غناء ليبي

(تم التحويل من الغناء الليبي)

يتشابه الغناء الليبي المعاصر مع أنماط الغناء المتداول في بقية أقطار الوطن العربي من حيث إنه يضم الأصالة والحداثة في آنف واحد ، فنجد مثلاً الغناء التقليدي والغناء الشعبي المتوارثين لا يزالان مطبقين في عديد من المناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية ، كما نجد إلى جانبهما الغناء الطرابلسي الذي ظهر في مدينة طرابلس في أواخر القرن التاسع عشر على يد مجموعة من هواة الطرب المشرقي المتأثرين بالغناء العربي الوافد من مصر والشام. [1]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التاريخ

ازدهر الغناء الليبي بعد افتتاح الإذاعة الليبية في منتصف خمسينيات القرن، الماضي ، وأخيراً إلى جانب هذه الألوان نجد الغناء الشبابي الحديث الذي اعتمد على آلات الموسيقا الإلكترونية وعلى تقنيات التسجيل الصوتي الحديث والذي ظهر في ليبيا في بداية السبعينيات ووصل قمة ازدهاره في الثمانينيات والتسعينيات حيث اكتسح الساحة الغنائية وأصبح من أكثر الألوان الغنائية رواجاً في سوق الكاسيت، وبالرغم من هذا الانتشار لم يتسلل هذا اللون الغنائي إلى الإذاعتين المسموعة والمرئية بشكل واسع كما حدث في بقية الإذاعات والفضائيات العربية الأخرى .. وهكذا . ومما تقدم نجد أن هذه الخلطة العجيبة من القديم والحديث في عالم الغناء الليبي تحتاج إلى وقفة تأمل ودراسة وصفية ونقدية متأنية لهذه الألوان المتنوعة خاصة وأن الموجة الشبابية الأخيرة أدت بكل أسف إلى اضطراب المعايير الفنية وتشوش الأفضليات والاختيارات الموسيقية والغنائية عند عامة المستمعين والمشاهدين الذين أصبحوا يعانون من صعوبة بالغة في تحديد ما يجب أن يستمعوا إليه من الإنتاج الغنائي المعاصر في ليبيا.


أنواع الغناء الليبي

يمكن تقسيم الغناء الليبي المعاصر إلى أربعة أنواع هي:

  • غناء تقليدي.
  • غناء شعبي.
  • غناء طرابلسي ( إذاعي).
  • غناء شبابي حديث.

وسنتناول فيما يلي واقع هذه الأنواع الغنائية الأربعة التي لازالت تتعايش معاً في ليبيا إلى يومنا هذا ، بتفصيل موجز:-

يعتبر هذا الغناء امتداداً طبيعياً لتراث الموسيقا العربية التي كانت سائدة في أقطار المشرق والمغرب والأندلس إبّان عصور مضت ، ويضم فنونا غنائية خاصة بمناسبات دينية واجتماعية ارتبطت بزوايا الطرق الصّوفية لعل من أهمها الطريقة العيساوية والرفاعية والقادرية والعروسية، وقد استعملت الزوايا الغناء التقليدي لنشر وتوصيل تعاليمها بين عامة الناس عن طريق حفظ وترديد مجموعة من الأحزاب والرواتب والأوراد والأذكار والمدائح النبوية ونوبات المالوف ، مفلحنة مشوّقة على أوزان وضروب خفيفة ورشيقة تهز النفوس وتأسر الألباب ، وكما استعملت الزوايا الصوفية هذا التراث واستفادت منه فإنها بالمقابل أفادته بأن حافظت عليه من الضياع والتشتت ووفرت له سبل الحماية والاستمرار حتى وصلنا بعد رحلة طويلة عبر الزمن بشكله القديم المتوارث .. وفيما يلي لمحة موجزة عن هذه الأنماط :-

وهي نصوص دينية كتبها وجمعها أقطاب الصوفيين في عهود زمنية سابقة تحتوي على مجموعة من الأذكار والأوراد والتسابيح والصلوات على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى جانب شذرات مختصرة في علوم التوحيد والتصوف ، وقد وفضعت لهذه النصوص ألحان بعضها مفرسل وبعضها الآخر على أوزان خفيفة رشيقة ، وتؤدى بدون مصاحبة آلية بطريقة النداء والاستجابة

الذكر

وهو ترديد أسماء الله الحسنى بشكل جماعي في طبقات صوتية متعددة تنتقل من الغلظ إلى الحدّة ومن البطء إلى السرعة ، وقد يفستعمل في أداء الذكر مصاحبة إيقاعية من آلة ” الباز ” وهي عبارة عن صحن معدني صغير مشدود عليه رق وتعزف بسير جلدي أيضاً ، وآلة ” الزل ” وهي عبارة عن صحنين نحاسيين يطرقان ببعضهما البعض لإضفاء زخارف معدنية رنانة على أوزان وإيقاعات الذكر .

قصائد المديح

وهي قصائد شعرية أو زجلية كفتبت في مدح الرسول صلى الله عليه سلم وفي ذكر سيرته العطرة أو في مناقب وكرامات شيوخ الطرق الصوفية وأقطابها ، وتلحن هذه القصائد في مقامات الرست والبياتي والسيكا والعجم وعلى إيقاعات رباعية أو ثلاثية أو ثنائية مختلفة السرعة وتؤدى بمصاحبة آلات الموسيقا العربية أو الشعبية وأحيانا بدونها ، ونجد في ألحان هذه القصائد تأثراً واضحاً بالألحان المشرقية حيث إن كثيراً منها رفكبت على ألحان مصرية وشامية مشهورة ومعروفة منذ زمن بعيد .

نوبة المالوف

وهي تراث غنائي عربي قديم نشأ في ربوع بلاد الأندلس ، ونزح منها إلى أقطار المغرب العربي ومن بينها ليبيا التي لجأ فيها لزوايا الطريقة العيساوية وأصبح من أهم تقاليدها الفنية ولازالت هذه الزوايا إلى يومنا، تعتبر المصدر الوحيد لنشر وأداء هذا التراث الغنائي التقليدي الرائع ، ويتكون المالوف الليبي من أربع نوبات أساسية هي نوبة المصدّر ونوبة المربّع ونوبة البرول ونوبة العلاّجي ، وتلحّن مقاطع هذه النوبات التي تتكون في العادة من مجموعة من الأبيات الشعرية والزجلية والموشحات في مقامات الموسيقا الأندلسية كالرصد والحسين والأصبعين والنوا والمحيّر والأصبهان والماية والسيكا .

الأغنية الشعبية

الأغنية الشعبية كما يراها دارسو علم المأثورات الشعبية هي أغنية شاعت وانتشرت في الماضي البعيد في منطقة معينة وتبنتها الجماهير وأصبحت ملكاً لها بعد أن ألّفها ولحّنها أفراد مجهولون وانتقلت شفاهة بدون تدوين عبر الأجيال المتعاقبة، وقد تتعرض هذه الأغنية أثناء مسيرتها الزمنية أو أثناء انتقالها وهجرتها من مكان نشأتها إلى أماكن أخرى لبعض التغيرات والتعديلات في نصوصها وألحانها وأوزانها لتتناسب مع تغير المفاهيم الحياتية والاجتماعية والثقافية لكل عصر من العصور أو لكل مكان من الأماكن ، كما تتعرض الأغنية الشعبية أيضا ً لبعض المؤثرات الخارجية نتيجة لاحتكاكها بتراث الشعوب المجاورة أو الوافدة . وبالنظر إلى ما تقدم يمكننا القول إن تراث الغناء الشعبي المعروف والمتداول الآن في كثير من مناطق بلادنا قد يكون صورة أو صدى لذلك التراث الغنائي الذي كان معروفاً ومتداولاً خلال القرون الماضية مع بعض التغيرات والتعديلات والإضافات الطارئة عليه خلال مسيرته في الزمان وفي المكان ؛ وذلك لارتباط هذا التراث بالعديد من العادات والتقاليد الشعبية التي لازالت معروفة ومستعملة إلى يومنا هذا في كثير من أنحاء البلاد .. فالتراث الغنائي المستعمل في الأعراس والأفراح في مدينة طرابلس الآن قد لا يختلف كثيراً عن ذلك التراث الذي كان شائعاً في هذه المدينة منذ قرنين من الزمان ، فلا زالت مجموعة الزمزامات تحيى ليالي الأفراح النسائية بنفس الصورة التي ذكرتها السيدة مابل تود ولا يزال فنانو الطوارق يؤدون نفس التراث الغنائي الراقص الذي شاهده ووصفه القائد العسكري التركي عبدا لقادر جامي ولا يزال فنانو مرزق يؤدون التراث المرزقاوي كما سمعه ووصفه فريدريك هورنان وجون ليون منذ قرنين من الزمان .

الغناء المعاصر

و غناء محلّي أصيل ظهر في مدينة طرابلس في أواخر القرن التاسع عشر اختلف عن الغناء التقليدي والغناء الشعبي في كثير من مظاهره الفنية مما جعله يتمتع بشخصية متميزة انبعثت من أصول وثوابت شعرية وغنائية وإيقاعية قديمة في هذه المدينة ، وقد حافظ هذا اللون على أصالته طول مسيرته الفنية بفضل مجموعة من الفنانين الروّاد الذين التزموا بالحفاظ على الأصالة الكامنة فيه وعلى الشخصية الفنية المستقلة له ، ويعتمد الغناء الطرابلسي على نص عامّي يتكون من مذهب ومجموعة أبيات ( كوبليهات ) يدور حول الغزل والوصف والهجر يفلحن غالباً في أحد مقامات الموسيقا العربية المتداولة في ذلك الوقت مثل الرست والبياتي والحجاز والسيكاه ، ويؤدى على إيقاعات محلية مثل العتبي والفزاني والعلاّجي والبر ول بمصاحبة آلات التخت العربي، وكان لانتشار ظاهرة حفظ وترديد تراث الغناء العربي من قصائد وأدوار وموشحات وأغان مصرية وشامية في طرابلس أثر كبير في نشأة هذا اللون من الغناء وازدهاره ، حيث اتجه عدد من الشباب المتحمس إلى تقليد هذا التراث ومحاكاته بإيجاد نمط من الغناء يتشابه معه في الشكل والمظهر ولكنه يختلف في المضمون … ومن بين هؤلاء الشباب : محمد عبيـه ، علي البونـي، محـسن ظافر ، مختار داقره ، الأمين امحمد حسن بي ، مختار شاكر المرابط ، خليل التارزي ، محمد سـليم ، محمد قنيوه ، سالم القنبري، احمد الخوجه ، العارف الجمل ، كامل القاضي ، علي الحـداد ، عثمان نجيم ، وبشير فهمي( 1 ) . ومن بين العوامل التي ساهمت في ازدهار الغناء الطرابلسي افتتاح الإذاعات المسموعة في أواخر العهد الإيطالي عام 1936 وبداية عهد الإدارة العسكرية عام 1944 بمدينة طرابلس وتخصيصها أوقاتاً محددة يومية لبث وإذاعة الغناء الطرابلسي على الهواء مباشرة ، يضاف إلى ذلك قيام بعض الفنانين بالسفر إلى أوربا لتسجيل أعمالهم الغنائية في اسطوانات أسوة بفناني المشرق العربي في ذلك الوقت ، وكان الفنان كامل القاضي وفرقته الموسيقية أول من سافر لهذا الغرض إلى إيطاليا عام 1935 ( 1 ) . ولعل من أهم العوامل التي كان لها دور كبير في ازدهار الغناء الطرابلسي وانتشاره تأسيس قسم الموسيقا بالإذاعة الليبية المسموعة التي افتتحت إرسالها لأول مرة عام 1957 من مدينة طرابلس وإسناد رئاسة هذا القسم إلى الفنان طويل العمر كاظم نديم أحد فناني الجيل الثاني حيث تتلمذ على يد رائد من رواد الأغنية الطرابلسية الفنان المرحوم عثمان نجيم عازف العود المشهور والملحّن المبدع ، وقد تأسس بهذا القسم أول فرقة موسيقية ليبية متكاملة ومجموعة صوتية ساهمت في تسجيل الأعمال الغنائية الطرابلسية القديمة والجديدة ؛ مما ساهم في تكوين رصيد غنائي كبير لمكتبة الإذاعة المسموعة الوليدة ، وأولت نشاطات قسم الموسيقا بالإذاعة في تسجيل ونشر الغناء الطرابلسي الذي تحوّل إلى غناء إذاعي وذلك بتشجيع كتّاب الكلمة والملحنين والمطربين للمساهمة في إثراء هذا المجال .. وكان من فرسان هذه المرحلة إلى جانب الرواد القدامى : كاظم نديم ، محمد مرشان ، محمد الدهماني ، محمد الكعبازي ، محمد الفرجاني ، حسن عريبي ، عبد اللطيف حويل ، سلام قدري ، محمود الشريف، محمد رشيد ، نوري كمال ، خالد سعيد، محمد السيليني .. ومن المؤلفين : علي السنّي ، ابن الطاهر ، بنت الوطن ، محمود السوكني .. وفي نفس الفترة الزمنية افتتحت الإذاعة الليبية قسماً للموسيقا بمدينة بنغازي ، العاصمة الثانية في ذلك الوقت ، وأسندت رئاسته إلى الفنان المرحوم علي الشعالية عازف القانون والملحن والمطرب المشهور الذي عاش فترة من عمره في مدينة طرابلس، اشتهر بأغانيه ذات الطابع الشعبي والذي عمل على تأسيس وإدارة النشاط الموسيقي في بنغازي، هذا النشاط الذي جاء مشابهاً للغناء الطرابلسي مع اختلاف اللهجة المحلية .. وقد تم تعاون كبير بين قسمي الموسيقا في طرابلس وبنغازي في تسجيل وإنتاج الأعمال الغنائية المشتركة وإقامة السهرات الغنائية في عديد المناسبات بالداخل والخارج ..

وهكذا استمر هذا الغناء المحلّي الذي ارتبط بالإذاعة المسموعة حتى بداية السبعينيات وبعد قيام ثورة الفاتح من سبتمبر حيث انصب نشاط قسم الموسيقا بالإذاعة الليبية في العهد الجديد على إنتاج وتسجيل الأغاني والأناشيد الوطنية التي حملت في البداية نفس الملامح لألوان غنائية جديدة عملت الثورة على دعمها وتشجيعها مما أدى إلى ظهور طائفة الفنانين الذين ابتعدوا عن الأصول والجذور القديمة واحلّوا محلّه لوناً غنائياً جديداً لم يحافظ أصحابه على الأصالة والشخصية المميزة التي كان يتمتع بها الغناء الطرابلسي .. وهذه سنّة التطور في الحياة عامة .. وكان من فرسان هذا اللون الجديد .. علي ماهر ، إبراهيم فهمي ،ومحمد حسن.

أنماط الغناء الشعبي

ولعل من أهم أنماط الغناء الشعبي على الإطلاق أغاني الأفراح ( الأعراس ) التي يحرص الليبيون والليبيات منذ القدم على الاحتفاء بها بصورة كبيرة وبمشاركة جماعية تطوعية وتؤلف أغاني الأفراح، التي تؤدي وظيفة الترفيه أو إظهار تقاليد وعادات اجتماعية معينة ، باللهجة العامية المحلية ويوجد بها نوعان ” أغانف نسائية وأخرى رجالية ، وتدور موضوعات هذه الأغاني ، التي تكون أغلبها في الحب والغزل حول علاقة الرجل بالمرأة في المجتمع وتتويجها بالزواج الشرعي بين الاثنين استكمالا لنص الدين ، إلى جانب وصف محاسن العروس وجمالها وأخلاقها وعراقة أسرتها وما يقابلها من شهامة العريس وشجاعته وعلو مكانته وكرمه ، ويصاحب أغاني الأفراح العديد من الرقصات الجماعية والفردية كما يصاحبها التصفيق بالأيدي والزغاريد النسائية.

وتتميز ألحان وأوزان الأغاني بالبساطة ليسهل حفظها وترديدها من جميع الحاضرين في هذه المناسبة، فهي تعتمد على جملة موسيقية لا تتعدى في مداها اللحن فاصلة خماسية أي أن هذه مداها لا يصل إلى سلم موسيقي كامل .. وهذا القالب الذي يعتمد على لحن أساسي واحد يتكرر مع تجدد النص في الأبيات المتتالية يعتبر السمة الفنية الغالبة للأغاني الشعبية في كل مكان، وتختلف هذه الأغاني في طابعها وشكلها العام من منطقة إلى الأخرى في بلادنا ، فهناك أغاني الأفراح في واحات غات وغدامس وماحو لها يغلب على ألحانها السلم الخماسي ذو الجذور الأفريقية القديمة وتستعمل في مصاحبتها آلات الأمزاد ( الربابة الشعبية ) والغيطة والطبل والقانقا والبنادير ، وهناك أغاني الأفراح في واحات الجنوب والوسط تعتمد في ألحانها على مصاحبة آلات المقرونة (الزمارة ) والزكرة والدبدبة والطبل والدربوكة والبندير ، وهناك أغاني الأفراح في الجبل الغربي التي يصاحبها عازف على آلة الزفكرة وأربعة عازفين على آلة الدنقة .

وفي مدن الساحل الشمالي يغلب على أغاني الأفراح مصاحبة الدربوكة والبندير والتصفيق بالأيدي في أغاني النساء ، والزكرة والدربوكة والدبدحة والغيطة والنوبة في أغاني الرجال ، وأما في المنطقة الشرقية الممتدة من الخليج عبر الساحل الشمالي مروراً بالجبل الأخضر وفي البطنان فتسود ، أغاني الأفراح ، تقاليد التراث الغنائي البدوي الذي يعود في جذوره إلى تقاليد عربية قديمة تأصلت في هذه المنطقة منذ هجرة واستقرار بني هلال وبني سليم فيها ويشمل هذا التراث : المجرودة والشتّاوة والكشك ، وهي ألوان غنائية رجالية تعتمد في أدائها بالدرجة الأولى على الترديد الجماعي أو النداء والاستجابة لجمل إيقاعية بسيطة التنغيم تصاحب بالتصفيق بالأيدي.

ويصاحب الكشك الذي يعرف أحيانا بالصابية أو الصفاق ، رقصة تؤديها إحدى النساء ويشترط أن تكون متنقبة أي لا تظهر وجهها ورأسها ، تسمى الحجالة تعتمد في حركات رقصها على قوة تصفيق الرجال المشاركين في أداء الكشك على هيئة صف طويل ، وإلى جانب هذه الألوان الجماعية هناك العلم وهي أغنية فردية تعتمد على غناء بيت واحد موزون يحمل في معناه ما تحمل قصيدة كاملة من الأغراض الشعرية المعروفة وتؤدى أغنية العلم بدون مصاحبة موسيقية أو إيقاعية . وتغلب على أغاني الأفراح في معظم المناطق المساهمة الجماعية من الرجال والنساء في إحيائها والقيام بمهامها المتعددة ، وقد يقوم بمهمة الغناء في هذه المناسبة فرق متخصصة من النساء والرجال كالزمزامات في طرابلس والطائفة في الجبل الغربي والحدادة في مرزق والزكار في ساحل الخمس وزليطن ومصراتة…

غناء المرسكاوي .. من العبودية إلى كرنفالات البوسعدية

سكب سال دمع الميامي ..

ارتبطت ليبيا "السوداء" منذ أقدم العصور بثلاثة معابر برية، تمتد من الساحل الليبي إلى أعماق أفريقيا، حيث ساهمت في تدوين التاريخ الليبي ورسم الهوية الثقافية وتأطير الصورالعرقية للشعب الليبي، وطلت الخصائص الدينية والمذهبية والسياسية للشعب الليبي بألوانها البهيجة. حتى وإن أنكر بعض الغلاة العشائريون والعنصريون هذه الأصول وهذه الزيجات الحضارية والمؤثرات الإفريقية، إلا أنها شغلت عبر التاريخ ومازالت تشغل حيزا مرئيا يمتد بين حدود الطيف الليبي الاجتماعي والجيني. هذه المعابر التاريخية هي الطرق البرية التي ربطت ليبيا عبر التاريخ بعمقها الجغرافي الجنوبي ولحمتها بأفريقيا، لأنها كانت ذلك الموصل الحضاري الذي اخترق مستحيل الصحراء الليبية الكبرى إلى السودان الغربي وحوض النيجر والتشاد جنوبا ليقيم الصلة الإنسانية بين القاطنين في المناطق الواقعة على الساحل الشمالي لأفريقيا والقاطنين بالعمق الأفريقي الغني بالموارد الطبيعية والثقافة الأفريقية الثرية والأديان والأعراق الأفريقية التي تمتد جذورها إلى فجر التاريخ الإنساني نفسه.

شكل الليبيون القدامى جزأ لابأس به من هذا الحيز الجغرافي الواسع، حيث اختلط ليبيو الساحل الجنوبي للبحر الابيض المتوسط بكافة اعراق السودان الغربي الافريقي مبكرا، ونتج عن هذا الاختلاط حضارة الجرمنت الليبية العريقة التي امتدت من ورفله شرقا حتي غدامس غربا ومن مزده شمالا حتي مرزق جنوبا وحضت مدينة جرمه القديمة بموقع العاصمة لهذه الدولة. هذه الطرق امتدت وتشعبت بين مصراته (سيفاله) و طرابلس (أويات) و بنغازي (يوسبيريديس)و درنة (إيراسا) لتمر عبر الواحات الليبية في زله وسوكنه وودان وهون وغدامس وسبها ومنها الي مرزق جنوبا باتجاه حوض النيجر والسودان الغربي أو الى الكفرة ومنها الي واداي.

فن الغناء المرسكاوي او "المرزقاوي" الذي اشتهر به اهالي المدن الحضرية بليبيا، ولد من العلاقة الطبيعية بين العبودية، والطرق الثلاث التي ربطت المدن الساحلية الليبية بحوض النيجر ووداي والتشاد، والنظرة الاجتماعية المتدنية للافريقي الاسود، والموروث الغنائي الشعبي في المدن الليبية. فالموروث الثقافي الافريقي من فنون وغناء وصلوات وتمائم وسحر وشعوذة وقصص وخرافات، تزاوج عبر القرون مع الموروث الشعبي الليبي من رقص وشعر حضري وغناء، لكنه لم يكن الا زواج استعلائي أطرافه غير متكافئة، الا ان الثقافة الافريقية كانت اقدم واسبق من الثقافات الامازيغو-عربية واكثر التصاقا بالطبيعة والارض لانها جاءت من رحم ثقافة زراعية مستقرة، وبذلك كان تأثيرها كبيرا وبينا على الثقافات الشمال-افريقية، اما الجانب الاخر فهو ان الديانات الطبيعية الافريقية كانت بدائية وبسيطة، فهي اسهل علي ادراك وفهم البدوي من الديانات الفينيقية والاسرائيلية البالغة التجريد، هنا كان نصيب الثقافات الافريقية التأثير الكامل علي ثقافتي التنقل والبداوة الليبيتان.

هنا يأتي عامل مهم اخر خاص بالمدينة وهو عامل الجذب مثال ذلك مدينة كبنغازي. هذه المدينة الكوزموبوليتية التي حضنت الجميع اكثر من غيرها من المدن الليبية، فهي التي استقبلت من طردتهم القبيلة، ومن ارادوا الفكاك من قيود العشيرة، والهاربين من شروط الولاء الصارم للطرق الدينية، وكل من اثر البقاء والاستقرار في المجتمع الحضري، بدلا عن التنقل والترحال، والمهاجرين الحرفيين من مصراته وطرابلس والخمس. تحت سقائف بيوت هذه المدينة ايضا عاشت الاقليات اليهودية الحرفية والاقليات الصناعية والتجارية من اليونانيين والمالطيين والايطاليين والاتراك والكرغلية والسلاف، وهي المدينة الاولى التي مسحت دموع العبيد الافارقة، واعتقتهم من عبوديتهم، واطلقت العنان لابداعاتهم وبشاشتهم وانسانيتهم وحناجرهم التي شرخها الكحول الرديء واهلكها التبغ الرخيص، وشبقهم الذي اثارته عيون السماح وابتسامات الجميلات البنغازيات. بنغازي هي الواقع الليبي المتحررمن القيود المذهبية والعرقية والقبلية. وسط هذا المناخ، حصل ذلك التلاقح الثقافي بين فنون الحضر وفنون السود والموروث الغنائي الطرابلسي والافصاح الشعري البدوي، وولد في بنغازي نمط متطور من الغناء هو المرسكاوي، بفجاجته، وحشرجة حناجر مغنيه ومغنياته، وأساه، ولوعته، وجماله النغمي، واشعاره الغير مهذبة وطقوسه البنغازية المتحررة.

ملاحظة مهمة وجب ذكرها الان، وهي ان الانماط الغنائية البدوية حول هذه المدن الحضرية شرقي ليبيا لها صفة محلية ترتبط بالفنون المحلية للقبائل الليبية والعشائر التي تحيط بهذه المدينة ولا تـُعرف خارج ليبيا. فالبرغم من ان الاشكال والانماط الغنائية البدوية والعناصر المكونة لخصوصية النمط البدوي قد تميزت بميزات جمالية خاصة تتمسك بها على صعيد الاداء في المجرودة والعلم، الا ان هذه الانماط فقيرة في محتواها اللحني اذا قورنت بغنى الموروث اللحني المتواجد في مصراته وطرابلس، اذ ان ابرز السلالم النغمية للانماط البدوية لا تكاد تتجاوز مقامين من مقامات الموسيقى العربية السائدة، هما مقامى الرست والبيات، وبهذا فان النمط الغنائي البدوي لم يضيف الكثير الى انغام وانماط المرسكاوي السائدة في هذه المدن، لكن الثروة النغمية في طرابلس وسبها هي التي قدمت للمرسكاوي انغامه الشجية.

ان استخدام اصطلاح المرسكاوي في المناطق الحضرية في الشرق الليبي لا يقتصر فقط على مفاهيم الدرجة الموسيقية والسلم الموسيقي والسلم النغمي بخصائصه المعزوفة بل يمتد ليشمل واقع موسيقي من طراز مختلف غير معروف في ارجاء ليبيا، ويمثل الفن الخاص بالشفافية الموسيقية الحضرية لمدينة بنغازي، وقد برز وازدهر بصورة ملموسة بعد ان امتزج في بوثقته الفن الافريقي والايقاعات الليبية القديمة والشعر البدوي. وقد تميز المرسكاوي بعنصرين غير عضويين يدخلان في تركيبته اولهما ما يشبه الموال المصري او العراقي في المقدمة مصحوبا بموسيقى الديوان – الديوان هو السلم الذي يبنى عليه المتن الاساسي - وفيه يتم التهيئة للمغني للدخول في الاغنية، وثانيهما ما يطلق عليه شعبيا "التبرويلة" وهي حركة سريعة عند نهاية الاغنية تكون في الديوان الاصلي لللاغنية وكلماتها او في ديوان مغاير، لكن لها ايقاع رقصي يوصل الي التسليم النهائي للاغنية.

بقى ان نقول بأن المرسكاوي هو ارتجال كامل يعتمد على السماع بالدرجة الاولي – غير مدون في تابلوهات موسيقية - وليس من الضروري ان تصاحب المرسكاوي الات موسيقية، لكنه كغيره من الانماط الحضرية الليبية، كالمألوف في طرابلس ودرنه، يشكل وحدة مترابطة من عدة مقومات هي (1) النغم، مثل البيات، الرست، الصبا، الحجاز، السيكاه، والعجم والنهاوند وغيرها من المقامات العربية، (2) الشعرالشعبي باوزانه وعروضه الشعبية المتنوعة، (3) الايقاع الذي يمثل مقومة اساسية للمرسكاوي والذي للاسف لم يتطور ليصل الي تعقيد الايقاع المصمودي مثلا، و(4) طريقة الاداء المبدع للمطربين الشعبيين مثل السيد عليويكة، والسيدة الفونشه، والسيد حميدة درنه والاستاذ عبد الجليل.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضا

المصادر