لماذا يكره ابن تيمية جبل لبنان؟

تشابه بعض الحوادث الراهنة بشكل مدهش ومأساوي حالات تاريخيّة، الى حد يمكن المقارنة، بين هذه وتلك، طلباً للعبرة. لكن هذا ليس هدفي من هذا البحث، مع العلم أن الوضع الراهن في لبنان وسوريا يحاكي حالة تاريخية من أواخر القرن الثالث عشر ميلادي.

لذلك، سأترك المقارنة للقارئ، أما هدفي فهو معالجة أسباب كره ابن تيمية (ت. 1327 م) لجبل لبنان وأهله وفق ما ورد في بعض رسائله وفتاويه، فضلاً عن التطرّق إلى الجذور الفكريّة لذلك الكره.

نبدأ مع رسالة ابن تيمية إلى سلطان دولة المماليك الملك الناصر والتي أرسلها بعد الحملة العسكرية في سنة 1300 م. يبدأ ابن تيمية رسالته بتهنئة السلطان على قيامه بواجب الجهاد ضد أعداء الله والذين هم برأيه على صنفين: الأوّل، هم «أهل الفجور والطغيان»، وإن كانوا مسلمين، والثاني، هم «أهل البدع المارقين وذوو الضلال المنافقين، الخارجون من السنّة والجماعة، المفارقون للشرعة والطاعة».

ويورد ابن تيمية مثالاً عن الفئة الثانية، هم أهل جبل لبنان بما فيه الجرد وكسروان، ثم يصفهم بقوله: «هؤلاء وجنسهم من أكابر المفسدين في أمر الدنيا والدين». ولأنّهم برأيه يعتقدون أنّ أهل السنّة مرتدّون ويفضّلون مصادقة الفرنج والمغول، قال فيهم إنهم «أكفر من اليهود والنصارى».

من دون شك، مشكلة ابن تيمية مع شيعة جبل لبنان هي جزء من مشكلته مع الشيعة عامّةً والذين يعتبرهم مصدر خطر كبير على الدين الإسلامي، وذلك لسببين: الأول، عداؤهم العقائدي لأهل السنّة، والثاني، تحالفهم السياسي مع أعداء الإسلام. لذلك ليس على القارئ أن يفاجأ إذ وجد أن ابن تيمية يتّهم الشيعة بدعوة الصليبيين والمغول لغزو بلاد الإسلام والتنكيل بالمسلمين. ليس هذا فحسب، بل يقول أيضاً إنّهم يفرحون عند هزيمة المسلمين ويحزنون عند هزيمة المغول ويتعاملون مع الصليبيين في قبرص. ويسمّي ما يفعله «أهل جزين وما حواليها وجبل عامل ونواحيه».. كمثل على ذلك. بعد ذلك، يقوم ابن تيمية بوصف عاداتهم الدينيّة، فيقول «وهؤلاء القوم كانوا أقلّ صلاةً وصياماً، ولم نجد في جبلهم مصحفاً ولا فيهم قارئاً للقرآن، وإنّما عندهم عقائدهم التي خالفوا فيها الكتاب والسنّة وأباحوا بها دماء المسلمين. وهم مع هذا، فقد سفكوا من الدماء وأخذوا من الأموال ما لا يحصي عدده إلاّ الله تعالى». لذلك، نجده يطالب الملك الناصر بوجوب قطع أشجارهم وتدمير ضياعهم وإخلاء الجبل منهم عملاً بسنّة النبيّ عندما حاصر بني النضير. (يجب التذكير هنا أنّ ابن تيمية لم يفرّق بين دروز وشيعة فاطميّة وشيعة اثنــي عشريّة ممّن كانوا يقطنــون في جبل لبنان).

إذاً، خوف ابن تيمية من الشيعة سببه قناعته بأنّهم العدو الداخلي وحليف العدو الخارجي. لكن هذا الخوف له جذوره في الفترة التي سبقت ابن تيمية والتي ظهر فيها فكر سنّي متطرّف ألقى باللائمة لنجاح الصليبيين في هزيمة المسلمين واحتلال بعض مدن وأراضي بلاد الشام، على ضعف المسلمين دينياً وتفرّقهم مذهبيّاً وسياسيّاً.

نجد مثلاً بعض علماء السنّة في النصف الأوّل من القرن الثاني عشر، وبالتحديد في دمشق، يتوقون لظهور شخصيّة سياسيّة سنّيّة قويّة تقوم بإحياء المذاهب السنّية وتهزم أعداءها. ومن أبرز هؤلاء المفكّرين، محدّث الشام ابن عساكر (ت. 1176 م) الذي خدم السلطان نور الدين، ابن زنكي وكان له دور رائد في تطوير الإطار الإيديولوجي الديني للسلطان نور الدين والترويج له. مثلاً، يصف ابن عساكر سيطرة السلطان نور الدين على مدينة حلب في سنة 1146م بالآتي: «وأظهر بحلب السنّة حتّى أقام شعار الدين، وغيّر البدعة التي كانت لهم في التأذين، ونشر فيها مذاهب أهل السنّة الأربعة (الحنفي، المالكي، الشافعي والحنبلي)». كذلك نجده يصف سيطرة السلطان نور الدين على مصر على يد صلاح الدين بالآتي: «وظهرت كلمة أهل السنّة بالديار المصريّة، وخُطب فيها للدولة العبّاسيّة بعد اليأس، وأراح الله من بها من الفتنة ورفع عنهم المحنة، فالحمد لله على ما منح وله الشكر على ما فتح».

معروف عن السلطانين نور الدين وصلاح الدين وبعدهما كل السلاطين الأيّوبيّين محاربتهم للصليبيين. لكن ما هو غير معروف عنهم، أنّهم في الواقع كانوا على عداء تجاه خصومهم المسلمين وقضوا معظم وقتهم كسلاطين في محاربة أعدائهم المسلمين ومصالحة الصليبيين. ولتحقيق أهدافهم الذاتيّة، جيّشوا علماء سنّة مثل ابن عساكر وغيره لتطوير ونشر فكر جهادي ممكن استخدامه ضد المسلمين، وهي حالة غير معروفة من قبل في الفكر السنّي.

ابن تيمية هو نتاج لنموذج متطرّف داخل الفكر السنّي تلاقت فيه طموحات ومصالح آنيّة سياسيّة لبعض السلاطين مع تطرّف ديني عند بعض العلماء.

وكما لخّص ابن عساكر إنجازات السلطان نور الدين، فها هو ابن تيمية يطالب الملك الناصر بأن الحملة العسكريّة، مهما كان نجاحها، ليست كافية أو كاملة إلاّ إذا أعطي السلطان المملوكي الأمر بأن «يتقدم إلى قراهم، وهي قرى متعدّدة بأعمال دمشق وصفد وطرابلس وحماة وحمص وحلب، بأن تُقام فيهم شرائع الإسلام، والجمعة، والجماعة، وقراءة القرآن، ويكون لهم خطباء ومؤذّنون، كسائر قرى المسلمين، وتقرأ فيهم الأحاديث النبويّة، وتنشر فيهم المعالم الإسلاميّة، ويعاقب من عرف منهم بالبدعة والنفاق بما توجبه شريعة الإسلام».

ومع هذا كلّه، يتعدى كره ابن تيمية لجبل لبنان، الشيعة والنصارى ليطال السنّة أيضاً. ننتقل إلى فتواه ضدّ جبل لبنان فنجده يناقش الاعتقاد السائد في ذلك الوقت لبعض الجهّال من أهل السنةّ أن للمكان فضيلة دينيّة، فيقول إنّه «ليس في فضل جبل لبنان وأمثاله نصّ لا عن الله ولا عن رسوله». ثمّ يصف مصير الجبال فيذكر الآية: ﴿وَيَسألُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا ربّي نسفاً﴾ (سورة طه 105). وبعد ذلك يتطرقّ الى موضوع أنّ بعض العبّاد المسلمين لجأوا إلى جبل لبنان هرباً من فساد المدن والناس وطلباً لبركة الحياة فيه، فيقول إنّ ذلك «غلط منهم وخطأ، فإنّ سكنى الجبال والغيران والبوادي ليس مشروعاً للمسلمين إلاّ عند الفتنة».

ولكون جبل لبنان «دولة بين النصارى والروافض، ليس فيه من الفضيلة شيء»، إذاً «لا يشرع، بل لا يجوز المقام بين نصارى أو روافض يمنعون المسلم عن إظهار دينه». أمّا بشأن أنّ بعض المسلمين الأوائل سكنوا جبل لبنان ومثله، فيقول: «أصل ذلك أنّ هذه الأمكنة كانت ثغوراً يرابط بها المسلمون لجهاد العدو، ... فإنّ المقام بالثغور لأجل الجهاد في سبيل الله أفضل من المجاورة بمكّة والمدينة». إذاً جبل لبنان، برأي ابن تيمية، ليس فقط بلد يسكنه كفّار بل أيضاً مكان يفسد فيه دين المسلم الصحيح.

إضافةً إلى ذلك، يلعن ابن تيمية بعض الجهّال من أهل السنّة الذين يعتقدون أنّ لفاكهة جبل لبنان خصوصّية فريدة، ويصف ذلك بأنّه «من البدع الجاهليّة المضاهية للضلالات النصرانيّة والشركيّة». ويلعن أيضاً ابن تيمية في فتواه حجارة جبل لبنان، تحديداً القبور التي يُقال عنها إنّها لأنبياء أو أولياء، مثل قبر النبي نوح في قرية الكرك في البقاع. برأيه أنّه «لو كان قبر نبيّ أو رجل صالح لم يشرع أن يبنى عليه مسجد بإجماع المسلمين وبسنّة رسول الله»، وهذا تأكيد آخر أنّ ابن تيمية يلعن من يعتقد هذا من العوام من أهل السنّة في بلاد الشام والذين يزورون قبور الأنبياء والأولياء والتبرك بها، وهو ما يقارنه بالكفر.

من هذه المعالجة المقتضبة، يبدو أن كره ابن تيمية لجبل لبنان كان مبنياً على عاملين اثنين، هما: أولاً، وجود مسيحيين وشيعة في جبل لبنان وكلتا الطائفتين، برأيه، تكنّان العداء لأهل السنة. ثانياً، انزعاجه الواضح من وجود سنّة في جبل لبنان لا تعجبه قناعاتهم وعاداتهم الدينية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

  • سليمان مراد (2014-03-15). "لماذا يكره ابن تيمية جبل لبنان؟". صحيفة السفير اللبنانية.