المرأة في العهد البونيقي

لم تدخل منطقة شمال إفريقيا في التاريخ إلا بفضل مجيء الفينيقيين منذ ما بعد منتصف الألف الثانية ق.م، خصوصا ابتداء من سنة 814 ق.م التي توافق تاريخ تأسيس قرطاجة (قرت حدشت) أي " المدينة الجديدة"، التي قامت تحت راية امرأة تُدعى عليشة(عليسة)، تلك الأم المؤسسة والمرأة التي أظهرت تعلقا شديدا بوطنها. وتتيح لنا عدة وثائق أثرية، ولا سيّما النقائش المكتوبة، سواء كانت نذرية أم جنائزية، اسكتشاف عالم المرأة خلال عهد قرطاجة البونيقية. وإلى جانب نسائها بمجموعة ثرية من النقائش المكتوبة، وخاصة تلك النقائش النذرية التي وهبتها بعض النساء إلى الآلهة، دون أن يغفلن تدوين أسمائهن وسلالتهن.

وبفضل المرأة تمكنت قرطاجة من التشبع بالثقافة اللوبية(الليبية) وتمثلها وذلك من خلال الزيجات المختلطة. وكثيرة هي أمثلة النساء القرطاجيات اللائي كنّ يحملن أسماء لوبية أو كان أحد أسلافهن يلقب باسم بربري، علاوة على النساء اللائي كن يحملن أسماء مشتقة من الجذر الثلاثي العرقي اللوبي " ل ب ت ". وعلاوة على العنصر اللوبي يعود الفضل إلى المرأة أيضا في نقل عناصر ثقافية أخرى كالعنصر اليوناني والسرديني، والمصري وغيرهم كثيرون إلى قرطاجة ، عاصمة الحوض الغربي من البحر الأبيض المتوسط الخاضع للسيطرة البونيقية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الفئات الاجتماعية

وبفضل النقائش الكتابية البونيقية، التي عُثر عليها في بقرطاجة، أمكن للأخصائيين أيضا كشف النقاب عن وجود عدة فئات اجتماعية، انتمت إليها نساء وهبن أنصابا نذرية للآلهة. وقد ذكر بعضهن في سلسة نسبهن جدا أو أكثر كانوا يشغلون وظيفة أو مهنة " شَفْط" أو "رب". وتحيل العبارتان إلى مناصب إداريّة ـ وبالتالي اجتماعيّة ـ رفيعة لعلها تقابل اليوم منصب كبير القضاة. ولا شك في أن هؤلاء النساء كنّ ينتمين إلى الطبقة الأرستقراطيّة القرطاجية. ويوجد من بينهن نساء كنَّ يمارسن وظائف كهنوتيّة وهنّ على التوالي: تسع كاهنات ورئيستان للكهنة.

ونعثر، من بين واهبات الأنصاب النذرية على نساء ينتمين إلى طبقة الصنّاع الحرفيين والموظفين مثلما يُستشفّ من مهنة آبائهن (فهذا طبيب والآخر طبّاخ والثالث نجّار والرابع مَسّاح والخامس عطّار إلى غير ذلك من المهن). ويحسن التذكير بأن النقائش الكتابية المعثور عليها بقرطاجة هي التي سمحت لنا بالتعرف على فئتين من النساء وهن المعتوقات والإماء. وفي جلّ النقائش تُنسب النساء إلى أبائهن ثم إلى سلالتهن، وقلّما يكون الانتساب إلى الآباء والأزواج معا أو إلى الأزواج فقط. وهكذا تسمح مصادرنا الوثائقية بالقول إن المرأة كانت تتمتّع بمقدار من الحريّة، حيث كانت غالبا ما تتولى تقديم القرابين بنفسها. ونلمس هذه الحريّة في نقائش أخرى تُثبت أن النساء كن يشاركن الرجال في القيام بهذه الطّقوس، علما بأننا نلمس هذا النوع من الحريّة حتى على صعيد الطبقات البسيطة من النساء كالإماء والمعتوقات.


مهن ووظائف دينيّة

وتشهد عدّة وثائق، ومنها ما هو عبارة عن كتابات ومنها ما هو عبارعن وثائق تصويرية على أنّ المرأة القرطاجيّة، تماما مثل الرجل، تعاطت عدّة مهن في المجتمع. ففي مجال الوظائف الدّينيّة كانت إحداهن " تنتمي إلى رهبانية الإلهة "عشتروت" و كانت أخرى "سادنة الإله" ؛ بالإضافة إلى كاهنات وحتّى "كبيرة كاهنات" و"كبيرة كُهّان". وفي المجال التجاري تشير وثيقة واحدة إلى امرأة كانت تتعاطى هذا النشاط : " شبلت تاجرة المدينة". إن لفظة " س ه ر ت" التي جاءت نعتا لهذه المرأة لا تعني تاجرا أو بائعا لمنتوج معيّن بل تعني التاجر المتنقّل من حيث هو مستورد ومصدّر في آن واحد. وهكذا نلاحظ أنّ المرأة القرطاجيّة كانت تتعامل على قدم المساواة مع الرجل، تدير ممتلكاتها وتمارس سلطة هامّة في المجتمع. إلى جانب هذه الفئة من النساء اللائي كنّ يتعاطين مهنا تزاحم مهن الرجال، كان المجتمع القرطاجي بدون شك يَعُدّ نساء مغمورات لم تخلِّد النقائش ذكرهن، وكنّ، بكل بساطة، زوجات ُمثليات أو مرشّحات للزواج، يسهرن على رعاية بيوتهن وتربية أطفالهن وتعليمهم ويتوليّن غزل الصوف ونسج الأقمشة وإعداد الخبز والطعام وصنع الفخار اليدوي، الذي تعج متاحفنا بنماذج منه.

وفي مجال النسيج ورثت قرطاج التقنيات الفينيقيّة المشهورة. ألمْ تمجّد القصائد الهوميريّة تلك " الأشغال الجميلة" (الأوديسة، الفصل 15 ص.418) و"الخمارات ذات الزخارف الفنيّة المتنوعة" (هوميروس، الإلياذة ، الفصل6، ص. 291-289) التي صنعتها مطرّزات صيدا. و ممّا لا شك فيه من ناحية أخرى، أنّ اللوبيين سكان شمال إفريقيا، الذين عُرفوا باهتمامهم الكبير بتربية الماشية، كانوا يتقنون صناعة الُمنْتجات الصوفية. ويمثل الغزل أوّل مرحلة في صناعة النسيج. وقد تمّ العثور في مقبرة قرطاج وغالبا في قبور نساء، على مجموعة هائلة من أدوات الغزل ولا سيما المغازل. وإن وجود هذه الأدوات بالقبور لدليل قاطع على أهميّتها في الحياة اليومية للمرأة البونيّة. وكان الغزل نشاطا نسائيا بالأساس. و كان، في العصور القديمة، يُعتبر "أنبل رمز للفضائل المنزلية للمرأة". وورد في التوراة أن المرأة الفاضلة تمسك "الكيزور" " وتحرك "البلك" بكفوفها. وقد يكون "الكيزور" ساق المغزل و"البلك" ثقّالة المغزل التي تدفعها المرأة بحركة دورانيّة لفتل الخيط. و كغيرها من النساء، لم تكن المرأة القرطاجيّة تستنكف من غزل الصوف. والأغلب على الظن أنه كان يمثّل أبرز الأعمال في حياتها اليوميّة، إلى حدّ جعل المغازل ترافقها حتّى في القبر. كما أنّ موضوع المرأة الغازلة قد استعمل في زخرفة المشارط التي كانت تُستعمل في الحلاقة. وفي مجال الخياطة والنسيج والتطريز، عُثر في قبور قرطاجة على بعض الأدوات، خصوصا الإبر المصنوعة من العظم والعاج والبرنز، إلى جانب صفيْحات من العظام تتخلّلها أسنان، وقد كانت تستخدم كمشط للنسيج. كما تمّ اكتشاف ثقّالات مصنوعة من الفخار والحجارة والجبس ذات أشكال مختلفة. وهذه الثقّالات المستعملة في ميدان الصيد تستخدم كذلك كثقّالات للنّول العمودي. وكثيرا ما تعاطت النساء القرطاجيّات النسيج في بيوتهن، حيث كنّ ينسجن الملابس العائلية والأغطية وغيرها من الأقمشة المتداوَلة في الحياة اليومية. على أن ذلك لا يتعارض مع وجود مصانع نسيج يديرها الرجال، كما تشهد على ذلك النقائش الكتابية. والى جانب الأقمشة العادية المستعلمة في الحياة اليوميّة، كانت تُنسج بقرطاجة عدّة ُمنتجات رفيعة كالزرابي(السجاد) والوسادات المطرّزة. وكانت قرطاجة تزاحم أكبر المراكز الشرقية لإنتاج السجاد.

الحلي

يضم المتحفان الوطنيان التونسيان بباردو وقرطاج مجموعة من أجمل مجموعات المصوغ التي عُثِر على جلّها في مقبرة قرطاجة، وذلك بالرغم مما تعرضت له العاصمة البونيقية من نهب على أيدي الرومان وانتهاك لحرمة القبور.

وقدّمت لنا وريثة " صُور"، الواقعة بالحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسّط أطقم مصوغ تكشف بجمالها وأسلوب إنجازها وأصالتها، عن حيوية هذا القطاع الحرفيّ وبراعة التّقنيات المستخدمة فيه. وكان المصوغ البونيقي موضوع دراسة مستفيضة أجرتها بياتريس كيار، انطلاقا من الفهرس المنهجي الذي أعدّته. وكان القرطاجيون، شأنهم شأن الفينيقيين، يمتلكون المعادن الثمينة بكميات وفيرة، ومن بين الشّهادات الأدبية على ذلك، نذكر ما أورده المؤرخ الإغريقي"توسديد" الذي أكّد أنّ القرطاجيين كانوا "يملكون من الذهب والفضة الشيء الكثير".

وكان الذهب يُجلب من إفريقيا والفضة من شبه الجزيرة الأيبيرية. وكانت القرطاجيات يمتلكن كنوزا حقيقية في شكل حُلي. ويذكر التاريخ أنهنّ وهبنها للدولة قبيل تدمير قرطاجة بقليل لمساعدتها على مواجهة أعباء الحرب ضد الغزاة الرومان. ورغم صعوبة تقدير القيمة الحقيقية للغنيمة التي استولى عليها القائد الروماني"شبيون" في عام 209 ق. م. بقرطاجنّة عاصمة آل برقة في شبه الجزيرة الأيبيرية، فإنّنا نعلم أن القطع المصنوعة من المعادن الثمينة كانت وفيرة للغاية. وإنه لمن المؤكد أن القطاع الحرفي المتصل بصناعة المصوغ كان على غاية من التّطوّر. ولا سيّما بسبب الطابع الوقائي للموضوعات المطروقة في زخرفة قطع المصوغ التي وصلتنا من تلك الفترة. وتشير بعض الكتابات البونيقية إلى صانعي الحلي حيث يحمل بعضها عبارة " ن س ك ح ر ش" التي يمكن ترجمتها إلى " سبّاك الذهب". ونعثر أيضا على عبارة " ف ع ل ح ر ش" أي "صانع الذهب" أو الصائغ. وكان الصائغ أحيانا يبيع مشغولاته بنفسه ، على أن ذلك لا يتنافى مع وجود بائع الذهب "م ق ا ر ح ر ش" أي الشخص الذي يزوّد السوق بالسبائك من المعادن الثمينة أو يبيع المصوغ الجاهز.

ويبدو أن الصائغين القرطاجيين قد نجحوا في الإستجابة لمطالب ورغبات زبائن أثرياء لم يكن من اليسير إرضاءهم. ولعل ذلك ما يفسّر وفرة العقود العائدة إلى العهود البونيقية العتيقة ( القرنان السادس والسابع ق.م)، وكثرة الخواتم والأقراط بداية من القرن الرابع ق.م.

وكانت أطقم الحلي القرطاجيّة ثريّة ومتنوّعة ومنها العقود، وخاصة في القرون الأولى لقرطاجة البونيقية، والأقراط والتيجان، بالإضافة إلى دبابيس الشعر وأقراط الأنف والخواتم من ذات الفص الثابت أو المتحرك والخرصان (حلقات الأذنين) ومحافظ التّمائم. ويشكّل جميعها مجموعة في غاية التّنوّع.

وكانت سبائك الذّهب تُعالج بالتّطريق، الذي يتيح الحصول على صفائح وأسلاك ذهبية. وكانت الطريقتان الفّنيتان الأساسيتان المتّبعتان في صنع المصوغ القرطاجي هما التطريق والطرق بالبارد للحصول على زخارف ناتئة. وبفضل اللّحام ، كانت الزخرفة تقوم أساسا على الخيوط المعدنية والحبيبات. وعلاوة على الترصيع بعجين الزجاج المتعدّد الألوان أو بالأحجار شبه الكريمة، كان الحفر والنقش يمكّنان الصائغين القرطاجيين من انجاز زينة وزخارف ذات مواضيع متنوّعة، مستلهمة من مختلف التيارات الفنية بالبحر الأبيض المتوسّط.

وكانت العقود في العهد العتيق، أي أوائل العصر البونيقي، تعتمد على تقنيات صنع معقدة تجمع بين التحبيب والخيوط المعدنية. وكانت هذه العقود تُنظَم من خرز مصنوعة من أحجار شبه كريمة ومن عجين صواني مطلي أو من معدن كريم ذي زينة محفورة أو على شكل حبيبات. وبدءا من القرن الرابع ق.م أصبحت زخرفة اللآلئ وأشكالها أكثر بساطة. أمّا المناجد )المدلَّيّات( فكانت تُصنع وفق أشكال متنوعة جدّا.

وعلاوة على العقود، كان طاقم حلي المرأة القرطاجية يحتوي على علب لحفظ التمائم التي تُستعمل للوقاية من الشر. وتتخذ هذه العلب شكل المسلّة أو الهرم أو التمثال الصغير. وكانت في أغلب الأحيان على هيئة اسطوانة نُقشت عليها صورة حيوان (كبش أو أسد مثلا). وانطلاقا من القرن الرابع وإلى غاية القرن الثاني ق.م، لم تعد العقود متماشية مع ذوق العصر وحلت محلّها موضة أقراط الأذنين وحلقات شد الشعروالخواتم الجميلة ذات الفصوص الثابتة، التي تنقش عليها رسوم مختلفة.

وبالإضافة إلى الأقراط وحلقات الشعر يحتفظ متحفا قرطاج وباردو بمجموعة ثرية من الخواتم، أقدمُها من ذات الفصوص المتحركة المصنوعة من حجر شبه كريم، وهي في الأغلب من أصل مصري وخواتم من ذات الفصوص الثابتة تمثل زخارف منقوشة. وتمّ العثور على خواتم رُسمت عليها صورة الإله بعل حمون وبعض الآلهة الأخرى المُستعارة من مجمع الآلهة المصرية أو الفينيقية أو الشرقية أو الهلنستية.

إيزابيلا ملكة إسبانيا كان ثلث بحارتها من العرب ويعتمد على خرائط وأدوات عربية، أما أول من وصل إلى القارة الأميركية فهو الملاح الفينيقي(ماتو عشتروت) عام 508 ق.م ثم الملاح القرطاجي (روتان)عام 504 ق.م.