علي خلف الطويل

Kamal Al-Tawil1.jpg كمال خلف الطويل
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

علي جودة خلف الطويل (و. 1890- ).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النشأة والحياة المبكرة

ولد كلا الشقيقين عبد الله وعلي جودة خلف الطويل في البيرة حوالي عام 1890. توفي عبد الله ودفن في البيرة عام 1968. أما شقيقه علي فقد توفي ودفن في دمشق بعده بثمانية أعوام.

الشقيقان كلاهما كانا ظاهرة استثنائية على صعيد الحياة المحلية، ليس بفضل الثروة الكبيرة التي جمعاها من المهجر فحسب، بل وبفضل مشاركتهما في عمل الصالح العام ونشاطهما السياسي في البيرة والمهجر.

من بين الشقيقين كان تنوّر علي جودة خلف استثنائي بكل المقاييس لرجل على قدر بسيط من التعليم خرج من فلسطين.

استطاع علي بفضل مكانته وعطائه ونشاطه التعرف على ومصادقة مجموعة واسعة من أحرار ومثقفي العالم العربي في المهجر وبلاد الشام كأمين الريحاني وشكيب أرسلان وعبد الرحمن الشهبندر وشكري القوتلي ورشيد طليع وسليمان النابلسي، وعبد الله الريماوي.. الخ.

هاجر الشقيقان اليافعان للولايات المتحدة في وقت مبكر قبيل الحرب العالمية الأولى.

وبعد أن عمل الاثنين كبائعين متجولين (باعة "كـشة"، وهو الاسم الشائع في حينها بين السوريين، أو "بدلرز" وهو الأسم الأمريكي)، قام علي، الأكثر مهارة بين الشقيقين في شؤون الأعمال التجارية، بـتأسيس شركة "البيرة كومباني" لبيع ملابس النساء الداخلية والسجاد والنوفوتيه بالجملة في قلب جزيرة مانهاتن (في 85 شارع واشنطن، وهو الشارع الذي شكل مركز تجمع المهاجرين السوريين الأوائل في نيويورك).

أما عبد الله، الذي ربطه وشقيقه نوع من تقاسم الوظائف، فقد عاد إلى البيرة نهائياً بعد الحرب العالمية الأولى.

علي يوفر المال من خلال "البيرة كومباني"، وعبد الله يشرف على مصالح العائلة في البيرة، وأهمها عمليات شراء آلاف الدونمات باسم الشقيقين في البيرة وفي مناطق مختلفة من فلسطين، ويلعب دورا رئيسا في تزعم الحياة السياسية والاجتماعية في البيرة في القرن الماضي، حيث شغل، ومنذ مطلع العشرينيات، ولعدة مرات، منصب رئيس المجلس المحلي.

وقد نال لقب أفندي ،وهو لقب تركي من أصل يوناني ومعناه السيد و أخذ في استخدامه في أواخر العهد العثماني، وكان مقصورا على طبقة الوجهاء وكبار الملاك في المدن .

كما أصبح أول رئيس لبلدية البيرة عندما تحول وضع البيرة من مجلس محلي إلى مجلس بلدي في مطلع عام 1952.

وقد عُرِفَ عبد الله جودة خلف بالنزاهة المالية ونظافة اليد، إذ لم يعرف عنه استغلال منصبه لأغراض شخصية.

وقد مارس، كما يفترض بأي زعيم محلي، الكرم والإنفاق من ماله لتمكين "زعامته وصيته".... غير أن الأمر لم يخل من أقلية حاسدة.

نعود لعلي جودة خلف ، الذي انضم إلي شركته في وقت ما عبد الحميد شومان (مطلع عشرينيات القرن العشرين) الذي أسس لاحقاً "البنك العربي" الشهير . وبدون أدنى شك، فإن جزءاً من رأسمال شومان الذي استثمره في تأسيس هذا البنك جاء من خلال هذه الشركة التي كانت محطة هامة في بناء ثروته.

اقترح شومان على شريكه علي ترك الولايات المتحدة نهائياً والانضمام إليه كأحد المساهمين في مشروع البنك، وهو الاقتراح الذي لقي الرفض.

هو رفض ندم عليه، في ما بعد، علي جودة خلف، الذي لم يؤمن بإمكانية نجاح المشروع، ورأى في عرض شريكه - العصامي والسابق لعصره – مجرد عرضٍ قائم على الأحلام والتمنيات.

في عام 1921 أسس فؤاد شطارة "جمعية النهضة الفلسطينية" في نيويورك , وكان علي جودة خلف، بالإضافة إلى جميل السلطي وإبراهيم حبيب كاتبة وبطرس جورج شحادة والقس إبراهيم رحباني، أبرز أعضائها.

كانت الجمعية بالإضافة ل "الجمعية الفلسطينية لمقاومة الصهيونية" (تأسست عام 1918) إحدى أهم وأول الجمعيات الفلسطينية في المهجر والتي قاومت النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة.

كما سعت إلى هدف قلما كان في ذهن وأهداف الجمعيات العربية التي تشكلت في المهجر ألا وهو تسهيل العودة النهائية " للذين يودون الرجوع إلى فلسطين من أبنائها المهاجرين".

وفي أيلول 1924 انتخب علي جودة خلف كرئيس للجمعية كخلف لفؤاد شطارة الذي أصبح أمين الصندوق.

سياسياً كان علي كشقيقه عبد الله من أنصار اللجنة التنفيذية العربية برئاسة موسى كاظم الحسيني ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى الحاج أمين الحسيني . وسرعان ما أصبح عبد الله أحد أبرز ممثلي منطقة رام الله والبيرة في المؤتمرات والمجالس الوطنية خلال عهد الانتداب.

كما أسس الشقيقان مجموعة من المشاريع والشركات المساهمة الكبيرة في البيرة، ومنها ما يحاكي التجربة الامريكية، مثل "شركة النجاح"، والتي كانت استنساخاً لتجربة (department stores).

غير أن مصيرها كان الفشل، كمصير الشركات التي أسسها مغتربو رام الله في مدينة رام الله من قبلهم.

أما الشقيقان عثمان وصالح العطا، واللذان يمثلان نموذجاً تقليدياً لمعظم المهاجرين الاوائل أكثر من حالة الأخوين عبد الله وعلي جودة خلف، فيشكلان حالة مختلفة عن حالة الشقيقين خلف رغم بعض أوجه الشبه في التجربة , إذ لم تكن لديهما أي مشاركة في الحياة العامة للبيرة، أو أي مشروع ثقافي أو اقتصادي أو سياسي عام. كما ان عملهما في الولايات المتحدة اقتصر على البيع بالكشة. نجاحهما فإن حجم الثروة التي جمعاها ظل محدوداً نسبياً مقارنة بالشقيقين خلف.


الهجرة للولايات المتحدة والتحولات على ملكية الأرض

في نهاية الخمسينيات، عندما كان الزوار والسياح إلى رام الله والبيرة يتطلعون إلى منازل المغتربين الحجرية الجميلة التي تنتصب فوق تلال رام الله والبيرة وتتوسد وديانها، كان الاعتقاد أن الهجرة ماهي إلا قصة نجاح سهلة. كانت البيوت الحجرية القائمة شاهدا ماديا لا شك فيه على الحلم الأمريكي في أبرز تجلياته.

لم يخطر في ذهن هؤلاء أن هناك وجها آخر للهجرة، وهو وجه اختفى على نحو ما من الذاكرة الجماعية، أي قصة المئات الذين رحلوا ولم يعودوا لا أثرياء كما كانوا يحلمون ولا حتى فقراء.

فالعديد منهم مات واختفت آثاره كأن الأرض قد بلعته , ومنهم من لم يعد لأنه لم يستطع توفير ثمن تذكرة رحلة العودة، أو كان غير قادراً على تحمل الثمن الاجتماعي للفشل وخيبة الأمل.

فلم تكن الهجرة، في كثير من الأحيان، رحلة في بلاد الالدرادو (بلاد الذهب) , لذا فالعديد من المهاجرين لم يجد فقط أن الطرق في "أميركا" ليست معبدة بالذهب كما كان يحلم ويفكر، بل إن بعضها لم يكن معبداً على الإطلاق، بحيث قضى حياته شقاء في تعبيد هذه الطرق.

غير أن قصص النجاح وشواهدها المنتصبة هي التي أدارت رؤوس الناس.

أما أولئك الذين ضاعوا أو خابت آمالهم، وهم كما قلنا يعدون بالمئات ، فقد لفهم النسيان واختفوا على نحو ما من الذاكرة الجماعية، فلم يكونوا إلا كمجانين وسجناء ميشيل فوكو من المهمشين الذين لا يريد أحد أن يتذكرهم. أما الزوجات والأبناء الذين انتظروا في الوطن، دون جدوى، تحويلاتهم النقدية أو عودتهم، فقد جنوا المرارة. غير أن هذه الورقة ليست مجالاً للبحث في هذا الجانب من الهجرة وإنما في جانبها الناجح.

على عكس توأمها رام الله، والتي شهدت بعض حالات الهجرة العائلية في موجة الهجرة الأولى قبل الحرب العالمية الأولى، كانت موجة الهجرة الأولى من البيرة فردية وذكورية تماماً ودونما أي استثناء.

وفي حين تعاظمت الهجرة العائلية من رام الله خلال موجة الهجرة الثانية، التي انطلقت بعد نهاية الحرب الكونية الأولى واستمرت حتى عام 1948، فإن البيرة لم تسجل سوى حالات محدودة جداً من الهجرة العائلية - في وقت متأخر من الأربعينيات - لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة خلال نفس الفترة.

الاقتصار على الهجرة الفردية كان له أبعاد ديموغرافية واقتصادية مهمة (فيما يتعلق بمراكمة رأس المال واستخداماته).

فاقتصار الهجرة على الرجال سمح بتقليل حجم الإنفاق في الولايات المتحدة بشكل كبير، وبتركيز حركة راس المال والتحويلات النقدية باتجاه الوطن.

وهي عوامل ساهمت بدورها في تعزيز وتعميق اثار الهجرة على الحياة المحلية.

الناجحون من المهاجرين، الذين استطاعوا تحقيق ربح مجز، وتحويل عائداته للوطن، كانوا من بين أولئك الذين عملوا كباعة "كشة" متجولين من مكان إلى أخر، وليس أولئك الذين عملوا في المصانع والفبارك والمزارع وتعبيد الطرق، وهي اعمال ووظائف محدودة الدخل لا تسمح بتحقيق فائض مالي مجزي.

لقد لعب المهاجرون الفلسطينيون كجزء من الهجرة السورية دور "الجماعة الوظيفية" في المجتمع الأمريكي. وظاهرة الجماعة الوظيفية ظاهرة توجد في جميع المجتمعات...يحدِّد د. عبد الوهاب المسيري مفهوم الجماعة الوظيفية بأنها جماعة يستوردها المجتمع من خارجه أو يجنِّدها من داخله، تُعرَّف بالأساس في ضوء وظيفتها، ويَكِل المجتمع إليها وظائفَ لا يضطلع بها عادةً أعضاءُ المجتمع، إما لأنها مُشينة أو وضيعة (البغاء ـ الربا- البيع عن طريق طرق الأبواب)، أو متميِّزة وتتطلب خبرة خاصة (الطب والترجمة)، أو أمنية وعسكرية (الخِصْيان ـ المماليك)، أو لأنها تتطلب الحياد الكامل (التجارة وجمع الضرائب). ويتسم أعضاء الجماعة الوظيفية بالحياد، وبأن علاقتهم بالمجتمع علاقة نفعية تعاقدية، وهم عادةً عناصرُ حركية لا ارتباطَ لها ولا انتماء مع المجتمع الذي تفد إليه وتعيش على هامش المجتمع في حالة اغتراب، ويقوم المجتمع بعزلها عنه ليحتفظ بمتانة نسيجه المجتمعي.

وفي هذا السياق يجب أن نتذكر أن الولايات المتحدة لم تكن تعرف، في حينه، نظام المخازن ومجمعات الأسواق التجارية الضخمة المنتشرة في كل مكان كما هو الحال الآن (malls and department stores).

ولهذا فإن دور الباعة المتجولين كان آنذاك في غاية الأهمية للاقتصاد الأمريكي الذي كان في حالة تمدد، وللنسيج الاجتماعي المتوتر تحت وطأة التفرقة العنصرية.

فمن جانب، سمحت شبكة الباعة المتجولين بتسويق أفضل للبضائع وخصوصا في الأماكن النائية والمزارع، ومن جانب أخر، ففي ظل أنظمة التفرقة العنصرية التي حدت من مجال تحرك السود واختلاطهم بالبيض وبمراكزهم التجارية، كان السود يشعرون بشيء من الفخر لمجيء باعة "بيض" ليبيعوهم في مناطق تجمعاتهم والمزارع المعزولة.

كان الدخل الناجم عن البيع بالشنطة عند مراكمته يؤهل لمستويات دخل مجزية بالنسبة للدخول في المجتمع الأمريكي، خصوصاً وأن مصاريف هؤلاء الباعة في الولايات المتحدة كانت قليلة جداً بسبب أسلوب حياتهم المتواضع وأحياناً المزري، الذي تميز بالسـكن في شقق أو غرف مكتظة، والعمل الشاق المستمر لساعات طويلة، والابتعاد التام (بالنسبة لبعضهم) عن مسرات الحياة، وهكذا استطاعوا تأمين دخول عالية جدا مقارنة بمستوى الدخل المنخفض في الوطن. كان البائع المتجول (الناجح) يربح في المعدل من حوالي 3 إلى 5 دولارات في اليوم الواحد عام 1910.

لكن بعضهم كعبد الجواد أبو عليص كان أكثر مهارة من الآخرين، وكان يستطيع منذ منتصف الثلاثينيات أن يجني حتى عشرين دولارا في بعض الأيام. معظم هؤلاء الباعة غادروا وفي نيتهم العودة إلى الوطن والاستثمار فيه.

والأهم من ذلك ان هناك بعض الباعة المتجولين الذين راكموا ثروة وحباهم الله عقلاً تجارياً سمح لهم حتى قبل الحرب العالمية الأولى بالتحول من باعة شنطة إلى أصحاب شركات تجارية للبيع بالجملة في قلب الحواضر الأمريكية الكبرى كنيويورك وبلتيمور وشيكاغو وديترويت وسان فرنسيسكو. كان من بين هؤلاء عبد الحميد شومان من بيت حنينا، وحمدان غنام وإخوانه أصحاب "شركة دير دبوان"، وعبد الله الباتح وعيسى الباتح، وحنا حشمة، وعزيز شاهين من رام الله.

أما من البيرة فهناك عبد الله وأخيه علي جودة خلف مؤسسي "البيرة كومباني"، وعلي وشقيقه جودة إسماعيل جاد الله وشركائهم مشوشر الناعورة ودحدول حمدان، الذين أسسوا الشركة الأهم "بالستاين كومباني" , وكلا الشركتين في قلب مدينة منهاتن، الأولى في 85 شارع واشنطن. أما شركة فلسطين فكان مقرها الأول في 72 – ماديسون أفنيو، لكنه تغير في ما بعد ثلاثة مرات.

تحول هؤلاء إلى موزعي جملة لشبكة باعة "الكشة"، وشكلت شركاتهم شبكات دعم وتزويد مهمة للمهاجرين الوافدين حديثاً.

بالتحديد استطاعوا أن يراكموا ثروات كبيرة حتى بالمستويات الأمريكية للطبقة الوسطى.

ليس لدينا أرقام دقيقة عن ارباح هؤلاء كما هو الحال بالنسبة للباعة المتجولين، رغم أننا قابلنا أبناءهم ومنهم من عمل في هذه الشركات، لكن يمكن قراءة هذه الأرباح وتكوين فكرة تقريبية معقولة عنها من خلال حساب بعض المعطيات ومن خلال البصمات التي تركتها في الوطن الأم. وبحساب بسيط كان البائع المتجول يحقق وفقا لمهارته في البيع ما بين 80إلى 150 دولار في الشهر الواحد.

أما تجار شركات الجملة الناجحون فكان باستطاعتهم تحقيق دخل لايقل بالمعدل عن 1000 دولار بالمعدل شهرياً، وهو ما سمح للفئتين بمراكمة رأس مال محترم سيوظف كما سنرى لاحقاً في قراهم ومدنهم الأصلية.

منعت ظروف الحرب العالمية الأولى المهاجرين من العودة، وفرضت عليهم نوعاً من الاقامة الجبرية في المهجر. وسيلة السفر الوحيدة، والتي كانت عبر البحر، إذ لم تكن هناك طائرات لنقل الركاب بعد - توقفت، نتيجة شلل حركة النقل البحري العالمية والبريد وخصوصاً عبر الأطلنطي وفي المتوسط، الأمر الذي أجبر المهاجرين الأوائل على المكوث في الولايات المتحدة، وهو ما أتاح لهم الفرصة بالتالي من مضاعفة رأس مالهم.

بعد انتهاء الحرب، وبالتحديد في نهاية عام 1919 تحكي الروايات الشفوية كيف قرر العديد من مهاجري البيرة الأغنياء المحظوظين العودة في نفس البابور (السفينة) بعد سنوات البعد والغربة عن بلادهم وهم يتقلدون البرانيط ويرتدون البدلات "الإفرنجية" التي حلت محل كوفياتهم وديماياتهم التي كانوا يرتدونها عندما تركوا البلاد. و تقول الأسطورة أنهم وهم على سطح السفينة، وبينما كانوا ينظرون إلى الأفق المترامي أمام عيونهم بلا نهاية، كانوا يحلمون بكيف يستغلون ثرواتهم في الوطن ويحولونها إلى قوة وجاه.

استثمر جزء كبير من هؤلاء الناجحين أموالهم في شراء الأرض، ليس في قراهم وبلداتهم الأصلية فحسب وإنما أيضاً في مناطق أخرى من فلسطين.

كانت الأرض مهمة بحيث أن الأسم الفلاحي الشائع لها في البيرة هو "الرزق"، كما هو حال "العيش" بالنسبة للخبز في مصر.

ليس من الصعب استنتاج القدرة المالية التي توفرت للناجحين من أبناء الموجة الأولى من المهاجرين عندما وصل الطوف الأول للبيرة في نهاية عام 1918 كانت أسعار الأراضي في البيرة وفي المناطق الجبلية التي لم يخترقها الاستيطان الصهيوني بعد رخيصة جدا مقارنة بالمبالغ التي جمعوها. وزاد من هبوط اسعار الأراضي ما جرى لفلسطين خلال الحرب العالمية الأولى، حيث أودت سنوات الحرب، التي لم تشهد فلسطين والبيرة مثلها منذ قرون، بحياة الكثيرين.

سنوات الحرب والجراد والحصار هذه أدت إلى تراجع ديموغرافي كبير، وإلى تفسخ خطير أصاب الهياكل التقليدية للعائلة الفلسطينية نتيجة مستوى الفقر والعازة، حيث عجز الرجال أباءا كانوا أم أزواجاً عن توفير ما كان يفترض تقسيم العمل أن يقدموه لعائلاتهم : الغذاء والحماية.

لقد بلغ العوز والجوع حداً كان يدفع الناس إلى التنازل عن قطعة أرض مقابل مخلاة طحين، وحد هروب الرجال والتخلي عن عائلاتهم، وتسول النساء وحتى بيع الأعراض.

سقطت البيرة في يد القوات البريطانية في الأيام الأخيرة من شهر كانون أول/ديسمبر عام 1917، أما بقية فلسطين فلم تسقط إلا في نهاية 1918. ورغم أن كل المصادر تجمع على انتعاش الوضع المعيشي بسرعة كبيرة بعد مجيء البريطانيين، فإن الوضع الاقتصادي والنفسي كان ما يزال يعيش ذيول صدمة سنوات الحرب، وهو ما كان يدفع الناس لبيع اراضيهم الرخيصة أصلاً باسعار أرخص من المعتاد.

في هذه الظروف وصل المهاجرون الجدد بأموالهم وبزاتهم الجديدة، فصاهروا "علية القوم" من أصحاب المكانة (الصيت والمال).

سيتزوج الشقيقان عبد الله وعلي جودة خلف فاطمة وصفية بنات مصطفي العامر، أحد أبرز وجهاء البلد. هذه الزيجات وغيرها، والتي تمت بعد انقضاء أسابيع أو شهور قليلة فقط من وصول "طوف" المهاجرين الأول، كانت أول تعبير عن التحولات في موازين القوى الجديدة، إذ أنها جرت قبل بناء المنازل الحديثة، وقبل أن تبرز زعامة جديدة كانعكاس لهذه التحولات.

سرعان ما بدأ الوافدون بشراء الأراضي في البيرة وغيرها من مناطق فلسطين بأسعار بخسة جداً. في ذلك الوقت حل الجنية المصري محل العملة التركية اللاغية، والتي أصبح لا قيمة لها بعد الاحتلال البريطاني.

كانت كل خمس دولارات أمريكية تعادل جنيها مصريا واحدا (أو جنيه فلسطيني بعد عام 1927) , وفي منتصف الثلاثينيات انخفضت قيمة الجنيه الفلسطيني مقارنة بالدولار حيث اصبـح الجنية يعادل ما يقارب الأربعة دولارات امريكية .

وإذ تراوح سعر دونم الأرض خارج مسطح القرية (المنطقة المبنية والمكتظة) في البيرة بعد الاحتلال ومطلع العشرينيات ما بين 3-5 جنيهات للدونم الواحد حسب نوع القطعة (قربها من مسطح القرية، ومستوى خصوبة الأرض وتشجيرها..الخ)، فإن سعر آلاف الدونمات التي تم شرائها بصفقات كبيرة المساحة في القرى والخرب النائية كقرية شلتا وخربة كركور، التي اشتراها بأكملها تقريباً علي وعبد الله جودة خلف من محمد اسعاف النشاشيبي، كان أقل من ذلك بكثير.

وبمعنى آخر، كان الدخل الشهري المتأتي لبدلر ناجح يؤهله لشراء عدة دونمات من الأرض، فكيف هي الحال بالنسبة لأصحاب شركات الجملة كدحدول حمدان الذي باع حصته في "بالستاين كومباني" واشترى من عائداتها أرضاً في ولاية لويزيانا اكتشف فيها حقل للبترول.

خلاصة الأمر، أدت موجة الهجرة الأولى إلى بداية تغييرات مهمة في ملكية الأرض وفي اعادة توزيع الثروة وأعادة هيكلة للاقتصاد والمجتمع المحلي. واستمرت هذه العملية خلال موجة الهجرة الثانية 1920-1948، رغم الارتفاع المستمر والملحوظ في سعر الأرض نتيجة زيادة عدد المهاجرين وعملية المضاربة، وبداية اختراق الاستيطان اليهودي للمنطقة. وفي الواقع أصبح هؤلاء ملاك الأرض الرئيسيين في البلدة. وقد انعكس هذا التغير الحاد والسريع على ملكية الأرض على مختلف جوانب الوضع الاجتماعي، وخصوصا أن بعض هؤلاء المهاجرين أراد أن يعبر سياسياً واجتماعيا عن قوته الاقتصادية الجديدة.

وقبل أن أنتقل لموضع تأثر الزعامة في البيرة، نتيجة تغير ملكية الأرض وبروز شريحة اجتماعية جديدة، أود التطرق لموضوع أرض شلتا، التي اشتراها علي وعبد الله جودة خلف لأنها تعبر عن توجه جديد وغير مسبوق في ما يتعلق بملكية الأراضي في فلسطين. كانت شلتا بكاملها ملكاً لعثمان النشاشيبي عضو مجلس المبعوثان عن متصرفية القدس، الذي استطاع بفضل نفوذه ونفوذ عائلته من قبله امتلاك أراض واسعة في فلسطين ومنها قرية شلتا.

كان عثمان النشاشيبي شحيح اليد، فلما ورثه ابنه محمد اسعاف النشاشيبي الاديب المعروف، والذي لم تكن علاقته جيدة بوالده، ولم يتزوج، ولم يكن له اهتمام بالأرض، باع أراض كثيرة في صفقات ضخمة، ومنها صفقة شلتا.

إن حالة شلتا، وكذلك حالة هربيا التي تم شراء اراض واسعة فيها لصالح الأخوين علي وعبد الله جودة خلف، تعكس نموذجا جديدا في فلسطين، ففي حين استطاع الأفندية وتجار المدن والمرابون وكبار موظفي الدولة استغلال صغار الفلاحين، وتحويل اراضيهم إلى ملكيات خاصة كبيرة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإننا نجد هنا حالة يبدأ فيها مهاجرون أغنياء بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء من خلال الاستحواذ على ملكيات كبيرة كانت في يد أفندية المدن.

انظر أيضا

المصادر