كما في السابق، أفضل مما في السابق

«كما في السابق، أفضل مما في السابق» Come prima, meglio di prima هي مسرحية ألفها في اكتوبر 1919 لويجي پيراندلو، ملهماً بقصصه "الناطور"، "في صمت"، "رجيس"، "ڤكسيلا"، و"الرحلة".

المسرحية عرضت لأول مرة في مسرح گولدوني في البندقية في 24 مارس 1920 بفرقة "فريرو-تشلي-پاولي" ونشرها بمپوراد في 1921.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المسرحية

أمور عدة، من أهمها مسألة العلاقات بين البشر، ولا سيما بين الأقارب والمعارف، كانت دائماً تشغل بال الكاتب الايطالي لويجي پيراندلو، وبالتالي شغلت مكانة أساسية في كتاباته القصصية والمسرحية. وكان بيرانديللو مهموماً، أكثر من أي شيء آخر في هذا المجال، بمسألة العلاقات التي تعجز عن أن تقوم على أساس مشاعر حقيقية. واذا كان القسم الأعظم من مسرحياته قد تطرق الى هذا الموضوع جاعلاً منه همّاً أساسياً لديه، فإنه أوصل هذا البعد الى ذروته في مسرحية له عنوانها «كما في السابق، أفضل مما في السابق»، كتبها في العام 1920 لتقدم في العام نفسه في عرض أول على خشبة مسرح گولدوني في البندقية (فينيسيا). وهذه المسرحية تتوسط، زمنياً، مسار بيرانديللو المسرحي كله، اذ نعرف أن هذا المسار بدأ عملياً في العام 1898 لينتهي بداية سنوات الثلاثين من القرن العشرين. كذلك نعرف ان الزمن الذي كتب فيه بيراندلو هذه المسرحية، كان يشكل ذروة ابداعية لديه، حيث انه كان في ذلك الحين قد بات في طريقه حقاً لنيل جائزة نوبل الأدبية التي سوف ينالها عما قريب، كما ان الزمن كان زمن انتشار مسرحياته مترجمة الى لغات عدة أوروبية وغير أوروبية ومقدّمة في انحاء عدة من العالم، فارضة على مسارح هذا العالم أساليب جديدة في بناء العمل المسرحي ومواضيع أقل ما يقال عنها انها كانت جديدة في ربطها بين الواقع والخيال، وبين الفكر والحياة.[1]

اذاً، فإن لويجي بيراندلو الذي كتب «كما في السابق، أفضل مما في السابق»، كان كاتباً في أوج نضجه، وكان سبق له أن اجتاز بنجاح مرحلة تجريبية أساسية في كتابته، حتى وإن كنا نعرف ان المسرحية التي تشكّل قمة تجريبيته (وإحدى قمم المسرح التجريبي الأوروبي)، «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» لم تكن قد ظهرت بعد. كان على هذه المسرحية الانعطافية أن تنتظر عاماً آخر. المهم اذاً ان پيراندلو كتب في ذلك الحين هذه المسرحية التي نتناولها هنا، والتي كانت في الأصل قصة قصيرة صدرت في مجموعة حملت عنوان «قصص من أجل عام». وعلى رغم أن هذه المسرحية المقتبسة من تلك القصة تعرّف عادة بأنها «هزلية في ثلاثة فصول»، فإن عنصر الهزل فيها ضئيل جداً، يغلب عليه - في نهاية الأمر - طابع درامي واضح. بل حتى طابع ميلودرامي، جعل هذا العمل يقتبس في السينما كما في أوبرات ايطالية عدة، والغريب في الأمر، من دون ان يكون مستهجناً بالطبع، هو ان الفيلم المقتبس بالتحديد رُبط من قبل النقاد والمتابعين، بأدب ستيفان تزڤايگ، أكثر مما بمسرح بيرانديللو، وعلى الأقل من ناحية كلاسيكية الموضوع مقارنة ببعض تجريبيته في الشكل.

غير أن هذا كله لا يلغي ان المسرحية هذه، هي مسرحية عواطف وعلاقات أكثر منها أي شيء آخر. وهذه السمة تطالعنا منذ بداية الفصل الأول حيث نتعرف الى السيدة فولڤيا چلي Fulvia Celli، التي يفسد حياتها زوج صارم يميل الى تعذيب الآخرين، ما يجعلها تفضل الهرب من بيت الزوجية على الاستمرار في العيش معه. وهكذا تهرب من البيت بالفعل، تاركة وراءها ليس الزوج والعيش الهين فقط، بل كذلك ابنتها الطفلة ليفيا. غير اننا سرعان ما ندرك أن فولڤيا نفسها ليست على البراءة التي كنا نعتقدها... ذلك ان هذه السيدة، الزوجة والأم، تكشف عن علاقات متعددة ومتلاحقة تقوم بينها وبين عشاق لها، يوقعها كل واحد منهم في وهدة بعد اخرى في عملية هبوط الى الجحيم تتفاقم في تأثيرها في فولڤيا، حتى اليوم الذي تقرر فيه أن تضع حداً لحياتها بالانتحار في نزل عائلي في توسكانا. لكن الذي يحدث عند ذلك هو أن زوجها، وهو طبيب جراح معروف، يتمكن من العثور عليها وهي على تلك الحال، بمحض المصادفة وينقذها ثم يعود بها الى المنزل الزوجي... ولكن تحت هوية أخرى. ذلك ان الصغيرة ليفيا كانت أُخبرت أن أمها ماتت، ولا يراد لها الآن أن تعيش أية صدمة. وهكذا تُعرّف فولفيا باسم فرانشيسكا، ويتم الاتفاق على انها - اذ تعود الى زوجها حتى - ستعتبر زوجة ثانية له، لكن الذي يحدث هنا هو أن ليفيا لن تتقبل بسهولة وجود امرأة أخرى، مصبوغة الشعر، تحلّ في المنزل وفي حياة الأب مكان «أمها الحقيقية المتوفاة». ومن هنا تحمل إزاء «هذه الطارئة على حياة المنزل والتي تعتقد نفسها قادرة على ان تحل محل سيدة البيت الحقيقية» رفضاً مبطناً يروح يتصاعد أكثر فأكثر مع مرور الأيام، وهي غير عارفة بالطبع ان هذه السيدة هي أمها الحقيقية. بين ليفيا و «فرانشيسكا» ثمة اذاً، شبح له صورة فولفيا «الميتة». وفي تلك الأثناء يتبين ان «الزوجة الجديدة» حامل، واذ تضع هذه طفلها وقد يئست تماماً من قبول ابنتها لها، تحوّل كل ما لديها من عاطفة وحب الى ذلك الطفل الجديد. وتصل الأمور الى ذروة تأزمها حين «تكتشف» ليفيا، أن أباها و «فرانشيسكا» لم يعقدا قرانهما (فهما في الحقيقة لم يكونا، قانونياً ودينياً في حاجة الى ذلك، وهو أمر لا تعرفه ليفيا بالطبع). وعلى هذا النحو تتأكد ليفيا من جديد ان هذه المرأة التي تنافسها على حب أبيها، وأتت له بطفل جديد، «امرأة مستهترة خفيفة لا تلقى بالاً للمواثيق والأخلاق». وتنفتح الحرب على مصراعيها بين ليفيا وفولفيا... ولكن عند أول مجابهة علنية بينهما، حين تصرخ الابنة في وجه «تلك المرأة» باتهاماتها، لا تعود فولفيا قادرة على المقاومة أكثر، ولا يكون منها إلا ان تصرخ معلنة الحقيقة أمام الابنة المذهولة... ثم تهرب من جديد، إذ يأتي واحد من عشاقها القدامى لاصطحابها وقد قررت هذه المرة ألا تترك وراءها طفلها الثاني الوليد صارخة وهي تشير اليه: «هذه المرة لن أترك «ليفيا» ورائي، سآخذه معي، حياً ومرتبطاً بي الى الأبد».

في شكل من الأشكال قد تبدو هذه المسرحية قليلة الاحتفال بالتجريبية البيراندلية المعهودة، لكن هذا ليس إلا في ظاهر الأمور... اذ، في حقيقة الأمر، لدينا هنا، تحت قناع نزعة تشاؤمية مرعبة، وتحت قناع موضوع ميلودرامي لا يخلو من رومنطيقية فجة، لدينا تلك الازدواجية، في الهوية، وفي التصرفات، وفي الدلالات التي يطرحها الكاتب أمامنا: ازدواجية الهوية في شخصية الزوجة نفسها، وازدواجية التصرفات لدى الأب، ثم ازدواجية الدلالة لدى ليفيا، التي تحارب فولفيا على جبهتين: جبهة حلول هذه مكان أمها في حياتها، ثم جبهة كون فولفيا امرأة تحاول أن تنتزع منها أباها. ثم هناك ازدواجية أخرى أساسية تتمثل في احلال فولفيا لابنها الجديد، محل ابنتها الميؤوس منها، وصولاً الى حد تسميته في صرختها الأخيرة باسم الفتاة... معتبرة اياه بديلاً لها... ومن الواضح لدينا هنا ان هذه الازدواجية الطاغية، ناهيك بازدواجية المعايير الاجتماعية التي تملي على الأب (باعتباره، وسط أخطائه وتصرفاته، الناطق باسم استمرارية القيم والأعراف) موقفه، تشتغل على اضفاء حقيقي للطابع التجريبي «الأخلاقي» على الأقل على هذا العمل الذي كان يمهّد بالتأكيد لما سيكتبه بيرانديللو من بعد ولا سيما رائعته «ست شخصيات تبحث عن مؤلف». وهذا كله حتى في مجال غير تجريبي، هنا، يضع مسرحية بيرانديللو هذه، وسط أبعاد اجتماعية شديدة الأهمية، ليس في زمنها بل في أزمان متواصلة.


الكاتب

لويجي پيراندلو (1867 - 1936) كان يعي هذا تماماً... وكان يعرف انه في هذه المسرحية يخلق توازناً دقيقاً بين البعد الفني (التجريبي)، والبعد الاجتماعي، هو الذي عبّر - وسيعبر - في القسم الأكبر من مسرحياته، عن نزعته التمردية ضد مواثيق وقيم وأعراف، كان القرن العشرون قد بدأ يطردها مطالباً بقيم جديدة - لن تقل أخلاقية عن تلك القديمة، لكنها تفوقها انسانية. ومن مسرحيات بيراندلو الأخرى المعروفة: «قواعد اللعبة» و «لذة الشرف» و «الأمور ستنتهي على خير» و «الإنسان، الحيوان والفضيلة» و «لكل شيخ طريقته» و «كسو العرايا».

الهامش

  1. ^ ابراهيم العريس (2014-09-03). "«كما في السابق» لبيرانديللو: تجريب تحت قناع الميلودراما الصاخبة". صحيفة الحياة اللبنانية.