فتح أنطاكية

أنطاكية مدينة تجارية في تركيا يبلغ عدد سكانها 123,900 نسمة. تقع مدينة أنطاكية في وادي العاص الأدنى، مركز لواء الإسكندرونة أسفل السفح الغربي لجبل حبيب النجار، وتبعد عن مدينة اللاذقية السورية نحو 110كم ومثلها عن مدينة حلب، ويخترقها نهر العاص. وأنطاكية مدينة تاريخية قديمة أسسها سلوقس عام 300 ق.م، فأصبحت عاصمة الدولة السلوقية. عدت أنطاكية في العصر الروماني الثالث المدينة الثالثة بعد روما والإسكندرية، فصارت كرسياً رسوليًا.

حررها العرب المسلمون عام 638م بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح، واحتلها الصليبيون فأصبحت إحدى الإمارات الصليبية الأربع لفترة 170 عاماً حتى حررها الظاهر بيبرس. ثم ضمها العثمانيون في 1516م فأهملوا شأنها وتحولت إلى بلدة صغيرة. وفي عهد الانتداب الفرنسي لسوريا أصبحت أنطاكية المركز الإداري للواء.


أنطاكية مدينة عظيمة كبيرة تقع غربي مدينة حلب على نهر العاصي قريبا من مصبه في البحر المتوسط وهي تعادل القسطنطينية، وقد كانت ضمن أعمال سوريا فلما ذهب الاحتلال الفرنسي وحصل التقسيم أصبحت تحت الإدارة التركية. كان المسلمون قد افتتحوا أنطاكية سنة 291هـ في عهد الخليفة العباسي المكتفي بالله، وقد حاول الروم عدة مرات الاستيلاء على المدينة واستعادتها نظرا لأهميتها، فهاجموها سنة 357 هـ لكنهم لم يتمكنوا من أخذها، فعاودوا مهاجمتها في عام 359هـ في عهد ملكهم نقفور، واستطاعوا هذه المرة الاستيلاء عليها، وضموها إلى ملكهم بعد أن قتلوا الشيوخ والرجال، وسبوا النساء والأطفال، و ذلك أثناء حملتهم الصليبية المشهورة وكان استيلاؤهم عليها في جمادى الأولى من تلك السنة، بعد حصار شديد وبمواطأة بعض المستحفظين على بعض الأبراج، وقد هرب أميرها باغيسيان في نفر يسير، وترك بها أهله وماله، ثم إنه ندم في أثناء الطريق ندماً شديداً على ما فعل، بحيث إنه غشى عليه وسقط عن فرسه، فلما رأى ذلك أصحابه الذين كانوا معه، ذهبوا وتركوه خوفا على أنفسهم أن يدركهم الفرنج فيقتلونهم، فجاء راعي غنم فقطع رأسه وذهب به إلى ملك الفرنج. وقد حاول المسلمون استعادة هذه المدينة لما بلغهم الخبر، فقد قام الأمير كربوقا صاحب الموصل بجمع عساكر كثيرة، واجتمع إليه دقاق صاحب دمشق وجناح الدولة صاحب حمص وغيرهم، وسار إلى الفرنج فالتقوا معهم بأرض أنطاكية، فهزمهم الفرنج، وقتلوا منهم خلقا كثيراً وأخذوا منهم أموالاً جزيلة، ولم يستطع أحد من الأمراء المسلمين خلال هذه الفترة استعادة هذه المدينة، فظلت المدينة تحت حكم الصليبين مع كثرة المحاولات لذلك. وأصبحت قاعدة عسكرية لهم، وولاية أساسية من ولايتهم في الشام، فلما جاء التتار إلى بلاد الشام كان عليها رجل من الإفرنج يقال له الأغريس وهو في نفس الوقت صاحب مدينة طرابلس، فمالأ التتار وأعانهم على المسلمين وحصل للمسلمين في الشام منه أذية عظيمة بل أصبح من أشد الناس إيذاء لهم . فلما تولى الظاهر بيبرس السلطنة أخذ على عاتقه تطهير بلاد الشام من الإفرنج فخرج عدة مرات بعساكره وجيوشه لقتالهم ابتداء من سنة 663 هـ حيث فتح قيسارية ومدينة صغد التي سبق للملك صلاح الدين الأيوبي أن افتتحها سنة 584 هـ ثم استعادها الإفرنج مرة ثانية فاستعادها منهم ثم خرج بعد ذلك واستولى على بلاد السوس وغيرها من البلاد الإسلامية التي تحت يد الإفرنج . فلما كانت سنة 666 هـ خرج السلطان ببيرس في أول جمادى الآخرة من الديار المصرية بالعساكر والجيوش فنزل على مدينة يافا بغتة فأخذها عنوة وسلم إليه أهلها القلعة صلحا، فأجلاهم منها إلى عكا وخرب القلعة والمدينة، وسار منها إلى حصن الشقيف فاستولى عليه في التاسع والعشرين من شهر رجب، ثم ركب في مجموعة من عسكره وهاجم طرابلس وأعمالها، فنهب وقتل وأرعب ورجع مؤيدا منصورا، وهذه المدن والحصون كلها كانت تحت يد الإفرنج. ثم إنه جمع جيوشه وسار حتى نزل على مدينة أنطاكية وأحاط بها من كل جانب، وذلك في مستهل شهر رمضان المبارك، وبدأ في حصارها فنزل إليه أهلها يطلبون الأمان واشترطوا شروطاً له عليهم، فأبى الملك الظاهر ببيبرس ذلك، ورفض عرضهم وردهم خائبين، وصمم على فتح المدينة عنوة، فحاصرها أشد الحصار وضيق عليهم وظل كذلك حتى يوم السبت الرابع عشر من شهر رمضان، حيث أنزل الله نصره على المسلمين ففتحوا المدينة عنوة وغنم المسلمون منها غنائم لا تعد ولا توصف، ووجدوا فيها من أسارى المسلمين من الحلبيين وغيرهم خلقا كثيرا، كل هذا في مقدار أربعة أيام وعادت هذه المدينة إلى ملك المسلمين وتبع ذلك استلام حصون كثيرة وقرى كانت خاضعة لهم وعاد بعدها السلطان إلى دمشق مؤيدا منصورا .


يعمل سكان أنطاكية بالزراعة والصناعة، واكتسبت أهميتها التجارية لوقوعها عند ملتقى الطرق التي تصل بلاد الشام بآسيا الصغرى. وتتمتع المدينة بشهرة سياحية لأهميتها التاريخية. تنازلت فرنسا عن أنطاكية لتركيا عام 1939م، في عهد الانتداب الفرنسي على سوريا بموجب معاهدة أنقرة الثانية. بعد مقتل السلطان قطز بطل معركة عين جالوت اتفق الأمراء المماليك على اختيار بيبرس سلطانًا على مصر، وجلس في إيوان القلعة في (19 من ذي القعدة 658هـ = 26 من أكتوبر 1260م) إيذانًا ببدء فترة التأسيس والاستقرار لدولة المماليك البحرية بعد فترة التحول التي شهدتها بعد قضائها على الحكم الأيوبي في مصر، وكانت فترة قلقة مليئة بالفتن والقلاقل، وكان على بيبرس أن يبدأ عهدًا جديدًا من الثبات والاستقرار بعد أن أصبح بيده مقاليد الأمور في مصر والشام.


وقد تسلق أسوار أنطاكية مونس سيلبيوس أثناء الحروب الصليبية في اليسار)

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الاستعداد لمواصلة الجهاد

وما إن جلس بيبرس على سدة الحكم في مصر حتى قضى على الفتن والثورات التي اشتعلت ضده، وقام بتنظيم شؤون دولته، وسعى لإيجاد سند شرعي تُحكم دولة المماليك باسمه، فأحيا الخلافة العباسية في القاهرة، واستقدم أحد الناجين من أسرة العباسيين بعد مذبحة هولاكو في بغداد، ويدعى أبا العباس أحمد، وعقد مجلسًا في القلعة في (8 من لمحرم 661هـ = 22 من نوفمبر 661م) حضره قاضي القضاة وكبار العلماء والأمراء، وقرأ نسب الخليفة على الحاضرين بعدما ثبت عند القاضي، ولُقِّب الخليفة بالحاكم بأمر الله، وقام بيبرس بمبايعته على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، ولما تمت البيعة أقبل الخليفة على بيبرس وقلده أمور البلاد والعباد.

وسبق لنا أن تناولنا موضوع إحياء الخلافة العباسية في شيء من التفصيل في يوم (التاسع من المحرم).

وسعى بيبرس إلى تقوية الجيش وإمداده بما يحتاج من السلاح والعتاد، وأولى عناية بالأسطول ودور صناعة السفن المصرية في الفسطاط والإسكندرية ودمياط. وعمل على تحصين مناطق الحدود، وتنظيم وسائل الاتصال ونقل المعلومات من خلال نظام البريد. ولما اطمأن إلى ذلك قام بمواجهة القوى المتربصة بالإسلام وفي مقدمتها الصليبيون.


الصليبيون في الشام

لم يتجه "لويس التاسع" بعد إطلاق سراحه من مصر إلى فرنسا. وإنما اتجه إلى "عكا"، وكانت حملته الصليبية قد مُنيت بهزيمة مروعة في معركة المنصورة في (3 من المحرم 648هـ = إبريل 1250م) فقد فيها زهرة جنده، وأصيب الصليبيون بكارثة كبرى ظل أثرها المروع مستعصيًا على العلاج والإصلاح، وسبق لنا أن تناولناها على نحو من التفصيل في ذكرى وقوعها في الثالث من المحرم.

وقضى لويس التاسع في الإمارات الصليبية بالشام أربع سنوات يحاول جاهدًا تصفية الخلافات بين أمراء الصليبيين، والمحافظة على كياناتهم، وتنظيم الدفاع عن إماراتهم الصليبية، فعني بتحصين عكا وحيفا وقيسارية ويافا، وعمل على إعادة الصلح بين إمارة إنطاكية وأرمينية وسعى لإقامة حلف مع المغول، غير أن مسعاه لم يكلل بالنجاح، ثم غادر عكا عائدًا إلى بلاده في (5 من ربيع الأول 625هـ = 25 من إبريل 1254م).

ولم يكد لويس التاسع يرحل عن الشام حتى دبت المنازعات بينهم من جديد، وتصاعد الصراع بينهم إلى حد القتال، ولم يجدوا كبيرًا ينطوون تحت لوائه، فسادت أوضاعهم في الوقت الذي دولة المماليك بدأت في البروز بعد انتصارها العظيم في عين جالوت.


مقدمات الفتح الإسلامي

وكانت الفترة التي تلت رحيل لويس التاسع إلى أن تولى بيبرس سلطنة مصر والشام فترة هدوء ومسالمة بين الصليبيين والمسلمين لانشغال كل منهما بأموره الداخلية، على أن هذه السياسة المسالمة تحولت إلى ثورة وشدة من قبل المماليك بعد أن أخذ الصليبيون يتعاونون مع المغول ضد المماليك، ويعملون مرشدين لجيوشهم، ولم يقتصر الأمر على هذا بل استقبلت بعض الإمارات الصليبية قوات مغولية في حصونها.

وقد أصبح على المماليك أن يدفعوا هذا الخطر الداهم، وبدلاً من أن يواجهوا عدوًا واحدًا، تحتم عليهم أن يصطدموا مع المغول والصليبيين معًا، وكان بيبرس بشجاعته وسياسته قد ادخرته الأقدار لمثل هذه الفترات التاريخية الحرجة من تاريخ الأمة، فكان على قدر المسؤولية، وحقق ما عجز عشرات القادة الأكفاء عن تحقيقه.

وبدأت عمليات بيبرس العسكرية ضد الصليبيين في سنة (663هـ = 1265م)، فتوجه في (4 من ربيع الآخر 663هـ) إلى الشام، فهاجم "قيسارية" وفتحها عنوة في (8 من جمادى الأولى)، ثم عرج إلى أرسوف، ففتحها في شهر رجب من السنة نفسها.

وفي السنة التالية استكمل بيبرس ما بدأ، ففتح قلعة "صفد"، وكانت معقلاً من معاقل الصليبيين، وكان بيبرس يقود جيشه بنفسه، ويقوم ببعض الأعمال مع الجنود إثارة لحميتهم فيجر معهم الأخشاب مع البقر لبناء المجانيق اللازمة للحصار. وأصاب سقوط صفد الصليبيين بخيبة أمل، وحطم معنوياتهم؛ فسارعت بعض الإمارات الصليبية إلى طلب الصلح وعقد الهدنة.


الطريق إلى إنطاكية

تطلع بيبرس إلى الاستيلاء على إنطاكية التي تحتل مكانة خاصة لدى الصليبيين لمناعة حصونها، وتحكمها في الطرق الواقعة في المناطق الشمالية للشام، وكانت ثاني إمارة بعد الرها يؤسسها الصليبيون في أثناء حملتهم الأولى على الشام، وظلوا يسيطرون عليها مائة وسبعين عامًا.

وكان بيبرس قد استعد لهذه الموقعة الحاسمة خير استعداد، ومهد لسقوط الإمارة الصليبية بحملاته السابقة حتى جعل من إنطاكية مدينة معزولة، مغلولة اليد، محرومة من كل مساعدة ممكنة، فخرج من مصر في (3 من جمادى الآخرة 666هـ = 19 من فبراير 1268م)، ووصل إلى غزة، ومنها إلى "يافا" فاستسلمت له، ثم نجح في الاستيلاء على "شقيف أرنون" بعد حصار بدأه في (19 من رجب 666هـ = 5 من إبريل 1268م)، وبفتح يافا وشقيف، لم يبق للصليبيين جنوبي عكا التي كانت بأيديهم سوى قلعة عتليت.

ثم رحل بيبرس إلى طرابلس، فوصلها في (15 من شعبان 666هـ = 30 من إبريل 1268م) فأغار عليها وقتل كثيرًا من حاميتها، وقطع أشجارها وغور مياهها، ففزعت الإمارات الصليبية، وتوافد على بيبرس أمراء أنطرسوس وحصن الأكراد طلبًا للأمن والسلام، وبهذا مهد الطريق للتقدم نحو إنطاكية.


فتح إنطاكية

رحل بيبرس من طرابلس في (24 من شعبان 666هـ = 9 من مايو 1268م) دون أن يطلع أحدًا من قادته على وجهته، واتجه إلى حمص، ومنها إلى حماة، وهناك قسّم جيشه ثلاثة أقسام، حتى لا يتمكن الصليبيون من معرفة اتجاهه وهدفه، فاتجهت إحدى الفرق الثلاث إلى ميناء السويدية لتقطع الصلة بين إنطاكية والبحر، وتوجهت الفرقة الثانية إلى الشمال لسد الممرات بين قلقلية والشام لمنع وصول إمدادات من أرمينية الصغرى.

أما القوة الرئيسية وكانت بقيادة بيبرس فاتجهت إلى إنطاكية مباشرة، وضرب حولها حصارًا محكمًا في (أول رمضان سنة 666هـ = 15 من مايو 1268م)، وحاول بيبرس أن يفتح المدينة سلمًا، لكن محاولاته تكسرت أمام رفض الصليبيين التسليم، فشن بيبرس هجومه الضاري على المدينة، وتمكن المسلمون من تسلق الأسوار في (الرابع من رمضان)، وتدفقت قوات بيبرس إلى المدينة دون مقاومة، وفرت حاميتها إلى القلعة، وطلبوا من السلطان الأمان، فأجابهم إلى ذلك، وتسلم المسلمون القلعة في (5 من رمضان 666هـ = 18 من مايو 1268م) وأسروا من فيها.

وقد غنم المسلمون غنائم كثيرة، بلغ من كثرتها أن قسمت النقود بالطاسات، وبلغ من كثرة الأسرى "أنه لم يبق غلام إلا وله غلام، وبيع الصغير من الصليبيين باثني عشر درهمًا، والجارية بخمسة دراهم".


نتائج الفتح

كان سقوط إنطاكية أعظم فتح حققه المسلمون على الصليبيين بعد استرداد صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس، وفي الوقت نفسه كان كارثة كبرى ألمت بالصليبيين وزلزلت كيانهم، ومن طرائف الفتح أن بوهيمند السادس أمير إنطاكية لم يعلم ما حدث لها؛ إذ كان في إمارته الثانية طرابلس جنوبي إنطاكية، فتكفل بيبرس بإخباره بهذه الكارثة في رسالة ساخرة بعثها إليه من إنشاء الكاتب البليغ "ابن عبد الظاهر"، ومما جاء فيها:

".. وكتابنا هذا يتضمن البشر لك بما وهبك الله من السلامة وطول العمر بكونك لم تكن لك في هذه المدة بإنطاكية إقامة، فلو كنت بها كنت إما قتيلاً وإما أسيرًا، وإما جريحًا وإما كسيرًا...".

وبينما كان بيبرس في إنطاكية وصل إليه رسل الملك هيثوم الأرميني يعرضون عليه اتفاق بمقتضاه يعيدون ما أخذوه من المدن الإسلامية في أثناء الغزو المغولي للشام، مثل بهنسا، ومرزبان، ورعبان، كما ترك الداوية من الصليبيين "حصن بغراس"، وبذلك عاد شمال الشام إلى حوزة المسلمين.

وبهذا النصر الذي فتح الباب لسقوط الإمارات الصليبية الباقية تبوأ بيبرس مكانته التاريخية، باعتباره واحدًا من أبطال الإسلام.


  • المصدر باب دوت كوم

[1]