معبد باخوس

معبد باخوس

معبد باخوس Temple of Bacchus، هو أحد معابد بعلبك، لبنان.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الوصف

يقع المعبد محاذاة الهيكل الكبير يقوم هيكل آخر بُني في القرن الثاني الميلادي، ويمتاز بكونه من أفضل الهياكل الرومانية حفظاً ومن أبدعها نقشاً وزخرفة على الإطلاق. ويرتفع الهيكل على دكة يبلغ ارتفاعها خمسة أمتار ويُصعد إليه بدرج عظيم يتألف من ثلاث وثلاثين درجة.

وبعكس المعبد الكبير الذي كان موقوفاً لعبادة الثالوث البعلبكي بإقامة الشعائر العامة والعلنية، فإن الهيكل الصغير كان مخصصاً لإقامة بعض الشعائر المسارية التي لا يشترك فيها إلا المُسارون الذين تفقهوا في الأسرار. وكانت هذه الشعائر والعبادات تتمحور حول إله بعلبك الشاب الذي كان يُشرف على نمو النبات والقطعان. ولما كانت قد أُسبغت عليه من ثمّ صفات شمسية، فإن عبادته كطفل إلهي في كنف الثالوث البعلبكي قد ارتبطت ارتباطاً وثيقاً في أذهان المؤمنين بمسألة الولادة والنمو والذبول والموت مع الأمل ببلوغ حياة أخرى. وكانت هذه الشعائر تتضمن في ما تتضمن تناول بعض المخدرات، كالخمرة والأفيون، لتمكين المؤمنين من بلوغ النشوة المقدسة. وهذا ما يفسر وجود نقوش تمثل الكرمة وسنابل القمح وعناقيد العنب وجِراء الخشخاش وبعض المشاهد المستوحاة من حلقات النشوة على بوابة الهيكل وفي داخله، الأمر الذي حدا ببعضهم لأن ينسبوا هذا الهيكل إلى الإله باخوس.

وعند زاوية الهيكل الجنوبية الشرقية برج من عصر المماليك، وبُني في القرن الخامس عشر ليكون مقراً لنواب السلطنة في بعلبك، وما يزال الهيكل والبرج الملاصق له يُعرفان حتى اليوم بـ «دار السعادة». وتقوم إلى الجهة الغربية من المعبد أطلال مسجد من العصر الأيوبي يُعرف باسم «مسجد إبراهيم» كانت حامية بعلبك في تلك الفترة تجتمع فيه لإقامة الصلاة.


اكتشافه

مساء 10 نوفمبر 1898، وصل الإمبراطور الألماني ڤيلهلم الثاني وزوجته في العربة إلى محطتهما الأخيرة. وفي رحلتهما الطويلة من فلسطين أصر دليلهما البروفيسور مورتيز من القاهرة على أن يقوما بزيارة لبعلبك وقد أعد لهما مخيم في المحكمة الكبرى. في صباح الحادي عشر كشف عن نصب تذكاري في بعلبك قدمه لهم السلطان وذلك بإقامة احتفال كبير. لقد كانت زيارةً قصيرة ولكن ما رآه الإمبراطور كان كافياً ليقرر إعادة التنقيب والإكتشاف الأثري لهذا الموقع،وهذا القرار أثار فكرة إعادة الإكتشاف العلمي لمدينة بعلبك. [1]

عموماً،الأبحاث الأثرية السابقة خلال القرن الثامن والتاسع عشر كانت نتيجة البحث الرومانسي عن روائع الماضي وخصوصاً الروائع المشهورة في الشرق فبعض الأماكن القليلة أرضت خيال المسافرين الغربيين أكثر من بعلبك. الأوصاف والرسوم التوضيحية التي وُضعت من قِبل "داوكنز" و "وود" و "فولني" و "كساس" أو "روبرتس" تبقى حتى هذا اليوم أمثلة رائعة عن التقارير الأثرية على الرغم من كونها غير عالية الدقة، والكمية الهائلة من الدمار الذي حصل خلال القرون التي مضت والتعديلات والإضافات المتشعبة التي أُضيفت بعد العصور الرومانية والقدر الهائل من الدمار،وحتى أكثر،كل ذلك جعل من المستحيل أن يكون هناك إعادة اكتشاف دقيقة كما كانت عليه في الماضي،وعلى أية حال المطبوعات السابقة لم تزودنا بصور ملهمة ،هي غنية بالحس الفني وطريقة العرض المثيرة للإعجاب،ولكن الأهم أنها تزودنا بمعلومات قيمة عن طريقة الحفاظ على هذه الآثار الرائعة. وفي عرض للصعوبات التقنية ليس من المفاجئ أنه حتى نهاية القرن التاسع عشر لم تُمس آثار بعلبك بمجارف علماء الآثار ولكن بدلاً من ذلك تعرضت بشكل متواصل لقسوة المناخ المتميز بالثلوج والصقيع شتاءً وبدرجات الحرارة المرتفعة صيفاً،ويُعتبر أنه ضرب من ضروب الحظ أن الأعمدة الست المشهورة لمعبد جوبيتر قد نجت حتى وقتنا هذا والتقنيات الحديثة قادرة على ضمان وجودها المستقبلي. من بين جميع الآثار الضخمة في بعلبك،فقط معبد واحد حُفظ جيداً وهو في الحقيقة واحد من أكثر المعابد حفظاً بهذا الحجم في أي مكان،وهذا ما يضع بعلبك ضمن المواقع الأثرية المهمة،هذا المعبد هو معبد باخوس. على الرغم من أن الجهود الألمانية شملت كامل بعلبك وكل تاريخها إلا أننا سنقتصر في هذه المقالة على نتائج العمل على معبد باخوس. إن البحث الأثري العلمي للموقع يشابه إلى حد كبير تحقيقات لفريق من المحققين في موقع الجريمة،لذا في مثل هذه الحالة كان هناك في البدء فريق ضم عدد من المتخصصين : بروفيسور أوتو بوشستين وهو عالم آثار ورئيس الفريق،برونو شولز ودانيال كرنشير هما اثنين من المهندسين ، والمستعرب مورتيز سوبمهيم،والمصور ميدنبير ،ومكريدي باي كممثل للحكومة العثمانية،وحوالي 150 عامل في قمة نشاطهم. ومن البداية كان هناك مستوى عالي من الأداء دون الإهتمام بالنفقات المتزايدة،فلا يمكن لمس أو تحريك أي حجر بدون أن يتم تحديد موضعه مسبقاً،ولا يمكن إزالة بناء ملحق على العمل الروماني دون أن تُدرس أهميته بشكل كامل،والإهتمام بالعمل بأدوات التنقيب بحيث لاتفسد المظهر الأثري. إذن المهمة الأولى كانت رسم وتخطيط الحالة القائمة،فكما يقوم المحقق في الجريمة بجمع كل الأدلة كذلك يقوم عالم الآثار بأخذ ملاحظات عن كل التفاصيل التي قد تساعد في إعادة إعمار المبنى. إن دمار المعبد بدأ من دون شك عند فقدان سقفه الذي كان مؤلفاً من دعامات خشب كبيرة مما أدى إلى تسوسها وفسادها وخصوصاً بعد إزالة غطائها الرصاصي الثمين، ودعامات السقف كانت تربط الجدران الطويلة للمبنى ببعضها البعض من الناحية العلوية،وخسارتها أدت إلى وهن خطر للهيكل ككل.إضافةً إلى ذلك فإن تشييد البناء لم يعتمد على الملاط كعامل دعم بل كان يتألف من قطع حجارة وضعت واحدة فوق الأخرى وجُمعت معاً بمشابك حديد أو برونز ومسامير تتضمن الرصاص.

هذا ما جعل المبنى مرن كسلسلة من الخرز في عقد،كلها مرتبطة ببعضها البعض،وهذا النوع من المباني أثبت قدرته على الصمود في وجه الزلازل و هذا يفسر السر بوجود أضرار طفيفة فقط. ومع ذلك فإن الزلازل ساهمت بقدر كبير في دمارها بغض النظر عن مساعدة الإنسان في ذلك. بعد أن توقفت العبادة في المعابد والتي أصبحت بقايا وآثار ميتة في العصور الغابرة،أصبح الناس على بينة من وجود كنوز المعادن الموجودة في صلب المباني ،فقاموا بأخذها بلا هوادة،وبناءً على ذلك فإن ضياع المقياس الذي وُضع لضمان استقرار المبنى هو الذي أدى إلى دماره،وإذا كان معبد باخوس هو من أكثر المعابد حفظاً حتى هذا اليوم فإننا ندين بذلك لحقيقة أن أكروبول بعلبك قد تحول إلى حصن منيع من قبل العرب وكان معبد باخوس جزء لا يتجزأ منه وتعزز هذا الأمر عند تحصين الجدران وبناء خزانات مياه في الداخل. بعد أن تعرضت بعلبك للنهب من المغول والتتار ودمرت بالزلازل والفياضانات أصبحت المدينة في منتهى الأمر جزء غير مهم من الإمبراطورية العثمانية وبما أن القلعة كانت بلا أهمية فقد تُركت للتعفن، وقد بدأ السكان ببناء منازلهم في الداخل مستخدمين أي مادة في متناول أيديهم،ولكن بما أن الكتل الحجرية في المعابد كانت ضخمة ولا يمكن نقلها فقد كانت الخسائر قليلة.في الواقع من حسن الحظ أن بعلبك لم تكن مدينة كبيرة بالتالي لم يُستخدم الأكروبول كمقلع للحجارة،وكما سبق ذكره فإن الضرر الرئيسي كان نتيجة الزلازل القوية خاصةً زلزال عام 1759م الذي أسقط معظم أعمدة معبد جوبيتر وبقيت ست أعمدة ما زالت قائمة حتى اليوم.

على العموم ولحسن الحظ أيضاً فإن سقوطها وقع على شكل الدومينوز ولم يُمس بعد ذلك،وعدة أجزاء تعرضت لأضرار بسيطة بحيث جُمعت عن الأرض وأعيد وضعها كحالتها الأولى ومعبد باخوس كما نراه اليوم هو عمل بطولي في إعادة الإعمار. وحتى يومنا هذا فإن أفضل منشور تكلم عن معبد باخوس هو الذي أنتجه فريق علماء الآثار الألماني الذي عمل على الموقع منذ عام 1898م حتى 1905م،ومن الرائع أن نعرف أنه في العام 1918م وخلال فترة انتهاء الحرب العالمية الأولى،أحد أفراد المجموعة لم يقم بزيارة لبعلبك لإجراء التقارير النهائية فقط بل أنه قام بإقناع الكتيبة العسكرية الألمانية في دمشق باستخدام طائرة حربية للتصوير الجوي. وقد نشر هذا العمل المضني مع مسحة فنية نادرة في عصر التقييم العلمي الجاف والحرب و هذا ما أعاق وأخر العرض النهائي،وكان عدد من أعضاء البعثة قد توفي قبل ذلك،وعدد الرسوم التوضيحية كان يجب أن يُقلص ونوعية الورق المستخدم كانت رديئة وكميات قليلة من الأعداد خرجت من ادراج ألمانيا،والمنشورات اللاحقة استُكملت وصَححت نتائج المجهود الألماني والتي كانت بدورها مبعثرة الوجود،لذلك كان من الضروري العمل على إنتاج دراسات جديدة وشاملة.

أهمية المعبد

من المدهش أن لا يعرف غير القليل من الناس عن الإهداء أو الهدف من بناء معبد رائع كمعبد باخوس. لنبدأ بذلك،علينا فقط التحدث عما يسمى "معبد باخوس"، لأن إهداء هذا المبنى إلى الإله السعيد قد لا يكون مؤكداً،ويبقى هنالك سؤال مسبق:لماذا بُني هذا المعبد في الأصل؟ علينا أن نعرف أن المعبد على علاقة غامضة أو بالأصح علاقة غير موجودة بمعبد جوبيتر المعروف بأكروبول بعلبك بسبب موقعه المرتفع،وهذا الأكروبول بحجمه الكبير وموقعه الشامخ هو كيان متكامل وعليه أن يكون مرتبطاً بشكل أو بآخر بمدينة بعلبك. إن معبد جوبيتر الشاهق يقع في نهاية محور من الحركة الهائلة التي كانت تجتاح كل وسيلة تتقدم نحو باحات بروبيليا الكبيرة وتصل إلى أسفل الدرجات التي تجذب الحجاج إلى ضريح الإله الأعلى،والذي تصوره الرومان كانصهار جوبيتر والإله المحلي "حداد".حجم هذا الطاقم هائل حتى أن المدينة بأكملها تبدو صغيرة أمامه ولا يمكن لأي هيكل آخر أن ينافسه،والأمر الطبيعي هو ربطه بأقل المقدسات في زي أشاد به السيد الأعلى للسماوات.وكمثل على هذا المبدأ معبد فينوس القريب للأكروبول،على الرغم أنه في الأصل تشارك في المساحة مع فناء مكتظ لمعبد آخر صغير. ولكن ما هو معبد باخوس،ذلك المبنى الضخم بكل مقاييسه،يستلقي بشكل مثير للإعجاب إلى جانب الأكروبول،مدفوع بعض الشيء نحو نهاية جدار المنع الذي يدعم المحكمة الكبرى.إن موقعه يجعل من الصعب التصديق بأن أعمدته أقصر بمرتين ونصف من الأعمدة الست الضخمة المتبقية لمعبد جوبيتر المتقابلة على الدوام مع السماء الرائعة. ولكن السؤال يبقى لم قد يتورط أحد في هكذا إجراء مكلف ولا يخلو من المنافسة؟من الواضح أنه هناك أسباباً وبالتحديد لتلبية الحاجات الدينية. كما هو شائع،بدأ العمل في معبد باخوس في زمن أنطونيوس بيوس في منتصف القرن الثاني للميلاد،وكان قد اكتمل معبد جوبيتر باستثناء المنصة. حرم هليوبوليتان جوبيتر كان قد اكتسب سمعة كبيرة في أنحاء متعددة من العالم الروماني بسبب النبوءة المتعلقة به وكان إنشاء أكروبول بعلبك مرتبط قبل كل شيء بالعمل السياسي الذي بدأته الحكومة الإمبراطورية بهدف التألق وبالتالي تعزيز حكم روما وإثبات قوة دينها الموحد والذي ينبغي له أن يسيطر إلى الأبد. ومع ذلك فإذا كان من المفترض أن الرومان أرادوا سحق الروح الشرقية بعظمة المادة فقد أخطأوا،فالروحية التي تطورت في الطوائف الشرقية مارست قوة عاطفية لا يمكن أن تنافسها المعتقدات الرومانية،فالعقيدة في بلاد الشرق التي بشرت بالمكافأة بعد الموت جذبت الفيلق الروماني الذي كان بعيداً عن موطنه وكان عرضة للشك في مهنته العسكرية،وأصبح الجندي الروماني يعود إلى موطنه محملاً بالأفكار الجديدة التي سرعان ما تتسلل بنجاح إلى المقاطعات الغربية والإمبراطورية الرومانية بحد ذاتها. كان تبجيل الإله الإغريقي ديونيوس واحداً من الطقوس المفضلة،فهو الإله الشاب والوسيم،إله الخمر والدراما وعُرف بالإله الروماني باخوس،والعبادة كانت تتمحور حول عناصر الزرع والخلق والحصاد والوليمة,تحول تدريجياً إلى مفاهيم معقدة للإستمرارية بعد الموت وإعادة الخلق،وذلك تأثراً بالدين المسيحي وتطور مفهوم القيامة. كتب هنري سيريغ:"كانت الفترة التي حكم بها ملوك الإغريق الممتدة لقرنين أو ثلاثة فترة خصوبة دينية غير اعتيادية وهي فترة ما قبل الظهور المسيحي،وأهم المسائل التي كانت تُطرح هي تلك المتعلقة بالحياة بعد الموت واهتم بها المؤمنون وطوائف الخصوبة القديمة التي كانت تتحدث عن عودة الربيع وتحولت إلى طوائف صوفية حيث تعددت الآلهة،فأصبح الإنسان يأمل بالحياة بعد الموت. بعض الألغاز التي قدمت هذه الوعود هي تلك المتعلقة بديونيوس أو باخوس وتميزت بنجاحها، أما المدن الفينيقية وجدت إيمانها بالإله الخاص بها وهو أدونيس،وفي بعلبك إله التجدد هذا كان موازياً للإله الإغريقي هرمس،وبعد تطور المعتقدات أصبح يجسد باخوس بكل صفاته الشخصية. هذه الطائفة أخذت طابعاً خاصاً بحيث شددت على بعض الفلسفات والطقوس الدينية التي تستلزم المشاركة الفردية لكل عضو وهذا ما يشكل تغييراً جذرياً بالخروج عن مبدأ العبادة الجماعية وطقوس التضحية لإله الدولة الرسمي،وإذا كان هذا الأمر صحيحاً فإن هذه الطائفة لا تكون موافقة على أن تكون مزاراً مفتوحاً لأيّ كان ولكن من الممكن استيعاب هذه البنية بشكل مستقل. وبالفعل،فهل يبدو باخوس قي تحدٍ مع أخيه الأكبر الأكروبول داعياً إلى الإستقلالية بتوسيع النطاق الخاص به والذي كان على بعد بضعة خطوات منه والآن قد دُفن؟ على ما يبدو أن جاذبية عبارة باخوس كان لها صدى قوي في زمن أنطونيوس بيوس بحيث أن الإمبراطور وجد أنه من الحكمة البدء بإقامة مزار منفصل،وهناك مؤشرات على أن تمويل هذا المزار كان بشراكة مدن المنطقة،مما يدعم نظرية أن هذا المشروع أنشئ بدافع اهتمام محلي،ويُستدل على ذلك بلوحة معلقة تحمل صورة الإله الراعي لأنطاكية معبرة عن منحة شرف للمدينة وتقديراً للدعم المالي. إن أول من اقترح اعادة إنشاء معبد باخوس هو عالم الآثار الألماني أوتو بوشستين وكانت نظريته مستندة على النقوش الموجودة على باب المعبد وخاصة تلك المتعلقة بالأديتون والضريح الداخلي،وإلى يمين ويسار درج الأديتون هناك كتلتين حجريتين كانتا تدعمان بنية الأديتون. الوجوه التي نُقشت على الحجارة ساهمت في إثبات هذه النظرية إلا أنه وللأسف قد تشوهت على نحوٍ كبير،وعلى الرغم من ذلك أوتو بوشستين قدم تفسيراً مقنعاً كما هو مبين في الرسوم التوضيحية. وتجدر الإشارة إلى وجود بعض الرموز المتناقضة، مثلاً يمكننا رؤية نسر يحمل صولجان هرمس بمخالبه وهو رمز لعطارد على الجانب السفلي لعتبة البوابة، وأيضاً إذا أردنا أن نأخذ بعين الإعتبار بعبادة ثالوث من الآلهة في بعلبك فإن فينوس يجب أن تكون على درجة ثانية من الأهمية بعد جوبيتر،ومن المؤكد بروز العنصر النسائي في الدين الشرقي وإقامة معبد خاص لفينوس.ولا تزال هناك بعض التكهنات بأن المعبد لم يُخصص لإله واحد بل لعدة طوائف وما يدعم هذا القول وفرة الزخارف الرمزية، وهناك نقطة واحدة نشدد عليها وهي أن حقبة تعدد الآلهة قبل المسيحية كانت حقبة مهمة لاستمرارية التقوى.وقد ميزت الطوائف الشرقية نفسها بطبيعتها الكونية مما جعلها تشع خارج حدودها المحلية.ونستدل من الأدلة المكتشفة في مناطق متعددة من البحر المتوسط وأوروبا أن عبارة جوبيتر هيليوبوليتان كان لها أبعاد دولية،ربما كانت تتضمن رسالة مهمة وربما بسبب قربها اكثر من اليهودية والمسيحية وكانت معبرة جداً عن مفاهيم تعدد الآلهة في ذلك الزمن الفاصل،وبغياب السجلات المكتوبة لسنا قادرين على معرفة محتوياتها وهناك أمل ضئيل بالعثور على إجابات مفيدة ومكتملة عن هذه الأسئلة،والعديد من الأدلة قد لقيت مصير التلف بالوسائط الأيدولوجية اللاحقة،بل في الواقع الكثير منها،باعتبار أن أعمال التنقيب تجد تمثالاً واحداً على الرغم من وجود المئات في ذلك الوقت.

الطراز المعماري

لمناقشة الأهمية المعمارية لمعبد باخوس، علينا أن نكون منتبهين جيداً واعتباره بحد ذاته قطعة هندسية منفصلة عن الأكروبول.فقد صُمم على هذا النحو وهكذا يجب الحكم عليه. نود القول أنه حالة بارزة ومثيرة للإعجاب بالنسبة لطريقة الحفاظ عليه وبناءً على هذه الحقيقة فإنه كان يتميز بإمكانية إعادة بنائه بشكل دقيق وكامل سواء عملياً أو على الورق،فالمعبد يجسد كنزاً حقيقياً من البحوثات العلمية وملتزم بشكل كامل بالمعايير التي حددها الروماني الشهير فيتروفيوس الذي كتب عنها في الأطروحة العلمية. البعض اعتبر أن كبر حجم المعبد هو عامل مساعد على إبراز أهميته وهو أكبر من البارثينون ويقيس اتساعه من الداخل 19 متر مع بوابة ضخمة يبلغ عرضها 6,5 أمتار وطولها 13 متر،كتله الحجرية قد تزن أكثر من عشرات الأطنان على الرغم من صغر حجمها مقارنةً مع معبد جوبيتر القريب منه .وبالتأكيد فإنه وعلى هذا المبدأ هو الذي يطغى قوة وحجماًَ،وقدمت بعض الديكورات والزخارف الجميلة منظراً ألطف مما جعل هذا المعبد من أبرز الأمثلة التي تجمع بين الضخامة والجودة الفنية.ومع ذلك،فأنا أقول أن الأهمية المعمارية ليس لها علاقة مهمة بالحجم والكمية،فهل هذا المعبد لا يعني شيئاً بالضرورة أم أنه نسخة مكبرة عن فن الساكف الإغريقي،ومحاولة جاهدة منهم للتفوق على من مضى من حيث الكمية. من الناحية التقنية قد يكون هذا التقييم صحيحاً،لأن بناء الساكف كما عبرت عنه المفاهيم الكلاسيكية الرومانية لهذا المعبد كان مقتصراً على الشكل التقليدي ويعتمد مبدئياً على أبعاد أكثر تواضعاً من شأنها التعامل بحرية أكبر مع الحجارة،ولاستخدام هذا المبدأ في البناء وعلى هذا النطاق عليه أن يكون على مستوى عالٍ من القوة، أبعد من ذلك كانت في ذلك الوقت وسيلة قديمة للمهندس الروماني حيث أن اكتسابه لهذه العلوم كانت ببناء جدران خرسانية ممتدة في مساحات شاسعة،وبالقبب التي تصمد طويلاً مع الإنتباه لكلفتها الإقتصادية. إن معابد بعلبك كثيراً ما تعكس التقاليد الراسخة المحلية لهذا الفن الإعماري الضخم والتي ليس لها نظير بتفوقها التقني وكلفتها المادية. وأيضاً بالرجوع إلى فن العمارة فإن الشكل واللون والقوام هو أول ما تقع عليه عيوننا فمعبد باخوس يتضمن رواق خارجي كالبارثينون وكلنا يعلم أن هذا الأخير يمثل الكلة الفصل لهذا النوع من التصاميم ولن نجد في بعلبك دقة تتخطى ميل الأعمدة والإنحناءات الأفقية،ونذكر وجود التباعد غير المتكافئ بين الأعمدة على المنظور القريب وتضييق 10 بالمئة في إطار الباب من الأعلى بهدف تعزيز التأثير البصري.

وكما نعلم أن البارثينون رخامه أبيض منقوش باللون النيلي البراق وهي مادة كلسية لا تشبه كلس بعلبك. هل هذا كله يصب في مصلحة البارثينون؟دعونا لا ننسى ان ما نراه اليوم على الأكروبول في أثينا هو ما تبقى من جمالية لرواق كان مغطى بكتلة مفرغة في الباحة الداخلية للمعبد.شفافية اليوم تعطيه جمال رومنسي لم يكن موجوداً عند بناءه.لهذا علينا إضافة العلاج بالألوان الزاهية في الجزء العلوي وهو غريب لمفهومنا الحالي المتعلق بفن العمارة الكلاسيكية.وهنا علينا مقارنته بمعبد باخوس في بعلبك،بجدرانه الدافئة والمتوهجة،أعمدته المنتفخة بسخاء،تيجان أعمدته الكورنتية اللامعة،الإفريز البارز بجرأة،التباين الرائع للأعمدة المخددة البسيطة،والتنوع اللامحدود للنقوش،رقيقة المظهر عندما تكون قريبة من الأعين وقوية حين تلوح في الأفق عالياً من فوقنا،سمفونية غنية بالألوان والأشكال والملمس.فن العمارة هذا يجب أن نختبره بالحواس وليس عن طريق الخيال. لقد ألقينا نظرة على المعبد وأجرينا العديد من المقارنات،الخطوة التالية هي الدخول،وهي الخطوة الحاسمة.أوليس فن العمارة قبل كل شيئ هو فن تحدي المساحة؟ بل وأكثر،فهو لخلق مساحة لحياة الإنسان،إن المساحة بداخل أو بين المباني هي المهمة،المساحة التي تتحرك بواسطتها عبر الزمن.من هنا تبدو أهمية المعبد واضحة،فلا تتردد عند صعود الأدراج المؤدية إليه،نغوص تحت الأعمدة الشامخة للبارانوس ونقترب أكثر بمزيد من الترقب فتستقبلنا البوابة الرائعة وبعدها مساحة داخلية مهيبة تطوقنا،فناء مرتب ومفتوح، دعامات السقف الضخمة المصنوعة من خشب الأرز أمسكت بالأعمدة على سبيل الإحتياط،هذه المساحة عبرت عن فخامة معمارية وزخرفة تصويرية مرتبطة وأعمدة كورنيتية مثبتة على ركائز سطحها مدعم ومتقن الكسر،طبقات مفصولة من المحاريب أو مع أقواس ثلاثية،وسلسلة من الإسقاطات والتجاويف تعطي حس الحياة النابض للفناء الواسع المحيط بها. خطة تعبر عن انسجام بين الشكل والمساحة،هذا هو مفتاح الهندسة الرومانية الذي يحمل مفهوم مكتمل وأساسي فقد سعوا لإيجاد وحدة مرنة ضمن تركيبة مترابطة وإخضاعها للإنضباط في محور كبير وتناظر صارم.إضافة إلى ذلك فإن الحرم الداخلي مناسب فهو فسيح مصمم ليتناغم مع الخارج وبالتالي تكرر عناصر مألوفة مغطاة بطبقة من المحاريب ولكن على مستوى أغنى. تقليدياً،إن الإحتفالات والتضحيات كانت تحصل عند شروق الشمس فعندها تصل أشعة الشمس إلى المعبد الداخلي وتضيء تمثال العبادة،وهذا سبب توجه المعبد إلى الشرق.مع تطور الطوائف الدينية كتلك الموجودة في باخوس تزايد التركيز على أنه وُضع بشكل علني شعائري أمام المؤمنين داخل المعبد وأمام الآلهة.

إن نقص أشعة الشمس وتناقص دخول الضوء من المدخل وتوهج أضواء لا تحصى من المصابيح والشموع لا بد وان يلف المعبد بغموض قوي عند الضريح. كان علو الأديتوم أو قدس الاقداس هو ميزة وأنموذج شرقي ليس في متناول الجميع بل فقط للكهنة.كان معبداً داخل المعبد يكشف عن تمثال للإله وراء حجاب من أدخنة البخور. هذا التناغم المدبر بعناية بين المواد،الألوان،الأشكال والمساحات يحتوي بالفعل على لمسة فنية بعيدة كل البعد عن كلاسيكية الإغريق والتي لم تتحقق من قبل سادة أسياد عصر النهضة اللاحق.إن معبد باخوس يمثل لحظة مميزة من لحظات الفن المعماري الكلاسيكي حيث البناء الخارجي والداخلي على درجة واحدة من الأهمية،وهذه الحالة لم تتحقق من قبل البناء الفاخر الخارجي لبركليز أو البناء الداخلي القديم للبارنثيون أو آيا صوفيا.ويقول السيد مورتيمر ويلر "إن بعلبك هي نهاية تقليد وبداية آخر ومع ذلك فقد ناسبت طبائع العالم الذي ولدت فيه وهي تمثل لحظة خاطفة أو ما يسمى "وقفة أنطونية" في عصر تحول وحيوية،تلك اللحظة من التوازن في حقبة من تاريخ البشرية كانت في حالة من السعادة والإزدهار.وهكذا تبقى بعلبك بحد ذاتها واحدة من التواريخ العظيمة لفن العمارة الأوروبي".


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

جهود الاحياء والترميم

قبل أن نناقش إسهام عصرنا في المحافظة على معبد باخوس يبدو أنه من الأفضل ملاحظة بعض التفاصيل التقنية التي استخدمها الرومان في بناء المعبد. الرومان كانوا قبل كل شيء مدركين لأهمية الأسس الكاملة لصمود واستمرارية المبنى،فقد علموا منذ البداية أي تراكم للأثقال الضخمة سيحدث وبالنهاية وجدوا ان لا شيء سيفي بالغرض سوى قاعدة مشكلة من الأساس الصلب.وهذا يعني بالنسبة لمعبد باخوس أن مكان الأساس عليه أن يصل إلى 17 متر تحت سطح الأرض أي ما يعادل خمس طبقات من العمارة الحديثة. إن أعمال التنقيب في الأرض كانت صعبة وفي بعض الفترات مهمَلة فاعتمدت على الإفتراضات الأقرب إلى العقل عوضاً عن اليقين التام.وكنتيجة لحذر الرومان فإن البناء لم يتحرك ملليمتر واحد ومن يريد أن يقيس مستوى المياه بشكل دقيق فليستخدم المفاصل الأفقية لبعلبك لأنها تعبر عن مرجع موثوق. لقد تحدثنا في الفصل الأول عن بناء الجدران والأعمدة لذا سنكتفي هنا بالتحدث عن السقف المؤلف من دعامات خشبية حيث يبلغ طول الواحدة 8 أمتار وممتدة 19 متر في عرض الباحة الداخلية للمعبد وهي التي شكلت العصب السفلي لدعامات السقف العليا.هذا السقف بلا شك كان غنياً بالزخرفة وفي نفس الوقت يشكل دعامة إضافية للجدران الخارجية،كل هذه التفاصيل أخذت من الأقسام المتبقية لأعمدة السقف.

بوابة المعبد جلبت للرومان مشكلة بسبب حجمها الضخم،فهم أرادوا الإبقاء على الشكل المستطيل الكلاسيكي، وبناء قنطرة للفتحة الممتدة 6,3 أمتار كان شبه مستحيل،وتجنبوا استخدام عتبة صلبة فاقترحوا استخدام نوع من الأقواس المسطحة وجزء من الطنف.ونتفاجأ عندما نجد أنهم لم يكثروا التوصيلات أو أدوات لتخفيف الثقل عن الفتحة واعتمدوا فقط على سند الجدران جيداً عن يمينها وعن شمالها.ولا عجب أن خسارة السقف والزلازل العنيفة سببت ضغطاً هائلاً على حجر الزاوية ويؤثر بالنهاية على الجزء العلوي من البوابة فيدفعها 20 سم عن بعضها البعض ويصبح حجر الزاوية البالغ ارتفاعه 3 أمتار مهدد بالسقوط. وكان هذا أكثر موقفاً درامياً فبعض الزائرين فشلوا في وصفه من خلال رسومهم التوضيحية أو على الأقل تقديم حسابات كافية عنه،وزاد تأثير الإنهيار الوشيك بسبب حقيقة أن البوابة كانت مدفونة حتى وسطها تحت الأنقاض والناظر يكون قد اقترب كثيراً من الكتلة المعلقة مما يشكل خطراً عليه.وبالتالي كان حجر الزاوية لمعبد باخوس هو السبب الأول لصيانة وحماية آثار بعلبك على يد ريتشارد بورتون القنصل البريطاني في دمشق وذلك حوالي عام 1870 فقام بإنشاء دعامة حالت دون هبوط الكتلة أكثر والتي استخدمت في نهاية المطاف لرفع الحجر إلى موقعه الأصلي من قبل علماء الآثار الألمان ووضع عليها روافع ضخمة استعاروها من المهندسين الفرنسيين الذين كانوا يبنون و يشيدون سكة حديدية في منطقة مجاورة،وقد علق حجر الزاوية مرة أخرى بالجدران باستخدام عارضة حديدية غير موصولة وهذه كانت أول عملية ترميم حصلت في بعلبك. ومنذ ذلك الحين لم تؤمن فقط الحماية من التدهور أكثر للمعبد بل أصبح اليوم مقاوماً للزلازل وعلى مدى السنوات اللاحقة وُضع برنامجاً مكثفاً لمتابعته.ولكي نقدر كامل حجم الدمار الذي نواجهه في بعلبك أننا نعتبر أنه من الضروري البحث بشكل معمق في تقنيات إعادة الإعمار وطرق الحفاظ عليها وهذا ما سنبينه في العرض الزمني التالي.

في البداية هناك خمسة معايير أساسية مع بعض الإستثناءات :

  • إعادة إعمار الأجزاء التي حفظت موادها الأصلية فقط.
  • عدم تقليد العمل الأساسي بل فقط إضافة التحسينات الضرورية.
  • إضافة تغييرات بسيطة عند الضرورة على الوضعية الأساسية لكل حجر كي لا نعيق إجراء تحقيقات علمية أخرى.
  • جمع كل القطع كحالتها الأصلية قدر المستطاع.
  • جعل البيئة المحيطة مقاومة بشكل تام لجميع القوى التدميرية.

ومنذ أن ابتدأت أعمال إدارة الإعمار في العام 1933 كان البروفيسور كايلان مهتماً بشكل كبير لهذه المهمة الصعبة وطوال هذه الفترة نلاحظ تقدم مستمر في التكنولوجيا التطبيقية وأول الخطوات صُممت لضمان إستقرار الآثار المتبقية. أضيفت إلى مجموعة الأعمدة الأربعة الجميلة في الزاوية الجنوبية برج من صنع العرب وكان شكله غير مناسب فتمت إزالته فيما بعد.السقف وكتل السطح المعمدة جمعت مع بعضها البعض بالإسمنت المسلح ويمكننا رؤيته من على برج مملوكي قريب منه.وخلال هذا العمل اكتشف أنه هناك واحد من الأعمدة الأربع يقف على قاعدة 35 سم وهذه حالة غير مستقرة سرعان ما تم تداركها. ومنذ العام 1934 دُعمت كل الأعمدة التسعة المتبقية على طول الجانب الشمالي للمعبد وتوصلوا فيما بعد أنه بسبب الزلازل دُفعت الأعمدة 20 سم إلى الأعلى.شُيدت حاملات قوية للسقف عند صف الأعمدة من ناحية الشمال،ومن خلال رافعات رُفعت كل كتلة بلشكلٍ كافٍ للسماح للأعمدة وأسقفتهم المعمدة بالعودة إلى وضعيتهم الأولى.كذلك استلزم تدعيم صف الأعمدة إزالة جزئية للبنية الفوقية.وفي نهاية المطاف أصلحت وجمعت كل الأفاريز مع بعضها البعض بالمشابك والإسمنت. وفي عام 1935 تم إنجاز المقاصة النهائية داخل المعبد وأعيد تشكيل تركيبة دعامة الأعمدة في الطرف الأيمن للأديتوم.تمت إزالة الحائط العربي المقابل للمعبد قبل الحرب بهدف الرؤية الأفضل للمعبد.وكان هذا العمل الأخير الذي تم إنجازه في ظل الإنتداب الفرنسي،وبعد ذلك تولت مصلحة الآثار اللبنانية مسؤولية هذه الآثار تحت إدارة الأمير موريس شهاب. بعد الحرب أيضاً أعيد تجميع الأعمدة الخمسة المنهدمة على الجانب الغربي من المعبد،وهذه العمليةاستمرت من العام 1946 حتى 1950 بسبب محدودية الوسائل وضخامة المهمة.بعض الأعمدة التي أعيد رفعها كانت على قدر بسيط من الضرر وبالتالي احتفظت بوزنها الأصلي الذي يقارب 50 طن.وكتقليد للعمل الروماني الأصلي فإن أبراج من الأعمدة قد شُيدت وتشبه إلى حدٍ ما آلات الرفع الحديثة.كانت بكرات الفولاذ على الجزء العلوي للأبراج تعلق بكابلات فولاذية ملتفة حول الرافعات العامودية،وببطء تم إنجاز رفع هذه الحمولة الثقيلة وهذه مهمة قد اعتُبرت غير مجدية من قبل. وبشكل مشابه للنمط الروماني تم ربط أجزاء العامود المنفردة بمسامير معدنية،وميزة واحدة بقيت سراً لدى الرومان وهي عن كيفية تثبيت المسامير بالرصاص،وعند تثبيت الأثلام في مفاصل الأعمدة تبقى ظاهرة لأنها طويلة والرصاص المنصهر يصبح صلباً بسرعة أي قبل وصوله إلى وسط القطعة.

لذلك كان لا بد من استبدال الرصاص بطين الإسمنت.السلاسل المعشقة قُطعت عند أعلى العتبات الحجرية لتلتقي مع روابط خشبية داخل الإسمنت المسلح وهذا ما عزز الرؤية بشكل إيجابي للهيكل. على أية حال فقد لوحظ بعد ذلك أن تغيرات درجة الحرارة تؤثر على الإسمنتت المسلح أكثر من الحجر مما سبب ظهور تشققات خفيفة على طول مناطق الإحتكاك. منذ بداية العام 1960 استخدم البروفيسور كايلان مفهوماً جديداً في الهندسة لإعادة إعمار الآثار اللبنانية وهو"الإسمنت المسبق الإجهاد"،ونحن نعلم أن الحجر والإسمنت قادران على تحمل الضغط بشكلٍ كبير.إذا تشقق الحجر يكون عادةً بسبب تعرض أحد جوانبه للضغط الشديد وفكرة الإسمنت المسبق الإجهاد تكون بإخضاع بنية الحجر والإسمنت لضغطٍ دائم وكافٍ لكل حالة تحدث فيها التشققات،وهذا ما يشبه حزمة تم ربطها بإحكام ولا تتمزق بسهولة.

استخدمت هذه الطريقة لأول مرة عام 1961 في معبد باخوس عند إعادة بناء إثنين من الأعمدة عند الزاوية الشمالية الشرقية ويبلغ طولهما 17,5 متر وتم رفعهما بالطريقة التقليدية وبدون استعمال أي روابط ولكن محميان من أبراج البناء الأخرى.بدأت أعمال حفر بقطر 10 سم في وسط كل عامود عندما كانا في وضعيتهما الأولى.وعندما تحددت مساحة أعمال الحفر بستة أمتار تم تفكيك أجزاء الأعمدة بشكل تدريجي ثم حفر الجزء الأدنى من الحفرة بطول ستة أمتار تحت القاعدة ثم إدخال تسعة أسلاك داخلها بقطر 7 مم وكل سلك يحمل في نهايته قطعة اسطوانية مثبتة بالإسمنت وهذه الأسلاك طويلة كفاية للوصول إلى أبعد من قمة الأعمدة وهذا ما يعني أن تركيب كل عامود حصل خطوة خطوة،وبعدها أضيفت صفائح من الفولاذ إلى تاج الأعمدة بواسطة الرافعات الهيدروليكية. كل سلك تعرض إلى 3 أطنان من الضغط،في هذه الحالة تم ترسيخ كل سلك داخل العامود بتعبئة الإسمنت السائل.

وهكذا وُضعت الأعمدة تحت ضغط 27 طن مما يعني تشبثها بالأرض بقوة كافية تضمن عدم انهيارها. قد استخدمت أساليب مشابهة لإعادة التوازن إلى الأبنية التي تملك نزعة للتلين أو التشقق كما حصل لجدار انتا الشمالي في معبد باخوس. واستخدم نوع آخر من الإسمنت المسبق الإجهاد في إعادة بناء ألواح السقف التي تغطي البهو المعمد لمعبد باخوس.هذه الألواح كانت بطول 4 إلى 4,5 أمتار وسماكتها 1,5 متر ويبلغ وزن الواحدة منها 50 طن وبسبب سقوطها من علو 20 متر تحطمت لعدة قطع. جُمعت هذه الألواح وفصلت أربطتها العامودية من الأعلى إلى حوالي ثلثي طولها وفصلت الزوايا أيضاً وأدخل من الأطراف أنبوبين لحماية الحجر،وأسلاك 1,5 مم التفت حولها 150 لفة،خمسين لكلٍ منها،كل سلك تعرض لضغط يعادل 170 كلغ وأضيفت قوة قطرية محصلة تعادل 48 طن،ثم رُفع اللوح الذي أصبح الآن صلباً إلى موقعه،والمفصل تم دعمه بالفولاذ وصُب فيه الإسمنت لـتأمين الإستقرار المطلق. إن فائدة هذه الطريقة هي أن السطح المرئي من اللوح لا يُلمس واللوح يكون قد تثبت بواسطة 15 كلغ من الأسلاك في حين أن في الأساليب التقليدية كنا بحاجة لمئات الكيلوغرامات لتسليح الفولاذ.استخدمت طريقة الإسمنت المسبق الإجهاد في إعادة بناء الجزء الغربي المنشق عن المعبد. لا ينوي البروفيسور كايلان إعادة بناء الأعمدة الخارجية على الرغم من وجود معظم أجزاء الأعمدة الجنوبية فهو يعتقد بأن رؤية هذا الجانب للبناء على هذه الوضعية أكثر تأثيراً، لا سيما أن العامود المائل المشهور قد يخسر الكثير من هذا التأثير،هو مائل ولكن آمن وهذا ما أثبتته الأيام والحسابات العلمية. ينبغي إضافة بعض المعلومات عن المجهود من الناحية المادية،فأعمال التنقيب الألمانية كانت ممولة بمرسوم من الإمبراطور ولا يوجد أي مبالغ ذكرت في أي من المنشورات الرسمية.ونظراً لسنوات العمل وحجم القوى العاملة يمكن أن يقدر المرء أنه تم إنفاق ما يعادل 3 ملايين ليرة لبنانية من العملة الحالية للمشروع(1969).

يعتقد البروفيسور كايلان أنه منذ العام 1944 أنفق ما يعادل 10 ملايين ليرة لبنانية على بعلبك ونصف المبلغ استخدم لمصادرة الأراضي.وفي العام 1968 أنفق مبلغ قياسي وهو 500 ألف ليرة لبنانية في الأعمال البدنية وحدها في بعلبك.وتعليقاً على هذا الموضوع نذكر أن العامل كان أجره 25 قرش في اليوم وذلك قبل الحرب العالمية. غني عن القول أن هناك ما يبرر هذه النفقات.هناك كنوز هائلة من المفترض أن تكون نائمة حالياً تحت مدينة بعلبك،لذا فإن مخطط الفرعون هنري بنقل المدينة لا بد بأخذه بعين الإعتبار. في هذه الأثناء يجب على لبنان أن يعتبر نفسه محظوظ لامتلاكه الآثار العظيمة وبرؤيتها بشكل لم يحلم بها حتى الرومان أنفسهم.المشهد المكتمل بالصوت والصورة في المهرجانات الدولية أضاف أبعاداً جديدة على إطار يرشح بالفخامة أصلاً.قد نكون راضين بأن عصرنا الحديث قدم مساهمات مناسبة لحماية واستمرارية هذا التراث الثمين على الأقل لضمان وجودها على مدى آلاف السنين القادمة.


معرض الصور

انظر أيضاً

المصادر

  1. ^ "معابد بعلبك". اكتشف بعلبك. Retrieved 2012-09-02.

وصلات خارجية