أخبار:وفاة العروبي الإرتري الأمين محمد سعيد

الرئيس إسياس أفورقي يضع إكليلاً من الزهور على قبر الأمين محمد سعيد.
بنات الأمين محمد سعيد يلقين النظرة الأخيرة على قبره، نوفمبر 2021.

في 15 نوفمبر 2021، توفي الأمين محمد سعيد، أمين عام الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة.

حياته السياسية

عرفت إرتريا، منذ استقلالها الرسمي عام 1993، العديد من الأحزاب والحركات السياسية، وشهدت العديد من الحروب في الإقليم والكثير من الانشقاقات السياسية المعلنة والمكتومة، لكن الأمين العام للحزب الحاكم ظل واحداً وثابتاً منذ انتخابه في المؤتمر التنظيمي الثالث في تاريخ الجبهة الحاكمة والأول منذ استقلال البلاد. بقي الأمين حليفاً مقرباً للرئيس إسياس أفورقي وإن حافظ على استقلالية كبيرة في الملفات التي تولى ادارتها، وميلاً كبيراً للزهد في الأضواء، والبعد عن العمل العسكري وهي صفات ربما أسهمت كثيراً في بقائه قريباً على مسافة محفوظة بحذر من قصر الرئاسة. [1]

عاش الأمين محمد سعيد طفولته وصباه الأول متنقلاً مع أسرة ميسورة الحال وذات وجاهة اجتماعية ما بين إرتريا والسعودية وإثيوبيا الدولة المحتلة، وتعلم في كل من هذه البلدان، فخرج بنصيب وافر من المعرفة واللغات والتجربة حتى قرر، وهو في سن الثانية والعشرين، الانضمام للحركة الوطنية الساعية لتحرير البلاد ونيل استقلالها. تلقى الأمين تدريباته العسكرية الأولى في سوريا شأن الكثير من المحاربين الإرتريين، وما زالت هناك الكثير من فرق الجيش الإرتري تستخدم النداءات العربية السورية في التدريبات العسكرية تأسيساً على تلك التجربة المؤثرة. تحت الأمانة العامة للأمين محمد سعيد خاضت الجبهة الشعبية حروباً ضروساً في ميادين القتال على عدة جبهات أجنبية وأهلية، ومعارك دبلوماسية لا تقل عنها بأساً وأثراً مع تقلبات الأحوال والأهواء في المنطقة العربية وفي السودان وإثيوبيا تعلم في سوريا الانضباط العسكري، وبعض مهارات الطبابة، وصقل الميل للقراءة وعند عودته من التدريب التحق بالجيش كممرض مصاحب لوحدته، ولكن سرعان ما لفتت قدراته ومهاراته نظر قادته فتم توظيفه ضمن فريق العلاقات الخارجية حيث بقي قريباً من الملفات الدبلوماسية قبل أن يؤول إليه الملف بالكامل، وهو في سن الثلاثين عندما انتخب عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير إرتريا. عمل بُعيد الاستقلال وزيراً للإعلام والثقافة قبل أن يتفرغ بالكامل لمهام التنظيم حتى رحيله حيث كان في زيارة عمل متعلقة بالحزب إلى السعودية. قادت الجبهة الشعبية برئاسة رمضان محمد نور ثم الرئيس إسياس أفورقي وتحت الأمانة العامة للراحل حروباً ضروساً في ميادين القتال على عدة جبهات أجنبية وأهلية، ومعارك دبلوماسية لا تقل عنها بأساً وأثراً مع تقلبات الأحوال والأهواء في المنطقة العربية وفي السودان وإثيوبيا.

حارب سعيد ورفاقه وخصومهم أيضاً ضد إثيوبيا الإمبراطورية وإثيوبيا الماركسية، وتحالفوا مع السودان الوحدوي مع مصر، والسودان الأنصاري القريب من الجماهيرية الليبية حينئذ، والسودان الماركسي، والسودان الإسلامي، ومع كل تقلب في نظام الحكم كان يتوجب على الدبلوماسية الإرترية أن تغيّر خططها وتكتيكاتها واستراتيجياتها لئلا تخسر موقعها المهم لدى الشعب السوداني سندها الكبير في حرب التحرير. ظل الأستاذ الأمين يحفظ للسودان مكانة كبيرة في قلبه وعقله وفي عمله اليومي فقد اهتم على نحو خاص بالحفاظ على علاقات على عدة مستويات مع السلطة ومع المعارضة ومع القوى الشعبية والمدنية. استمعت إليه لمرات محدودة في اجتماعات مباشرة مع قادةالتجمع الوطني الديمقراطي الذي كان يقود المعارضة السياسية والعسكرية ضد نظام الإنقاذ في السودان مُتخذاً من أسمرا مقراً له.


وكان في حديثه – كعادته – خفيض الصوت مضبوط العبارة حريصاً على التأكيد على إحترامه الشخصي وإحترام بلاده للسودانيين وخياراتهم. ذات مرة لفت نظري حين جاء لمخاطبة مراسمية للجلسة الافتتاحية لأحد اجتماعات هيئة قيادة التجمع بفندق السلام الأنيق في العاصمة الإرترية. كنت أتمشى لبعض شأني قبل بدء الجلسة فرأيته قادماً من مكتبه بمقر الجبهة الشعبية راجلاً وهو يتأبط ملفاً صغيراً وصحيفة يومية بلا موكب ولا حراسات ولا رجال مراسم يفتحون له الطريق ويحجزون له ممرات الدخول. هو التنفيذي الأول في حزب حاكم لدولة ذات سيادة بينما قادة التجمع من رجال المليشيات السودانيين الذين سيلقي عليهم خطابه الودود بعد قليل يرسلون وفود المقدمات ولا يتحركون إلا بعد تلقيهم اتصالات تؤكد أنهم لن يكونوا أول من يصل! هذا سلوك لافت للنظر في قادة الحزب الحاكم والدولة والجيش في إرتريا إذ رأيناهم في نهاية التسعينيات يقودون سياراتهم بأنفسهم، ويرتادون المقاهي الأنيقة في أوقات الفراغ، ويستمتعون بدولتهم الفتية واستقلالها كأبهى ما يكون الاستمتاع. انقسمت الجبهة الشعبية الحاكمة انقساماً مؤلماً وفاجعاً لأنصارها وتراجع المشروع الوطني والتنموي وانهارت علاقات الدولة الفتية بالغرب والعرب (ومفتاح العرب لا يخفى على أحد مكانه) وخسر المواطنون الإرتريون في الداخل والشتات عقدين إضافيين كان يمكن أن يكونا إضافة لهم لا خصماً عليهم. انتهى الانشقاق بهزيمة “مجموعة الخمسة عشر” كما عرفت منذئذ في أدبيات السياسة الإرترية وذهب محمود شريفو وهايلي ولد تنسائي وحامد حمد وآخرون إلى السجن وذهب مسفن حقوص إلى المنفى وتوالت الانشقاقات الصغيرة لكنها كانت كلها تنويعات على الانشقاق الأول الذي أشرنا إليه.

كنا في أسمرا نتابع أخبار الانشقاق من خلال السودانيين والأصدقاء الإرتريين والدبلوماسيين الأجانب ممن أتيح لنا لقاؤهم، وكان الأمر كعادة الإرتريين في التداول الصبور انشقاقاً بطيئاً امتد لأشهر كانت فيها المدينة الصغيرة تتداول البيانات، وكانت الصحف الصغيرة مزدهرة بلغات مختلفة. كنا نزور بعضها فنرى خلايا النحل وهي تحتشد بالصحفيين الشباب المنفعلين بالجدال حول قضايا مستقبل وطنهم، والصبايا الأنيقات يقدمن مساهماتهن في أوان السلم مثلما قدمنها كاملة قتالاً وجراحاً واستشهاداً في أوان الحرب. كنت أمر في طريقي إلى منزلنا ببيت قائد الانشقاق الوزير محمود شريفو فأرى طاقم الحراسة أمامه والطاقم غير معني بخلافات كبار المناضلين في السياسة، وكنت أذهب إلى المخبز المجاور في عمارة ألفا بضاحية ترافولو فأصادف في ساعة منتصف النهار وزير الخارجية هايلي ولد تنسائي يشتري هو الآخر خبزه ويحمل هاتفاً لاسلكياً بيده اليسرى دائماً ولم تكن شبكات الهواتف النقالة قد وصلت بعد إلى إرتريا. في إرتريا تقليد مميز وهو توقف العمل في كافة الدوائر الرسمية ما بين منتصف النهار والساعة الثانية بعد الظهر حيث يعود جميع العاملين إلى بيوتهم للغداء وتناول القهوة والراحة ثم يعودون لاحقاُ لمواصلة العمل حتى الخامسة ويسمون هذه الفترة (فادوس) بلغة التغرينية. مضى الأمين محمد سعيد دون أن يتحقق له أن يرى إرتريا تنجز مشروعها الذي حلم هو ورفاقه به وهم شباب وغادروه وهم شيوخ.

علاقاته بأفورقي

كانت تصريحات الراحل المدروسة جيداً مؤشراً على وقوفه في صف الرئيس أسياس أفورقي الذي كان يرد عادة بعبارات قصيرة على مذكرات خصومه، مُحذراً من التمادي فيما وصفه بالخطأ، أو مناشداً – لكن بعبارات متحدية – لخصومه بالعودة إلى العقل، على حد تعبيره. لعل اللافت جداً في انشقاقات الجبهة الشعبية واختلافاتها أنها كانت تحدث دائماً تحت خطوط فكرية لا علاقة لها بالسلطة ومن يحكم على الإطلاق. ظلت الجبهة منذ تأسيسها منشغلة بالهم الفكري والثقافي وكانت مهمة الموجه السياسي مهمة تجد الاسناد الكبير من القيادة حيث كان لكل فصيلة وسرية وكتيبة موجه سياسي يكون (أيديولوغاً) لوحدته ويسعى لإبقاء عقيدتها الثورية والقتالية صامدة وتقوم الجبهة بتنظيم السمنارات وورش العمل الحزبية بشكل متصل ومستمر ومتجدد وآخرها السمنارات التي كانت تقيمها لكوادرها في السعودية والتي شهدت وفاة الأمين العام وهو ما دعا إلى وصفه في دوائر الحكومة والحزب الحاكم بالشهيد. صحيح أن المجموعة المؤيدة للرئيس الأرتري أسياس أفورقي كانت تضم عدداً كبيراً من الحركيين الحزبيين وقادة الجيش ورجال الصفوف التالية لقادة الحزب الحاكم إضافة الى حكام الأقاليم، لكن كان هناك عدد من الأسماء ذات الثقل الرمزي الكبير (الأمين محمد سعيد والراحل علي سيد عبد الله والفريق سبحت أفريم) ثم يليهم أبرهة كاسا مدير الأمن والمخابرات التاريخي وعبد الله جابر (اختلف لاحقاً مع السلطة) ويماني قبر آب (مسئول التنظيم الحالي في الحزب الحاكم ومستشار الرئيس المقرب للشئون الخارجية وآخرون… بوفاة علي سيد عبد الله الذي تولى عدداً من المناصب الوزارية وتقاعد الفريق أفريم وزير الدفاع بقي الأمين محمد سعيد كقيادي تاريخي صاحب رمزية لا يشاركه فيها أحد سوى الرئيس وهي عضوية الخلية الأساسية داخل الجبهة الشعبية الحاكمة، والتي تولت قيادة وتوجيه الجبهة ذات التشكيل الواسع الفضفاض الذي فرضه النضال ضد الاستعمار وحرب التحرير. عرفت هذه الخلية في الأدبيات الإرترية باسم (حزب الشعب)، وهي خلية ماركسية شديدة السرية والصرامة التنظيمية أسّسها جمع محدود من الأعضاء، وكان التجنيد لها يمر بفرز صعب ومعقد جداً وتم حلّها قبل استقلال البلاد، لكن بقي أثرها في صياغة توجهات الجبهة وتحالفاتها ووثائقها.


مرئيات

الأمين محمد سعيد في حديثه عن ديمقراطية النظام الحاكم
في إرتريا، يوليو 2014.

انظر أيضاً

المصادر

  1. ^ "إرتريا تُودّع العروبي الأخير.. الأمين محمد سعيد". 180 پوست. 2021-11-21. Retrieved 2021-11-21.