبش وينش ولا فائدة ,  وأمام اتحاد الهاشين للذباب زحفت أمواج من الذباب إلى الشارع المجاور لحارتنا فسُمع نفس الصياح والصراخ , رحل الذباب إلى الأحياء المجاورة حتى وصل إلى المدرسة التي كان  يعمل بها , خرج جميع التلاميذ وهم يجرون , وخلفهم ناظرة المدرسة , يتصايح التلاميذ فرحا بالخروج من المدرسة , والمدرسون يطأطئون رؤوسهم تفاديا من سحابة الذباب  مندسين بين التلاميذ رآهم بعينيه وهو يتابع رحلات الذباب من شارع إلى شارع وعندما انكفأت ناظرة المدرسة  على وجهها تحت أرجل التلاميذ ورأسها محاط بالذباب فلم ترى طريقها للهروب ,  أخذ شهيقا عميقا ,ثم قفلَ إلى غرفته عائدا  ,ليرتمي على سريره ,تمنى  لو استطاع قديــما أن يمتلك هذه القنابل يومها وأعطى لكل ذبابة حجرا من أبابيل لتبيد كل المخادعين  الذين يتاجرون بالإنسان يمينا أو يسارا ,وقف متوعدا , لابد وأن ذبابه سيعثر عليهم , حتى وان اختبأوا خلف مهارة الحرباء , لاحظ أن الذباب يتسرب في غرفته , وطنين ذبابه , كصراخ المساجين , قفز ناحية مصنعه , فرأى فراغا صغيرا تحت عقب الباب قدر عين القطة يخرج منه الذباب ودون أن ينظر من ثقب الباب جذب حبل الطاقة , فاجتذب نور الشارع أسرابا من الذباب فَرُغ مصنعه من منتج الليلة ,اجتذب الطاقة ثانية ,وجرى إلى نافذة الغرفة ,رأى الذباب يقتحم كل ثقب مضاء في الحي , وجميع الناس في الحي يبدأون رقصة الهلع , ثلاث ساعات مرت على هذا الحال , وإذا بسيارات النجدة والمطافئ وكلها تصرخ آتية من بعيد ومن قريب , نجدة للحي الذي يحترق بعد ان سقطت لمبة الجاز من أحدهم , تواصلت النيران وتحتاج لمن يطفئها ,  جلس تحت خمائل الضجيج والنيران  التي اصطنعها للحي وهو اصطنع لنفسه كوبا من الشاي استمتع جدا بالرشفة الأولى وهويهزّ رأسه يمينا ويسارا  مرددا قوله  : لن تهنأ رباب بعد بسريرها أو بقمصانها الحمراء  والسوداء , بعد الرشفة الأخيرة قام يستطلع الأمر من ثقب نافذته , وهو يفتح ما بين السبابة والوسطى علامة الانتصار ,أراد أن يرى رباب محزونة ترقص هلعا مع الراقصين , وكأنه يمني نفسه , أن تتوسل إليه لكي ينزل من غرفته فيهش عنها الذباب , لكنه ارتعد عندما رأى زجاج نافذتها المغلق , وهي تنام عارية كما ولدتها أمها وبجوارها طبق لابد أن يكون من العسل , ذلك  لأنها صارت تدهن جسدها منه , ثم حين فتحت بابا خلف سريرها , ارتعد لما رأى , سرب من الذباب , تشتت فوق جسدها وهي مستلقية تتأوه تحت هذا الذباب الذي تكوم فوق مؤخرتها وهي تحركها يمينا ويسارا , ثم  ترتفع بعجزها مقدمة للذباب وجبة من العسل على (................)  فيزداد تأوهها , ثم تعتدل لتنام على ظهرها غطت وجهها , وتضع للذباب وجبة على نهديها وهاهي تبين كما لو أنها تنفرط من الحالة الجامدة إلى حالة سائلة أو غازية  , من جراء هذا العض والنهش الذي لا ينقطع في حلمتيها , انزلق غطاء وجهها عن فمها وهي في لذة كأنها الغيبوبة , , رأى فمها يكشف عن ابتسامة عريضة , بدا له أنها تضحك له , أو تضحك منه , لم يصدق فعيناها تحت عصابة , قال : ربما تكون العصابة شفافة , وعندما  لوحت بيديها في اتجاه نافذته , تراجع للوراء مرتبكا أتكون نافذته مفتوحة , ولكنه رآها مغلقة بإحكام , عاود  مراقبتها , فوجدها ما زالت تلوّح بيدها في اتجاه نافذته , يتزلق الذباب على جسدها وهي مستسلمة تحت ألف ذكر من ذكور الذباب , أشارت بسبابتها على نافذته ثم حركتها يمينا ويسارا إشارة تقول بها , أنت .... لا ..... ثم أشارت بسبابتها صانعة دائرة حول كل ذكور الذباب التي على جسدها إشارة تعني بها الموافقة ...... قال  : ليس في الأمر لبس  هي تعرف أني خلف النافذة , كل النساء يعرفن وأنت سائر خلفهن .... إلى أي منطقة فيهن تتوجه عيناك .... إنها حاسة الأنثى التي لا تخطئ وخاصة عندما يتعلق الأمر بالجنس , إذن فهي تقول لي , إلا  أنت ....... استدار مهرولا في اتجاه مصنعه , فتح الباب والطاقة , أشعل النار في اللحم النتن  فقد أخطأت الحرب أهدافها , لأنه بهذه الحرب كان يستهدف رباب , ورجال الحكومة , وثلاثي الأبعاد  ,  واللصوص  وآخرين  بيد أن المستهدفين قد استأنسوا الذباب  ,  وما أضرت الحرب سوى بالمساكين والضعفاء  ,  كان لصراخ اليرقات التي تحترق بالنار التي اضرمها في اللحم النتن  القدرة على استعادة الآباء من الذباب , عادت أسراب الذباب مزمجرة بطنينها العالي من الطاقة ومن الأبواب أسرابا ,وكذلك استدعى صراخه أيضا رجال الحي ونسائه ليتركوه ملقى على سريره, بعد أن تشارك جميع سكان الحارة في انقاذه  ولا زال بعضهم يطارد فلول القتلة من الذباب  بالهش والنش , وللأطفال مهمة جمع ما تبقى من اللحم النتن والخروج به لإلقائه بعيدا في مجاهل الخرابة التي على مشارف حي الامراء والخلفاء  

.

* الذباب 2  تفاديا للبس الذي ربما يقع بين هذا الذباب وذباب سارتر