تاريخ التعليم في فرنسا

يمكن تتبع نظام التعليم في فرنسا إلى الامبراطورية الرومانية. فالمدارس قد تكنون عاملة بانتظام من أواخر عصر الامبراطورية حتى مطلع العصور الوسطى في بعض البلدات في جنوب فرنسا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الغال والامبراطورية الرومانية

Prior to the establishment of the Roman empire, education in Gaul was a domestic task or provided by itinerant druids traveling in the Celtic Western Europe. Latin schools were later established by wealthy patricians.


جامعات فرنسا - القرنان 12-13

كانت فرنسا بلا ريب الزعيمة العقلية لأوربا في العصور الوسطى خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فقد أصبحت لمدارس كتدرائياتها منذ بداية القرن الحادي عشر شهرة دولية عظيمة؛ وإذا كانت هذه المدارس قد نمت وازدهرت حتى أضحت جامعة عظيمة في باريس لا في شارتر، أولاؤن، أوريمس، فأكبر الظن إن سبب هذا هو إن تجارة السين الرابحة والأعمال المالية التي توجد عادةً في العاصمة قد جاءت إلى تلك المدينة بالثراء الذي يغري العقول وإنها كانت تقدم المال الذي يحتاجه العلم والفلسفة والفن.

وأول من عرف من المعلمين في مدرسة كاتدرائية نوتردام هو وليام من شامپو William of Champeaux (1070- 1121)، وكانت محاضراته التي تقلى في أبهاء نتردام مثار الحركة العقلية التي نشأت منها جامعة باريس، ولما خرج أبلاد من بريطانيا (حوالي عام 1103) ووجه إلى وليم قياساً منطقياً أفعمه وقضى على سمعته، وبدأ اشهر المحاضرات في التاريخ الفرنسي، هرع الطلاب من كل صوب ليستمعوا إليه؛ فازداد عدد طلاب باريس وتضاعف عدد المدرسين. وكان الأستاذ (magister) في عالم التربية بباريس في القرن الثاني عشر رجلاً أجاز له رئيس كتدرائية نتردام أن يدرس. وكانت جامعة باريس في ذلك الوقت قد خطت خطوات سريعة لا نستطيع تتبعها، فارتقت من مدرسة كنيسة المدينة ونالت وحدتها الأولى من هذا المصدر الوحيد مصدر الإجازة التعليمية. وكانت هذه الإجازة تعطى عادةً بالمجان لكل من قضى وقتاً كافياً تلميذاً لأستاذ مرخص بشرط أن يوافق هذا الأستاذ على طلبه؛ وكان من التهم التي وجهت إلا أبلار إنه أشتغل بمهنة التدريس دون أن يقضي فترة التلمذة المعتمدة من أستاذ.

وكان إدراك فن التدريس على هذا النحو، أي الأستاذ المعلم والصبي المتعلم، من الأصول التي قامت عليها الجامعة. ولما إن تضاعف عدد الأساتذة أنشأ والهم بطبيعة الحال نقابة طائفية. وظل لفظ (جامعة Univiresitas) يطبق منذ قرون على كل هيئة من عدة أفراد بما في ذلك النقابات الطائفية. وفي عام 1214 وصف ماثيو باريس "زمالة الصفوة المختارة من المدرسين" في باريس بأنها منظمة قائمة من زمن بعيد. ولنا أن نفترض، وإن كنا لا نستطيع أن نبرهن، أن (الجامعة) اتخذت حوالي عام 1170 صورة نقابة طائفية للمدرسين لا اتحاداً لعدة كليات، فلما كان عام 1210 أصدر البابا إنوسنت الثالث -وكان هو نفسه من خريجي جامعة باريس- مرسوماً اعترف فيه بقوانين نقابة المدرسين المدونة واعتمدها، ثم أصدر هذا البابا نفسه مرسوماً آخر خول فيه النقابة تختار مندوباً عنها يمثلها في المحكمة البابوية.

وقبل أن ينتصف القرن الثالث عشر انقسم مدرسو جامعة باريس إلى أربع (سلطات) أو كليات كما نسميها الآن (Faculties) : اللاهوت، والقانون الكنسى، والطب، و(الفنون). ولم يكن للقانون المدني بعد عام 1219 مكان في جامعة باريس بعكس ما كانت عليه الحال في جامعة بولونيا. وكان المنهج يبدأ بالفنون السمعية، ثم يرقى إلى الفلسفة وينتهي بعلوم الدين. وكان طلبة الفنون Arts (وكانوا يسمون Artlstae أي فنانين) هم المقاتلين عندنا (الطلاب) الذين لا يزالون في الجامعة، وإذ كانوا هم يؤلفون الجزء الأكبر من المتعلمين في باريس فقد انقسموا -لتبادل المعونة ولأغراض الألفة والاختلاط- إلى أربع أمم Nations حسب مسقط رأسهم natio أو أصلهم: (فرنسا) (أي المملكة الضيقة الخاضعة خضوعاً مباشراً للملك الفرنسي) وبكاردي Picardy، ونورمندية، وإنجلترا؛ وضم طلاب جنوبي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلى الطلبة الفرنساويي المولد، وضم طلبة الأراضي الوطيئة إلى (بكاردي) وطلبة أوربا الوسطى الشرقية إلى (إنجلترا)، وكان الطلاب الذين جاءوا من ألمانيا من الكثرة بحيث تأخرت تلك البلاد عن إنشاء جامعات بها حتى عام 1347. وكان يحكم كل جامعة (وكيل Procurator) أو مدير، وكل كلية عميد، وكان لطلاب كلية الفنون -ومدرسيها في أغلب الأحيان- مدير يرأسهم، ثم اتسعت دائرة أعماله تدريجاً حتى أصبح قبل عام 1255 مدير الجامعة كلها.

ولسنا نسمع عن وجود أبنية خاصة بالجامعات، ويلوح إن المحاضرات كانت تلقى أثناء القرن الثاني عشر في أروقة نوتردام، وسان جنفبيف، وسان فكتور، وغيرها من الأبنية الدينية، ولكننا نجد في القرن الثالث عشر مدرسين يستأجرون حجرات خاصة لفصولهم. وكان المدرسون -الذين أصبحوا يسمون أيضاً أساتذة Professores، ومعنى هذا اللفظ اللاتيني (المعلنون)- رجال دين مترهبين يفقدون مناصبهم إذا تزوجوا. وكانت طريق التعليم هي المحاضرات، وأكبر السبب في هذا أنه لم يكن في مقدور كل تلميذ أن يبتاع الكتب التي تجب عليه دراستها، أو يحصل على نسخ منها من دور الكتب. وكان الطلاب يجلسون على الطوار أو على الأرض ويدونون كثيراً من المذكرات. وكان العبء الملقى على ذاكرتهم شديداً أضطرهم إلى ابتكار عدة أساليب لمساعدة الذاكرة تتخذ في العادة شكل أبيات شعرية مثقلة بالمعنى بغيضة الصورة. وكانت لوائح الجامعة تحرم على المدرس أن يقرأ محاضرته للطلاب، بل كان يطلب إليه أن يتكلم ارتجالاً، بل كان يحرم عليه أيضاً أن يُقطع الكلام. وكان الطلاب يتبرعون بتحذير المستجدين من أن يؤدوا أجر أي منهج قبل أن يستمعوا إلى ثلاث محاضرات فيه. وقد شكا وليم الكنشيسي في القرن الثاني عشر من إن المدرسين يلقون على الطلاب مناهج سهلة لكي يكسبوا بذلك الشهرة، والطلبة، والأجور، وإن طريقة الاختيار التي تعطى للطالب مجالاً واسعاً لاختيار الموضوعات والمدرسين أخذت تنزل بمستوى التعليم(50).

وكان التعليم ينتعش ويكتسب بعض الحيوية من حين إلى حين بمناقشات عامة تجرى بين المدرسين، والطلبة المتقدمين، والزائرين الممتازين، وكان النقاش يجري في العادة على شكل مقرر محدد يسمى النقاش المدوسي: فيوضع السؤال، ويجاب عنه جواباً سلبياً، ويؤيد هذا الجواب بعبارات مقتبسة من الكتب المقدسة أو كتب آباء الكنيسة، وبالاستنباط الذي يتخذ شكل الاعتراضات. ويتلو ذلك جواب إيجابي يؤيد بمقتبسات من الكتاب المقدس، ومن كتب آباء الكنيسة، وبأجوبة منطقية على الاعتراضات. والنقاش المدرسي هو الذي حدد الصورة النهائية الفلسفة المدرسية في عهد تومس أكوناس. وكانت تقعد بالإضافة إلى هذه المناقشات المدرسية الرسمية مناقشات غير رسمية يسمونها (أي شيء نحب quodiberta)- يستطيع المناقش بموجبها أن يتقدم بأي سؤال يناقش في التو والساعة. وقد أوجدت هذه المناقشات غير المقيدة هي الأخرى صورة من الصور الأدبية نشاهد مثلاً منها في كتابات القديس تومس الصغرى. وشحذت المناقشات الرسمية منها وغير الرسمية العقول في العصور الوسطى، وأفسحت المجال لحرية التفكير والقول؛ غير إنها اتجهت عند بعض الناس إلى خلق نوع من المهارة يستطيعون به أن يثبتوا أي شيء يريدون إثباته، أو الشعوذة اللفظية التي تكدس جبالاً من الجدل حول أنفه النقط.

وكان معظم الطلاب يعيشون في مضايف Hospicia تؤجرها جماعات منظمة من الطلاب. وكانت بعض المضايف تأوي فقراء الطلاب نظير أجر أسمي؛ ومثال ذلك إن بيت الله Hôtel Dieu الملاصق لكتدرائية نتردام خصص حجرة (للطلبة الفقراء). ثم اشترى جوسيوس اللندني Jucius of London هذا المسكن في عام 1180 واشترك من ذلك الوقت من المستشفى في تقديم المسكن والمأكل لثمانية عشر طالباً يقيمون فيه؛ ولم يحل عام 1231 حتى كانت هذه الطائفة من الطلاب قد انتقلت إلى مسكن أوسع من مسكنها القديم، ولكنها مع ذلك ظلت تسمى نفسها جماعة الثمانية عشر. ثم أنشأت طوائف الرهبان، أو الكنائس، أو أنشأ المحسنون الخيرون، مضايف أو مساكن أخرى للطلاب، وحبست عليها الحبوس، أو خصت بأقساط سنوية خفضت بعض نفقات العيش على الطلاب. وفي عام 1257 وهب ربرت ده سربون Robert de Sorbon قس القديس لويس (بيت السربون) المال اللازم لإيواء ستة عشر طالباً من طلبة علوم الدين، وأضيفت إلى ذلك هبات لغير هؤلاء من لويس وغيره من المحسنين حتى ارتفع عدد من تشملهم إلى ستة وثلاثين؛ ومن هذا البيت نشأت كلية السربونوأصبحت السربون في القرن السادس عشر الكلية الدينية في الجامعة، ثم أغلقتها الثورة في عام 1792، وأعادها بعدئذ نابليون، وهي الآن مركز لتدريس مناهج عامة في العلوم والأدب في جامعة باريس.@ .وأنشئت كليات -Collegia بمعناها القديم وهو الجماعات- بعد عام 1300، وجاء المدرسون إليها ليسكنوا فيها، وعملوا مدرسين خصوصين للطلاب، يستمعون إلى محفوظاتهم، و(يقرأون) معهم النصوص؛ وأخذ المدرسون في القرن الخامس عشر يدرسون بعض المناهج في أبهاء المساكن، وازداد عدد المناهج التي تدرس بهذه الطريقة، ونقص عدد ما يدرس منها في خارجها، حتى أضحت (الكلية) مكاناً للتعليم ومسكناً للطلاب في وقت واحدة.

وحدث مثل هذا التطور في الكلية من بيت الطلبة في أكسفورد، ومونپلييه، وطولوز. وهكذا بدأت الجامعة من جمعية للمدرسين حتى أضحت جمعية من المعاهد والكليات.

وكان من بين مساكن الطلاب في باريس مسكنان مخصصان للطلاب المبتدئين الجدد في طائفتي الرهبان الدومنيك أو الفرنسيس، وكان الرهبان الدومنيك من بداية أمرهم يهتمون بالتعليم ويتخذونه وسيلة لمقاومة الإلحاد. وقد أنشئوا لهم مدارس على نظام خاص بهم أشهرها كلها المدرسة العامة Studium generale في كولوني، وكانت لهم معاهد أخرى من نوعها في بولونيا، وأكسفورد. وأصبح كثيرون من الإخوان أساتذة في هذه المدارس، يعلمون في الأروقة الخاصة بطائفتهم. وفي عام 1232 انضم ألكسندر الهاليسي Alexander of Hales وهو من أقدر المدرسين في باريس إلى طائفة الرهبان الفرنسيس، وواصل تدريس مناهجه للجمهور في دير كوردليير Cordeliers، وأخذ عدد الإخوان الذين يدرسون في باريس يزداد عاماً بعد عام، كما أخذ عدد من يستمعون إليهم من غير الرهبان يتضاعف، حتى شكا المدرسون من غير رجال الدين إنهم قد تركوا جالسين أمام مكاتبهم (كالطيور المنفردة في أعلى البيوت)، وأجاب الرهبان عن ذلك بأن المدرسين غير الرهبان يسرفون في الطعام والشراب، فأضحوا لذلك كسالى بلداء(51). وحدث في عام 1253 أن قتل طالب في شجار بأحد الشوارع، فأعتقل ولاة الأمور في المدينة عدداً من الطلاب، وأعرضوا عن احتجاجهم وطلبهم أن يحاكموا أمام أساتذة الجامعة أو الأسقف، وأمر رهبان الدمنيك، وواحداً من الرهبان الفرنسيس، وهم من جمعية المدرسين، لم يطيعوا أمر الامتناع عن إلقاء المحاضرات، فقررت الجمعية وقف عضويتهم فيها، غير إنهم لجأوا إلى الإسكندر الرابع فأمر أساتذة الجامعة (1255) بإعادتهم إلى عضوية الجمعية. وأراد المدرسون أن يتجنبوا إطاعة الأمر فتفرقوا، وحرمهم البابا من الدين واعتدى الطلاب والغوغاء على الرهبان في الشوارع؛ ودام الجدل ست وستين تراضى الطرفان بعدها: فقبل الأساتذة، بعد أن نظموا من جديد، المدرسين الرهبان، وأقسم هؤلاء أن يطيعوا من ذلك الوقت قوانين (الجامعة). ولكن كلية الفنون حرمت جميع الرهبان حرماناً دائماً من عضويتها. وناصبت جامعة باريس البابوية العداء بعد أن كانت محل عطفهم، وناصرت الملوك في نزاعهم مع البابوات، وأضحت في مستقبل الأيام مركز حركة (غالية) تسمى لفصل الكنيسة الفرنسية عن روما.

ولم يكن لأي معهد علمي منذ أيام أرسطو من النفوذ ما كان لجامعة باريس، فقد ظلت ثلاثة قرون لا تجتذب إليها أكبر عدد من الطلاب فحسب، بل تجتذب فوق ذلك أعظم مجموعة من الرجال ذوي العقلية الفذة. فأبلار، وحنا السلزبري، وألبرتس مجنس، وسيجر البرابنتي، وتوماس أكويناس، وبوناڤنتورا Bonaventura، وروجر بيكن، وذن زا سكوتس، ووليام الأكامي William of Occam -هؤلاء يكادون يكونون هم تاريخ الفلسفة من 1100 إلى 1400. وما من شك في إنه كان في باريس مدرسون أفذاذ هم الذي أخرجوا أولئك الرجال العظام، ونشروا من المتعة العقلية ما لا يوجد إلا في ذرى التاريخ البشري. يضاف إلى هذا إن جامعة باريس كانت خلال هذه القرون ذات سلطان قوي في الدين والدولة، فقد كانت لساناً قوياً يعبر عن الرأي العام، وكانت في القرن الرابع عشر من أعظم مراكز التفكير الحر، وفي القرن الخامس عشر حصناً منيعاً للدين القويم والمحافظة على القديم. ولا يمكن القول بأنها (لم تضطلع بدور حقير) في الحكم على جان دارك.

وكان لغيرها من الجامعات نصيب في رفع فرنسا إلى منزلة الزعامة الثقافية في أوربا. فقد كان في أورليان مدرسة للقانون منذ القرن التاسع لا بعد، وكانت في القرن الثاني عشر مركزاً للدراسات القديمة والأدبية الحديثة تنافس شارتر، ولم يكن يفوقها في القرن الثالث عشر إلا بولونيا في تدريس القانون المدني والكنسى. ولا تكاد تقل عنها في شهرتها مدرسة القانون في أنجر Angers وهي المدرسة التي أضحت في عام 1232 من أكبر جامعات فرنسا. وكانت طولوز (طلوشة) مدينة بجامعتها إلى إلحادها في الدين: ذلك أن جريجوري التاسع أرغم الكونت ريمند في عام 1229 على أن يتعهد بأداء مرتبات أربعة عشر أستاذاً -في علوم الدين، والقانون الكنسي، والفنون - يرسلون من باريس إلى طولوز لمقاومة حركة الإلحاد الألبجنسية بفضل ما لهم من النفوذ على الشبان الأكيتانيين.

وكانت أشهر الجامعات الفرنسية القائمة في خارج باريس هي جامعة مونبلييه. لقد كانت هذه المدينة، بفضل وقوعها على شاطئ البحر المتوسط في منتصف المسافة بين مرسيليا وإسبانيا، تستمع بمزيج وثاب من الدم الفرنسي، واليوناني، والإسباني، ومن ثقافة هذه الأجناس؛ وكان من أهلها عدد من النجار الإيطاليين وبقية من الجالية الإسلامية المغربية التي كانت في وقت ما تحكم المدينة. وكانت تجارتها رائجة ناشطة. وأنشأت مونبلييه في وقت غير معروف مدرسة للطب ما لبثت أن فاقت مدرسة سالرنو، ولسنا نعلم علم اليقين أكان إنشاؤها أثراً من آثار طب سالرنو، أم طب العرب، أم اليهود. وأضيفت إلى هذه المدرسة مدارس للقانون وعلوم الدين، و(الفنون)، واكتسبت منبلييه بفضل تقارب هذه الكليات وتعاونها شهرة علمية واسعة، وإن كانت كل واحدة منها كلية مستقلة. واضمحل شأن الجامعة في القرن الرابع عشر، ولكن مدرسة الطب انتعشت في عصر النهضة، وقام فيها عام 1537 أستاذ يدعى فرانسوا بليه يلقى سلسلة من المحاضرات عن أبقراط باللغة اليونانية.

التعليم في عصر ڤولتير

كان بين الصراعات الكثيرة الأساسية التي شهدتها فرنسا في القرن الثامن عشر، محاولة الكنيسة الاحتفاظ بسيطرتها على التعليم، إلى جانب محاولة الفلاسفة وغيرهم إنهاء هذه السيطرة والقضاء عليها. وبلغ الصراع ذروته بطرد اليسوعيين من فرنسا في 1762، وتأميم المدارس الفرنسية، وغلبة التعليم العلماني في الثورة الفرنسية. وكان خلاف قد بدأ يبرز في النصف الأول من القرن الثامن عشر فقط. ولم تكن الغالبية العظمى من الفلاحين تعرف القراءة. وفي كثير من المجتمعات الريفية، كانت الهيئات البلدية، حتى إلى عام 1789، "لا تكاد تعرف الكتابة"(1). وكان في معظم الأبرشيات على أية حال "مدرسة صغيرة" يقوم فيها الكاهن بنفسه، أو من يعينه هو، بتعليم القراءة والكتابة والدين المسيحي على صورة سؤال وجواب، للأولاد الذكور أساساً، في مقابل رسم زهيد يدفعه الآباء عن كل تلميذ(2)، أما الأولاد الذين يعجز آباؤهم عن الدفع فكانوا يتعلمون بالمجان إذا طلبوا ذلك. وكان اللحاق بهذه المدرسة مطلوباً قانوناً بمقتضى مراسيم 1694 و1724، ولكن هذه المراسيم لم تنفذ(3)، وامتنع كثير من الآباء الفلاحين عن إرسال أبنائهم إلى المدرسة، لحاجتهم إليهم في المزرعة من ناحية، ومن ناحية أخرى لأنهم رأوا أن التعليم أمر مزعج لا ضرورة له لمن قدر عليهم أن يشتغلوا في الأرض. فالتعليم لم يكن يكفل أي ارتفاع في المركز الاجتماعي لأن الحواجز الطبقية كانت عقبة لا يمكن التغلب عليها تقريباً في النصف الأول من القرن. وفي القرى والمدن الصغيرة نادراً ما كان الذين تعلموا القراءة يقرئون شيئاً غير ما تعلق بعملهم اليومي. وكان كل إنسان يعرف قواعد الدين، وفي المدن الكبيرة وحدها كان هناك شيء من المعرفة بالأدب والعلوم والتاريخ.

وفي الطبقات المتوسطة والعليا كان معظم التعليم على أيدي المربيات والمؤدبين، أو المعلمين الخاصين، وأخيراً على أيدي معلمي الرقص، وهؤلاء الأخيرين كان مفروضاً فيهم أن يعلموا الجنسين كليهما الفنون الشاقة، وهي فنون الجلوس والوقوف والمشي والحديث والإيماء، في كياسة ورقة. وتلقت بعض الفتيات دروساً خاصة في اللاتينية، وفوق هذا كله تقريباً، تعلم الفقراء الغناء والعزف على البيان القيثاري. وقام التعليم العالي للبنات في الأديار، حيث ارتقين في الدين والتطريز والموسيقى والرقص وقواعد السلوك القويم الذي يجدر بالشابة أو الزوجة أن تتحلى به.

وكان كل التعليم الثانوي للذكور تقريباً في يد اليسوعيين، ولو أن الرهبان الأوراتوريين والبندكتيين أسهموا فيه. وكان المتشككون من أمثال فولتير وهلفيشيوس من بين الخريجين العديدين المرموقين في كلية اليسوعيين "لويس الأكبر" حيث كان الأب شارل بوريه يقوم بتدريس "البلاغة" (أي اللغة والأدب وعلم الكلام) وترك في تلاميذه ذكريات طيبة. وما كاد المنهج في المدارس اليسوعية ليتغير طوال قرنين من الزمان. وعلى الرغم من تركيز هذا المنهج على الدين والأخلاق، فإن مادته كانت كلاسيكية إلى حد بعيد، فكان التلاميذ يدرسون مؤلفات روما القديمة في نصوصها الأصلية، فأكب التلاميذ الصغار على دراسة الفكر الوثني لمدة خمس أو ست سنوات، فلا عجب أن ساورتهم بعض الريبة في عقيدتهم المسيحية. وأكثر من هذا فإن اليسوعيين "لم يدخروا وسعاً في تنمية ذكاء تلاميذهم وغيرتهم"(4). فكانوا يشجعون على المناقشة والتحدث علانية وعلى تمثيل الروايات، وكانوا يتعلمون قواعد لترتيب أفكارهم والتعبير عنها، ومن ثم كان جزء من وضوح الأدب الفرنسي وصفاته من غرس المدارس اليسوعية، وأخيراً تلقى الطالب مناهج قاسية في المنطق والميتافيزيقا وعلم الأخلاق عن أرسطو من ناحية وفلاسفة العصور الوسطى السكولاسيين (المدرسيين) من ناحية أخرى. وهنا مرة أخرى، نجد أن النتائج كانت تقليدية، إلا أن عادة التفكير والاستنتاج والتعليل بقيت-وأصبحت بالفعل-علامة مميزة لهذا العصر "عصر العقل" بوجه خاص. وكان الجلد بالسياط أيضاً جزءاً من المنهج، حتى لطلاب الفلسفة، ودون تميز في المرتبة أو المكانة الاجتماعية، فقد جلد من أصبح فيما بعد مركيز دارجنسون ودوق بوفلرز، أمام أقرانهما في الفصل، لأنهما قذفا أساتذتهما الأجلاء بحبات البازلاء(5).

وعلت الشكوى بالفعل من أن المنهج لم يول عناية تذكر بما وصلت إليه المعرفة من تقدم وازدهار، وأن التعليم كان نظرياً إلى حد كبير، ولا يعد للحياة العملية، وإن الإلحاح الشديد على التعليم الديني قد أفسد الأذهان أو أغلقها. وفي "رسالة عن التعليم" كانت يوماً مشهورة (1726-1728) دافع شارل رولان رئيس جامعة باريس عن المنهج الكلاسيكي (القديم التقليدي) وعن التركيز على الدين. وكان من رأيه أن الهدف الأسمى من التعليم هو خلق أناس أفضل. وأفاضل المعلمين "لا يعنون كثيراً بالعلوم، حيث لا تساعد هذه العلوم على التمسك بأهداب الفضيلة. ولم يكونوا يأبهون كثيراً بالتزود بألوان المعرفة، إذا لم تقترن بالاستقامة وحسن الخلق. وكانوا يؤثرون الرجل الأمين على الرجل العالم الواسع الإطلاع(6). وقال رولان إنه من الصعب أن نشكل الخلق القويم دون تأسيسه على عقيد دينية. ومن ثم "ينبغي أن يكون الهدف من جدودنا، والغرض من تعليمنا هو الدين"(7)وسرعان ما يثير الفلاسفة الجدل حول هذا الموضوع، ويستمر الجدل حول ضرورة الدين للأخلاق طوال القرن الثامن عشر، والقرن الذي يليه. وهو جدل حي في أيامنا هذه.


انظر أيضاً

الهامش