الإنسان المهدور

الإنسان المهدور - دراسة تحليلية نفسية اجتماعية (2005) نشره المركز الثقافي العربي الدار البيضاء، المغرب. مصطفى حجازي مؤلف هذا الكتاب كاتب لبناني وأستاذ جامعي من مؤلفاته السابقة (التخلف الاجتماعي 2001) (حماية الرأس هي الأساس 1990) و(شباب الظل هو وقود العنف 1987). أشار الكاتب في بداية هذا الكتاب (الإنسان المهدور) إلى الاعتراف بحق الإنسان وصيانة حرمة هذا الإنسان وتأمينه من الحاجة والخوف كشرط مسبق لبناء الاقتدار الإنساني الذي يشكل نواة أي انجاز أو إنتاج أو تقدم أو تنمية الإنسان أولا في الأساس والاعتراف بإنسانيته كمنطلق أساسي وكل ما عدا ذلك جهد مهدور وأمل ضائع.[1]

كما أوضح الكاتب الربط بين التنمية والتقدم بالديمقراطية وحضورها، وتم ربط التخلف والتقهقر بغيابها تماما كما اعتبر تقرير التنمية الإنسانية الأول (2002) بأن الحرية هي الشرط اللازم لتحقيق التنمية. يشير حجازي إلى تنوع أشكال الهدر واختلافها فهناك الهدر المالي أو الهدر المادي ويأخذ الهدر شكل الحروب التي تخاض من أجل الغلبة وفرض السيطرة إلا إن الموضوع الذي يعني الكاتب هو الإنسان تحديداً بمعنى التنكر لإنسانيته وعدم الاعتراف بقيمته وخصائصه وكيانه وحقوقه.

وعن الهدر الإنساني ألمح الكاتب على انها حالة ليست نادرة تتفاوت من إباحة إراقة الدم في فعل القتل أو التصفيات كحد أقصى إلى سحب القيمة والتنكر لها مما يجعل الكيان الإنساني يفقد مكانته أو منعته وحرمته. وقد يتخذ الهدر شكل عدم الاعتراف بالطاقات والكفاءات أو الحق في تقرير المصير والإرادة الحرة حتى الحق بالوعي بالذات والوجود مما يفتح السبيل أمام مختلف ألوان التسخير والتحقير وإساءة الاستخدام.

كما يتجلى الهدر الإنساني باعتباره حالة منقطعة الصلة بمسألة الديمقراطية وغيابها. إننا هنا بصدد الهدر الإنساني فيما هو دون الديمقراطية (حسب رأي المؤلف) ولا عبور إلى الديمقراطية دون استرداد لحقه في إنسانيته ومكانته لا ديمقراطية ممكنة إذاً دون هذا الشرط المسبق المتمثل في القضاء على الهدر الوجودي ، واستعادة قيمة الكيان الإنساني وحرمته وأحقيته. وهنا أشار الكاتب إلى تعدد ألوان الهدر مركزا الحديث عن هدر عام وعن هدر خاص.

الهدر العام هو ذاك الذي يطال شرائح كبرى من الناس أو حتى مجتمعات بأكملها يدخل ضمن هذه الفئة حالات الطغيان والاستبداد وحكم المخابرات والعصبيات (على اختلافها) والأصوليات المتطرفة. وقد يصيب الهدر العام الوعي الإنساني عند المحرومين مادياً كما عند الميسورين أو حتى المترفين. ذلك ما تحاوله العولمة تحديداً من خلال إغراق جيل الشباب في عالم الإثارة والمتع الحسية ومظاهر الاستهلاك الآني مزينة إياها على أنها غاية المنى في تحقيق الوجود وامتلاء الكيان ودلالته. وأضاف أن ألوان الهدر العام هذه تفرض الموت الكياني فكيف يمكن عندها الحديث عن التنمية والإنماء والتحرير وصناعة المصير والمكانة بين الأمم.

وهناك ألوان من الهدر النوعي ألمح لها الكاتب بتعبير الهدر الخاص وأشار إلى الهدر الذي يصيب المرأة والشباب والطفولة لأنها من أكثر الشرائح السكانية تعرضاً للهدر سواء على المستوى الكياني أو على مستوى الطاقات والوعي. ويمكن القول هنا بأن هناك مرضاً كيانياً يسمى الإنساني بما هو التنكر لإنسانية الإنسان أو تجاهلها أو التلاعب بها أو الحرب عليها، هذا المرض يتجاوز طروحات الديمقراطية والحرية وما لم يتم تشخيصه والوعي به ومحاربته وصولاً إلى شفاء المجتمع والفرد فلا مجال لحرية أو ديمقراطية أو بناء مؤسسات أو إنماء اقتصادي وما لم يتم التصدي لهذا المرض الكياني الذي يفقد المجتمع وأبناءه مناعتهم هناك خطر في تحول الطروحات والجهود إلى أدوات تمويه وتعمية.

ثم ينتقل تكلم الكاتب للحديث عن الاستبداد أو الطغيان في هدر الإنسان فالاستبداد «هو غرور المرء برأيه والأنفة من قبول النصيحة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة» و«المستبد على الصعيد السياسي يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا ارادتهم ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم».

أما الطاغية هو ذاك الذي يمارس السلطة بشكل مطلق وقمعي في حالة فرض الإرادة وسوء استخدامها من موقع امتلاكه للسلطة العليا. أشار أيضاً إلى آليات التحكم والسيطرة والسحب من الرصيد الديني والموروث الثقافي كما أوضح الكاتب عمليات الاعتقال والتعذيب وآلياتها المباشرة والخفية والتي تؤدي إلى تدمير الكيان النفسي الإنساني أو هي تهدف إلى ذلك. فهذه العمليات قد تكون صريحة مباشرة تتوسل مختلف أشكال الأذى الجسدي الذي يصل أحياناً إلى أقصى درجات الاحتمال أي مرحلة ما قبل الموت مباشرة.

يبدأ هدر الكيان خلال التعذيب ويتمثل في عدم الاعتراف بإنسانية المعتقل أساساً ومنذ البدء فالمعتقل الذي سيعذب يجرد من إنسانيته بشكل كامل وأبرز وأشهر مثال راهن على ذلك كما حدده الكاتب معتقلو حرب أميركا على أفغانستان في غوانتنامو وكذلك في سجن أبو غريب وسواه من السجون في العراق وخارجه وبالتالي فليس لهم قانون يحميهم كما هو شأن أسرى الحرب. وقد أشار الكاتب هنا إلى بعض أنواع التعذيب مثل التعذيب الجسدي العنيف ويتضمن أبعادا جسدية وأخرى نفسية تتضامن فيما بينها كي تؤدي الهدف المطلوب وهو إما تدمير الضحية وإيصالها إلى وضعية (الحية ـ الميتة) أو كسر إرادتها ومناعتها وكثافتها الذاتية. الضرب والعنف على الجسد التعذيب من خلال الإجهاد الجسدي والعصبي التعذيب من خلال التحكم بحاجات الجسد والتعذيب النفسي.

وقد أشار الكاتب إلى العصبيات والهدر وهو ما جعل الإدارة العربية تعيش حالة من الازدواجية الفعلية ما بين الظاهر الرسمي والخفي الفعلي. ما يحرك هذه الإدارة هو النظام العصبية على اختلافها منها : قبلية ـ عشائرية ـ عائلية ـ طائفية ـ اثنية ـ جهوية. وليست الإدارة وحدها هي التي تسير بشكل خفي بهذه النظم بل كل مؤسسات المجتمع. يتساوى في ذلك الأحزاب والجمعيات الأهلية والمنظمات غير الحكومية. حتى الأحزاب العلمانية وتلك التي تدعي التحرير والاشتراكية تقدم على الأسس العصبية نفسها ولا تفلت المؤسسات المالية والاقتصادية من سلطة هذه العصبيات وكما حدد الكاتب يشكل لبنان الذي ينهل من مظاهر الحداثة على اختلافها ويعرف حالة مميزة من الانفتاح على العالم وعلى الحداثة حالة بليغة الدلالة على تحكم العصبيات بتسيير أموره السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعن العصبيات والهدر الداخلي تحدث الكاتب عن أوائل ألوان الهدر القبول المشروط ويذهب القبول المشروط حداً يفرض معه العصبية وتمجيدها وتمجيد أصحاب الشوكة والنفوذ فيها لا يقبل منها إلا المديح ولا يجوز له أن يرى الأِشياء على حقيقتها الواقعة. بل عليه مثلية وضع العصبية وتصويرها على أنها «الجفة المرتجاة».

تقوم علاقات السلطة في العصبية على «أخلاق الطاعة» توفر الحماية والحصانة والعزوة والمغانم مقابل الولاء غير المشروط والتبعية. كما ألمح الكاتب إلى العصبيات والهدر الخارجي، وهي هدر الوطن وهدر المؤسسات وحروب الهوية والتصفيات ومن هذه الحروب كما حددها الكاتب، الحرب الكونية التي تشنها أميركا راهناً على الإرهاب التي تمثل حالة نموذجية لعملية الأسطرة المزدوجة هذه أسطورة الخير والحرية والإنسانية النبيلة التي تدعيها الإدارة الأميركية لذاتها مقابل أسطورة الإرهاب الذي يحاول تدمير الحضارة البشرية. وهكذا فالأسطرة المزدوجة هي هدر محض الإنسانية لإنسان ومن الطرفين معاً وفي فصله الخامس فقد أشار الكاتب أيضاً إلى أن هدر الفكر هو أهم ركن في ثلاثية الهدر الأخطر أي هدر الفكر والوعي والطاقات. لأنها تصيب حيوية المجتمع ونمائه في الصميم إذ هي تتركه في حالة الانكشاف وفقدان المناعة تجاه الضغوط الخارجية المتنامية.

هدر الفكر هو اخطر بما لا يقاس من مجرد الرقابة والحجز والمنع إننا بصدد قضية حيوية بل مصيرية: هل سيكون لنا امتداد ذهني معرفي وسيطرة عقلية على الحياة وإدارتها أم سندخل في فئة المستغنى عنهم: التابعين والمستباحين؟ وعن ألوان هدر الفكر أوضح الكاتب إلى انه تتحالف ثلاثية (الاستبداد، والعصبيات، والأصوليات) فيما بينها ممارسة ألوانا من الهدر على الفكر وصولا إلى خلق مناخ مؤات بفرض سطوتها واستدامتها من خلال تجريم الفكر وتحريمه، والحجر على العقول والأفئدة. من نتائج هدر الفكر قصور التفكير التحليلي النقدي وهو ما يؤدي إلى فقدان سيطرة العقل على قضايا الواقع وإحلال الكم والتفكير المجن على التفكير الذي يتمكن من التعامل مع القضايا تحليلاً ونقداً وتغيراً. وأوضح الكاتب أن الهدر الوجودي في الحياة اليومية يتخذ دلالة الفشل في أن تكون أو تصير هنا تبرز حالات الوجود المعوق أو الوجود المفرغ من كثافته على شكل حياة مضيعة واجترار خيباتها وهو ما يولد أزمات نفسية متفاوتة الشدة، أو هو مفهوم الذات ويجعله غير قابل للاحتمال والاعتراف به.

هدر الرغبة إعاقة أو منعاً. يؤدي مباشرة على إعاقة نزوات الحياة مثل إعاقة وتحريم الرغبة العاطفية أو الجنسية. وخلص إلى انه لا يمكن للإنسان المهدور أن يتحمل بسهولة ولمدة طويلة واقعة الوجود الذي يعصف به وقد يزلزل كيانه كما لا يمكنه أن يتعايش مع هذه الصورة بشكل مستمر ومن هذه الآليات آلية الاحتماء في الماضي بالقدر المكتوب والذي يشكل دفاعاً جماعياً آخر في مواجهة الهدر، ومن آليات الدفاع التي ما زالت تنتشر في المجتمعات الصناعية المتقدمة كما المتخلفة ظواهر الفاشية والتطرف الأصولي.

وفي نهاية كتابه أكد الكاتب أن ينهض الإنسان المهدور من محنته ويجابه كل التحديات والأخطار ودخول عالم الأقوياء ، والعمل على التفكير الإيجابي وتجنب الانفعالات والعواطف ومحاولة الاستمرار في حياته اليومية والتأقلم مع مجتمعه الداخلي والعالم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ظاهرة الهدر الشامل

تعليق: محمد علاء الدين عبد المولى

في كتابه الجديد، "الإنسان المهدور – دراسة تحليلية نفسية اجتماعية يختار حجازي الإنسان العربي ليقدم عينة درسية تطبيقية لمفهوم الإنسان المهدور. ويرى بهذا الصدد أن علم النفس في الوطن العربي مقصر جدا في تناول كثير من قضايا الإنسان العربي المصيرية والوجودية. وذلك لأسباب عديدة منها أننا مازلنا تابعين "لعلم النفس الغربي الذي نشأ وتطوّر لخدمة احتياجات المجتمع الصناعي في الغرب تحديداً". وهناك سبب مهم آخر يتمثل في "تعاظم نظام المحظورات الذي ما انفكّ يتفاقم في عالمنا العربي" حيث يحرم على الباحثين الخوض في تفاصيل تعتبر ممنوعة على التفكير الحرّ نظرا لما تشكله من خطورة على فضح النظام السياسي العربي."، يعود د. مصطفى حجازي بعد سنوات على إصدار كتابه القديم والمشهور "التخلف الاجتماعي: مدخل الى سيكولوجية الإنسان المقهور"، يعود الآن ليواصل مشروعه في تفكيك مفهوم جديد هو الانسان المهدور. وبين الإنسان "المقهور" و"المهدور" ليس هناك فقط جناسٌ لفظي بلاغيّ، بل هناك جناسٌ دلاليّ سيكتشفه القارىء لفصول الكتاب التي بلغت تسعة فصول ومقدمة.

إن الهدر يبدأ من هدر الدم إلى هدر الوقت مرورا بهدر الفكر والوعي والإبداع، "وقد يتخذ الهدر شكل عدم الاعتراف بالطاقات والكفاءات أو الحق في تقرير المصير والإرادة الحرة وحتى الحق بالوعي بالذات والوجود" (ص 28). لذلك يعتبر حجازي أن الهدر أكثر خطورة من القهر. فبينما يعني القهر مثلاً اعترافاً بكيان الآخر، وإن اعترافاً مشروطا بأن يبقى الآخر ضمن خضوعه لي وملكيتي، ولكن الهدر يرتب "سَحباً للاعتراف أصلاً بقيمة الكيان أو الطاقات أو الوعي أو المكانة" (ص 29). ويمكن طرح مثال على ذلك "العولمة" التي تهدر معنى الانتماء للقومية باعتبارها تسلخ الهويات وتلحق الجميع باقتصاد السوق ومفهومه بدلا من اقتصاد المجتمع المحلي والوطن.

وكما في فكرته عن تسلسل آلية القهر من الأعلى إلى الأدنى، كذلك يعتبر حجازي "أن كل إنسان مهدورٍ سيهدر ما عداه من ناس ومؤسسات وموارد"، (ص 39).

وفي حديثه عن العلاقة بين العصبيات والهدر، يلحظ حجازي أن ترسيخ ثقافة الولاء للعصبيات والأشخاص والقادة سوف ينشأ عنه هدر على صعيد التنمية وبناء الغد. ويطرح مفهوم "ثقافة الإنجاز" بديلا عن مفهوم "ثقافة الولاء". ففي ثقافة الإنجاز يتم التركيز على تحديد الهوية والمكانة ويعتمد الأمر هنا على وضع قيمة الشرف المهنيّ كأساس مركزي بديل لشرف القرابة العائلية أو الحزبية الضيقة. لأن المكانة في ثقافة الإنجاز لا يحددها إلا الجدارة، التي هي "المرجعية في الحكم والتقويم والامتيازات" ص 55، مما يخلق مناخا ملائماً للتنافس بين البشر على أساس موضوعيّ يهدف إلى تأصيل مفهوم الولاء للوطن لبناء مستقبله. ويتم هنا تعزيز الإحساس بقيم النحن بدلا من قيم الأنا المريضة والأنانية.

يقود مفهوم الولاء إلى الحديث عن الطغيان والاستبداد اللذين ينمو في ظلهما ذلك الولاء الشخصي والحزبي والفئوي بحيث تتعطل الإمكانيات الجماعية والفردية الخلاقة وتنصب فقط في خدمة السلطة المهيمنة ورجالاتها. ومع أن السلطة المستبدة تحيط نفسها بمجالس نيابية وتشريعية وهيئات مجتمع محلي لكن هذه الهيئات والمجالس تصبح شكليات لازمة فقط للمظهر الخارجي للسلطة التي تسحب المعنى الحقيقي لهذه الهيئات والمؤسسات وتهدر إمكانياتها وتحولها إلى خدمة خاصة فتأخذ هذه المظاهر التعددية صورة ديمقراطية زائفة لا تساعد على نمو الطاقات البشرية الحقيقية في المجتمع. "إن الطاغية باختصار يفترس المجتمع بما فيه من مؤسسات وهيئات وناس. إنه يلتهم الجميع ولا يقبل أن يترك شيئا خارجه" (ص 79). هنا يتماهى الشعب في مفهوم "السلطان"، وتتم السيطرة على دواخل الناس، التي تصبح مرهونة حتى في أدق خصوصياتها لمشيئة الحاكم فلا فرح ولا حزن ولا عرس ولا نشاط إلا بإذنه وبرعايته أو بقرار من الطاغية الذي يلجأ لشكل التحكم الناعم كما يسميه د. حجازي. كما يعتمد على آليات مختلفة من آليات هذا التحكم مثل التفخيم والتجميل والحضور الكلي... ففي ظل هذه الآليات تنقلب المعاني الحقيقية لكل شيء. حتى الأعياد والأعراس والمناسبات العامة تصبح وقفا على شخص الطاغية وتفرغ من محتواها الجوهري لتغدو هدرا للطاقة وللفرح البشري النقي. في مجتمع كهذا يستبد فرد بالسلطة ولا يسعى إلى إشراك الآخرين بها، حيث لا مكان في ظل هذه السلطة لفكرة تداول السلطةKبل على العكس كما يقول حجازي إذ "لا تطمح مجتمعات الهدر إلى تداول السلطة من أجل التجديد والتجاوز، بل تطمح في العدل وإصلاح الحال الذي يهدف إلى تأزيل سلطة السلطان على الرعية" (ص 106).

وكل هذا يخلق شرطا مساعدا للمزيد من هدر إنسانية الإنسان وكيانه وحقوقه كما يقول الكاتب. ولا يكتمل حديث عن طغيان واستبداد دون حديث عن شكل خطير من أشكال الهدر المتمثل بالاعتقال والتعذيب حيث يصل عدم الاعتراف بالآخر إلى ذروته وأقصى معنى ملموس له. ففي هذه اللحظة "ينتج التعذيب طويل المدى كائنات إنسانية في حالة خراب، إن لم يكن جسديا، فهو بالتأكيد خراب نفسي. ذلك هو الهدر الكارثيّ" (ص 128). هذا الهدر يبدأ من التعذيب الذي هو قمة التحكم القسري بحرية جسد ونشاط الآخر وإرغامه على العيش دون المستوى الأدنى من مستويات الكرامة البشرية الطبيعية، ويأتي حجازي بمعتقلي غوانتانامو مثالا على ذلك. ويتحدث في سياق شبيه بذلك عن تطوير آليات التعذيب المعتمدة على خبراء ومختصين مما يوضح أكثر خطورة ما تفعله الحداثات الصناعية من هدر منظم ومبرمج لكيان الإنسان. ولا سيما أشكال التعذيب التي تنال أعماق السجين من داخله وليس من خارجه، بحيث تنزع عنه أي قيمة ممكنة وترمي به عاريا متروكاً للوحدة الموحشة محتملا كل ألوان العار والمذلة والحيوانية... بحيث لو خرج من معتقله سيخرج كائنا مهدور الكرامة والروح والقيمة...

ومن أهم أشكال الهدر وأخطرها كذلك هدر الفكر. فأي مجتمع يقوم معناه الحقيقي على نشاط أفكار أفراده وطاقاتهم الذهنية. وحرمان الأفراد من هذه الأفكار والمشاريع الذاتية هو حرمان للمجتمع من صحته وكفاءته. "على أن هدر الفكر والوعي والطاقات وما يتضمنه من فقدان مناعته، يجعل المجتمع جثة هامدة وبالتالي عديم القدرة على مقاومة الاستبداد والعصبيات واستفحالهما" (ص 163). ولأن الفكر قائم منطقيا على التفكير من أجل وعي المجتمع والعالم وظواهرهما وبالتالي التأثير فيهما وفي واقعهما، فإن الشلل الفكري سيؤدي إلى عدم وعي الإنسان لذاته ولا لمجتمعه، وبالتالي فلا يمكن لمجتمع يكون أفراده عديمي التفكير أن يكون مسيطرا على موارده وإمكانياته ومشاريعه. إن إبقاء الإنسان في الحيز البيولوجي المحض من حاجاته وحياته سيؤدي إلى تعطيل نسبة كبيرة من خلايا دماغه ولن يعمل دماغه إلا في أدنى مستوى له... وهذا الجزء من الدماغ هو ما يسمى علميا "الهيبوتلاموس"، وهو كتلة في وسط الدماغ لا يزيد وزنها على خمسة غرامات، و"الهيبوتلاموس هي التي تضبط وظائف الأكل والنوم والجنس والانفعال... فكم من حالات من الناس ذوي التفكير المهدور تعطل طاقاتهم الدماغية ويُحجر عليها ويدفعون للعيش على مستوى الهيبوتلاموس؟" (ص 167). ويتحدث المؤلف الباحث عن حالات من هدر الطاقات العلمية في المجتمع العربي بما يعرف بظاهرة هجرة الأدمغة من وطنها الأم إلى أوطان أخرى تقدر العلم والمعرفة وتعطي المفكر والمخترع حرية حقيقية لينمي أفكاره ويستكمل أبحاثه... وهذا ما يسمى الهدر العلمي البحثي...

وهناك شكل من أشكال هدر الفكر متمثل في تلقين الطلاب في الجامعات للعلوم والمعارف بشكل ببغائي ومكرور دون الأخذ بعين الاعتبار لماهية المعرفة التي غالبا ما تكون مستوردة من الخارج من الألف إلى الياء وتنقل إلى الطلاب بصورة حرفية من غير إعمال روح النقد والشك بها..."على أن الهدر الفكري والمعرفي يشكل حالة عامة في بلاد الهدر وأنظمته. تكفي الإشارة إلى أن العالم العربي يقع دون خط الفقر المعرفي ليس فقط في البحث العلمي والنشر والتوزيع، بل كذلك في الصحافة، ومدى انتشار الحاسوب، واستخدام الإنترنت. وهي راهنا من المؤشرات الأساسية لقيام مجتمع المعرفة" (ص 179). ويرتبط هدر الفكر بهدر طاقات الشباب لأن الشباب العربي محروم كما هو معروف من تنمية مواهبه بصورة فاعلة وحرة وهذا يؤدي إلى حرمانهم من الوعي الحقيقي لضرورة المشاركة بصناعة المصير. فهو شباب مهمش مكبوت عديم الصحة النفسية، "نهب لمختلف ضروب السلوكات التعويضية الضارة أو غير المجدية على الأقل. إنه يترك بدون مشروع صناعة مصير يحقق ذاته من خلاله إنجازاته وبذلك يضع المجتمع ذاته بدوره أمام مأزق جدي يهدد حصانته ومنعته ونماءه" (ص 202). وخاصة أن كل هذا يجري في وقت انفتح فيه الشباب على كل ما يجري في العالم ولم يعد هناك حجاب على شيء ولا ستر مغطى... فطاش الوعي واهتزت المنظومات الثقافية التقليدية الراسخة في أذهان الشباب دون العثور على بديل من داخل مجتمعهم وبيئتهم مما خلق جيلا مهزوزا يتطلع في كل شيء مذهولا مسحورا مخدرا... وهذا يرافقه "تراخي المعايير الاجتماعية المتزايد بسبب الانفتاح الكوني والخليط الثقافي الذي يحمل فرصا للإثراء النفسي والفكري والاجتماعي، وشكل سببا للتسيب في آن معاً. ويرجع قسط لا يستهان به من أسباب هذا التراخي إلى تراجع قيام الأسرة بوظائفها المعتادة في الرعاية والتوجيه...الخ" (ص 206).

في هذه الظروف ستنشأ فئات من الشباب عاطلة عن العمل والفكر والمبادرة ضائعة الملامح مهدورة الكيان والإمكانيات... لا سيما تلك الشريحة التي يسميها الكاتب شريحة "شباب الظل"، ويصفها بأنها الشريحة الفائضة "التي لا تدخل في حساب السلطة ومخططاتها الا في مجال الحذر منها وقمعها" (ص 209).

وفي فصل خاص بـ"الهدر الوجودي في الحياة اليومية"، يتحدث د. حجازي عن الهدر الخاص في حياتنا اليومية ويرى في كثير من أشكال الهدر الخاص تجسيدا للهدر العام. أي أنها ترجمة مباشرة للهدر الذي يصيب المجتمع برمته ويضع في هذا الإطار تفشي الجريمة والمخدرات والدعارة والبطالة والتصدع الأسري والعنف ضد المرأة والأطفال... كحالات واضحة من أشكال تأثير الهدر العام على الحياة اليومية والخاصة للأفراد الذين يعيدون إنتاج فكرة الهدر العام في شؤونهم الخاصة والضيقة، حتى يصل الأمر الى أن تصبح الشكوى مما هو وجودي "إلى أوجاع جسدية تتعدد مواضعها وألوانها، كلما سنحت الفرصة للتعبير، حيث يصبح الجسد حمال الأسية باعتباره مجال التعبير الوحيد الممكن والمقبول اجتماعيا عن المعاناة الوجودية الدائمة" (ص 249).

وفي الفصل الثامن، "الديناميات النفسية للإنسان المهدور ودفاعاته"، يحلل الباحث هذه الديناميات على مستويين يتناول الأول كيف يعيش الإنسان المهدور شرطه الإنساني ذاتيا والثاني يستعرض الآليات الدفاعية بإزاء الحالة التي تعصف بكيان الإنسان. وذلك من خلال شهادات معينة يرسم من خلالها ملامح المناخ العام الذي تعكسه.

وفي فصله التاسع والأخير يختم الباحث تحليله العلمي لموضوع الهدر بفكرة كيفية مجابهة الهدر والتواطؤ ضده من خلال التركيز على كفاءات يتمتع بها الإنسان لكنه بحاجة لعلم نفس إيجابي يحرضها ويحفزها، بالاعتماد على نشر الوعي في المجتمع بمخاطر الهدر من الخاص إلى العام وحث الأفراد على مجابهة الهدر بكل وسائلهم وبكل إمكانياتهم بالاستناد إلى العلم والمعرفة.


الهامش

  1. ^ سليمان فاروق درويش (2006-01-23). "الإنسان المهدور". صحيفة البيان الإماراتية.